حوار مع العلامة محمود فاخوري
علومٌ في علم عالم ، بحث ودأب ودراسة وتحقيق
أوجز فأشاد، بحث فأجاد
العلامة محمود فاخوري
رمزٌ لعطاء مستمر، بلا مقابل
أجرت الحوار سها جلال جودت
هو علمٌ من أعلام العطاء والبحث والدراسة والتحقيق ، علاّمة في فقه اللغة العربية، جلس تحت أيكة العلم يغرف من علوم العرب وأدبائهم ثراء لغتهم وبلاغة معانيهم ، أوجز فأشاد وبحث فأجاد ، قدم كتباً في أعلام العرب تحقيقاً وبحثاً ودراسة ، عمل مدرساً في جامعة حلب قسم اللغة العربية، حقق تميزاً في الساحة الأدبية، يعطي سائليه العلم بلا مقابل، شغل منصب أمين سر فرع اتحاد الكتاب العرب، حصل على شهادة تقدير بامتياز من اتحاد الكتاب العرب ، يحبه الجميع، يقرون بفضله عليهم ، يُعتبر أبرز من تحدث في علم العروض في عصرنا الحالي، مع جليل العلم والأدب الأستاذ محمود فاخوري كان لقاؤنا على بياض السطور :
س1- الأستاذ محمود فاخوري ، عُرف عنك ميلك نحو البحث والدراسة والتحقيق في علوم العرب على رأسهم أبي مهجن الثقفي والمطرزي وابن الجوزي ما سبب اختيارك لهؤلاء الأعلام ، هل هناك جديد قدمته ؟
إن اختياري لهؤلاء الأعلام وغيرهم، يعود إلى جانبين، الأول: يخص الأعلام أنفسهم، فقد يكون أحدهم مغموراً، أو لايُعرف عنه الكثير لدى الباحثين والدارسين، وعندئذٍ يروق لي أن أكشف الستار عن شخصياتهم، وأن أجليّها لناس بالعودة إلى مايمكنني الرجوع إليه من المصادر والمراجع بلا ملل ولا سآمة، حتى أستوفيها جميعاً من قديمة وحديثة، ومن مطبوعة ومخطوطة متوافرة في مظانها، وهذا ما يصدق عليه أبي محجن الثقفي الشارع المخضرم، فقد درست حياته كلها وخرجت بمعلومة جديدة، بتفاصيلها وجزئياتها، ولم يدرسها أحد قبلي، من ذلك تحقيق تاريخ وفاة أبي محجن الذي سكتت عنه المصادر وأخطأت المصادر الحديثة في تحديد وفاته ب سنة ثلاثين للهجرة، والصواب انه توفي سنة 23 هجرية، كما حققت في الوقت نفسه ديوانه ودرست أشعاره في هذا الديوان.
وأما الجانب الآخر : فيخص الكتاب المحقق نفسه ، فقد يكون هذا الكتاب غير محقق، أو نادر الوجود، أو ليس متداولاً في أيدي الناس، فعندئذٍ أقوم بتحقيقه وإعداده للطباعة وهذا ما يصدق على معجم "المُغْرب" للمطرزي، وعلى كتاب "صفة الصفوة" لابن الجوزي، وكتاب "سيرة ابن سينا" و"نسيم الصبا" لابن حبيب الحلبي، وكتب أخرى غيرها.
وكان هناك جديد في كل ما قدمته، سواء أكان ذلك في تحقيق الكتب النادرة، أم في دراسة أعلام لا يكادون يُعرفون، وعندئذٍ تشتهر أسماؤهم وسيرهم بين الدارسين، وهكذا، فإنني أحب دائماً أن أحرث في أرض بور.
س2- سفينة الشعراء كتاب قمت على إنجازه، ماذا حقق لك هذا الكتاب ؟ وما هي الأسس المنهجية التي عملت على أساسها .
أعتز كثيراً بهذا الكتاب لأنه يذكرني بمرحلة الشباب من التدريس والتأليف، وهو أول كتاب أطبعه من مؤلفاتي خمس مرات منذ عام 1970 حتى اليوم.
