منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 7 من 9 الأولىالأولى ... 56789 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 70 من 84
  1. #61
    فتنة "عمارة" أم فتنة صحافة
    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    .........................................

    فى الوقت الذي يسعى فيه العقلاء إلى تطويق الفتنة والإثارة بين الأكثرية العددية ، والأقلية الدينية ، فإن هناك نفراً من أهل الإفك والبهتان ، وخاصة فى المجال الصحفي، لا يريدون بهذا الوطن خيراً ، ويعملون على إشعال النار فى سبيل مكاسبهم التافهة وأرباحهم القليلة ..
    اعتذر " محمد عمارة " عن كلمتين نقلهما عن الإمام الغزالي، التقطهما المتربّصون به وبكل صوت يدفع عن الإسلام ويذود ، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، وتقدم عمارة بشجاعة لا يملكها هؤلاء واعتذر عن عدم تحققه من النصّ المنسوب إلى حجة الإسلام الغزالى .
    ودعا كثير من العقلاء إلى طيّ صفحة الموضوع ، بعد أن أعلنت الجهة ناشرة الكتاب سحبه من السوق ، وحذف الكلمتين اللتين لم يقصدهما عمارة ، ولكن الفجور الصحفي لدى البعض أبى إلا أن يعيد ويزيد ، ويلت ويعجن ، وتجاوز الأمر الصحف الورقية إلى الصحف الإلكترونية ، وطرح الموضوع على القراء وسؤالهم عن رأيهم فيما كتبه عمارة ، مما فتح المجال أمام تعليقات مثيرة وضارة ، تعمّق التعصب وتزرع الفتنة خاصة لدى الجانب الذي يعتقد أنه معتدى عليه ، أو إنه مضطهد !
    إن كتاب عمارة يهدف بالدرجة الأولى إلى حماية البناء الداخلي للأمة من الشروخ والانقسامات والتوترات من خلال ما يقوم به البعض مذهبياً أو طائفياً من تكفير للبعض الآخر ، وينتقد فى جرأة محمودة ، ما يقوم به بعض الشيعة أو بعض الوهابية أو بعض الصوفية من تكفير لغيرهم أو لمخالفيهم ، وفى إطار هذا الانتقاد يأتي بنصوص يُطلق عليها اسم " الفحش الفكري" ، لأنها تخالف جوهر الإسلام وقواعده وأصوله ؛ وتعبّر عن تعصّب بغيض ، ومراهقة فكرية لا يقبلهما الإسلام ، ولا يُقرّهما . وفى ثنايا كتابه يُصحح كثيراً من الأوهام والضلالات ، فضلاً عن إشارته إلى الدور الخارجي فى تأجيج الفتن وزرع الانقسامات لتحقيق مصالحة وغاياته الاستعمارية .. ويستشهد بكثير من الوقائع والأحداث ، للتدليل على صحة كلامه ، بل إنه يستشهد بكاتب نصراني مصري نشر وثائق فى جريدة " وطني "التي تعبر عن لسان الكنيسة المصرية فى 2/7/2006م تحت عنوان " المخططات الخطيرة " وذكر فيها أن " بونابرت " عندما جاء ليحتل مصر سنة 1798م راهن على الأقباط النصارى فى مصر ، وعلى اليهود فى فلسطين دون أن يكنّ أي احترام لا للأقباط ولا لليهود .. لقد تحدث بونابرت عما سماه " الأمة القبطية " فقال :
    " سوف يسعدني أن أحميها .. وأعيد لها الكرامة والحقوق التي لا يمكن فصلها عن الإنسان " أما " الثمن " الذي أراده من الأقباط ، فهو – بنص عبارته – " مطالبة أبناء الأمة القبطية بالكثير من الحماسة ، والإخلاص فى خدمة الجمهورية الفرنسية "!!
    ولنتدبر – جميعاً – كلمات بونابرت عن النصارى التي يقول فيها :
    " إنهم أناس لئام فى البلاد ، ولكن يجب مراعاتهم لأنهم الوحيدون الذين فى يدهم مجمل الإدارة للبلاد .. لقد حصلت على سجلات هائلة حول قيمة الضرائب المفروضة على مصر " !
    ويُعلق " عمارة " على هذا النص بقوله : ألا قاتل الله الطائفية .. واللعب بأوراقها ، ولعن الله الخبثاء الذين يسلكون سبيل المذهبية لخلخلة النسيج الاجتماعى فى مجتمعات الإسلام " ( ص 98 ).
    رجل يرفض الطائفية لا يمكن أن يدعو إلى استباحة دماء غير المسلمين ، فضلاً عن المسلمين المخالفين فى المذهب ، بل إن عنوان كتابه يحمل هذا المعنى " فتنة التكفير بين الشيعة .. والوهابية .. والصوفية " .
    لقد صدر الكتاب فى ذى الحجة 1427هجرية = ديسمبر 2006م ، أى قبل شهرتقريبا ، ومع ذلك ، فقد علا الضجيج بصورة مريبة ، ولم يتوقف الأمر عند محمد عمارة بل تجاوزه إلى الإسلام والتشريعات الإسلامية ، وتم تقديم الرجل إلى النيابة العامة ، وخضع للتحقيق ، ولم يُغن اعتذاره عنه شيئاً ، فى الوقت الذى لم يُحاكم فيه صاحب عبارة الموت الذى قتل أكثر من ألف شخص قبل عام حتى الآن !!
    ومن المفارقات أن أحد المحامين النصارى ممن يُقيمون فى أمريكا أرسل رسائل بالبريد الإليكترونى يسفر فيها عن وجه طائفى كالح وقبيح ، ويُهاجم الإسلام والمسلمين ، ويعدّهم غزاة لمصر يجب أن يرحلوا عنها ، ويُعلن أن النصارى هم أصحاب مصر الحقيقيين ، ولم يمض على هذه الرسائل أيام ، حتى خرج من يوصف بأنه سكرتير الأنبا يدعو إلى إلغاء المادة الثانية من الدستور المتعلقة بالدين الرسمى للدولة ومصدر التشريع ، انطلاقاً من أن النصارى " هم أصحاب البلد "! فى عبارات صريحة لا تقبل تأويلاً !
    وهذا الأمر لم يلفت نظر فريق " الفجور الصحفى " الذى يلعب بالورقة الطائفية ولا يترك فرصة إلا واهتبلها للتشهير بالإسلام والمسلمين ، لدرجة أن كذبوا على أحد قادة الإخوان وزعموا أنه سيُضاعف الجزية على النصارى حين يتولى الحكم ؛ وثبت بعد إذاعة كلامه أنه لم يشر إلى شيء من ذلك . ولكن فريق الفجور الصحفى ، أذاع ونشر ، وتوسع فى الإذاعة والنشر، وصدق الأكذوبة ، اعتقاداً منه أنه ينال من خصوم السلطة ، ولكنه فى الحقيقية ينال من الإسلام وتشريعاته ، ويُشوّه قيمه الرفيعة التى تحمل الرفق والرحمة والمودة والمسالمة !
    فريق " الفجور الصحفي "لا يتكلم أبداً عن الذين يؤصّلون للطائفية وللجيتو وينشرون فرية أنهم " أصحاب البلد "، وغيرهم غريبٌ غازِ مستعمرٌ ، يجب معاملته معاملة المحتل الذى تجب مقاومته حتى يرحل ، وتتحرر " الإسكندرية " كما تحررت " جوبا " وفقاً لتعبير أحدهم !
    نحن نريد من فريق " الفجور الصحفى " أن يُطالب هؤلاء بالاعتذار عن " اللعب بالنار " ، والاستقواء بعدوّ المصريين جميعاً .. وأعتقد أن فريق " الفجور الصحفى " لن يفعل ، لأن بحثه عن الارتزاق وإرضاء السلطة البوليسية الفاشية ، يمنعانه من العمل الصحفى النزيه ، ففى الوقت الذى تُتاح فيه الفرصة "لأصحاب البلد " للإدلاء بأقوالهم وتصريحاتهم وآرائهم المعادية للمجتمع وللإسلام وللمسلمين ، وللسلطة نفسها ، فإنها لا تُتاح للرد عليهم ومواجهتهم بالتى هى أحسن !
    فهل هذا موقف صحيح ، مهنيا على الأقل ؟
    بالتأكيد هو موقف مريب ، وغريب ، خاصة إذا ربطناه بتلك الحملة المسعورة على بعض الجماعات الإسلامية التى يُحاربها النظام ويسعى إلى استئصالها ، وهى حملة دفعت ببعضهم إلى وصف الإخوان المسلمين مثلا بأنهم أخطر من تجار المخدرات ! هل هذا معقول ؟
    إن الفجور الصحفى الذى يوقف كل أدبياته على تشويه الإسلام ومحاربته تحت مسميات حركية ( التقدم ، التنوير ، حرية التعبير ، المواطنة ...) ، وفى الوقت نفسه يدخل فيما يُسمى " حوارا" مع النظام ، نظير مكاسب سياسية هزيلة ورخيصة ، إنما يطرح ظاهرة غريبة على الصحافة والصحفيين ، الذين اشتهر العديد منهم بالوقوف فى صف الشعب ووحدته ، وتقدمه الحقيقى لا الإنشائى .
    هناك شخص اسمه "زكريا بطرس" يطل من إحدى الفضائيات ، يسبّ الإسلام والمسلمين منذ سنوات، ومع ذلك تفرد له بعض الصحف الورقية والمواقع الإليكترونية مساحات عريضة ليتقوّل ويتخرّص ويدّعى ..ولا يتيح لأحد أن يردّ عليه ويكشف ادعاءاته وتخرّصاته وتقوّلاته السفيهة !وهناك من أمثاله كثير!!
    وهناك مئات المواقع الإليكترونية التى تُهاجم الإسلام بصراحة ووقاحة وفجاجة ، ويتجاهلها فريق " الفجور الصحفى " الذى يصرّ على ذبح " محمد عمارة " وتقديمه قرباناً " لأصحاب البلد " !
    إن الذين يلعبون بالورقة الطائفية فى مصر أو غيرها من بلاد العرب والإسلام ، قد يكسبون بعض المكاسب مؤقتاً ، ولكنهم على المدى المنظور سيخسرون ، بعد أن يخسر الوطن كثيراً من أمنه ووجوده ومستقبله ..
    أناشد محرري "الفجور الصحفي" أن يحترموا المهنة والأخلاق ، وأن يوقظوا ضمائرهم ، ويتجهوا إلى العدوّ الحقيقى للأمة ، وهو عدوّ متوحش له أذرع عديدة ، لها أسماء عديدة منها : الاستبداد ، القهر ، التخلف ، الأمية ، الفقر ، الضعف ، الفساد ، التزوير ، الكذب ، النفاق ، الكسل ، الجبن ، السطحية ، الضحالة ، مثقفو الحظيرة ، اليسار المتأمرك ....
    .............................................
    *المصريون ـ في 30 - 1 - 2007م.

