قصة قصيرة: (15) الوصية !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
كان جل ما تتوق له الحاجة المسنة، (أم غائب)، وقد دلفت في عقدها الثامن هو أن تلملم دنانيرها المبعثرة هنا وهناك، قبل ولوجها العالم الآخر، دون إعطاء مبرر ما. لذلك شرعت تقلم أظافر منزلها، بأن باعت محتويات ما تسمى (بغرفة الضيوف) كاملة ! كما باعت ما زاد عن حاجتها في مطبخ الفناء الشرقي، إضافة إلى بيع غرفة نومها الأثرية، وما تبقى من الكراسي المكسورة والأثاث العتيق، فيما منحت ابنتهــا الصغرى فقط عقد اللؤلؤ القديم، والذي اشتراه لها المرحوم، (أبو غائب) قبل عشرات السنين، فيما أصدرت (الأوامر الصارمة) بتقييد وقت زيارات أبناءها السبعة وبناتها الأربع لها إضافة إلى أولادهم الذين لا حصر لهم إلى أضيق الحدود، في حين كلفت صهرها الأصغر القيام بضبط أمورها المالية وإيداع ما يتجمع لديها من نقدٍ في حسابه المصرفي، ذمة عليه ولقاء وصولات، رغم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب، وبعلم الكل .
وبلغت حصيلة كل مبيعاتهــا مع فرق الأسعار آنذاك بـ (778) ديناراً عراقيا لا غير. وهذا المبلغ، بالنسبة لها، فاق مستوى تفكيرها وتوقعها مقارنة بمؤخر صداقها (5) دنانير فقط. وما هذا وما سيتراكم فيما بعد من مبالغ ليس إلا كل ما تركه المرحوم، زوجها، أبو غائب!
ولم يبق لها من حطام الدنيا سوى الجدران الأربعة لدارها، ذي الثمانية والأربعين متراً مربعا مساحة. وقد اختمرت في ذهنها فكرة بيع الدار أيضاً مع الاحتفاظ بفترة ستة أشهر بعد البيع لأخلائه، علها، حسب زعمها، تنتقل إلى جوار ربهــــا في بحر هذه الفترة، وبهذا لا يبقى لها أية ارتباطات فوق هذه البسيطة، ويكون الانتقال إلى خالقها بصمت لا يثير غبار القسام الشرعي والحصص والإرث والخ !
ولم يجد أبناءها وبناتها بداً من إطاعة أمهم، وهي في هذا الخريف من العمر الحرج. فاستنفروا كل طاقاتهم لبيع (العقار). وانطلق كل منهم في اتجاهه يبغي كسب ود أمه، عسى أن يفوز ولو بدراهم متواضعة يحل بها مشاكله !
وأخيرا بيع الدار، من دون إشراك أحد من أفراد الأسرة باستثناء الحاجة المسنة، (أم غائب) فقط والمالك الجديد، الجار الملاصق داره بدارها. وبعد مقابلات وإجراءات أصولية قانونية انتقلت ملكية الدار إلى المالك الجديد الذي سلمها، بحضور أفراد أسرتها، سبعة آلاف ديناراً نقداً . بيد أن السيدة المسنة أومأت إلى صهرها الأصغر، زوج ابنتها الصغرى، هيفاء، بتسلم المبلغ دون أبناءها أو بناتها. وتطلع الأبناء إليها بدهشة وقد صعقهم سلوك أمهم الهرمة، وكأن عيونهم تتساءل .... : لماذا وقع الاختيار على زوج هيفاء دون سواه ؟
- "خذ النقود يا صهري وضعها مع بقية نقودي الموجودة لديك في حسابك بالمصرف ".
-"نعم يا عمتي."
وهنا سأل الابن الأكبر وقد بدأ يساوره الشك بأن أمه خرفه...
"-وماذا ستفعلين بكل هذه النقود ، يا أماه ؟
"-إذا وافتني المنية تقاسموها بينكم بالعدل وإلا..."
"-ولماذا لا نتقاسمها الآن وأنت بين ظهرانينا ؟"
أجابته ، كمن قرصها تحصيل حاصل تجارب السنين وشرعت تصرخ:
-"افترض أن عمري طويل، هل ستنفق علي الدراهم أنت وإخوانك وانتم تئنون من الجوع ؟ "
"-بالتأكيد ، يا أماه. فنحن سبعة أخوة وأربع أخوات ".