وقد حقق لي هذا الكتاب فوائد معنوية كثيرة، إذْ اتسع انتشاره وتلقاه أهل الشعر والعروض بالرضا والقبول لما رأوه فيه من سهولة ويسر، ومن وضوح في العرض والشرح، وتقريب علمي العروض والقافية إلى الدارسين، ابتدعت فيه طريقة جديدة وذلك أنني كنت أستقصي أعاريض كل بحر وأضربه وجوازاته مرتبة متسلسلة، في عرض أوزان كل بحر من البحور الشعرية، مع بيان جوازات تلك البحور الشائعة والشاذة، وصنعت لكل بحر خلاصة مركزة تلخص البحث كله في أسطر قليلة، فمثلاً خلاصة البحر الوافر التام جاءت كما يلي:
العروض والضرب: مفاعلتن مفاعلتن فعولن
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
العصْب: مفاعيلن مفاعيلن ---
مفاعيلن مفاعيلن ---
العضد: مفْتعلن مفْتعلن ---
مفْتعلن مفْتعلن ---
النقص : مفاعيل مفاعيل ---
مفاعيل مفاعيل ---
وأودعته كلاماً جديداً عما يصلح له كل بحر من الأغراض والصور والأساليب، فقلت مثلاً: عن البحر البسيط إنه بحر كثير الاستعمال كالطويل، وهو يقرب منه أيضاً في استيعاب الأغراض والمعاني المختلفة، لكن البسيط يفوق الطويل رقة وجزالة، ولهذا قلّ في شعر الجاهليين، وكثر في أشعار المولّدين ومَن بعدهم، ومن أمثلته في القديم معلقة النابغة، وفي شعر العباسيين قصيدة أبي تمام في عمورية (السيف أصدق أنباء من الكتب). وقد جرى معظم أصحاب البديعيات والمدائح النبوية والأناشيد الدينية على ركوب هذا البحر، ولم أكتف بذلك، بل ألحقت بالكتاب أبحاثاً من الأبحر المهملة والفنون الشعرية المستحدثة، فمن البحور المهملة – البحر المستطيل- وهو مقلوب الطويل، وتفعيلاته (( مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن)) مرتين، ومن الفنون الشعرية المحدثة الموشح والدوبيت والسلسلة والزجل وغيرها، كما حاولت وضع بعض الأسس والقواعد للشعر الحديث (شعر التفعيلة) مع شواهد من أشعار أعلامه كعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وأحمد عبد المعطي حجازي، وسليمان العيسى وغيرهم، وكانت هذه أول دراسة علمية جادة في هذا المضمار.
وقد حقق لي هذا الكتاب شهرة واسعة-والحمد لله- وكم من شاعر أو شاعرة، التقيتهم من دون أن أعرفهم، وأقروا لي بفضل كتابي عليهم، وتعليمهم أصول الوزن والعروض والنظم، وهذه نعمة من الله.
س3- ما هو سبب عدم اهتمامك بالرواية أو القصة أو الشعر، هل لهذا علاقة بميولك الأدبية الفكرية، أمْ أن هذه الأجناس لا تحقق ماسعيت نحوه وطلبته من أجل العلم؟
لم أجد في كتابة القصة أو الرواية ما يحقق لي طموحي أو يشبع رغبتي في البحث والدراسة، كما أن ميولي الأدبية والفكرية اتجهت إلى ذلك منذ صغري بتوجيه وتشجيع من أساتذتي في المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
لكن هذا لم يمنعني من قراءة المئات من الروايات والقصص لكبار الكتاب مؤلفة ومترجمة.
وأتيح لي أيضاً أن اقرأ جملة من الروايات الشعبية مثل ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة والأميرة ذات الهمة وسيرة بني هلال وغيرها، إذ كان والدي رحمه الله يصحبني في ليالي الشتاء – وأنا في المرحلة الإعدادية – إلى بعض أصحابه من الجيران غير المتعلمين، فكنت أصغرهم سناً وكنت أقرأ لهم طوال السهرة في بعض تلك الروايات والسير الشعبية.
أما الشعر فقد أحببته وأكثرت من قراءته واستهواني نظمه، ولكني مقلٌّ جداً بسبب حرصي على اغتنام وقتي بخدمة تراثنا العربي، ولغتنا المقدسة، وعلومها المختلفة دراسة وتأليفاً وتحقيقاً.
وعلى سبيل المثال أذكر بضعة أبيات نظمتها وألقيتها في الحفل الذي أقيم لتكريمي في كلية الآداب بجامعة حلب بتاريخ 19/4/ 2000، وشاركت فيه فعاليات ومنتديات عدة في مدينة حلب، قلت يومئذٍ:
عظيم الشكر أزجيه إليكم وأرفعه احتساباً واحتراما
ألستمْ أنتم قيدتموني بإحسان وجودْ قد تنامى
ولو أني قدرتُ على جزاءٍ إذ حققت في نفسي مراما
ولكنّي أقرّ بقَصْر باعي فذي نُعمى مجلّلةٌ، تسامى
نداء القلب أصفى ما أناجي فعذراً وامتناناً يا نشامى
س4- أنت من مواليد حماة ، ماذا أعطتك هذه المدينة، وماذا لم تحققه بعد؟ وتتمنى أن يتحقق ؟
عُرفت مدينة حماة بأنها موئل العلم والعلماء، وملاذ الشعر والشعراء، وكانت حلقات العلم والتدريس كثيرة، ينهل منها المتعلمون أدباً ونحواً ولغة وصرفاً وتاريخاً.