  2. #62
    مسلسل الدالي .. وتشويه الرجال !
    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    ........................................

    يحكى عثمان أحمد عثمان ، فى مذكراته التي نشرها المكتب المصري الحديث عام 1981م تحت عنوان : " صفحات من تجربتي " ، هذه الحكاية :
    " اتصل بي ذات يوم فى التليفون الأستاذ أحمد رجب – الصحفي المعروف ، يطلب منى تعيين رجل يعرفه .. وأخفى عنى أن هذا الرجل من ( أصحاب السوابق ) ، وإنه كان متخصصا فى ارتكاب جرائم النشل ، وله تسع وثلاثون سابقة .
    وأصدرت قرار تعيينه .. وعندما التقيت بالرجل حكى لي عن كل جوانب حياته .. بما لها وما عليها .. وأحسنت معاملته عندما عرفت ظروفه .. وتاب إلى الله .. وأدى فريضة الحج .. ولم يصبح موظفاً عادياً فى الشركة ، ولكن أصبح يعمل فى قسم خزائن "المقاولون العرب" يمسك بيده عشرات الآلاف من الجنيهات ..
    وكان أن اتصل بى أحمد رجب بعد فترة ، لكي يطمئن على الرجل الذي أخفى ظروفه ، وينبهني إلى ماله من سوابق .. فوجئ بأنني عرفت كل تفاصيل حياته ، وأنه كان يرتكب جرائم النشل .. ولكن المفاجأة الكبرى كانت لأحمد رجب عندما عرف أن هذا النشال أصبح أحد الأمناء على خزائن " المقاولون العرب " ..
    ويُضيف عثمان معلقاً على هذه الحكاية : " هذا هو الإنسان المصري الأصيل .. رغم انحرافه لأسباب اجتماعية خارجة عن إرادته ، عندما وجد من يتفهم ظروفه ، ويفتح له قلبه ، كشف عن طيب معدنه " ص 555
    هذه واحدة من الحكايات الكثيرة التي تضمنها كتاب عثمان أحمد عثمان ، أشهر مقاول فى العالم العربي ، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين . ومن خلال هذه الحكاية وبقية الحكايات يكشف الرجل عن أسلوبه فى مواجهة ما يعترضه من ظواهر تبدو معوقة لحركته ، مصادمة لنشاطه ، بعيدة عن الاستقامة والسلوك ، سواء كانت الظاهرة فردية أو رسمية .
    وقد أثار المسلسل الذي تعرضه القنوات الفضائية باسم "الدالي" عاصفة من الغبار والتشويه حول الرجل الذي لا أعرفه ، وخدم بلاده أكثر من أربعين سنة خدمات جليلة ، فى الحياة المدنية أو المجال العسكري ، وكانت قصة حياته نموذجاً للعصامية والكفاح الشريف والتربية الإسلامية المضيئة .
    الفكرة الأساسية ، صعود الرجل من صاحب ملاليم إلى صاحب ملايين ، وبدلاً من تقديمها فى صورتها الحقيقية التي تكشف كيف تربى الرجل وتعلم ونجح وصار نائباً لرئيس الوزراء فى مصر ، ونقيباً للمهندسين ، وأشهر رئيس للنادي الإسماعيلي ، فضلاً عن كونه أشهر مقاول ، وصاحب أو مؤسس أكبر شركة مقاولات فى العالم العربي اسمها " المقاولون العرب " تضم خمسة وخمسين ألف عامل يملكون الخبرة والإرادة والإيمان ، فضلا عن عشرات الشركات الأخرى صناعية وزراعية وتجارية .. قدموا لنا رجلاً آخر أقرب إلى زعماء العصابات ، يعتمد على البلطجة والمكر والخداع والرشوة .
    وبدلاً من عرض مواقفه السياسية الحقيقية فى العهدين الناصري والساداتي ، قلبوا المواقف وجعلوها بالمعكوس ، وأضافوا إليها ما ليس منها ، لدرجة أننا شاهدنا مسلسلاً بوليسياً ، بدلاً من مسلسل اجتماعي تربوي ، يُقدم نموذجاً واقعيا ، يقتدي به أبناؤنا ، ويُقلّدونه فى شحذ العزيمة والهمة والإرادة ومواجهة الصعاب والعقبات .
    ومع أن تجار المسلسل نفوا أن يكون الدالي هو "عثمان أحمد عثمان" ، فكلامهم غير صحيح ، ولا أساس له فى حقيقة الأمر ، فلا يوجد مقاول ذهب مع الرئيس السادات إلى القدس غير عثمان ، ولا يوجد مقاول قاد عملية بناء السد العالي ودشم الصواريخ ، وحظائر الطيران ، ومدن القناة المدمرة ، ومدن القناة الجديدة : فيصل وزايد والصباح ، وقبل ذلك فى أوائل الخمسينيات " كفر عبده " ، فضلاً عن المدارس والمصانع والشركات والمساجد والمستشفيات والكباري العلوية .. غير عثمان ..
    وكان الأولى بتجار المسلسل أن يعرضوا التجربة الحقيقية من خلال كتاب عثمان الذي شوّهوه وفبركوا على أساسه عملاً أقرب إلى المسلسلات الأمريكاني منه إلى الواقع المصري الطيب.
    إن قصة الرجل كما رواها تحمل كثيراً من المواقف الدرامية الإنسانية التي تشدّ الناس أكثر من تلك المواقف المفتعلة التي تقوم على الحشو والتقليد ..
    إن الرجل يحكى ببساطة قصة صبى يتيم عمل ( صبى ميكانيكي ) ، وحرّر شهادة " فقر " ليُعفى من مصروفات كلية الهندسة ، وصنع دراجة بستين قرشاً لينتقل بها طوال دراسته الجامعية من باب الخلق إلى الجيزة ، وتلقى تربيته من أم بسيطة متدينة رفضت الزواج بعد وفاة أبيه لتقوم على شأنه وشأن إخوته ، وعرف دينه على يد الإمام حسن البنا ، الذي درّس له فى مدرسة الإسماعيلية الابتدائية ، وزوج شقيقته العالم الجليل الشيخ على حسب الله .. ثم شق طريقه بعد التخرج من خلال عمل المقاولات ، معتمداً على الله ، ثم الصدق والأمانة والجدية واليقظة مع الفجر ، وسبق العمال إلى مواقع العمل ، والمشاركة بيده والاستماع إلى آراء من يعملون معه ، ولو كانوا عمالاً بسطاء ، وكانت ذراعه اليمنى فى مسيرته شخصية مسيحية هي " رياض أسعد " الذي كان نعم الصديق الوفي ، وتحمّل معه متاعب العمل وصدماته بصبر وقناعة .. داخل البلاد وخارجها ..
    ويبدو أن تجار المسلسل ، وهم يسطون على كتاب عثمان وحياته ، ويشوهونهما ، كانوا يطمحون إلى غايتين : الأولى تحقيق المزيد من المكاسب المادية على حساب الرجل الذي لا يستطيع دفاعاً عن نفسه بعد رحيله ، والأخرى تجريده من علاقته بالإسلام ، فلم نره يصلى مرة واحدة ولا يقرأ القرآن الكريم ، ولا يسير وفقاً لمنهج القرآن فى تعاملاته وأعماله ، ولا يحتضن مئات من الإخوان المسلمين الذين حملوا معه عبء البناء والتعمير انطلاقاً من الضمير والأمانة والعفة والشرف .
    ليت الحكومة تقدم قصة حياة عثمان بعد اختزالها لطلاب المدارس ، وليت منتجين أصحاب رسالة حقيقية يقدمون مسلسلاً آخر يقوم على أساس هذه القصة ، ليرى أبناؤنا نموذجاً يُحفزهم على العمل والتمسك بالدين والقيم والأخلاق والتسامح .. وغفر الله لتجار مسلسل "الدالي"!
    --------------------------
    *المصريون ـ 9/١٠/٢٠٠٧م.

  3. #63
    الطريق إلى مراكش الحمراء (1)



