قراءة في رواية انقطاعات الموت لخوسيه ساراماجو
قراءة ريم بدر الدين بزال


نشرت في العدد المشترك 13-14 من مجلة خوابي


تصوّر أنّ المؤشّرات والاحصائيّات في بلدةٍ ما وثّقت غياب الموت؛ لم يمت أحدٌ!
هذا ما قرّرته سجلّات المشافي ومكاتب الدّفن في بلدٍ ما في رواية خوسيه ساراماجو “انقطاعات الموت” المعنونة بالبرتغاليّة (As intermitencias de morte).
لو تخيّلنا أنّ الموت كفّ عن الظّهور سينتابنا فرحٌ غامرٌ بتحقيق حلم البشريّة بالخلود، ولكنّ لخوسيه ساراماجو رأيٌ آخر. ففي حال انقطاع الموت هناك جملةٌ من المشاكل ستعترض البشريّة، منها كيفيّة الخلاص من العجزة والمسنّين وأصحاب الأمراض المستعصية، وإفلاس شركات التّأمين ومكاتب الجنائز والدّفن، والأهمّ هو فقدان الدّين لسبب وجوده الأساسيّ، فمن غير موتٍ لا تقوم للدّين قائمةٌ.

حدث في تلك البلدة غير المحدّدة وفي ليلة رأس سنةٍ غير محدّدةٍ أن لم يمت أحدٌ، وفي بداية الأمر عمّ الابتهاج النّاس بتحقيق حلم الخلود الّذي يراود الإنسان منذ بدء الخليقة، (حياةٌ وحيدةٌ، رائعةٌ، دون الخوف اليوميّ من صرير مقصّ باركا، إنّه الخلود في الوطن الّذي منحنا الوجود، الخلود بمنجىً من المخاوف الماورائيّة، ومجّاناً للجميع، دون مغلّفٍ مختومٍ بالشّمع يفتح في لحظة الموت، أنت إلى المطهّر وأنت إلى الجحيم) ص16.
لكنّ الاعتراض الأوّل كان من رجال الدّين، فإعلان انقطاع الموت يعني أنّ الدّين فقد غايته الأساسيّة والوسيلة الأساسيّة الّتي يقوم من خلالها بالسّيطرة على النّاس (من دون الموت لا يوجد انبعاثٌ ومن دون انبعاثٍ لا وجود للكنيسة) ص4.
بدأ الجميع بالبحث عن حلٍّ توافقيٍّ لا يقوّض معتقداته الدّينيّة والفكرية (الكنيسة)، ولا يضرّ بمصالحه الاقتصاديّة (مكاتب الدّفن والجنائز وشركات التّأمين)، وبقيت مشكلةٌ عالقةٌ، كيف يتخلّص النّاس من مرضاهم النّهائيّين العالقين بين الموت والحياة بمرضٍ لا يُرجى شفاؤه؟ وكان الحلّ الوحيد كامناً وراء الحدود، فأخذوا يخرجون مرضاهم ومسنّيهم إلى بلادٍ مجاورةٍ ليلفظوا الأنفاس الاخيرة، ثمّ يعودون بهم جثثاً يتمّ دفنها في الوطن. وهذا ما كاد أن يتسبّب بنشوب حربٍ بين بلد اللّاموت والبلاد المحيطة بها، ووفّر المناخ المناسب لنشوء مافيا تقوم بهذه العمليّات (القذرة إنّما الضروريّة).

وفي أحد الصّباحات بعد مرور عدّة أشهرٍ من انقطاع الموت، أرسلت “موتٌ” رسالةً تعلن أنّها ستعود إلى ممارسة عملها، وأنّها ستمنح كلّ إنسانٍ رسالةً بنفسجيّة اللّون تسبق موته بثمانية أيامٍ، ليكون بإمكانه إنهاء الأمور العالقة وإيفاء ديونه ووداع أحبّته، ممّا ولّد نوعاً جديداً من الفوضى استلزم من الجميع إعادة جدولة أعمالهم وفقاً للوضع الجديد.
وعادت “موتٌ”، لكنّ المنحة الّتي قدّمتها للنّاس لم تكن جيّدةً، فوقوع الموت أهون من انتظاره والكلّ يخشى أن يفتح بريده ويجد الرّسالة البنفسجيّة الموعودة.