ونشأ جيلنا على ذلك، كما نشأ جيل من قبلنا، وكان لهذه الحلقات العلمية أثرها في نفسي، وفي حبي للغوص في بحار العلم، وحب الكتب والحرص على اقتنائها منذ الصغر حتى تجمعت عندي –والحمد لله- مكتبة عامرة بآلاف الكتب من مطبوعة ومخطوطة، وهذه المكتبة هي زخري ومتعتي وزادي الذي أتمنى دائماً أن يتاح لي قراءة ما حوته من نفائس الكتب المختلفة، لإغناء رصيدي الثقافي من جهة، ولإمدادي بما أحتاج إليه من مصادر ومراجع عند كتابة بحث، أو إعداد دراسة ، أو تأليف كتاب أو تحقيقه فلا أحتاج في الأغلب إلى الاستعارة أو إلى المكتبات الوطنية والمراكز الثقافية.
من ذي ترين أن مدينة حماة قد أعطتني الكثير منذ صغري وأكملت هذه المسيرة حين أصبح عملي في كلية الآداب بجامعة حلب.
س5- في الساحة الأدبية صراعات حول الحداثة والبنية الرمزية، ماذا تقول؟ وبماذا تنصح ؟ وما رأيك بالمصطلحات اللغوية الجديدة التي يطلقها البعض في كتاباتهم ؟
إن الصراع بين القديم والحديث ليس وليد عصرنا هذا، فهو موجود في الساحة الأدبية شئنا أم أبينا، فلابد من الاعتراف به، والاستعداد له، ولا يمكن أن نقف منه موقف المتفرجين، ولابد هنا من الإشارة إلى أن الأمة إذا لم يكن لها ماض يرتكز إليه حاضرها ومستقبلها في البناء فهي أمة فاقدة الشخصية والكيان، وسوف يأتي عليها يوم تفقد فيه هويتها أيضاً وتنصهر في غيرها، وتفقد مقومات وجودها.
أنا لست ضد الحداثة المتزنة التي تمتاز بالتعقل والرصانة، وتنأى عن الاندفاع والتشنج، وتحترم التراث احتراماً لا يخالطه تقديس صرف، ولا أوافق على ما يقدم به بعضهم من إطلاق مصطلحات لغوية، أو ألفاظ يزعمون أنها من "التفجير اللغوي"، لأن لغتنا العربية تختلف عن سائر لغات الأمم بقواعدها وضوابطها، فذلك فقط بأهل الاختصاص وبمجامع اللغة العربية في العالم العربي، فكما أنه لا يجوز للطبيب مثلاً أن يخترع ما يريد في علم الهندسة، ولا للمهندس أن يجدّد في عالم الموسيقا.. فكذلك لا يجوز لأيٍ كان أن يدعي المعرفة باللغة وألفاظها إذا لم يكن مؤهلاً لذلك.
س6- عرفتُ من خلال إجاباتك لاستبيان أسئلة كتاب / الأدباء يكتبون طفولتهم / أنك كنت ومنذ الصغر ولهاً بقراءة الكتب ، ما رأيك الآن حين يقولون أن الكتاب فقد وزنه ووقاره عند طالبي العلم وحل مكانه (الأنترنيت) أي الكتاب المفتوح على الشاشة العنكبوتية، هل تُقرُّ بهذا البديل ؟
أنا لا أوافق بوجود أحكام مطلقة نرسلها هكذا إرسالاً بلا أي قيد، وعلى هذا فلا يمكن أن أقول إن الكتاب فقد وزنه ووقاره مطلقاً، ولا أقول إن الشاشة العنكبوتية هي الفُضلى في جميع الأحوال، كما لا يمكنني أبداً أن أقول إن الرجل خير من المرأة، ولا إن المرأة خير من الرجل، فلكل مقامه ودوره كيفما كان هذا الدور أو ذلك المقام، ولا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر.
أنا شخصياً أفضل الكتاب الورقي على كتاب الشبكة العالمية، لأني أجد فيه من الحميميّة والألفة ما لا أجد في ذاك، كما أنني أستطيع أن أحتويه كله بين يديّ وأتصفحه في آن واحد متنقلاً بين مقدمته وصفحاته وفهارسه، وأعرف موضوعه ومحتوياته في لحظة واحدة، وهذا لايتيسر لي في قرينه، ثم إن الكتاب الورقي أستطيع أن أحمله أينما كنت، وأتنقل به بين السرير والطاولة والأريكة بحسب الوضع الذي أجد فيه راحتي.