    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود

    ...........................
    كنت أحلم دائماً بالسفر والرحلة . أُتوق لرؤية العالم والتعرف عليه واكتشاف المزيد من أنماط الحياة وأنواع السلوك ، وحققت بعض الحلم ، دون أن تكون الرحلة غاية فى ذاتها ، والسفر هدفاً لذاته .. كان العمل ، أو العلم من وراء شدّ الرحال . أما الرحلة نفسها فلم تكن مقصودة إلا فى زمن بعيد . أيام كنت طالباً فى المرحلة المتوسطة أو الثانوية ، وكانت فى داخل مصر ، ونفذتها بقروش قليلة ، وكانت جميلة جمال الأيام الأولى فى حياة الصبا والشباب ..
    بعدها ، أخذتنا الدنيا ولم تفلتنا ! شدتنا وراءها فنسينا أنفسنا ، سعيا وراء غاية عامة أو خاصة ، ثم تكاثرت الهموم والآلام ، فجعلت الحركة محدودة ، والسفر مقيداً بالضرورة القصوى ، والإلحاح المضنى ..
    وحين عرفت أن " مراكش " هى المقصد فى أواخر أكتوبر 2007م ، استدعت ذاكرتى أياماً قديمة جميلة .. رأيت فيها اثنين من المغاربة يهبطان قريتنا فى شمال الدلتا ، لقد كانا فى طريقهما لأداء فريضة الحج ، وبقيا فى ضيافة أحد الجيران ، وكان خياطاً بلدياً – رحمه الله – فترة طويلة عاماً أو أكثر من عام ، حتى رحلا إلى أرض الحجاز تشيعهما دموع الأهالى البسطاء ، وذكريات الأيام الطيبة التى قضياها بين أهل القرية ..
    كان الرجلان من مراكش . لا أدرى من مراكش الدولة كما كانت تسمى المغرب آنئذ ، أو مراكش المدينة الحمراء كما تعرف الآن .. ولكن مراكش التى ترددت فى أسماعنا صغاراً ظل لها سحر غريب وعجيب ، يشدّنا إلى عالم بعيد ومجهول وشائق دلت عليه ملابسهما المميزة ، ولهجتهما الخاصة .. وهو عالم محبوب تمنينا أن ننتقل إليه ، ونتعرف عليه .. بيد أننا نحن القرويين الصغار – لا نملك إزاء ذلك شيئاً ..
    فى فترات لاحقة كانت الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) تكتب فى " الأهرام " - الملحق الأدبى – مقالات تذكر فيها مراكش وتتحدث عن عملها فى جامعة القرويين ، وعن الأبحاث والمخطوطات التى تحققها هناك ، وتضيف إلى ذلك شيئاً من التاريخ القديم والحديث الذى يتعلق بأهل مراكش وكفاحهم وحضارتهم وعلاقتهم بالأندلس ..
    رسخت مراكش فى ذاكرتى .. ومع أننى زرت المغرب عام 2001م ، قاصداً مدينة أغادير الشهيرة على المحيط الأطلنطى ، فقد كانت مراكش مطروحة فى الأحاديث والأبحاث التى عرضت فى المؤتمر الذى كنت أحضره آنئذ ، وزاد من شغفى لرؤيتها أن بعض الزملاء تحمّلوا مشقة السفر ، وذهبوا إليها فى الوقت الضيق المخصص لزيارة المغرب .. وعدت أحمل مراكش فى وجدانى حلماً أسعى لرؤيته على أرض الواقع .
    ويوم جاءت الدعوة لزيارتها بعد سنوات ، كنت مجهداً أعانى آلاماً مزمنة ، اشتدت فى الفترة الأخيرة ، وظننت أنى لن أستجيب ولن أستطيع ، ومع التشجيع ورغبة الأحباب ، قاومت أوجاعى ، وتوكلت على ربى ، وكان القرار بالسفر .
    ليلة السفر ، غادرت قريتى فى منتصف الليل ، صحبنى بعض أولادى إلى المطار ، وقبيل الفجر كان كل شئ هادئاً فى الصالة القديمة . بقى على موعد الإقلاع ثلاث ساعات تقريباً ، وكان علينا أن ننتظر بعض الوقت حتى يبدأ العمل فى فحص التذاكر ووزن الأمتعة وتحديد الأماكن . بعد صلاة الفجر وانبلاج النور ، رأيت بعض الزملاء والمعارف ، وفى الطائرة تعرفت على زميل كان فى طريقه إلى كوناكرى فى جمهورية غينيا – وهى غينيا سيكوتورى كما كنا نسميها فى الستينيات نسبة إلى رئيسها أحمد سيكوتورى الذى لم يكن ينقطع عن زيارة القاهرة إلا نادراً – وكان الزميل متوجهاً إلى الدار البيضاء محطتنا الرئيسية ، ليقضى فيها بضع ساعات يستقل بعدها طائرة أخرى إلى كوناكرى حيث يمثل مع السفير المصرى فى غينيا وشيخا أزهريا الجالية المصرية هناك !
    سألته : ألا يوجد مصريون يعملون أو يتاجرون أو يقيمون ؟
    قال لى : لا .. نحن الثلاثة فقط . وأخبرنى أنه يعمل فى جامعتين . إحداهما اسمها جمال عبدالناصر والأخرى اسمها فرنسى ( نسيته الآن مع أنه اسم مشهور ، والعتب على الذاكرة الخربة ! ) . أخبرني أن العرب الموجودون هناك معظمهم لبنانيون ، وهم مقيمون إقامة شبه دائمة لأنهم يعملون بالتجارة .
    قضينا فى الطائرة الضيقة طراز بيونج 737 ما يقرب من ست ساعات ، نام فيها الناس كما لم يناموا . أما أنا وزميلى المسافر إلى غينيا ، فقد جفانا المنام . لا أستطيع النوم فى طائرة أو قطار أو سيارة ، أظل يقظاً حتى أعود إلى مقر الإقامة المؤقتة أو الدائمة .. ولكن ثرثرتى مع زميلى التى شرّقت وغرّبت أضافت إلىّ أشياء كثيرة .. أما زميلى المرافق إلى مراكش فقد استغرق ، وكان يستيقظ بين الحين والآخر ، ليُشارك معنا فى الثرثرة ، ثم يخلد إلى النوم .
    كان مطار الدار البيضاء يستقبل مع طائرتنا بعض الرذاذ الذى أخذت تبعث به السحب الخفيفة ، وكان المحيط بزرقته متعانقاً مع خط السماء فى مشهد بديع ، يصنع صبحاً جميلاً مفعماً بالهواء النقي الطري ..
    لم أر من ( كازبلانكا ) أو الدار البيضاء غير مطارها هذه المرة ، والطرق المحيطة به ، والمؤدية إلى مدن مغربية أخرى . وكانت السيارة التى تنتظرنا تقف على أهبة الاستعداد لتقطع حوالى عشرين ومائتى كيلومترا إلى مراكش الحمراء ..
    الطريق معبد وجديد ، محطات الخدمة جاهزة ، لا توجد محطة تدعى أن الكهرباء مقطوعة ، أو البنزين 80 غير موجود ، أو أنها تحولت إلى غسل السيارات فقط . الخدمة جيدة وسهلة وسريعة ، والسيارات تلتزم بحزام الأمان تلقائياً ؛ السائق ومن يركب إلى جواره لابد أن يرتديا الحزام ، وبوابات الطريق تُحصّل الرسوم من السيارات المارة فى آخر الرحلة . يسمونها محطات " الأداء " ، سألت عن معناها ، قالوا : إن الدولة تُحصّل تكاليف الطريق وإنشاءاته من مرور السيارات ، وعندما يتم تحصيل مجملها ، ترفع من على الطريق الذي يصير حرّاً ، ولا تدفع عليه أية رسوم بعد ذلك .
    وقفزت إلى ذهني صورة بوابات المرور عندنا على الطرق السريعة ، وأموالها التي ....؟
    ...................................
    *المصريون ـ في 20/11/2007م.

  4. #64
    الطريق إلى مراكش الحمراء (2)


    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود

    .......................
    ابتلعت الكلام عندما عرفت من محدثي أن الحكومة المغربية ترفع بوابات الطرق بعد تمام تحصيل قيمتها وتوريدها إلى خزينة الدولة ، وتتركها حرة ، يستمتع بها الناس مجانا بعدئذ ، مع حرصها على صيانتها ونظافتها وتجديد اللافتات الإرشادية كلما حالت بفعل الجوّ وتقلباته .. على العكس مما يجرى عندنا .!
    كنت أستمع في الرحلة من الدار البيضاء ، إلى مراكش ، إلى نشرة الأخبار فى الإذاعة ، وكان الاهتمام بأخبار الشرق التعيس فى الصدارة إلى جانب أخبار الحكومة الجديدة التى ألفها " علال الفاسى " الحفيد .. فالجد بطل من أبطال الاستقلال ، ومدافع عظيم عن هوية المغرب الإسلامية فى مواجهة " الفرنسة " أو " الأسبنة " التى يفرضها باستماتة الغزاة المتوحشون ، ولكنها تواجه بمقاومة باسلة ، ما زالت قائمة حتى اليوم ، وتبدت مؤخراً فى " سبتة " و " مليلة " عند زيارة ملك إسبانيا الاستعمارية ، وتحديه لمشاعر الشعب المغربى المسلم الشقيق !
    مساحة الصحراء كبيرة ، وعلى جانبى الطريق تظهر القرى والمزارع ، فى سهول منبسطة أو فى أحضان الجبال العالية وبعضها ينتسب إلى سلسلة جبال أطلس ، والقوم هناك يزرعون الجبال بطريقة المدرجات ، والمحصول الملائم لها هو " التين الشوكى " الذى لا يحتاج إلى كثير عناء ، ولكنه إنتاج لا بأس به .. فهو لا يحتاج إلى ماء ولا تسميد ولا عناية زراعية ، أما الزراعات الأخرى فهى مماثلة لما عندنا فى مصر ، والمياه تأتى عن طريق بعض الأنهار أو النهيرات التى تتخلف عن الأمطار الغزيرة فى فصلى الخريف والشتاء ، أو من خلال حفر الآبار الارتوازية .. ويبدو أن مراكش الحمراء تكتفى زراعياً بمزارعها ..
    وتكتسب مراكش تسميتها بالحمراء من حمرة الجبال المحيطة بها ، وحمرة مبانيها ، فبيوتها حمراء ومبانى المؤسسات الحكومية والتجارية والفنادق والمحطات .. كلها حمراء ، ويُلاحظ أن الارتفاعات فى مبانى مراكش الجديدة ( الأحياء الحديثة ) ، بل والقديمة ، متوسطة ، ولا تزيد فى الغالب عن أربعة أدوار ، ولكن شوارعها عريضة للغاية ، وبها جزيرة خضراء ، مزروعة بالنخيل والزيتون واليوسفى الذى يسمى هناك بالليمون .. والقوم هناك يمتازون بالحرص على الخضرة والأشجار ، بل إن بعض الأشجار والنخيل تعترض بعض الشوارع الجديدة ، فيتغير المسار من أجل النخلة أو الشجرة مع تسويرها وإحاطتها بمساحة خضراء من النجيل الأخضر .. وهناك حديقة ضخمة وواسعة تسمى حديقة النخيل .. فى مدخل مراكش من جهة الدار البيضاء وتلقى عناية ملحوظة .. وقد استنّت الحكومة قانوناً رادعاً لمن يقطع شجرة أو نخلة دون إذن منها ، وتصل العقوبة إلى ثلاث سنوات سجناً مع غرامة كبيرة ..
    الخضرة ملمح رئيسى من ملامح مراكش الحمراء ، حدائق فى كل مكان ، وكل مساحة فضاء ، والمنازل فى كثير منها حدائق صغيرة ، وأشجار الزيتون تغزو مراكش وتفرض وجودها ، لدرجة أنه يمكن القول إن مراكش حديقة كبيرة فى قلب المغرب الشقيق .
    فى مبنى كلية اللغة العربية – جامعة القرويين ، التى كان ينعقد بها المؤتمر الذى دُعيت لحضوره ، الخضرة تكسو كل مكان داخلها وخارجها ، بل إن حولها حديقة خضراء تعد متنزها شعبياً ، يجلس فيها الباحثون عن البهجة والراحة ، ومزوّدة بمقاعد جميلة ، وأشجارها مبسوطة الظلال ، بما فيها أشجار الزيتون العتيقة .
    في الكلية التي أعمل بها هنا أخفقوا في إقامة المساحات الخضراء بعد زراعتها ، ومن ينظر إلى المحاولات التي تمت لتخضيرها ، يستشعر كأنها حصيد لم تغن بالأمس !
    وفى بلادنا قطع الأشجار هواية ، وتجريف الحدائق إدمان ، وتخريب البساتين مرض لا شفاء منه ، وقد تم القضاء على الأشجار المعمرة عندنا ( الجميز ، والتوت ، والكافور ، والصفصاف وغيرها ) ، واستوردوا لنا شجرا يُسمى " الفيكس " قزم فى شكله ، بخيل فى ظله ، عاطل عن الثمار ! وياله من شجر يتناسب مع زماننا البلاستيكى المزوّق .. كل شئ فيه غير طبيعى ، وغير معتاد !
    وصلنا إلى الفندق قرب العصر ، هناك سماحة فى التعامل ، وترحيب حقيقى بالنزلاء ، واهتمام غير مزيف ، فالقوم حريصون على ترك تذكار مع الضيف يرتبط بحسن المعاملة فى أبسط تعبير .. لا جهامة ولا عبوس ولا صلافة مكتومة تشعر النزيل بان موظفى الفندق يمنحونه من فيض كرمهم وجزيل عطائهم ، وينبغى أن ينحنى لهم ، ويقدم قرابين الولاء والطاعة .. أشقاؤنا المغاربة غير ذلك تماما ، لقد تعاونوا مع الزملاء الذين استعصى عليهم تغيير الجنيه ( المصرى ) بالدرهم المغربى ، وسهلوا لهم رغباتهم . وشركات الصرافة هناك لا تتعامل مع الجنيه المصرى – عليه واسع الرحمات – هناك بنك رئيسى فقط يتعامل معه فى الأوقات الرسمية وهى لا تشمل يومى العطلة ( السبت والأحد وفقا للنظام الفرنسى ) . تشعر بالحسرة حين يتحول الجنيه المصرى إلى ضيف غير مرغوب فيه ، أو ضيف ثقيل ، أو ضيف منزوع الهيبة والقيمة والوقار ! نحن لا نلوم المغاربة حين يرفضون الجنيه المصرى ، ولكن نلوم أنفسنا حين أصبحنا " معرّة " الدول اقتصادياً ، مع أن باشكاتب الدولة لا يكف عن إعلان الارتفاع فى نسبة النمو الاقتصادى ، وزيادة الدخل القومى .. وهو كلام يدحضه الواقع ويفنده المتخصصون فى الاقتصاد ، مما لا مجال للحديث عنه هنا .
    فى الفندق ، يحضر الأرابيسك والطراز الأندلسى أمام عينيك. والتراث القديم بصفة عامة يتجاوز الفندق إلى البيوت والجامعة والمؤسسات الرسمية ، حتى المقاهى الكثيرة ، التى يرددون عنها فكاهة أن بين القهوة والقهوة توجد قهوة ، تدليلاً على كثرتها وأهميتها فى حياة المغاربة ، وفى فترة العمل الرسمى فى النهار تكتظ بالزبائن ، مثلما تكتظ بهم ليلاً ، والسبب معروف ، وهو انتشار البطالة .. وهى بطالة ليست فى حجم البطالة عندنا بكل تأكيد ، ومن بينها بطالة البحث عن عمل أفضل .. وتقدم المقاهى الشاى الأخضر الذى يشتهر به المغرب ، وتوفر شاى " الليبتون " أو الفتلة أو الشاى الأحمر ، لمن يطلبه وهم قلّة تستوعب المصريين .. ويبدو المغاربة مولعون بقراءة الصحف على المقاهى لمتابعة الأحداث ، أو البحث عن فرص عمل .
    صعدت إلى غرفتى بالفندق ، بعد تناول الغداء على الطريقة الفرنسية الممزوجة بالأسلوب المغربى ، ( السلطة أولا ، ثم طبق آخر ، ثم الطاجن المغربى الشهير ، ثم الفاكهة ختام الغداء ) . صليت الظهر والعصر جمعاً وقصراً ، لم أجد سجادة صلاة ، ولا مصحفاً ( كنت قد نسيت مصحفى مما كدّرنى طوال الرحلة بسبب عدم تلاوة الورد اليومى ) .. ولكننى تدبرت أمرى ، ثم ألقيت بجسدى المتهالك على السرير ، ولم أفق إلا على صوت نداء ، يدعو إلى اجتماع بالقاعة الكبرى فى كلية اللغة العربية ، تمهيداً للمؤتمر وقضاياه ..
    ...................................
    *المصريون ـ في 27/11/2007م.