إلى هنا ونحن في الصفحة 165، يعتبر ما كتبه ساراماجو بمثابة مقدّمةٍ للحدث الأساسيّ في الرّواية المؤلّفة من 220 صفحةً في النّسخة المترجمة للعربيّة. فقد أُرسلت رسالةٌ بنفسجيّةٌ إلى عازف فيولونسيل لكنّها عادت على الفور دون أن يستلمها المعنيّ. حاولت مرّاتٍ عدّةً ولم تفلح. هنا بدأنا نتعرّف على شخصيّة السّيّدة “موتٍ” وطريقة تفكيرها، وعلى عازف الفيولونسيل الّذي هزم الموت. وباقترابها منه أكثر فأكثر، وقعت في حبّه وعشقته، وتحوّلت إلى كائنٍ يشعر بالنّعاس ويتناسى مهمّته لتنتهي الرّواية بمقطعٍ محيّرٍ (عادت موتٌ إلى الفراش، احتضنت الرّجل، ودون أن تدرك ما كان يحدث، وهي الّتي لم تنم قط، أحسّت أنّ النّعاس يُنزل جفنيها ببطءٍ، وفي اليوم التّالي لم يمت أحدٌ) ص220.

تطرح هذه الرّواية عدّة موضوعاتٍ مهمّةٍ، منها علاقة الدّين بالموت، ومدى الإيمان بالماورائيّات، وسيطرة الميثولوجيا على حياة النّاس، وعلاقتها الإشكاليّة مع الدّين، وكيف تتبلور أخلاقيّات الشّعوب بين الادّعاء والحقيقة، وضياع الصّبغة الإنسانيّة لصالح المادّيّة، كما تطرح كيفيّة نشوء المنظّمات الإرهابيّة (المافيا)، وتسيير الإعلام لحياة الشّعوب بالطريقة الّتي تناسب السّلطة.
في أوّل ردّ فعلٍ، اعترضت الكنيسة على إعلان غياب الموت، باعتباره تقويضاً للدّيانة القائمة على فكرة الانبعاث بعد الموت، ومن خلالها تنمّي فكرة الخوف من مجهولٍ حتميّ القدوم بشكلٍ مستمرٍّ، فأحد الفلاسفة يقول (الأديان جميعها، مهما قلّبناها لا مسوّغ لها في الوجود سوى الموت) ص30. ويؤكّد أحد مندوبي الأديان هذه المقولة (هذا هو مسوّغ حياتنا، كي يقضي النّاس حياتهم والخوف معلّقٌ برقابهم، وعندما تحين ساعتهم يتقبّلون الموت كخلاصٍ؛ ثمّ فردوسٌ أو جحيمٌ أو لا شيء، فما يحدث بعد الموت يهمّنا أقلّ بكثيرٍ ممّا نعتقد، فالدّين هو مسألةٌ أرضيّةٌ لا علاقة لها بالسّماء) ص30.
توصّل رجال الدّين إلى حلٍّ توافقيٍّ يبقي للدّيانة هيبتها ويبقي للمؤسّسة الدّينية سطوتها، (سنتضرّع إلى الرّبّ كي يتدخّل بعنايته من أجل عودة الموت بأسرع ما يمكن ليوفّر على الإنسان أهوالاً أسوأ) ص32.
هنا يبدع ساراماجو في وصل العرى الخفيّة مع الثّيمة الأخرى، وهي علاقة الدّين والماورائيّات بالميثولوجيا والوثنيّات، فيطرح السّؤال التّالي (وهل للرّبّ سلطةٌ على الموت؟).

ولا يعدم النّصّ الرّوائي الكثير من الإشارات إلى الميثولوجيا، فمقصّ باركا إشارةٌ إلى ملك الموت؛ وأتروبوس (Atropos) إحدى ألهات الجحيم الثّلاث عند الرّومان، وهي المسؤولة عن قصّ خيط حياة البشر، ص4؛ والموت (Morte)، أنثى لها أشكالٌ مختلفةٌ، فهي سيّدةٌ بدينةٌ في الأربعين تقريباً، ترتدي فستاناً أسود، وهي أحياناً هيكلٌ عظميٌّ ملتفٌّ بملاءةٍ بيضاء، تحمل منجلاً وتقف عند سرير المحتضرين.
من هنا يأتي سؤالٌ مهمٌّ، إن كان الموت منفصلاً عن الله، فمن هو المسؤول عن تسيير حياة البشر وموتهم؟ وهل تعمل بشكلٍ منفصلٍ ولها إرادةٌ منفصلةٌ، بحيث تقرّر الانقطاع أو تغيير طريقتها في قتل البشر؟ وكيف أنّ موتاً المسؤولة عن قتل البشر غير موتٍ المسؤولة عن موت الكائنات الأخرى؟ وكيف أنّ كلتيهما تختلفان عن موتٍ الّتي تعمل خارج الأرض الّتي ضربتها نعمة أو نقمة انقطاع الموت؟