"-ولكن الزمن تغير، يا ولدي. فالعمل بالمضمون أضمن!"
ثم سألت البنت البكر، بدون حياء...
"-وأين ستعيشين بعد انقضاء فترة الشهور الستة ؟ ألا تشعرين بجنون تقلبات الأسعار بين ثانية وأخرى ؟ "
- "لا عليك، فالزمن كفيل بحل كبرى المشكلات و.... "
ودارت عقارب الساعة بسرعة ، كما دار دولاب الحياة بسرعة، أيضاً، بحيث طويت صفحة الستة أشهر وكأنها ست ساعات. وجاء المالك الجديد ومظلة القانون تحميه وهو يقول للسيدة المسنة :
" -أراك غير ملتزمة بإخلاء الدار لحد الآن!"
أجابت ببرود قاتل "-ولمــــــاذا ؟"
"-لأن الفترة القانونية للأخلاء انتهت ".
قالت وكأن لسان حالها يقول: (( ارحم عزيز قوم ذلْ ! )) "....... ولكن، لا أحد يريدني. نعم إنني غريبة ".
-"إنها ليست مشكلتي بل مشكلتك. لقد قبضت الثمن سلفاً ووقعت العقد رسمياً ".
قالت بانفعال مشوبٌ بدموع ساخنة، وهي تجيب بسذاجة وعفوية:
- "خذ دراهمك وأعد لي داري ."
" -يا حاجة ... القانون قانون، والأفضل لك ترك الدار فوراً والانتقال إلى دار أحد أبنائك أو بناتك على الأقل."
صرخت ثانية بوجهه وقد مزقتها اللوعة:
" -قلت لك، إنهم لا يريدونني، لا يريدونني، لأنني غريبة في وسطهم.
وبعد محاولات يائسة توصل المالك إلى أنه لا جدوى من محاورتها لكبر سنها وحالة الاكتئاب المزمن التي انتابتها. فما كان منه إلا المضي إلى أقرب دار له هو دار ابنها البكر، والانفعال قد ارتسم على محياه. وبالصدفة لاقاه الابن الأصغر الذي استوعب كل دقائق الموضوع بخصوص إخلاء أمه دارها المباع. وقد سأله المالك الجديد فيما إذا كان بالإمكان حل الإشكال، باستضافة أمهم ولو لفترة قصيرة لحين شرائها داراً بديلاً. فما كان منه إلا أن تفوه بكلمات تكون النتانة منها براء حين قال :
-"ولا واحدة من زوجاتنا توافق على استضافتها، ولا حتى أي من أزواج شقيقاتنا يوافق على استضافتها أيضاً. فأين الحل؟ "
-"أتسألني أين الحل وهي أمكم ؟ ألم تسمع القول المأثور :
( الجنة تحت أقدام الأمهات ) ؟
-"نعم أفهم ذلك جيداً. ولكن دعني أتساءل : لماذا باعت الدار ؟ وماذا فعلت بنقودها ؟ ولماذا ائتمنت صهرها ولم تأتمن أبناءها؟ "
وهنا خرجت أحدى زوجات الأبناء وقد رقد طفل صغير على كتفها حيث قالت وكأنها سمعت كل الحوار :
"-لم لا تشترون لأمكم داراً بنقودها ؟ "
رد الابن وقد استهجن هذا الطرح من زوجة أخيه:
" -إنها لا تستطيع شراء جدار غرفة بكل ما جمعته من دنانير. لمن نشتري الدار والموت قاب قوسين أو أدنى منها ؟ لدي فكرة ايجابية تحل الإشكال." ثم أردف يقول : "لماذا لا نناقش مع أمي مسألة نقلها مباشرة إلى دار رعاية المسنين ؟ فهناك تريح وتستريح، حيث نستطيع زيارتها كلما سنحت لنا الفرصة بذلك !"
وما هي إلا دقائق حتى كانا أمام دارها. لقد كانت ترتعش من شدة الألم والشيخوخة وخيبة الأمل بأولادها، ثم رفعت يديها للسماء شاكية حالها البائس، طالبة بالحرف الواحد الانتقام ) من ناكري الجميل. لقد أكدت للمالك الجديد عدم رضاها المطلق على أولادها وبناتها العاقين، محيلة أمر حسابهم لله .