  5. #65
    الطريق إلى مراكش الحمراء (3)
    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    .............................
    " – ياويلى ! "
    قلتها لنفسى ، عندما استيقظت استجابة لنداء جماعة المؤتمر ، من أجل جلسة مسائية تسبق أعماله في الغد – لم أسترح ، ولم أنم من ليلتين إلّا ساعة وبعض ساعة دون أن أستغرق .. أعلم أنه لا مفر من المشاركة مهما كنت متعباً ومجهداً ، فعمدة المؤتمر مع أنه تخطى السبعين – أطال الله عمره – ويسبقنى بنحو عشر سنوات ، ويُعانى مثلى من متاعب صحية كثيرة ، إلا أنه – بفضل الله – نشيط ، ويغالب التعب ، ويُحرّك الآخرين بإقناع وحزم ، فهو يريد المؤتمر ناجحاً ومثمراً ..
    صليت المغرب والعشاء – وفقاً للرخصة الشرعية – جمعاً وقصراً ، وذهبنا إلى مبنى الكلية ، حيث قاعة الاجتماعات . كانت الحديقة الخضراء اليانعة تلّف الكلية الحمراء ، وتغمرها بالنضارة والروائح الزكية ، وجدت على الباب غرفة يجلس فيها موظف متواضع ، ولا أحد حوله .. تصوّرت أننى سأجد الأمن المركزي ( أو الدرك كما يسمى هناك ) المدجج بالخوذات والعربات اللورى الضخمة ، تدعم الحرس الجامعي ، كما هي الحال في الوطن التعيس ! لم أجد شبح عسكري واحد ، ولا أثر لحارس بمعنى الشرطة .. الموظف المتواضع يردّ السلام ويزيد عليه الرحمة والبركات .. التواضع والهدوء والرضا علامات يستشعرها من يدخل المكان .. ومع أن المغرب شهد حوادث عنف دامية ، ولكن لا أثر للدرك أو الشرطة فى المكان ، ولكنه النظام الأمنى الذى يعمل بذكاء ، ويظهر عند الضرورة من حيث لا يدرى أحد .. كانت القاعة مستطيلة ، وزاد عدد الحاضرين زيادة كبيرة ، فكان هناك صف ثان وثالث ، وبدأت الكلمات الترحيبية ثم التعارف ، ثم طرح الرؤى والتصوّرات الخاصة بقضايا الأدب ووسائل التعبير .. واستغرق ذلك وقتا غير قصير ، أحسست بعده بحرج شديد فى البقاء ، وعندما طرح مناقشة موضوعات أخرى ، وجدتها مناسبة لأطلب من رئيس الجلسة التأجيل إلى يوم تال ، نكون قد استجمعنا قوانا ، وعاد التركيز إلى الأذهان قوياً وحيّوياً .. لقد طلبت أن يطلق سراحنا بعد رحلة شاقة وطويلة .. وكانت استجابة جماعية كريمة لما اقترحته .
    فى أثناء التعارف لاحظت ظاهرة غريبة ، أن عدداً غير قليل من زملائنا المغاربة فى جامعات مختلفة ، يصفون أنفسهم بأنهم " مغادرون طوعاً " ، مع أنهم فى الخمسينيات من العمر ، أى بداية العطاء العلمى والأدبى .. قمة النضج التى تحرص عليها الأمم والحكومات ، وأصررت فيما بعد أن أعرف معنى " مغادر طوعاً " ، فوجدتها تساوى عندنا " المعاش المبكر " ، مع اختلاف يسير حيث يحصل المغادر طوعاً على مبلغ كبير يغريه بإنشاء مشروع إذا كان من هواة العمل الحر ، أو يكفيه لحياة معقولة ، يستطيع فى أثنائها أن يتعاقد مع جامعة مشرقية تستفيد بخبرته ونضجه .. صعدت إلى رأسى مشاهد عديدة . منها مثلاً أن بعض الحكومات العربية حريصة على إذلال أساتذة الجامعات فيها ، بالمرتبات الضئيلة ، أو إخضاعهم لهيمنة السلطة البوليسية الفاشية ، أو ترويضهم بالمناصب السياسية أو ما يُشابهها لتأييد الاستبداد وقوانينه الظالمة .. ومنها مثلاً إهمال الأساتذة بعد الستين ومعاملتهم " درجة ثانية " ، ليقهرهم تلاميذهم ويتحكموا فى مقدراتهم فلا تستفيد منهم جامعاتهم ولا أمتهم ، على النحو الذى يعرفه أعضاء هيئة التدريس .. ومنها الضغط على الأساتذة المنتجين ، حتى يهربوا ، ويخرجوا إلى بلد آخر ، يظلون فيه بقية حياتهم ، ويستفيد من عطائهم وجهدهم .. ومنها مثلاً ما فعله الغزاة الصليبيون المتوحشون عندما احتلوا العراق حيث كان الأساتذة هدفا أساسيا من أهدافهم ، فقد تم اغتيال أكثر من مائتى أستاذ ، وتهجير آلاف ، وتحويل من تبقى إلى شبه متسولين ، يبيع بعضهم كتبه أو مكتباته فى بغداد على أرصفة شارع الرشيد أو شارع السعدون !
    هل " المغادرة الطوعية " تدخل فى هذا السياق الكئيب ؟ لا أدرى ، ولم أعرف إجابة واضحة ، ولكن الذى أعرفه أن أساتذة الجامعة هم عماد البناء الحضارى فى أية أمة ، وقد كانت مصر فى بدايات نهضتها تستقدم أساتذة للتعليم العالي ؛ والثانوي أيضاً ، فى تخصصات عديدة لتحقق أملاً تسعى إليه وغاية تعمل من أجلها ، والسؤال هو : لماذا التفريط السهل فى الأستاذ الجامعى ؟ ولماذا التمسك القوى برجل الشرطة أو العسكرى بعد انتهاء خدمته الميدانية ، ليعمل في مجالات مدنية ، ومنها مجالات لا علاقة له بها مثل الثقافة ومحو الأمية والإذاعة والتلفزيون والمجالس النيابية والمحليات ووسائل المواصلات والاتصالات ؟ من يعلم الإجابة أرجوه أن يخبرنى ! .
    عدت إلى الفندق أجرّ نفسى جرّا ، وكان علىّ أن أبقى مرغماً للعشاء مع الزملاء ، وأتناول منه قدر ما أستطيع ، فلست متعوّداً على الأكل فى وقت متأخر .. وكان نوم مضطرب .. وكان استيقاظ متكرر .. حتى جاء الفجر ، موعد يقظتى المعتاد ..
    تمنيت أن أجد الفول فى الإفطار ، ولكن المطعم المفتوح فرنسى الهوى والسمات ، حتى الجبن لم يظهر إلا بعد طلبه من القائمين على شئون المطعم ، وكان هدفى الأول هو الشاى ..وحسناً فعل القوم حين جاءوا بعلبة شاى ليبتون وبجوارها السكر والماء الساخن ، بعد أن عرفوا أن المشارقة يُفضلونه على الشاى الأخضر ..
    فى جلسات الطعام ، يكون الأكل آخر هدف لأعضاء المؤتمر . الهدف الرئيسى هو الثرثرة المفيدة حول أحوال البلد المضيف ، وبلد الضيف .. أحوال الثقافة والتعليم والفكر والسياسة والأدب والاقتصاد وأيضاً ، العادات والتقاليد .. إنها ندوة مفتوحة ، وقد يجد المرء نفسه هو المحاضر فيها دون أن يفكر فى إعداد المحاضرة وصياغتها .. هى محاضرة عفوية تلقائية ، تنحو إلى الفصحى غالباً ، ليفهم الآخرون عنك وتفهم عنهم ، فاللهجة المغربية تبدو صعبة للغاية بسبب السرعة الشديدة واختلاف المصطلحات إلى حد ما ، لذا فهم حريصون على الفصحى بطريقتهم المميزة عند الحديث إلى المشارقة . ولا يجدون صعوبة فى التفاهم مع الفرنسيين بالفرنسيّة ، حتى يتكلمونها بإتقان كأهلها ..
    وقد لاحظت أن المطعم يغصّ بالأسر الفرنسية التى جاءت للسياحة ، وتسكن الفندق معنا ، ويتكاثرون فى وجبة الإفطار ، لأنها مجانية ضمن تكاليف الإقامة ، أما فى الغداء فيقلون ، ويكادون يتلاشون فى وجبة العشاء ، بسبب تناولهم لها فى الحىّ الشعبى الذى يعد رخيصاً بالنسبة للفندق ومراكش الجديدة ..
    لقد كانت جلسات المطعم مع الأعضاء والزملاء دافئة وحميمية ، وتعبر عن وحدة أمة ، فرّقتها الأحوال والظروف ..
    ...................................
    *المصريون ـ في 4/12/2007م.

