الذكرى الثالثةوالعشرون لاستشهاد القائد الوطني عمر القاسم
الكاتبوالباحث احمد محمود القاسم
بتاريخالرابع من حزيران، من كل عام، تطل علينا ذكرى استشهاد القائد الوطني الكبير،والأممي، عمر محمود القاسم، والذي استشهد في العام 1989م، بعد اعتقال دام لأكثر منواحد وعشرين عاما، نتيجة للمعاناة والتعذيب الشديد، الذي لاقاه على ايدي جلاديه،من قوات الاحتلال الصهيوني. وتعتبر مدة اعتقاله، اكبر فترة زمنية يقضيها سجينفلسطيني، خلف قضبان الاحتلال الصهيوني، في حينها، وهو يعتبر اول القادة منالفلسطينيين، الذي يعتقل، بمستوى عضو لجنة مركزية. وكان الشهيد القائد عمر معتقلا، لدى السلطاتالأردنية في عمان، عند حدوث نكسة حزيران في العام 1967م.
فورخروجه من السجن-سجن عمّان المركزي-سافر على الفور، إلى مدينة القدس، حيث طمأنأفراد الأسرة، على سلامته، وقال لهماليوم، يبدأ النضال الفعلي، ضد قوى الاحتلال.وبجب أن نعمل على تصعيد المقاومة الشعبية المسلحة، وتنظيم الناس، وتدريبهم على حملالسلاح، والإسعافات الأولية).
جمعالشهيد عمر، بين النضال العسكري، والنضال السياسي بشكل خلاّق، وكان يقول:
"ليس هناك نضال عسكري، ونضال سياسي، هناكنضال ثوري، الكلمة الثورية، يمكن أن تكون طلقة، إذا كانت ذات مضمون علمي، والطلقة،يمكن أن تقتل إنساناً بريئاً، إذا لم تكن موجهة، بالشكل ألصحيح. "الفدائيالغير ثوري، والغير مثقف، لا يختلف عن أي جندي كلاسيكي عادي، وإذا لم يعمل علىتثقيف نفسه، ثقافة نضالية ثورية، عليه أن يلتحق بأي جيش نظامي، كلاسيكيبالمنطقة".
شاركالشهيد القائد عمر، بمعركة الكرامة، وقاتل ببسالة وذكاء، وأصيب بيده اليسرى، إصابةطفيفة نسبياً، كان حزيناً جدا،ً ومسروراً جداً، سألته عن سبب حزنه وسروره، ولماذاهذا التغير بحالته؟؟؟ فقال لي، بأنه حزين جداً، لأنه سقط عدد كبير جداً، منالأبطال الفلسطينيين، كان الحماس عند استشهادهم، يغلب على الكفاءة القتالية لديهم،ولو أن هؤلاء الأبطال، يملكون السلاح المتطور، والتدريب العالي، لكانت الخسائربجانبنا، أقل بكثير، مما أصابنا. أما سروره، فكان نابع من إحساسه بهزيمة العدو،هزيمة واضحة، في هذه المعركة، وأن العدو، تكبد كثيراً من القتلى والجرحى، وعددكبير من المعدات والآليات. كان الشهيد يقول:
"نحن بحاجة إلى الكادر المقاتل، بهذا الظرفبالذات، لذا، علينا أن نحافظ عليه، ولا يجوز أن ندفع برفاقنا إلى الانتحار، فنحن،نود لهم الحياة، وأهلهم عندما خلّفوهم، خلّفوهم، لا لكي يموتوا، بل من أجل أنيعيشوا".
كانيقول لي: "من منا يحب أن يموت، ومن منا لا يحب أن يعيش، لكن، علينا أن نعيشبشرف، وأن نموت بشرف، وإذا كان لا بد من الموت، فمن العار أن تموت جباناً. ولا يجبأن نضحي برفاقنا بسهولة، فهم أعزاء على والديهم، وزوجاتهم وأولادهم، وأهلهموأصدقائهم.
كانالشهيد، مسلح بسلاح فكري واسع وعميق، وكان ثائراً على كل القيم والعلاقاتالاجتماعية السائدة، لم يكن يعتقد، بأنه يمكن تغيير الواقع بالكلام، كان يرسمويخطط، وكان يعتبر العمل، أهم من الكلام، وكان يقول: "العبرة بالتنفيذ".وكان يقول لي دائما: " إذا لم نشارك نحن، في تحرير بلادنا، إذنْ، ممن تتوقعأن يحررها لنا؟ فلسطين تنادينا، ويجب أن نلبي نداءها".
كثيرمن الأهل، كانوا يتوقعوا استشهاده في كل لحظة، كلما سمعوا عن عملية فدائية، أو عنقصف جوي لقواعد الفدائيين، في شرقي النهر، كانوا يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاًعليه، وكانوا يقولون له عندما يرونه أمامهم:"اعتقدنا انك ضمن الشهداء، أو ضمنألجرحى، فكان يجيبهم ببرودة أعصاب:"أنا ضمن ستة من الأخوة، ماذا يضيركم لواستشهد أحدنا؟
فالشهادة،ضريبة علينا، يجب تسديدها نحو الوطن، كثير من الأُسَر، فقدت معيلها الوحيد، نحنلسنا بأفضل منهم".