وأخيراً صرخت للمرة الثالثة بصوت هستيري دراماتيكي بوجه المالك الجديد وقد نفذ صبرها :
" -ماذا تنتظر ؟ ألم تسمع فلذة كبدي يقدم لك وصفته السحرية لحل المشكلة بإيصالي لدار رعاية المسنين !؟ أجل ماذا تنتظر ؟ خذني، أيها المالك المسكين، إلى هناك. فبغير هذا لا تحصل على الدار. فأنا غريبة هنا، وضيفة ثقيلة على الآخرين. ستقوم الساعة. نعم ستقوم القيامة. هيا خذني إلى هناك. هاك، تفضل، هذه مفاتيح الدار. خذها. مبروك عليك . لم يبق لي في الدار سوى الذكريات. وداعاً يا داري العزيز. أرجوك أوصلني بأية وسيلة إلى دار رعاية المسنين. فهناك القلوب أرحم. و....." "-أماه ... أماه "…
" -ابتعد أيها العاق، الوقح . انك منبوذ وجبان. دعني أنفذ ما يدور في رأسك ورؤوس إخوتك. إلى دار رعاية المسنين أيها المالك. إلى هناك.."
وأخيراً أسدل الستار على المشهد المأساوي بأن رضخ المالك الجديد إلى طلب إيصالها بسيارته العتيقة لدار رعاية المسنين. ولحســن الحظ، استقبلت كما توقعت، أو كما شاء القدر أن يرسم السيناريو هكذا. نعم استقبلت بالأحضان والابتسامات وكأنها عروس في يوم زفافها. لقد نسيت أو تناست المشهد التراجيدي السابق، لأن طبيب الدار هرع نحوها متحسساً معاناتها، ومخففاً عنها، إذ أوصى بجناح يتناسب مع عمرها. لقد أحست بأن هذا الطبيب لا يقل عطفاً عن صهرها الأصغر، كما أحست بأن فترة تعارفهما وكأنها أشهر وليست بضع دقائق، إذ التمست منه أن يستدعي صهرها الصغير بصورة رسمية كي يجلب معه كامل نقودها حسب الإيصالات الموجودة في حوزتها.
ولبى الصهر النداء، إلا أنه بدأ يتملص ويناور ويتخاذل في رد الأمانة إلى صاحبتها. إلا أنها كانت له بالمرصاد، إذ سرعان ما اعتبرته جزءاً من الشلة العاقة !
مضت محاولات يائسة، أقحمت إدارة الدار بموضوع النقود، ملوحة بنقل الموضوع إلى القضاء. عندها انصاع، بعد تلكؤ وتردد، إلى جلب كامل المبلغ وتسليمه بيدها أمام إدارة الدار، وفي بحر دقائق معدودة قال:
"-وماذا ستفعلين بهذه الآلاف ؟ "
أجابته بعصبية شديدة :
- "وما دخلك بالأمر ؟"
وحيث أنها لا تقرأ ولا تكتب، ولأن آثار الصدمة ما فتئت شاخصة فيها، فقد التمست الطبيب المؤتمن الذي أحست بوشائج قوية تربطهما أحدهما بالآخر.... ، التمست منه أن يحسب المبلغ، وأن يحرر لها وصية رسمية بحضور الآخرين تثبت فيها ما يلي :
(((إنني الموقعة أدناه ، ..... ، أتنازل عن رصيد عمري المالي بما يساوي 7778 ديناراً لإدارة هذا الدار، الذي سأقضي فيه آخر فصل من حياتي ، لما لمست فيه من حرارة الاستقبال الذي فاق استقبال الأبناء والبنات، ولما أحسست به من دفء الكلمات التي أرجعتني عقوداً إلى الوراء، مشعرة إياي بأنه لازال في الدنيا أخيار. كما أوصي أيضاً بإعطاء جسدي الهزيل إلى الكلية الطبية، إذا رضيت به، علها تكتشف سر طول حياتي رغم منغصات الحياة المفزعة، ورغم تخلي أولادي وبناتي عني. كما أعلن أمام الله وإمامكم براءتي من كل أولادي وبناتي. (((
لقد اندمج كل المنتسبين والعمال والعاملات معها، لروحها المرحة، وحديثها الشائق، وواقعيتها المتناهية، بغض النظر عن فداحة معاناتها وكبر سنها. بيد أنها كانت كثيرة الشرود والتساؤل، ولعلها معذورة فعلاً لذلك:
-ما معنى امتلاكي أحد عشر مخلوقاً ولا أحد منهم يتفهمني ؟ لماذا هذا التغير في الهيكلية الإنسانية؟"
ولم تمضِ سوى سويعات حتى انتقلت إلى جوار ربها، ودنانيرها لم تدخل بعد قاصة الدار، ودموعها لم تجف. ونفذت بنود وصيتها تسلسلياً، بأن سجل كامل المبلغ إيرادا لخزينة الدولة حسب ما جاء في الوصية، فيما نقلت جثتها فوراً إلى الطبابة العدلية، ومن هناك إلى ثلاجات الكلية الطبية بعد استكمال الإجراءات الأصولية على القيام بذلك.
