شاعــــر الشـــــام (شفيق جبري) (1898-1980)
كان الشاعر شفيق جبري أحد أولئك الشعراء من الشعلة المضيئة الذين أنجبتهم سورية في القرن العشرين، ولد جبري في منطقة حي الشاغور بدمشق عام 1898م-وكان والده درويش جبري من كبار التجار أرسله الى كتاب الحي ليحفظ القرآن الكريم ويتعلم القراءة والكتابة ثم حصل على الشهادة الثانوية عام 1913 من مدرسة الآباء العازاريين، أتقن جبري اللغة العربية والفرنسية وألمّ بالانكليزية، قرأ الشعر الجاهلي ومعظم كتب التراث النثرية والشعرية فقويت لغته وتعمقت ثقافته وضربت بجذورها في أعماق التراث كما قرأ كثيراً للأدباء الفرنسيين وخاصة آناتول فرانس، نشأ في ظل الحكم العثماني وعانى ويلات الحرب العالمية الأولى وما خلفته من مآس ودمار وذاق مأساة إعدام العرب الأحرار على يد جمال باشا السفاح في السادس من أيار عام 1916م وشهد معركة ميسلون حين اندفعت جحافل غورو في 24 تموز 1920 وهي تصب حقدها الدفين على وطنه سورية. عمل جبري موظفاً في وزارة المعارف وانتخب عام 1926 عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق ثم عين أستاذاً بكلية الآداب فعميداً في الجامعة السورية وألقى محاضرات كثيرة عن زعماء الشعراء والنثر العربي وأحيل على التقاعد عام 1958. سافر جبري الى فرنسا والى أمريكا والى معظم الدول العربية وللشاعر مؤلفات عديدة منها دراسة عن الجاحظ والمتنبي وغيرهم وله كتابان (أنا والشعر) و(أنا والنثر) وهما من أروع ما خلفه لنا جبري وهما مصداق حي لأدبه المعطاء وذوقه المرهف وقدرته على استيحاء الألفاظ وتطويعها لشعره ونثره وله محاضرات كثيرة ومقالات ودراسات نشرها في مجلة المجمع العلمي العربي وله ديوان شعر بعنوان (نوح العندليب) وهو من مطبوعات المجمع اللغوي بدمشق صدر بعد وفاته. توفي جبري في دمشق عام 1980 عن عمر يناهز اثنتين وثمانين سنة ودفن في مقبرة باب الصغير بدمشق. حاكى جبري في شعره الشعراء الأقدمين فقد كان يرى في شعرهم الديباجة القوية وجزالة اللفظ وقوة المعنى وأصالة التعبير وقداسة الصور والتراكيب وكان ذلك اعترافاً منه بعبقرية الأجداد فهو يريد ان يوطد جذور التراث الخالد . لقد عانى جبري ظلم الاستبداد وويلات الاحتلال الفرنسي كان في شعره الوطني يشعل نار الثورة في النفوس وكان دائم التطلع الى دحر العدو الغاشم وألق الحرية والاستقلال، لقد أخرس الاستعمار الفرنسي الألسنة وكمّ الأفواه لكن الشعب العربي في سورية لم يسكت على الضيم ولا يرضى الذل والهوان ويأبى إلا ان يظل حراً أبياً وفي قوله: لكن جلق في ازدحام خطوبها جبارة بكهولها وشبابها لم تستنم لأذى فإن هاجت بها دهم الخطوب أوت الى أقطابها عركت عروبتها السنين فأقلقت عبث السنين بحدها وبنابها ظل العروبة وارف في جلق متمكن في أرضها وسحابها إن جلق الشام صامدة وقوية في وجه المحن والخطوب فهي قوية وجبارة ولن تزحزحها النكبات ولا تنال منها فاجعات الدهر ومصائبه. كان شعره الوطني ينزف دماً وحسرة على بلاد الشام وما أصابها من ظلم المستعمر الغاشم فهو دائماً يتطلع الى انبثاق الفجر ونيل الحرية والاستقلال : فمروج الشام تشكو ضيمها أين من يكشف عنها