مَن لَا يَعرف عمر القاسم،لا يعرف الحركة الوطنية الأسيرة... فهو علم من أعلامها، ورمزٌ من رموزها، وأحدبُناتها الأساسيين، وكان على الدوام، عماداً أساسياً من أعمدتها الراسخة ... فكانفي حياته قائداً فذاً، ومناضلاً شرساً، وأسيراً شامخاً، ونموذجاًرائعاً، وفي مماته شهيداً خالداً، وقنديلاً لن ينطفئ نوره .
نعم، هذا هو الشهيد عمرالقاسم، لمن لا يعرفه، بل يعجز القلم عن وصف خصاله، وتجف الكلمات، حينما تسردسيرته، وتنحني القامات تقديراً، حينما تتحدث عن بطولاته ومواقفه، وليسبالضرورة، أن تكون قد عايشته في السجون، كي تتعرف على خصاله، أو أن تكون منتمياً الـىتنظيمه، كي تقرأ في أدبياتها عنه، وعن أمجاده وبطولاته ومواقفه .
قالأخي لي مرة: "إذا استشهدتْ، فلا تأخذوا ثمناً لاستشهادي، فروحي فداءً لوطنيوشعبي، وأنتم أوضاعكم المالية جيدة، ولستم بحاجة إلى مساعدة مالية من أحد، دعواغيركم يستفيد منها، فقد يكونوا بحاجة إليها أكثر منكم.
يوماعتقاله، أعلن ناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أن القوات الإسرائيلية، اشتبكت بالسلاح، مع مجموعة فدائية مقاتلة، وتمكنت من أسر قائدها، البالغ من العمر 27 عاماً، وهو شابمثقف، من سكان مدينة القدس، يدعى عمر القاسم.
يقولرفاق الشهيد القائد، لولا الصلابة المنقطعة النظير، التي كان يتمتع بها شهيدنا، ولولا عمق ثقافته واتساعهاوشمولها، لما أمكن للحركة الأسيرة، أن تنتزع مكاسبها، وكان لاستجابة رفاقه، وزملائه، لأطروحاتهالسياسية والنضالية، أثر كبير في تحقيقتلك المكاسب.
كانيقول: " لست أنا المعتقل الوحيد في السجن، فكل أبناء شعبي الفلسطيني، في سجنكبير، وليس هناك فرق، بين أن تكون في سجن كبير، أو سجن صغير، فالسجن واحد".
انطلقالشهيد بنشاطه في السجن، من مقولة كان يرددهاعلى مسمع من زملائه:
" في السجن، لا ينتهي دور المناضل، بل يبدأ، وهو نضال مكمل، ومترابط معالنضال الخارجي، ويجب أن نصمد، رغم الاختلال الحاصل، في موازين القوى.
عندمانفّذت القوات المسلحة الثورية، التابعة للجبهة الديمقراطية، عملية"معالوت"، " ترشيحا" في منطقة الجليل، كان من أهم مطالبها هوالإفراج عن الرفيق عمر القاسم. فاستدعته إدارة السجن، وعصّبوا عينيه، ووضعوه علىمتن طائرة مروحية، واتجهوا به إلى معالوت، ثم وضعوه على ظهر مجنزرة عسكرية، وطلبوامنه، دعوة الفدائيين، لتسليم أنفسهم "ضمن خدعة إسرائيليه، وقد رفض الرفيق عمرالقيام هذه المهمة، وخداع رفاقه، وعندما ألحّوا عليه مستخدمين كافة الضغوطالوحشية، أمسك الرفيق عمر بالميكروفون، وقال لهم بأعلى صوته: "أيها الرفاق،نفذوا تعليمات وأوامر قيادتكم بحذافيرها، ولا تستجيبوا لمطالب أحد"، فما كانمن الجنود، إلا أن خطفوا الميكرفون، وانهالوا عليه ضرباً، وأعادوه إلى المعتقل،ووضعوه داخل زنزانة انفرادية.
ترتقيصلابة الشهيد القائد، وهو في المعتقل الصهيوني، أثناء مقابلته اسحق نافون، رئيسدولة الاحتلال الصهيوني، وهو في السجن، في العام 1987م، حين طلب منه كتابة تعهدخطي، بعدم القيام، بأي نشاط، ضد دولة الاحتلال، مقابل الإفراج عنه، مع السماح له،بالإقامة بمدينة القدس، حيث كان موقف الشهيد، حازماً وواضحاً، عندما قال له:
"لقد أمضيتُ عشرين عاماً في الاعتقال، ولايهمني مصيري الشخصي، ما يهمني، هو مصير وقضية شعبي، وطالما بقي كابوس الاحتلال،على صدر شعبي جاثما، سأبقى أناضل ضدكم، وسوف يأتي اليوم، الذي أتحرر فيه" منأغلالكم".
تشيرتقديرات رفاق الشهيد القائد، الذين عايشوه في السجن، بأنه تمكن من كتابة ( 126 )كراساً، عن مختلف القضايا السياسية، والمراحل، التي مرت بها الثورة الفلسطينية،وقد أطلق عليه رفاقه لقب "رائد الفكر والثقافة" بالسجون الإسرائيلية،واستحق هذا اللقب بجدارة.
شاءالقدر، بأن يتوقف قلب هذا الإنسان العظيم يوم 04/06/1989م، بعد أن قدم روحه، وفكرهوعلْمُهُ، فداءاً لشعبه ووطنه، وقرباناً على مذبح الحرية، وعلى طريق إقامة الدولةالفلسطينية المستقلة، التي شقّت طريقها أرواح وجماجم شعب فلسطين المناضل.