وأخيرا، دنا الليل، فإذا بزحف الأحد عشر (صنماً) نحو دار رعاية المسنين، يحملون بين ثناياهم أنصاف الحلول لأمهم البائسة العجوز !
لقد عثروا على غرفة للإيجار لأمهم المسنة في دار أحد دافني القبور ! كما تحدثوا بكل صفاقة مع الخفير عن مشروعهم، الذي لم يفهم منه شيئاً . وقد منعهم من دخول الدار لعدم معرفته بالنزلاء الجدد بعد. ولأن الليل ليس وقت زيارات بل وقت راحة النزلاء. لقد كانوا كالذباب في طنينهم، وكالأقزام في تفاهتهم وضحالتهم. وما هي سوى لحظات حتى رن جرس الهاتف صدفة حيث كانت مسئولة الدار الخفيرة تتكلم مع الموظف الخفير بصدد مسألة قطع التيار الكهربائي المفاجئ، وفيما إذا أصلح الخلل أم لا. إلا أنه أجاب بنعم . وحاول ضرب عصفورين بحجر واحد حين قال:
"-في القاعة الآن أحد عشر زائراً، يرومون التحدث مع النزيلة (أم غائب). لقد منعتهم من الدخول و.... "
قاطعه أحد الأبناء وأخذ منه السماعة شاكياً وقائلاً :
-"هل يجوز لموظف الاستعلامات منعنا من زيارة أمنا ؟ أين العدل وأين الأنصاف وأين المروءة ؟"
-"لا، ولكن ليس في هذا الوقت المتأخر بالذات ".
لقد أجابت بحسن نية وعدم إلمام بتفاصيل الموضوع .
"-إذن ، اسمحي لنا بالدخول."
وهنا أخذ الخفير السماعة وعيناه تشعان غضبا. لقد أخذ التعليمات الكاملة من سيدته معتذراً لها عن الإحراج الذي أوقعها فيه. ثم استفسر منهم عن الاسم الثلاثي لأمهم وتاريخ دخولها الدار. بعدها فتح درجاً أخرج منه سجلاً كبيراً ثم أخذ يقلب الصفحات، إلا انه رغم تدقيقه المعمق لم يجد الاسم. ثم عاد يقلب الأوراق ثانية وثالثة، إلا أنه لم يجد ذلك الاسم . سألهم :
-"هل يجوز أن اسمها مع الوفيات ؟"
زمجر الكل في وجهه مرة واحدة كأنهم يريدون افتراسه قائلين له :
" -فأل الله ولا فألك. إنها دخلت الدار اليوم والحبر لما يجف بعد! وفعلاً فتح سجل الوفيات، حيث وجد اسمها هناك وبجواره ملاحظة طويلة مربوطة بدبوس كبير. جاء فيها:
(((في الساعة ... من يوم ... توفيت السيدة المسنة ... وأرسلت جثتها إلى الطبابة العدليـــة ثم إلى الكليــــــة الطبية بناءاً على وصيتهــــــــا المثبتة أعلاه. و((( ...
وساد وجوم قاتل أثناء تصفحهم الوصية الموشاة بختم إبهامها الأيسر. لقد ذهلوا وصفعوا بقوة بمضمون الوصية المتوجة بعدم رضاها عنهم في الدنيا والآخرة. وانصرفوا مذهولين، واحداً تلو الآخر، والصمت والوجوم والندم يلفهم.
لقد خسروا أمهم بجرة قلم ونتيجة تصرف دنيوي زائل طائش أهوج. كما خسروا رضاها ونقودها ووجودها حيث جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن بل ... خسروا الدنيا والآخرة على حد سواء، وفوق هذا وذاك غضب الله !