  6. #66
    الطريق إلى مراكش الحمراء (4 )
    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    ...........................
    الشارع في مراكش منضبط ! حلم أن تكون شوارع أي مدينة مصرية منضبطة .. خليها على الله ، السيارات في شوارعنا من كل شكل ولون .. و " معلهش " أصل احنا بنتكلم " و " مصر حتتقدم بينا " ، ولكن المغاربة يلتزمون التزاماً صارماً بالقانون : المواطن والمسئول الذي ينفذ القانون . لا يمكن أن تجد ذلك الكرنفال الذي تعرفه شوارعنا وطرقنا السريعة والفرعية " تريللا " و " مقطورة " ، و " كارو " و " ملاكى " ، و " أجرة " ( عفاريت الأسفلت ) ، الدنيا مختلطة ، ويتوه رجال المرور مع المارة فى قلب الطريق ، وإذا أصرّوا على إثبات وجودهم توقفت حركة المرور ، وشعر الراكبون والناس جميعاً بالاختناق ! فى مراكش لا يستطيع أحد أن يقف فى الممنوع لحظة ، تنشق الأرض ويخرج رجل المرور ليُعاقب قائد السيارة أيا كان اسمه أو رسمه .. لا يوجد هناك : انت عارف أنا مين ؟ أوابن مين ؟ ورأيت بنفسى شخصية كبيرة تخضع لرجل المرور الحازم الصارم ، الذى لا يمدّ يده ، ولا ترتعد فرائصه أمام موظف كبير أو ابنه أو راقصة درجة ثالثة تهدد بنقله إلى حلايب وشلاتين !
    حركة المرور هناك – وعقبى للقاهرة وبقية المدن – تنساب بهدوء ، ودون عادم سيارات ، وإشارات المرور آلية ، لا يحركها شرطى ، ولا يُشرف عليها لواءات وعمداء وعقداء فى عرض الشارع ، وإذا قطع أحدهم الإشارة وجد المرور يمسكه من عنقه ، ويُعاقبه بالغرامة على الفور أو السجن مع الغرامة فى الحال ، لا تجدى التوسلات أو الرجاءات أو " معلهش " ..ولذا فكل الناس يحترمون نظام المرور .. حتى " الحنطور " الذى ما زال موجوداً ، ويلعب دوراً مهماً فى السياحة والتجوّل بالسائحين فى أرجاء المدينة .. وهو " حنطور " متحضر ، لا يُلوث الشارع ، لأنه يستخدم " البامبرز " الذى بشّر به " سنبل " فى " رحلة المليون " ! لا تضحكوا – والله العظيم يضعون تحت ذيل كل حصان قطعة قماش أو مشمع عريضة تنحنى من الطرفين لتسقط فيها فضلات الحصان ، حتى لا يتسخ الشارع .. ويلتزم الحنطور بالسير بجوار الرصيف دون أن يُغالب السيارات ، وله مواقف مخصصة له ..
    بيد أن الدراجات تمثل ظاهرة ملحوظة ، حيث يمتلئ الشارع بالدراجات العادية والبخارية ، ويُمكن لها أن تصعد الرصيف العريض وتمضى عليه ، والدراجات البخارية تحمل شخصين أو ثلاثة ، والمفارقة أن المحجبات يركبن الدراجات البخارية أيضا مثلهن مثل السافرات وكل واحدة وراءها اثنتان ، وفى الجامعة رأيت مكاناً واسعاً مخصصاً للدراجات إلى جانب السيارات .. ركوب الدراجة لا غضاضة فيه ، ويركبها موظفون وطلاب ومعلمون من الجنسين . سيارات الأجرة متوفرة ، وسائقوها مهذبون هادئون ، ويستخدمون العدادات ( عقبى لنا يارب ! ) ..
    وصلنا إلى مقر المؤتمر بجامعة القرويين فى التاسعة صباحا ، حضر رئيس الجامعة وعميد الكلية ورئيس رابطة الأدب الإسلامى العالمية ورئيس الرابطة فى المغرب .. بدأ افتتاح المؤتمر بالقرآن الكريم ، وتلاوة القارئ على طريقة " ورش " .. لا يتلون هناك بقراءة حفص .. قراءة " ورش " هى السائدة فى المساجد والصلوات والتعليم .. وقد اتخذ وزير شيوعى سابق من قراءة " ورش " سبباً منع بموجبه مئات العناوين من الكتب الإسلامية من المشاركة فى أحد المعارض الخاصة بالكتاب ! ومع ذلك لم نسمع لرفاقه فى مصر أى احتجاج على مصادرة الإبداع ، هم لا يتكلمون عن المصادرة إلا إذا أصابت كتابة ملحد أو شيوعى أو ساع للشهرة يكره الإسلام !
    رئيس الجامعة ، تحدث حديثاً رقياً عن الأدب وأهميته ، ودور المؤتمر فى ترسيخ قيمة الكلمة فى البناء والإصلاح ، وتوالت كلمات الجالسين على المنصة تؤكد دور الحروف المتوضئة فى تحقيق السلام الروحى والنفسى والوجدانى واختتمت الجلسة الافتتاحية بقصيدة جميلة للشاعر المغربى الكبير " حسن الأمرانى " – الذي غاب عن المؤتمر ألقاها نيابة عنه شاعر مغربى كبير آخر هو " محمد على الرباوى " .
    لاحظت أن المؤتمر فى جلساته التالية تمتع بقدر كبير من حسن التنظيم ، وخاصة فيما يتعلق بالحوارات التى كانت تتعلق بالبحوث الملقاة .. كانت هناك فرصة للتعقيب والرد عليه . كانت الحوارات على الطريقة التبادلية ( خذ وهات ) بما يُحقق قواسم مشتركة .. الصراحة سمة عامة ، فى إطار الاحترام الكامل لوجهات النظر المختلفة .
    كان عنوان المؤتمر : " نحو منهج إسلامى للرواية " ، وقد شارك فى المناقشات من يرفضون وجود الإسلام فى أى شئ خارج جدران المسجد .. ولكنهم كانوا أكثر نضجاً وتقبلاً للآخر ، ولا يجدون غضاضة فى قبول ما يقتنعون به .. على العكس من رفاقهم فى بلادنا البائسة ؛ الذين يستأصلون كل مخالفيهم ، وكل من لا يسير على خطاهم الضالة ، هل يرجع ذلك إلى تعوّدهم على قراءة أكثر من وجهة نظر ؟ أو يعود إلى أنهم يتمتعون بهامش حقيقى للحرية ، فلا يُقلدون من عندنا حيث يقولون مالا يفعلون ؟
    بالطبع ، ليست الصورة هناك وردية على الإطلاق ، فهناك شيوعيون وعلمانيون متعصبون للغاية ، أسوأ من نظرائهم عندنا ، ولكنهم يتحركون فى دائرة محدودة ، تسمح أن تقوم بجوارها دوائر أخرى ، وأذكر أن وزيراً يسارياً سابقاً ، كان لا يدعو إلى مؤتمر " أصيلة " وبقية المؤتمرات الأخرى التى تقيمها وزارته ، غير الشيوعيين المتأمركين عندنا وأشباههم !
    على كل حال ، فإن سير المؤتمر أو الملتقى كان جيداً ، وكانت مشاركة أساتذة الجامعة ( القرويين ) تدل على وعى مرتفع بقيمة التفاعل مع الأبحاث والمناقشات .. وأيضاً قيمة التعارف مع الباحثين المشاركين من خارج المغرب والاستفادة بهم فى لقاءات مفتوحة مع الطلاب فى المستويات المختلفة .
    حدثنى بعض أساتذة الكلية عقب انتهاء جلسة من جلسات المؤتمر والاستعداد لجلسة أخرى عن رغبتهم فى أن أخصص لهم وقتاً فى المساء لأتحدث فى موضوع " بلاغة المحاججة والخطاب الدينى " لطلاب المستوى الثالث .
    إن أساتذة كلية اللغة العربية – جامعة القرويين ، يُشعرون ضيوفهم بمودة مغدقة ، وتعاطف كريم ، وهو ما شهدناه فى العديد من اللقاءات والمناقشات .
    الظاهرة اللافتة فى المؤتمر أو الملتقى ، هى مشاركة المرأة مشاركة فعالة ومؤثرة .. سواء فى الأبحاث اللاتى شاركن بها أو المداخلات اللاتى علقن بها على القضايا المثارة ، أو القصائد اللاتى ألقينها ولقيت استحسان المستمعين أو المتلقين .. لم يمنعهن الحجاب من إثبات الوجود والحضور ..وهناك على المستوى العام تتعايش المحجبة ، وخاصة فى مجال العمل مع غير المحجبة ، والمشكلة هى التمييز الرسمى بينهما ، وخاصة فى المؤسسات التى تتعامل مع الجمهور فالبنوك مثلاً لا تسمح لمحجبة بالتعامل مع العملاء ، إنها تجلس فى الخلف ، على المكاتب الداخلية لإنجاز أعمال كتابية ونحوها ، أما غير المحجبة فهى التى تجلس أمام الجمهور لإنهاء معاملاته .. بالطبع غير مسموح للمحجبة أن تظهر مذيعة فى التلفزيون ، مثلما هو حادث فى مصر المحروسة ، حتى الإذاعة ممنوعة على المحجبات ، وقد نُشر مؤخراً إبعاد اثنتين من المحجبات من العمل فى الإذاعة إبعاداً تاماً ، أى فصلهن من الوظيفة بسبب الحجاب !
    ويبدو أن الحجاب لدى الدوائر الرسمية ، وبعض النخب المتغرّبة ، صار مزعجاً لدرجة دفعها إلى تصرفات مجافية للحرية الشخصية وحقوق الإنسان .
    ...................................
    *المصريون ـ في 11/12/2007م.