أما الكتاب "الإلكتروني" فتجبرني القراءة فيه على اتخاذ وضع معين من الجلوس، وإطالة النظر في صفحاته المتناثرة هنا وهناك، وهكذا ، والأمر كذلك في ممارسة الكتابة والتأليف بهذا أو ذاك، فضلاً عن أن أسلوب الكتابة يعتريه شيء من الخلل أو الترخص، وعلى كل فلكل امرئ من دهره ماتعود، وإن هناك أموراً يقوم بها هذا الكاتب أو ذاك، ولا يستطيع الآخر القيام بها، وليس هذا قاصراً على مجال قراءة الكتب، بل يشمل كل أشكال القراءة والكتابة.
ثم إننا لم نصل بعد إلى المرحلة المثلى في الاعتماد على "الشاشة العنكبوتية" ، لأنه ليس بين أيدينا أقراصاً مرنة لكل الكتب العربية المطبوعة، وحتى الموجود منها بين الأيدي لا يوثق به، ولا يصحّ أن يكون مصدراً علمياً معتمداً، لأنه مجهول الهوية والنسب، وقد يُحذف منه أشياء كان من الضروري إثباتها، كما اطلعت على ذلك بنفسي مراراً.
لذلك لا يصلح في رأيي للأعمال الأكاديمية والدراسات الموثقة، وإن كان يصلح لأعمال أخرى من قراءات سريعة وألعاب مسلية وكتابات خفيفة، لا تثقل العقل ولا الفكر.
ولما يأت ذلك اليوم الذي تحل فيه "الشبكة العنكبوتية" محل الكتاب الورقي نهائياً، وسيبقى الاثنان يعملان جنباً إلى جنب كلُّ بحسب إمكاناته والحاجة إليه .
س7- مارأيك بالإعلام ، هل يشكل أزمة في وجه المثقف العربي ؟ هل هو معني بالشللية الثقافية السياسية أمْ أنه كلام لتبرير ضعف الآخرين؟
أعود إلى ماقلته سابقاً من أنني لا أؤمن بالأحكام الكلية المطلقة، فكما أن لكل عمل محاسنه ومساوئه، وإيجابياته وسلبياته، فكذلك الإعلام لا يخرج عن هذا الحكم، وذلك مرتبط بالقائمين عليه، والقائمين به، ومدى متابعة الرؤساء والمرؤوسين في أعمالها، التي يجب أن يكون رائدها الإخلاص والإتقان والموضوعية، وإن كان ذلك لا يتحقق دائماً على الوجه الأكمل.
ولا بد للشللية السياسية والثقافية أن تطلّ برأسها بين حين وآخر، وعلى العموم فإن الإعلام عامة لا يشكلّ أزمة حقيقية في وجه المثقف العربي.
س8- أستاذ محمود ، أنت صاحب فضل كبير على محبي اللغة العربية في حلب الشهباء من بينهم أنا ، ماذا تقول لنا ، وبماذا تنصح الجيل الجديد من طالبي العلم ؟
بعد سنوات طوال أمضيتها من عمري في هذه الحياة – والشكر لك – لم أر للإنسان من صفات يتحلى بها في حياته وسلوكه وفي مقدمتها الاستقامة والنزاهة والإخلاص في العمل كما جاء في الحديث النبوي " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"
ومن جهة أخرى فقد جعلت نفسي خدين الكتاب ، أصحبه في حلي وترحالي، وأقتنيه بشغف ولذة، فضلاً عن عشق لغتنا السامية، وإنني أعتبر العمل في سبيل ازدهارها ونهضتها بمختلف الوسائل رسالة مقدسة أقوم بها برضى وسرور، واضعاً جهودي في خدمة أهل العلم وطلاب المعرفة.
وكل ذلك أحب لغيري أن يتحلى به من أبناء الجيل الجديد وغير الجديد من طالبي العلم ، لأن طلب العلم لا ينتهي بنيل الشهادة، ولا يقف عند حدّ، وكلنا طالب علم أو متعلم، ويجب أن يستمر ذلك ما دام المرء على قيد الحياة، وكثيراً ما يحلو لي أن أردد على المسامع بيتاً من الشعر يستحق أن يجعله المرء شعاراً له في حياته، ويتطلع إلى تحقيقه في عالم الواقع، ذلكم هو قول أبي الفتح البُستي:
إذا مرّ بي يوم ولم أتّخذ يداً
ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري
17/6/ 2007