لا يعطي ساراماجو أجوبةً لهذه الأسئلة، وإنّما إشاراتٍ تقود إلى نهاياتٍ مفتوحةٍ يستطيع كلٌّ تفسيرها وفق وعيه وإيمانه. ففي صيغةٍ ما، يمكننا أن نستخلص أنّ الموت عبارةٌ عن هيئةٍ يمثّلها موظّفون عديدون منتشرون في العالم لتأدية مهمّة إنهاء حيوات البشر، وعندما يقوم هؤلاء الموظّفون بانتهاك شروط الوظيفة يعودون إلى كونهم كائناتٍ عاديّةً يسري عليها الموت كما يسري على جميع المخلوقات.
من جانبٍ آخر تناولت الرّواية كيفيّة سيطرة السّلطة على الشّعب، بخلق عدوٍّ وهميٍّ وحربٍ وهميّةٍ، تضع في وعي هذا الشّعب أنّه يقاتل من أجل قضيّةٍ جليلةٍ (بعد تصريف ارتباك الحكومة، وتردّد القيادة العليا للقوّات المسلّحة في مناورةٍ تكتيكيّةٍ واضحةٍ، استعاد الرّقباء زمام المبادرة وكانوا الدّعاة والمحرّضين لحركة احتجاجٍ شعبيّةٍ خرجت من البيوت تطالب بعودة القوّات إلى جبهة المعركة فوراً، فباستهتارٍ وعدم تحسّسٍ للمشاكل الخطيرة الّتي تواجهها هذه البلاد في أزماتها الرّبعية، ديمغرافيّةً واجتماعيّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً، قامت بلدان الجانب الآخر الثّلاث بخلع أقنعتها وكشفت عن وجهها الحقيقيّ، وجه الغزاة والقساة والامبرياليّين المتعجرفين، كلّ ما هنالك أنّهم يحسدوننا لأنّه لا موت في وطننا، ولهذا يريدون غزونا واحتلال أراضينا. وعاد الجنود إلى المواقع الّتي جاؤوا منها وانتظروا بأقدامٍ ثابتةٍ مسلّحين حتّى الأسنان، الهجوم والمجد. لم يحدث ذلك فلا هجومٌ ولا مجدٌ لأنّه لم يكن ثمّة غزوٌ ولا إمبرياليّةٌ) ص62.
يظهر هنا أنّ من يدير الحدث في هذه البلاد هم الإعلام والوزراء والمافيا، وليس الملك الّذي لم ينتبه أصلاً إلى انقطاع الموت، ولم يعرف بوجود منظّمة تقوم بنقل النّاس إلى الجانب الآخر من الحدود ثمّ تعيدهم ليتمّ دفنهم، بل إنّ الوزير الأوّل (بمثابة رئيس وزراءٍ استطاع إقناعه أنّها “منظّمةٌ فاضلةٌ” تقوم بتنفيذ الأعمال “القذرة” بالنّيابة عن الدّولة) ص87.

يعتمد أسلوب خوسيه ساراماجو في معظم رواياته على فرضيّة ماذا سيحدث لو؟ ففي روايته العمى اعتمد على سؤال: ماذا يحدث لو أصيب النّاس بالعمى؟ وفي روايته الطّوف الحجريّ، يسأل ماذا لو انفصلت شبه الجزيرة الإيبيريّة عن أوروبا، وأبحرت في قلب المحيط الأطلنطي؟ وهنا يتساءل ماذا لو توقّف الموت عن قتل النّاس؟ فاشتغل على روايته بأسلوبٍ صحفيٍّ تحليليٍّ تناول الموضوع بشكلٍ بانوراميٍّ، ثمّ جزّأه إلى نقاطٍ رئيسيّةٍ ومواضيع صغيرةٍ، أعطى كلّاً منها حقّها، ثمّ انتقل إلى جزءٍ آخر تناول جانباً شخصيّاً للموت وعازف الفيولونسيل.
اعتبر بعض النقّاد الرّواية مبنيّةً على قصّتين يمكن أن تكونا منفصلتين، (ماذا لو توقّف الموت؟ وماذا لو رفض أحدهم أن يموت؟)، ممّا شكّل إرباكاً للقارىء ووضعه أمام بعض المسائل الّتي يريد حلّها، فمن هو وراء الموت وكيف تتّخذ موتٌ قرارها ثمّ تتوقّف عنه، ثمّ تعود له، وتغيّر طريقتها وكيف يتحدّى عازف الفيولونسيل موتاً ويرفض رسالتها ويهزمها في النّهاية، وهو ليس سوى شخصيّةً نمطيّةً لا تميّز فيها أبداً، وتعاني من انكساراتٍ عديدةٍ ونكوصٍ داخليٍّ؟
رواية ‘انقطاعات الموت”، ترجمها إلى العربيّة صالح علمانيّ، وصدرت عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب/ سلسلة الجوائز عام 2005.