  7. #67
    الطريق إلى مراكش الحمراء (5)
    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    ...........................
    في الوقت الذي تتنافس فيه الدول من أجل زيادة الإنتاج والسبق إلى نتائج متقدمة في البحث العلمي ، وبناء القوة العسكرية لحماية الاستقلال الوطني .. تنشغل بعض الحكومات العربية بقضية الحجاب والنقاب وتجييش الجيوش من الإعلاميين المرتزقة والصحفيين الكذبة ، لتصنع منها قضية ، غايتها الأساسية إلهاء الشعوب عن واقعها البائس المتردي في المجالات المختلفة كافة .. ولا أدرى ما الذي يحدثه وجود مذيعة محجبة أو ممرضة منتقبة في بناء الدولة وتقدمها وحركتها نحو المستقبل ؟!
    أليس وجود مذيعة محجبة أولى من وجود مذيعة دمية لا تملك لغة ولا ثقافة ولا فكراً ، وكل مؤهلاتها جسد عار ملطخ بالأصباغ والألوان لتثير المشاهدين ، وخاصة من المراهقين ؟
    أليس الاهتمام بوضع المستشفيات المتردى وعدم وجود أطباء أو أدوية أو أجهزة أولى من إشعال حريق دولى حول الممرضات المنتقبات ، يشارك فيه أنصار الاستبداد وخصوم الإسلام ؟
    لقد كان فصل مذيعتين محجبتين بالإذاعة المغربية ، مع أن الناس لا تراهما وتسمع صوتهما فحسب ، قراراً مثيراً للاستهجان على أكثر من مستوى .. وقد تساءل الجمهور :
    هل الحرية الشخصية ترتبط بالتعرى دون التغطى ؟
    كانت مفاجأة ، وأنا أقضى أمراً فى استقبال الفندق الذى كنا نقيم به ، أن أرى " فاطمة الزهراء " ، وهى إحدى موظفات الاستقبال ، تطل من الغرفة الملحقة به ، وكانت ترتدى " إسدالا " يُغطى جسمها كله عدا الوجه ، حيث كانت تصلى العصر . فاطمة من الموظفات المجتهدات ، ولكنها وفقا للنظام السائد لابد أن تكشف عن شعرها ، وتكون سافرة ، وإلا فلا مكان لها !
    الدنيا تتحرك .. والقوم فى بعض بلادنا العربية حريصون على إرضاء السادة الأفاضل قادة الاستعمار الصليبى المتوحش ، ولو جاء ذلك على حساب الدين والقيم !
    والمرأة العاملة فى المغرب ، تبدو مظلومة ، أكثر من أخواتها فى البلاد العربية الأخرى . رأيت العاملات والموظفات المغربيات فى معظم الأماكن يقمن بأعمال شاقة ومرهقة .. يكاد الرجال يعيشون رفاهية العمل ، والبطالة أيضا .. أما المرأة التى تبدو حاضرة دائماً فى معظم أماكن العمل ، فتحمل العبء الكبير فى التنفيذ والإدارة مع تواضع الأجور ، وواضح أن هذه المسألة لا تلفت نظر الجمعيات والهيئات التى تزعم أنها تدافع عن المرأة !
    ومهما يكن من أمر ، فإن الأوضاع الاجتماعية بالمغرب الشقيق ، بما فيه وضع المرأة ، مكشوفة وواضحة ، سواء كانت إيجابية أو سلبية ، إنهم هناك يتعاملون من خلال ما يُسمى عندنا بالشفافية ، لا تعتيم ولا استهانة ، وعشرات الصحف اليومية تتناول ما يحدث داخل المدن الكبرى والقرى الصغرى على السواء ، وللأحزاب جميعا ، والقوى الساسية المختلفة ، صحفها التى تنطق باسمها ، وتبدى رأيها فيما يجرى ويحدث مما يُعطى صورة متكاملة عن أى حدث أو موضوع .
    ويُلاحظ أن الأحياء الشعبية فى مراكش تحتفظ بطابعها التاريخى القديم ، وتجد إقبالاً منقطع النظير من جانب السيّاح والأجانب ، وخاصة فى المساء .. وتشبه إلى حد ما خان الخليلى فى القاهرة الفاطمية ..
    وأبرز مافى مراكش القديمة مسجد الفنا ، وقبر يوسف بن تاشفين ، وقبر المعتمد بن عباد الذي لم تتح لى الفرصة كي أزوره . والمسجد صورة من الحالة التاريخية التى كانت سائدة فى عصر الموحدين ، وهو عصر شهد مبادرات عسكرية وبطولات حربية كان بطلها يوسف بن تاشفين زعبم الموحدين المشهور ، وقد كان الأثر الحربى واضحاً فى أبنية مراكش القديمة ، حيث تميل المبانى إلى شكل الحصن الذى ينتظر الأعداء القادمين من كل مكان .
    فمسجد الفنا مثلاً ، تقوم مئذنته على هيئة مربعة ، تشق عنان السماء ، وطرفها العلوى يكاد يكون مختفيا داخل المربع ، الذى تظهر على جوانبه عدّة نوافذ ضيقة للغاية ، وكأنها مجرد وسيلة لمراقبة الفضاء المحيط .
    والمئذنة نموذج لبناء المسجد ذاته الذى يبدو على هيئة قلعة لا يتم تمييزها عن بقية المبانى إلا بالمثلثات التى تصطف على حواف جدرانه الأربعة العليا بما فيها حواف المئذنة أيضا .
    أما قبر يوسف بن تاشفين ، البطل الذى ظل قويا وصامدا فى فترة انهيار الأندلس واستقواء الصليبيين الهمج ، فهو قبر بسيط ، يُحيطه الإهمال ، وتعلوه آثار عوامل التعرية .. وكأن القبر يحدث الناس عن نفسه ، وعن صاحبه وأعماله التى لا يعرفها المسلمون المعاصرون ولا الذين سبقوهم حتى وفاة ابن تاشفين نفسه ، مسجد الفنا بداية للمكان الذى يمثل مركز مراكش القديمة ، وهو الساحة .. والساحة دائرة كبيرة مبلطة بالبلاط الأسود المستطيل الصغير ، الذى يشبه بلاط الحوارى القديمة فى القاهرة المعزّية ..
    والساحة فى النهار تبدو فارغة من الجمهور اللهم إلا مجموعات من الدكك والترابيزات الخشبية والنصبات الخاوية .. وتظل الساحة خالية حتى منتصف النهار ، عندما ينصرف الموظفون والعمال من مكاتبهم وأعمالهم .. وحينئذ تتحول إلى شئ آخر تماماً ..
    الساحة عندما تعمل ، تكتظ بالناس من كل الأجناس ، وليس المغاربة وحدهم ، هناك باعة الأطعمة المختلفة اللحوم والأسماك والفطائر ، وهناك الطعام الشعبى بدءًا من لحمة الرأس إلى الممبار ، والأسماك بأنواعها المختلفة ، مشوية أو مقلية ، وقد تعرضت لموقف صعب حين وقفت مع صديقى الشاعر المغربى الكبير " محمد على الرباوى " والدكتور " عبد العالى بوطيب " ، وكلاهما أستاذ جامعى ، واصرّا على أن أتناول معهما طبق الحلزون ( القواقع ) ! منظر الحلزون أزعجنى ، وجعلنى أتقزز ، وهما يضحكان ، ويُحاولان إقناعى بكل الوسائل أن أتذوقه ، مجرد تذوق ، ولكنى لم أستطع ، كان الرباوى يتناول ( شوربة ) الحلزون ، وهو يقهقه وعبدالعالى يستخدم الملعقة فى التهام اللحم الحلزونى بهمة ونشاط .. وأنا أرفض رفضاً قاطعاً ، كان يتكلمان عن فوائد الحلزون ، وتهافت الأزواج على استخدامه ، وأشياء أخرى ، ولكنى لم استجب لهما وهما يضحكان ، ربما لسذاجتى الريفية أو عدم خبرتى الحياتية ..
    من المفارقات أننى شاهدت تقريراً تلفزيونياً يتحدث عن مطعم خاص بالحلزون افتتح فى إحدى المدن الفرنسية ، يقوم صاحبه بالحصول على الحلزون وإعداده وتقديمه للزبائن بأسعار مرتفعة للغاية ، ويصدره إلى دول الاتحاد الأوروبى ! ولله فى خلقه شئون !
    إلى جوار مطاعم الساحة ، حلقات الحكواتى الذى يجلس مع فرقته الموسيقية ليحكى السيرة الشعبية وله جمهوره الذى يتفاعل معه ويندمج إلى درجة التماهى ، يذكرنا بشاعر الربابة قديماً فى مقاهى مصر وقراها ، وهناك حلقات عرض الثعابين ، وباعة الفواكه ، والتمور ، والياميش ..
    أما المحلات على حافة دائرة الساحة ، فهى متنوعة بتنوع أغراض الناس بدءاً من الملابس الجاهزة والهواتف المحمولة إلى المكتبات والفنادق .. وهذه المحلات لها نظامها المختلف تماماً عن الساحة . فالساحة مقصد الفقراء والأغنياء والسياح ، يأكلون ويستمتعون بدراهم معدودة ، أما المحلات على حافتها ، فهى مقصد القادرين وحدهم ، لأن أسعارها مرتفعة وتكاد تقترب من أسعار مراكش الجديدة .
    ...................................
    *المصريون ـ في 25/12/2007م.