المحنا أرقب الصبح وليلي سرمد فأناجي في الليالي الدجنا وانصراف العين عن رقدتها في دياجي الليل يقذي الأعينا وطني كيف أرجي بيعه ذل من راح يبيع الوطنا أيها الطامع في حوزته لست أرضى بالثريا ثمنا أيها القوم أفيقوا ويحكم وثب الدهر فما هذا الونى يتطلع الشاعر الى مروج الشام بقلب ملؤه الحزن والألم وهي تشكو المحن والمصائب التي حلّت بها من جراء المستعمر الغاشم والشاعر يترقب انبلاج الصبح واشراق فجر الحرية لكن الليل يطول ويرخي سدوله ويخيم أستاره السرمدية فالشاعر يعيش مرارة المعاناة وكأن في عينيه قذى يمنع عنه نعمة الهدوء والسكينة فهو محب لوطنه وعاشق له ولا يرضى بالثريا بديلاً عنه ويستنهض الشاعر الهمم والعزائم لتفيق من كبوتها وتصحو من سباتها العميق وتنفض عنها غبار الهزيمة والاستسلام وتنجد هذا الوطن الغالي من براثن العدو الغاشم. وقصيدته (نوح العندليب) تعد مثالاً رائعاً لشاعريته المرهفة وذوقه المبدع فهو يحاكي العندليب ويبثه أشجانه وأحزانه ويبين كيف ان العنادل تبكي أوطانها فالشاعر يتجرع كؤوس الحسرة والألم الدفين ويتفطر قلبه حزناً ولوعة لما يصيب وطنه الغالي من ويلات الاحتلال وظلمه. دع العندليب على غصنه يردد على الغصن أحزانه كتمت الشجون عن العندليب فراح يبثك أشجانه وأخفيت عنه دموع الجفون وقد بلل الدمع أجفانه أتبكي العنادل أوطانها ولا يندب المرء أوطانه فما أروع تلك الموسيقى النفسية التي ينبض بها عالمه الداخلي حين يفور أو حين يسكت نرى في شعره روعة الصور ورهافة الحس والقدرة على استيحاء الألفاظ وتطويعها لأوزانه وقوافيه وقد أضفت عاطفته المشبوبة والمشحونة بحرارة الصدق على الأبيات جمالاً أخاذاً ألهب مشاعرنا وإحساساتنا وقد جعلنا نحلق مع الشاعر في آفاق سحرية ملؤها الحب والحنين الى الوطن. عاش جبري في الشام وشاركها أفراحها وأحزانها وكان دائماً يشعل نار الثورة والنضال في نفوس أبناء شعبه وينير لهم طريق الحرية والنصر ويصب في شعره حقده وكراهيته للمستعمر الفرنسي واشتعلت في سورية بكاملها الثورات الملتهبة والانتفاضات الكبيرة وكانت هناك قوافل كثيرة لا تعد ولا تحصى من الشهداء الذين رووا بدمائهم الزكية تراب الوطن الغالي وفرشوا لأجيالهم دروب العزة والكرامة، وتحقق الجلاء في السابع عشر من نيسان عام 1946م بعد نضال مرير وكفاح طويل وانبثق الفجر فجر الحرية والسؤدد وانفرجت الأسارير وتبمست الشفاه عن ضحكات الحرية والفرح وكان الشاعر جبري البلبل الذي غنى أفراح العيد ولذلك لقب بشاعر الشام وفي قوله: حلم على جنبات الشام أم عيد لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد أتكذب العين والرايات خافقة أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد ماء العيون دموع من هناءتها فالدمع در على الخدين منضود لو ينشد الدهر في أفراحنا ملأت جوانب الدهر في البشرى الأناشيد لقد كان جبري شاعر الشام بأصالته ومصداقيته وقد وهبه الله شاعرية مرهفة وقدرة فائقة على استيحاء الألفاظ والتراكيب ووهبه العاطفة المتوهجة والصادقة والشعور الوثاب للتطلع الى بناء العمل الفني المتكامل فكان شاعراً خالداً على مرّ الدهور والأزمان.