  8. #68
    الطريق إلى مراكش الحمراء (6)
    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    ..........................
    من الساحة قرب مسجد الفنا أو الكتيبة ، تبدو مجموعة من الشوارع الضيقة الطويلة ، التي لا تختلف كثيراً عن شوارع القاهرة المعزّية ، وتضم هذه الشوارع التي تتولد منها شوارع أضيق معظم التجار الذين يقومون على تجارة الجملة والتجزئة ولبعض محلاتهم أسماء مخالفة للأسماء الشائعة عندنا ، وإن كانت تتفق معها في المعنى اللغوي والدلالي ، على سبيل المثال ، تسمّى محلات العطارة بالمعشبة وهى مأخوذة من العشب الذي يعتمد عليه العطّار في جلّ بضاعته ، ومحل الجزارة يسمى الملحمة وهى من اللحم فهي مكان للحم أو لبيع اللحوم ، ومقر الهاتف العمومي يطلق عليه مستقر الهاتف أو المكان الثابت للهاتف ..
    وظاهرة استخدام المشتقات / المغايرة واضحة في أكثر من مجال ، فسيارة الأجرة مثلاً التاكسي تكتب هناك أحيانا " الطاكسى " ، والشوارع الضيقة الطويلة يطلق عليها " رياض أو طريق ، والمحلات الصغيرة تسمى " طوالة " وهواتف المحمول والساعات والمسجلات والنظارات ، تجمع في تسميتها العربية والأجنبية .. وبدلاً من كلمة عالم يوضع مكانها فضاء ، فنجد مثلاً " فضاء إلكترونيك " وهاتف المحمول يسمى النقال وتاريخ الميلاد يسمى تاريخ الازدياد ، والمغسلة ( للملابس ) تسمى مصبنة ، نسبة إلى الصابون ، والبنوك يطلق عليها الأبناك ، وأحياناً تسمى المصارف ، وبوابة الرسوم على الطرق السريعة تسمى محطة الأداء .. وفى مجال التعليم ، مسميات عديدة مغايرة يمكن أن نجد تجلياتها في الكتب التي يترجمها الزملاء المغاربة عن الفرنسية – غالباً – وتكاد تأخذ طابع الأداء الفرنسي في تركيب الجملة الفرنسية وصياغتها .. ولعل هذا ما أدى إلى ضبابية كثير من المصطلحات الأدبية الحديثة ، وخاصة فى مجال النقد الأدبى على النحو الذي يعرفه المتخصصون ، وهو ما أدى إلى وجود فجوة كبيرة عندنا بين فريق من النقاد وقرائهم ، نتيجة لمتابعة الأولين للترجمات العربية القادمة من المغرب الشقيق .
    وبعيداً عن أمر المعجم السائد فى مراكش الحمراء وغيرها من بلاد المغرب العربى ، يبدو أن الفضائيات العربية ، وخاصة السياسية ، قد نجحت إلى حدّ كبير فى التقريب بين المشتقات العربية أو التعريف بها فى سياق النشرات الإخبارية والبرامج الجادة ؛ إن الحى الشعبى الذى يصب فى الساحة ، يبدو عالماً مدهشا ، بما يتوفر فيه من حرفيين وتجار فى مختلف السلع واللوازم ، وخاصة فى الحارات الضيقة التى تشبه المتاهة ، وتؤدى نهايتها كما يتخيل الزائر إلى بداية أخرى لها نهاية تؤذن ببداية جديدة وهكذا .. واذكر أننى وقفت مع صديق فى أحد المحلات أو الطوالات ، لشراء شئ ما ، وطلبت من البائع الذى تعرّفنا عليه ، وجلسنا فى طوالته نحتسى الشاى الأخضر ، أن أحصل على شيء ما من مكان آخر ، فأرسل معي شقيقه الأصغر ، الذي أخذني ، ودخل بي من حارة ضيقة إلى أخرى أضيق ، ومن منعطف إلى منعطف ، حتى وصلنا المكان الذى كان على هيئة منزل قديم ، ولكنني فوجئت في الدور الأرضي بمعرض فخم للملابس ، وفى الدور الثانى بمعرض آخر للستائر وما يشبهها ، ثم كان الدور الثالث مطعماً شرقيا ، ولأننا كنا فى الصباح والمكان شبه خال ، سألت مرافقى ، هل يعرف الزبائن هذا المكان ؟ ، فقال لى : إن زبائنه يأتون من أنحاء المغرب والعالم ، وفى مقدمتهم السيّاح ، الذين يستمتعون بما يشترونه ويأكلونه هنا .. ومع التواضع الذى يبدو عليه المبنى الذى كنا فيه ، شأن بقية المبانى المجاورة ، إلا أن الداخل يختلف تماماً ، من حيث التنظيم والتنسيق والشكل العام ، فضلاً عن النظافة التى تبدو سمة عامة فى الأماكن العامة ، وخاصة " الحمامات " التى تعد قطعة من البللور النقى ولا أبالغ ، فلا توجد بها ذرة تراب أو أثر ، ولو كان بسيطا ، للإهمال أو القذارة ، بل إنها مزوّدة بأحواض تلمع ، ومرايا صقيلة ، ومنظفات من أرقى الأنواع ..
    تذكرت الحمامات فى بلادى ، وخاصة فى الميادين والمساجد والمصالح الحكومية والمدارس والجامعات ، حتى تلك التى تخصص للسادة الكبراء ، ويحتفظ الحجّاب بمفاتحيها .. فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله .. صحيح أن الحضارة نظافة ، ويوم كان الهمج الهامج فى أوربا لا يعرفون الحمامات ولا كيف يستحمون ، كان هارون الرشيد – رحمه الله – يطلب من مساعديه أن يذهبوا بضيوفه من هؤلاء للاستحمام أولاً ، وكانوا يخافون أو يستشعرون نوعاً من الدهشة وهم يدخلون الحمّامات ، فيتولى المساعدون بيان كيفية استخدامها حتى يحدث الاطمئنان للقوم .
    هل تستطيع أن تجد فى القاهرة الآن حماماً عاماً " معقول " النظافة ؟ بل هل تجد فى الأصل حمامات فى كثير من الأماكن ؟ لنا الله !
    فى المحلات التجارية التى تبيع الأجهزة الكهربائية " الثلاجات والغسالات والمطابخ " قرأت اسم شركة مصرية على ثلاجة أو غسالة لا أتذكر . نبهنى إليه صديقى الذى كان يرافقنى فى رحلة التجول فى الحى الشعبى .. فرحت فرحاً شديداً ، لأن " رجل قروض " مصرى استطاع أن يصدّر " سلعة " مصرية إلى بلد عربى . أعلم أن هذه السلعة تجميع " كورى " أو تايوانى " ، ولكنها فى كل الأحوال عبرت عن حالة ذات قيمة ، وهى إنتاج بضاعة للتصدير على العكس من بقية رجال القروض الذين يريدون الاقتراض من البنوك المصرية حتى تجف ، ثم يهربون أو ينشئون مشروعات ترفيهية أو كمالية لا تسمن ولا تغنى من جوع ، ويطلقون القنوات الفضائية المبتذلة بقصد تغيير هوية البلد وأهله ولغته ، أو يحلمون بالسيطرة على البلد واقتصادها وسياستها وإعلامها فى ظل " المواطنة " التى تعنى الخروج من دين الإسلام والدخول فى عباءة الهمج الهامج من صناع الوحشية الاستعمارية !
    على الأرصفة تباع أشرطة وأسطوانات مدمجة ، أغلبها فرنسى ، أو مصرى وتشمل الأغانى والأفلام والمسلسلات والمسرحيات والمباريات ، والقوم هناك يعرفون أسماء المطربين والممثلين ولاعبى كرة القدم ، و " أبو تريكة " و الأهلى ، لهما شعبية جارفة هناك ، وللزمالك أنصاره أيضا ، ويحتشد الناس هناك أمام الشاشة الصغيرة فى مباريات الفريقين الكبيرين فى الدورى المصرى أو الكأس المحلى أو الإفريقى .
    فى محلات الأقمشة التى تملأ حارة ضيقة انطلق صوت أم كلثوم بأغنية جميلة من الخمسينيات ، وصاحبها يجلس فى محله الصغير منسجماً مع الصوت الذى ظننت أنه انتهى بعد موت صاحبته بأكثر من ثلاثين عاماً فى ظل هوجة " التغريب " و " الديسكو " والصخب التافه الذى صنعه مطربو الأيام السود ودمى الأجساد المتهرئة بالكولاجين !
    كان على في آخر الجولة أن أحسم أمرى ، وأشترى " المحمول " الذى أوصتنى به " فاطمة ابنتى " أو أمى الغالية كما أناديها .. لابد أن يكون محمولاً بغطاء برقم معين من أحدث الأنواع .. أليس لها حق ، وقد حمل أشقاؤها أغلى " المحاميل " ؟ هل كونها أصغرهم لا تستحق محمولاً ؟ على عينى يا أمى ، ولكن تذكرى أن أباك " أستاذ الجامعة " على المعاش ، وليس تاجر مذكرات ، وجمال سلطان لا يعطيه " هُبراً " ولا عظاماً مما يدفعه لكتّابه كما زعم بعض القراء ، بل ضنّ على أبيك بنسخة من " المنار " لأنه ينسى !! على عينى يا أمى الغالية .
    ...................................
    *المصريون ـ في 1/1/2008م.

  9. #69
    الطريق إلى مراكش الحمراء (7)
    بقلم: أ. د. حلمي محمد القاعود
    .............................
    إذا كان المشهد الثقافي في المغرب بصفة عامة يتصدره " اليساريون " في صورة المسئولية الرسمية والتشكيلات الثقافية والأدبية المهيمنة ؛ فإن طبيعة المغرب الشقيق في صورتها الحقيقية تظل مرتبطة بالإسلام والقرآن والروح الشرقي . وصعود أهل اليسار في الثقافة المغربية ، لا ينفصل عن صعودهم في بقية البلاد العربية ، حيث أتاح لهم الاستبداد في معظم عواصمنا أن يقوموا بمهمة غير كريمة ، وهي إزاحة الإسلام المقاوم والمعارض الحقيقي من العقول والنفوس ، والتشكيك في قيمه وثوابته ، وخدمة الأنظمة الشمولية ، وتسويغ تغوّلها على حرية الأوطان والمواطنين ، في مقابل ما يلقى إليهم من فتات المناصب الحكومية والجوائز العينية ، والحضور الإعلامي في أجهزة الدعاية الحكومية ، والتمثيل الوطني في المهرجانات والندوات والمؤتمرات الخارجية ..
    ومع ذلك ؛ فالمقاومة للتوحش اليساري ، وخاصة اليسار المتأمرك ، ومهمته التغريبية لا تتوقف ، والنخبة المثقفة ذات التوجه الإسلامي لا تتوانى عن العمل بإمكاناتها المحدودة الضعيفة ؛ لترسيخ المفهوم الإسلامي الصحيح في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية ، ويساعدها الهامش المحدود للحرية في المغرب على العمل والممارسة .. إنه هامش محدود ولكنه حقيقي يسمح بانتخابات تشريعية حقيقية إلى حد كبير ، ويسمح بإصدار صحف ، وعقد ندوات ومؤتمرات ، والخطوط الحمراء لهذا الهامش واضحة وصريحة ، ويعر فها أهل المغرب ، فلا ادعاء بأزهى عصور الحرية والديمقراطية ، ولا زعم بأنه لن يقصف قلم ، أو تغلق جريدة .. لا شيء هناك من ذلك . الخطوط مرسومة ، وعلى العابرين أن يسيروا في حدودها ، ولا يتخطوها .. وهو أمر مرحلي مريح للطرفين على كل حال !
    وأعود لأؤكد أن اليساريين المغاربة ، ليسوا بالصلف أو الادعاء الذي نراه عند نظرائهم في مصر ، أو كثير منهم ، فهم يراعون إلى حد ما العلاقات الإنسانية السائدة ، وإن كانوا لا يتوانون عن العمل في برنامجهم الاستئصالى الداعم للاستبداد على المستوى العام !
    وفي الجانب الآخر ، هناك دفاعات باسلة عن الإسلام وحقائقه في حدود الإمكانات المتاحة ، وقد لفت نظري وجود شخصية لطيفة نشيطة ، ومع السنوات الطويلة التي يحملها على كاهله ، فهو لا تكف عن الحركة والعمل ، وطول أيام الملتقى الأدبي ، كان الشاعر " جلول دكداك " الذي تجاوز السبعين ، ويكلل رأسه الشعر الأبيض الناصع ، ينطلق في أرجاء القاعات والفندق مثل شاب في مقتبل العمر ، يسأل ويناقش ويتعرف ، ويوزع كتبا ودواوين ، ويتبادل العناوين ،ويقوم بالتصوير ، وكثيرا ما أجده على مائدة الإفطار أو الغداء أو العشاء ، أو في ردهات الفندق أو المؤتمر ينهض من مكانه ، ويميل علىّ ، ويسألني :
    - سي حلمي ، ما رأيك في الموضوع الفلاني ؟
    - سي حلمي ، هل قرأت كذا ؟
    - سي حلمي ، خذ هذا .. ( قد يكون صحيفة ، أو موضوعا ، أو قصيدة ... )
    صار " جلول " معلما من أهم المعالم المميزة للمؤتمر ، نفتقده إذا غاب لدقائق ، ولكنه كان حاضرا دائما في الأذهان والقلوب ، طيبته الفطرية ، ومودته الإنسانية ، وحرصه على مناغاة الضيوف ، جعل منه نجما بلا ريب ، ويصف نفسه بشاعر السلام الإسلامي ، وهو بالفعل يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين ، وإن كان لا يكف عن الكتابة والعمل والنشاط . ذكرته برسائله وقصائده التي كان يرسلها إلى مجلة " الشعر " قبل ثلاثين عاما أو أكثر . كان الدكتور عبده بدوي – رحمه الله – قد نجح في إصدارها مرة أخرى عام 1976م على عهد " يوسف السباعي " – رحمه الله – وكنت أحرر بعض أبوابها ، وكانت تأتي رسائل " جلول " مفعمة بإنسانيته وطيبته الفطرية ، فأنشر القصائد وأرد على الرسائل ، ومع سنّه المتقدمة لم يزل ينشد لفلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والصومال ، وبلاد المسلمين المستباحة ، ويرد على أكاذيب أهل ( الحداثة ) المتغربين ، ويكتب المقالات ، ويصحح المصطلحات ، ويسعى لنصرة القرآن الكريم ، ويستوعب – بحب – كتابات الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – ويردد مقولته : " إن أخشى ما أخشاه على الإسلام والمسلمين ؛ هم المسلمون أنفسهم !" ..
    و" جلول " يحتاج إلى صفحات للتعريف به ، وتناول كتاباته وأشعاره ، ولكنه يبقى نسمة ندية في صيف قائظ يصنعه خصوم الأمة . وتمتد هذه النسخة إلى آفاق أخرى ، وتتحول في أيام البرد العاصف إلى لمسة دفء وأمل ، عندما تلتقي أساتذة كلية اللغة العربية – جامعة القرويين ، في مراكش الحمراء ، بدءا من العميد ، حتى أصغر معيد ، بل إلى الطلاب أنفسهم .. هناك أمل في عالم آخر ، من أهل التعليم والثقافة ، يحترمون التقاليد ، ويحترمون بعضهم ، ويقدسون العلم والبحث ، ويشتاقون إلى المعرفة ، ويرجون ضيوفهم أن يتحدثوا إليهم في ندوات مفتوحة مع الطلاب ، أو يحاضرونهم في تخصصاتهم المختلفة ,, الطلاب ملتزمون بالحضور ، والمتابعة والمناقشة ، ودراستهم شاملة متكاملة ، فهم في قسم الدراسات العربية مثلا ( يسمونه مسلك الدراسات العربية ) ، يدرسون ستة فصول ، وتجد فيها مواد مختلفة بدءا من دراسة اللغة والأدب والسيرة وفقهها ، والمذهب المالكي ،والمكتبة الإسلامية وتقنيات التعبير والتواصل ، والنحو والصرف والبلاغة واللسانيات والتفسير ، والعقيدة والقانون والنقد وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية والقراءات والسرد ، والعقود والالتزامات والمعلوميات والأدب الإسلامي والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية والتداولية ، والأحوال الشخصية ، والأسلوبية ، ومنهجية البحث ، والتصوف الإسلامي ، وعلوم القرآن ، وتحليل الخطاب والسيميائيات والعروض ومناهج الدراسات الأدبية إلى جانب الفرنسية والإنجليزية ....
    وإلى جانب الدراسات المنهجية ، هناك نشاطات مستمرة على شكل ندوات ولقاءات وإصدارات تعالج مختلف الموضوعات والقضايا ، ومن خلال رؤى متنوعة وتصورات شتى ..
    كان وداعنا لمراكش الحمراء وداعا للحظات استثنائية في العمر ، عشناها بين أهلنا وأمتنا بعيد عن صخب المتاعب والمحن في مصر المحروسة التي لا نتوب عن حبها ولا نقدر ، مهما فعلت بنا ، وأزرت بوجودنا في ظل أوضاع استثنائية لا تجنح أبدا إلى الوضع الطبيعي الذي استقرت عليه أغلب الأمم ؛ حيث يكون الوضع الاستثنائي قصيرا تعود بعده إلى حالتها الطبيعية ، ولكن قدرنا أن نحيا في استثناء دائم ، وعذاب دائم حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .. وبلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي ، وعذابي أيضا..
    ...................................
    *المصريون ـ في 15/1/2008م.

  10. #70
    حصيرة الريف الواسعة : مواقف نقدية وقضايا ثقافية
    تأليف الدكتور : حلمي محمد القاعود
    الناشر : بستان المعرفة ، كفر الدوار ( بحيرة ) – 2007م
    عدد الصفحات : 188 صفحة .
    ......................................

    هذه فصول قصار كتبت في سنوات قريبة مضت ، تناولت بالنقد والتحليل نصوصا أدبية ونقدية ودرامية جديدة ، وفيها أيضا حديث عن بعض الأعلام المعاصرين في مناسبات مختلفة ، فضلا عن بعض القضايا التي تتصل اتصالا وثيقا بالحياة الأدبية والفكرية الراهنة مازال معظمها يراوح مكانه ويشكل حالة سلبية في الواقع الثقافي .
    وقد سميت هذه الفصول " حصيرة الريف الواسعة " انطلاقا من المقولة الشائعة في الريف " حصيرة الريف واسعة " ؛ فالقرية بالنسبة للمؤلف حيث يقيم ويعيش هي المبتدأ والخبر ، وكثير من مادة هذا الكتاب تنتسب إلى الريف وأهله ومشكلاته .. ، ثم إن تنوع مادة الكتاب وتشعبها تجعل القارئ يجد في حصيرة الريف ؛ مجالا ملائما للمشابهة في الرحابة والاتساع .
    معظم النصوص التي يعالجها الكتاب تنتسب إلى جيل الشباب أو أدباء النضج الذين أهملهم النقد ، ولم يلتفت إلى إنتاجهم أو كتاباتهم ، ويحسب لهذا الكتاب أنه قدمهم إلى الجمهور القارئ أملا أن يكون ذلك بداية لمتابعتهم وتحليل إبداعهم ونصوصهم .
    أما الأعلام الذين تناولهم الكتاب وهم من المعاصرين وبعضهم من الذين رحلوا دون أن تتوقف عندهم أجهزة الإعلام الأدبي كما ينبغي ، أو تشير إلى بعضهم مجرد إشارة اعتمادا على نظرة أحادية تسود الحقل الأدبي ، وتجعل صاحب المبادرة بالعلاقات العامة هو الأكثر حضورا وبروزا واهتماما ، علما أن هؤلاء الأعلام أصحاب إنتاج له قيمة لا تبلى ، وجهد لا ينكر ، مما يجعل الالتفات إليهم ضرورة سواء في الجامعات أو الدوريات المتخصصة .
    صفحات هذا الكتاب تدعو إلى تحرير الأدب والثقافة في بلادنا ومناقشة الوسائل الفعالة والأساليب الناجحة من أجل تحقيق هذا التحرير ، وهي دعوة تستحق من المخلصين من أدباء هذا البلد ومثقفيه – وليس كتاب السلطة – أن يدرسوا نواحي القصور في ثقافتنا حتى تكون الثقافة قاطرة للتحول والدخول إلى عالم أفضل وأكرم .

صفحة 7 من 9 الأولىالأولى ... 56789 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الفنان أحمد حلمي مصاب بالسرطان
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-13-2014, 07:05 AM
  2. كتاب 28 حرف /لـ أحمد حلمي
    بواسطة عبد الرحمن سليمان في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-15-2013, 09:19 PM
  3. نرحب بالأستاذ/أحمد حلمي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-15-2012, 06:45 AM
  4. قراءة أ.د / حلمي القاعود ، في محموعة قصصية للشاعر الدكتور / عزت سراج
    بواسطة الدكتور/عزت سراج في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-05-2010, 04:12 PM
  5. الف مبروك أحمد حلمي...
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الفني
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-12-2009, 12:14 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •