منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 6 من 8 الأولىالأولى ... 45678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 51 إلى 60 من 73
  1. #51
    * الأمل .. والهزيمة *
    ................................

    صباح الخامس من يونيو 1967 ..
    الدنيا غير الدنيا، فى الشوارع، ووسائل المواصلات، والوجوه المطلة من الشرفات والنوافذ، والواقفين أمام البيوت، وفى النواصي، والجالسين على المقاهي. دوامات من الأسئلة والمناقشات والتحليلات والتوقعات، وأجهزة الراديو ـ على آخرها ـ تعلن بدء الهجوم الإسرائيلي، وعشرات الطائرات التى بدأ تساقطها، والحرفيون الذين اعتدت رؤيتهم حول عربة الفول أمام دار الجمهورية، مضوا ناحية كشك الشاي والقهوة المجاور، يتابعون الأنباء الجميلة ..
    رددت الأغنيات حتى حفظتها : طول ما أملى معايا .. وف إيدىّ سلاح ، ولا يهمك يا ريس .. م الأمريكان يا ريس، خلّى الصحارى الواسعة تشرب دمهم .. خلّى الصقور الجارحة تنهش لحمهم .. وأغنيات وأناشيد أخرى كثيرة. الثمار الناضجة تدلت، فليس أمامنا إلا أن نمد أيدينا ونلتقطها. إذاعة أحمد سعيد تعلن توالى سقوط الطائرات. زميلي فى الجريدة عبد الحميد عبد النبى يوبخ ـ بقسوة ـ زميلنا جمال فكرى لتخوفه من إعلان انسحاب القوات المصرية إلى خط الدفاع الثاني. معنى ذلك ـ فى تقديره ـ وهو العسكري السابق ـ وقوع الهزيمة. هذه كلمات خيانة!.. سكت جمال فكري، وإن امتد أصبعه ـ بعفوية ـ يمسح دموعاً طفرت من عينيه ..
    فى اليوم التالي، أذاع الراديو أغنية "وطني وصباي وأحلامي". كنت قد استمعت إليها من قبل كثيراً، وأحببتها، لكنها حركت فى داخلي ما يشبه القلق أو الخوف. ثم غنى محمد فوزي "بلدي أحببتك يا بلدي" فقارب الشك التيقن ..
    عدت إلى جهاز التلكس بالجريدة، أتابع برقيات وكالات الأنباء. تبينت فجاجة الثمار ، وأدركت حجم المأساة ..
    فى مساء التاسع من يونيو أذهلني تنحى عبد الناصر. اخترقت مع الملايين ظلمة القاهرة، أهتف بعودة عبد الناصر. أحبه، لكن السؤال يمتد بمساحة القلق والخوف فى داخلي: هل يترك القبطان السفينة فى عز مواجهتها للعاصفة؟!

  2. #52
    * أبو طه *
    ...............

    دراو ، مدينة ـ أو ضاحية ـ بالقرب من أسوان ..
    لم أكن زرتها من قبل . طبيعتها صحراوية أقرب إلى بيئة الرعى . الجمال فيها أكثر من البشر . عرفت أنها أشبه بميناء أو محطة وصول للجمال من السودان إلى مصر ، تقام عليها المزادات ، أو تباع بالذمة والأمانة .
    سافرت فى صحبة خبير الفنون الشعبية القديم أحمد سعد الدين . كان يرأس وفداً لصالح صندوق معاشات الفنانين . وجدت فى الدعوة فرصة لتنفيذ مشروع يماثل ما فعله شتاينبك حين صحب كلبه تشارلى فى رحلة إلى المدن الأمريكية ، ولم أكن أملك من الموارد ما يتيح لى رحلة شتاينبك .
    زرنا العديد من مدن الصعيد ، حتى وصلنا إلى هذه المدينة ـ أو الضاحية ـ الصحراوية . تعرفنا ـ رغم شحوب المرئيات وقت الغروب ـ إلى الطبيعة الإنسانية البسيطة ، الطيبة . مئات من أبناء دراو بالجلابيب البيضاء والعمائم المستديرة ، التفوا حول الفنانين الذين يستمعون إليهم فى الإذاعة ، ويطالعون أخبارهم وصورهم فى الصحف ، لكنهم يلتقون بهم للمرة الأولى .
    توالى صعود الفنانين على خشبة المسرح . مصطبة خشبية فى نهاية حظيرة ترابية ، أخليت من الجمال ، وأغلقت أبوابها ، إلا من زيق صغير ينفذ منه دافعو التذاكر .
    غنى محمد قنديل وشريفة فاضل ، وألقى أحمد غانم بعض المونولوجات ، وتثنت وتأودت راقصة شابة لا أعرف اسمها . ولم يكن رد فعل الجمهور بالقدر الذى توقعه سعد الدين . ظل متحفظاً ، وإعجابه أقرب إلى المجاملة .
    أعلن مقدم الحفل عن المطرب الشعبى محمد طه . تصورت ـ فى اللحظة التالية ـ أن ضجيج التصفيق والهتاف سيهد المكان على من فيه : أبو طه ! أبو طه !..
    أدركت أن تصور أحمد سعد الدين ـ وتصور مجموعة الفنانين ـ أن مجرد وصولهم إلى هذا المكان عند ناسه يعنى أشياء ، لم يكن دقيقاً . محمد طه ، المطرب الذى يرتدى القفطان والطربوش ، ويتغنى بقيم البسطاء والغلابة ، هو المطرب الذى قدموا لسماعه !

  3. #53
    * طفولـة *
    ................

    أغنية عفاف راضى " ردوا السلام " تتناهى من الراديو الترانزستور . كان أول ما اشتريناه من أجهزة حديثة ، بعد انتقالنا من إقامة طارئة فى أرض شريف القريبة من ميدان العتبة ، إلى مصر الجديدة . العمال ينقلون الأنتريه الجديد إلى داخل الشقة . زوجتى تظهر فرحتها ، وابنتى أمل تتطلع فى حياد صامت . أما ابنى وليد فلم يكن فى السن التى تتيح له إدراك الأمور جيداً ..
    بدأ العمال فى نقل الأنتريه القديم إلى خارج الشقة . تخلت أمل عن حيدتها الصامتة :
    ـ لماذا ؟
    أضافت لنظرتى المتسائلة :
    ـ لماذا يأخذونه ؟
    ـ لأننا استبدلنا به جديداً ..
    هتفت :
    ـ أنا أريده ..
    ـ المكان ضيق ..
    أعادت القول :
    ـ أنا أريده ..
    نقل العمال الأنتريه القديم ، ومضوا ..
    غلب الشرود على نظرة أمل ، فهى لا تكاد تنتبه إلى انشغالنا بترتيب الأنتريه الجديد . ثم انتفضت ، وجرت ناحية باب حجرة النوم ، فأغلقتها عليها ..
    كانت قد أسلمت نفسها للبكاء . وتبين لى قولها من خلال النشيج :
    ـ الأنتريه بتاعى !

  4. #54
    * يا عشاق النبى *
    ............................

    كان عبد الفتاح الجمل ظاهرة ثقافية ..
    أتاح له إشرافه على القسم الثقافي بجريدة " المساء " أن يقرأ فى القصة والرواية والموسيقا والفن التشكيلى والتاريخ وعلم الاجتماع ، وغيرها مما كان مسئولاً عن إجازته ، ونشره ، فى الصفحة الثقافية ..
    كنت أعتبر الجمل مثلاً للمثقف الذي يتابع ـ بالضرورة ، وبحب للمعرفة ـ معظم ما ينتجه الواقع الثقافي ، سواء كان مؤلفاً أم مترجماً . ومن المؤكد أن جيل الستينيات يدين للجمل بفضل الرعاية والتقديم ، ليس فى جنس أدبي أو فني محدد ، وإنما فى كل مجالات الإبداع الإنسانى ..
    لأنى أحب الموسيقا الشرقية، الربع تون، المقامات، التطريب، فقد كان اختلافى مع الجمل فى رفضه المعلن للموسيقا الشرقية، رغم حرصه على نشر مقتطفات من التراث العربى فى الشعر والسرد، فهو يذكرنى بأستاذنا حسين فوزى الذى أجاد الغوص فى بحار التراث العرب ، وأعلن انحيازه الكامل ـ فى الوقت نفسه ـ للثقافة الغربية . كانت تتناثر فى قعدة الجمل أسماء سارتر ودى بوفوار وهمنجواى وديستويفسكى وفلوبير وفرويد والوجودية والسوريالية والرواية الجديدة وغيرها. كانوا يغالون فى رفض التراث، وفى رفض الأداء العربى بعامة. ولولا أن اللغة العربية كانت هي لغة الكتابة، ربما دعوا إلى الكتابة بلغات غربية. وكنت أشك أن رفض الجمل هو مجرد مسايرة لمن يجالسونه !.
    أعجب بيحيى حقى الذى أحب الموسيقا الشرقية ، وأجاد سماع الموسيقا الأوبرالية . الإعجاب بنتاج ثقافى لا يعنى رفض النتاج الثقافى المغاير . لكن ذلك ما كان يحرص عليه رواد قعدة الجمل ، وإن ظللت على ثقتى فى أن ترديده لآرائهم لم يكن سوى مسايرة .
    مع ذلك ، فقد كان الجمل يدندن ـ فى أثناء عمله ـ بأغنيات شعبية وشرقية ..
    سمعته يردد : يا عشاق النبي .. صلوا على جماله ..
    قال فيما يشبه الارتباك:
    ـ مجرد لحن تذكرته !
    زرت عبد الفتاح الجمل فى شقته بمدينة نصر ..
    اجتذبنى الطابع الشرقى الذى وسم كل ما فى الشقة . حتى اللوحات المعلقة على الجدران لتكوينات من الفن الإسلامي والحروف العربية. وتناهت من الريكورد كاسيت القريب موسيقا شرقية خافتة ..
    أبديت ملاحظة حول اقتصار مكتبة الجمل على الموسيقا والأغنيات الشرقية ..
    التفت الجمل ـ بعفوية ـ ناحية الجزء الموسيقى فى مكتبته . هز رأسه بما يعنى التهيؤ للكلام. تحركت شفتاه .. ثم ظل صامتاً .
    * بنات طارق *

    لست أذكر متى بدأ الأمر ، ولا كيف تطور ، حتى هددنا ولد دادى رئيس الإذاعة الموريتانية ، والقيادى المهم فى الحزب الموريتانى الحاكم ، أنهم سيضطرون إلى اعتبارنا أشخاصاً غير مرغوب فيهم ..
    سألت أستاذنا محمد فتحي:
    ـ ماذا تعنى هذه الصفة ؟
    افتر فمه عن ابتسامة هادئة :
    ـ تعنى أنهم قد يرحلوننا عن نواكشوط بالقوة !
    ـ لكننا نحن الذين نطلب الرحيل ؟
    دون أن تزايله ابتسامته :
    ـ هذا هو معنى الصفة ..
    وقضيت ليلة مزعجة ، أسلمت نفسي فيها لهواجس ووساوس وتصورات ..
    لم نفرض التوتر ، ولا سعينا إليه . كنا نعانى فراغاً قاتلاً ، فالمحاضرات التى نلقيها فى بيت الثقافة المهدى من الصين تنتهي عند الظهر . ونتلفت ـ بعد الغداء ـ حولنا ، نتساءل عن أي الأماكن نقضى فيها بقية اليوم ؟
    حاولنا أن نقضى إجازة الأحد فى رحلة إلى السنغال . نعبر النهر إلى الضفة المقابلة ، نمضى النهار ونعود .. لكن الشرطة أعادتنا فى بداية الطريق ..
    اعتبرنا ما حدث إجراء سخيفاً يشي بديكتاتورية الدولة التي قدمنا لتدريب كوادرها الإعلامية، وتطوير الإذاعة، وبث برامج التليفزيون، وإصدار الجريدة الأولى ..
    نقل الأرصاد استياءنا إلى ولد دادي. زارنا فى فندق مرحبا. رفض مجرد أن يستمع إلى وجهة نظرنا. علا إيقاع المناقشة حتى وصلت إلى طريقها المسدود ..
    كان الوفد يضم عراقياً وجزائرياً وخمسة مصريين. وأجريت ـ فى أثناء الليل ـ اتصالات بين سفارات الدول الثلاث ووزارة الإعلام الموريتانية. واعتذر الوزير بأن مدير الإذاعة أساء الفهم والقول. أضاف إلى اعتذاره حفلات استقبال فى فندق بارك وسط العاصمة الموريتانية، وفى خيام على أطراف المدينة ..
    حفلات الخيام هي أجمل ما بقى فى الذاكرة. فرق غنائية، قوامها مطربات وعازفات وراقصات يتعالى شدوهن الجميل:
    نحن بنات طارق نمشى على النمارق

  5. #55
    * يا اسمرانية *
    ......................

    استمعت للأغنية فى اليوم الأول لوصولى إلى مسقط ..
    صحبنى الشيخ سليمان الطائى وعبد الحكيم أحد أبنائه ـ من حق تعدادهم القليل ألا يعترفوا بتنظيم النسل ! ـ إلى فندق الكورنيش بمطرح . مبنى قديم ، له عراقة وحميمية تجتذبك رغم أنه فى مستوى أدنى من فنادق الفلج والخليج ومسقط إنتر كونتيننتال التى شيدت فروعاً لها فى العاصمة العمانية ..
    طالعنى مبنى جريدة الوطن المشيد من الخشب والصاج . يرتفع عن الطريق بثلاث درجات من الأسمنت ..
    تجاوزت ـ بالبدء فى خطوات إصدار جريدة من نقطة الصفر ـ ما أحاط بى من دشاديش ، ومسرات ، وطواقى ، ولهجات تغيب عنى مفرداتها ، وإحساس بالوحدة ، وجبال تبدأ من حيث لا أعرف ، وتمضى إلى نهايات مجهولة ..
    بدت أغنية ليلى عبد العزيز لا لا يا اسمرانية مغايرة لما كنت أستمع إليه فى القاهرة . شدنى جمال الأداء ، وبساطة الكلمات ، وسهولة اللحن ، وسرعة الإيقاع ..
    عرفت ـ بعد أن صادقت محيى الدين البائع الهندى فى كشك السجاير المجاور ـ أنه يدير الأغنية على ريكوردر كاسيت ..
    تكررت ـ فيما بعد ـ مناداتى له من داخل " مبنى " الجريدة : يا محيى الدين .. يا اسمرانية !
    أحاول أن أنتزع نفسى من مشاعر حزينة ، إلى ما يعين على الهدوء .

  6. #56
    * قارئة الفنجان *
    .........................

    سكتت والخوف بعينيها .. تتأمل فنجانى المقلـوب
    قالت يا ولدى لا تحزن .. الحب عليك هو المكتوب
    استمعت إلى الأغنية ـ للمرة الأولى ـ فى فندق زهرة النرجس بالرياض . كانت تلك أولى رحلاتى ـ بمفردى ـ خارج مصر . تعددت الرحلات ضمن وفود إلى أكثر من بلد عربي، نحاضر فى صلة الإعلام بالتنمية، ونشرف على متدربين يعدون الجريدة الأولى، والبث الإذاعي الأول، والإرسال التليفزيونى الأول ..
    ترددت طويلاً قبل أن أوافق على فكرة السفر. لم أكن أعرف موقع عمان على الخريطة ، ولا ظروفها السياسية ولا الاجتماعية. اقتصرت المعلومات التى زودنى بها صديقى عاطف الغمرى الذى زكانى لإصدار جريدة "الوطن" العمانية ، على ما يثير وجدانى ـ أو يستفزه ـ من الحياة التى تستعيد ـ على حد تعبيره ـ ليالى ألف ليلة ..
    ولأن أسرة تحرير الجريدة كانت تتألف من شخص واحد، هو مدير التحرير ، وهو طاقم المحررين ، وهو الساعي .. فقد سافرت إلى الرياض باعتبارى المحرر الرياضى للوطن، لتغطية المباراة النهائية فى كرة القدم على كأس الملك خالد ..
    نزلت فى فندق زهرة النرجس. عانيت الشعور بالوحدة يومين ، ثم فتشت عن أصدقائى القدامى الذين كانوا يقيمون فى الرياض آنذاك : محمد قطب ومحمود فرج وقطب . واكتسبت صداقات جديدة ، أذكر منها الفنان التشكيلى جمال قطب ، والسياسى السودانى أحمد محمد محجوب ، والدكتور أحمد حسين الصاوى ، والمعلق الرياضى الفلسطينى أكرم صالح ، وغيرهم ..
    أستمع إلى أغنية عبد الحليم حافظ . يعيدنى الأداء والكلمات واللحن إلى تلك الأيام التى كانت بداية ـ مجرد بداية ، فالمشوار طال ـ إلى محاولة الخروج من الانطواء على الذات ، والإقبال على حياة الجماعة.

  7. #57
    * يا زايد فى الحلاوة *
    ..............................

    كنت ـ قبل أن ألتقي به للمرة الأولى ـ قد استمعت إلى العديد من أغنياته فى إذاعة الإسكندرية. أضاف إلى مكانته عندي ذكر نجيب محفوظ فى روايته "ميرامار" لأغنيته الشهيرة "يا زايد فى الحلاوة عن أهل حينا .. ما تبطّل الشقاوة وتعال عندنا". اختصر مقدمات الصداقة ، وكلمني باعتباري صديقاً ..
    لم يضايقه اختلاف آرائنا. حدثته عن بحري ونجيب محفوظ وعبد الحليم حافظ ، وحدثني عن الغناء سيداً وحيداً فى حياته ..
    فوّت ملاحظتي عن بحري فهو يحبه مثلي، ونجيب محفوظ لأنه لا يعرفه. أما عبد الحليم حافظ فهو ـ فى تقديره ـ مجرد مغن أتاحت له الظروف ـ فضلاً عن الذكاء الاجتماعي الذي لم ينكره ـ أن يحتل مكانة هو أجدر بها منه ..
    قال لي عزت عوض الله: إن عبد الحليم مجرد بروباجندا ، ورسم على الناس. اليتم والملجأ والفقر وادعاء صداقة كبار الإعلاميين!. حتى البلوفر أو السويتر الذي يلقيه عبد الحليم على كتفه، يحرص على أن يكون ذلك بطريقة لافتة ..
    كان فناناً ـ بالفعل ـ فى طيبته وتلقائية تصرفاته ، وفى حرصه على صباغة شعره ، وطريقة تصفيف الشعر ، ونوعية ثيابه ، ودندناته ـ ربما بلا مناسبة ـ بأغنياته ، وأغنيات المطربين القدامى ..
    تعددت لقاءاتنا. أحرص، فلا أتكلم إلا فيما يشغله. وكانت المكانة التي حصل عليها عبد الحليم بدلاً منه هي شاغله الذي لا يمل التحدث فيه. وتطلع إلى مشروعات فنية لا يهجر من أجلها إلى الإسكندرية. فإذا اضطر لأن يبتعد عنها ـ كم يحب أهل الإسكندرية مدينتهم ! ـ فإنه يسافر ويعود، دون أن يقضى فى القاهرة ليلة واحدة ..
    وتباعدت لقاءاتنا ، وإن حرصت على البحث عنه فى كل عودة إلى الإسكندرية. يكرر ما ألفت سماعه عن الظروف المعاكسة، والخطط التي أُحسن تدبيرها، والفرص التي سرقها منه الآخرون. ويتحدث عن أغنيات جديدة ومسرحيات استعراضية وأفلام، وعن فرق تجوب مدن الوطن العربي، تلقى عصا "عوض الله" فتبتلع أفاعيل الحواة، ورفت على شفتيه بسمة طفل لما جاء فى قول صديق: بصفتك الآن مطرب الإسكندرية الأول. فهو قد ظفر بالأولوية ، ولو فى داخل حدود مدينتنا ، وإن غلبني الإشفاق للرائحة التى كانت تفوح من فمه. وأدركت أن الشعور بالإحباط يدفعه لتعاطي الخمر!
    استدعت وفاة عبد الحليم حافظ فى 1977 أحاديث عزت عوض الله: مقارناته وطموحه وإحباطه ..
    سألت محدثي ـ فى مكالمة تليفونية بين مسقط والقاهرة ـ :
    ـ أرجو أن تسأل عن صديقي المطرب عزت عوض الله ..
    أجاب محدثي فى نبرة تتخللها الدهشة :
    ـ ألا تعرف؟.. لقد مات منذ سنوات !

  8. #58
    * صياد *
    ............

    مضيت إلى داخل بحرى : الأنفوشى والسيالة ورأس التين وغيرها من شياخات الصيادين وغازلى الشباك والعاملين فى القزق [ ورش المراكب ] وفى الميناء ، والبحارة . اعتدت المشوار من بيتنا فى شارع سكانه من الموظفين والمهنيين [ مهندسين وأطباء ومحاسبين إلخ ] إلى بيئة مغايرة ، مذاق مختلف . أحبه ، وأحاول التعرف إلى تفصيلات حياته اليومية . القيم والمثل والمعتقدات والعادات والتقاليد ..
    هذه المرة ، كنت أسعى إلى مقابلة " السدا " ، مطرب المنطقة المحددة بين ميدان أبو العباس إلى سراى رأس التين . يتغنى بالصيادين وركوب البحر والنوة ورزق يوم بيوم . كنت قد بدأت فى جمع المواد لمشروعى القديم " رباعية بحرى " . التعرف إلى ملامح البيئة ، والتقاط الجزئيات التى ربما تفيد فى رسم لوحات الرباعية . همى أن أحصل من " السدا " على نصوص أغنياته ، وبواعث غنائها . كل أغنية ـ أتصور ـ لها مناسبة ، بحيث تفيد فى مناسبة الحدث الروائى ..
    عرفت من أصدقائى أنه يجلس على قهوة الزردونى فى السيالة . إذا غاب عنها ، فإنه يجلس على باب دكان الحاج محمد سليط الحلاق ، أو قبالة أحد دكاكين السيالة ..
    أجهزة الريكورد كاسيت تعلو منها أغنية " صياد " لمحمد رشدى . أدركت معنى انتشارها حتى على عربات اليد التى تحمل مسجلات ..
    بدا فى حوالى الخامسة والأربعين . يرتدى جلباباً أبيض مكوياً ، ونظيفاً . ويدس قدميه فى شبشب جلدى . أميل إلى البدانة ، وشعره مهوش فوق رأسه ، وعيناه دائمتا الارتجاف ، كأنهما تعانيان ألماً ، بينما أصابعه تداعب طرف شاربه الذى غطى شفته العليا ..
    قال لى السدا :
    ـ إنهم يحبون الأغنيات التى تتحدث عنهم ، أو تخاطبهم ..
    ورفع كتفيه :
    ـ لن يسمعنى أحد لو خلت أغنياتى من الصيد والصيادين ..
    وأردف فى تأكيد :
    ـ هذا صحيح .. لكل أغنية مناسبة .. وحياة الصيادين ليست فى البحر وحده .. إنها فى المناسبات الطيبة أيضاً .. الخطبة والزفاف والختان ..
    ودندن بالأغنية :
    قاعد على الرمل وحدى فى عز ضهرية
    الشمس فتحت دماغى .. يا نارى يا عنيه
    ومن هوا البحــر ما شعرتش بحنيـه
    تلسعنى نار الجوى .. تحرقنى .. أتلوى
    يا حلـو عطفك لروحى ضـل شمسية

  9. #59
    * البشر *
    ..............

    ودعت من أحبهم فى مطار السيب الدولي. أدرت راديو السيارة ، فعلا صوت نجاة الصغيرة : حبايبنا عاملين إيه .. فى الغربة واخباركم إيه ؟..
    وجدت فى الأغنية ـ التي بدت مصادفة تتسق مع اللحظة تماماً ـ تعبيراً عن شوق لابد أن يشعر به من ودعتهم الآن، بعد أن يعودوا إلى الوطن ..
    سبقتنى اللهفة ـ بعد أقل من شهرين ـ إلى مطار القاهرة ..
    لكن الغدر واجهني بما لم أكن أعرفه ولا أتصوره: كيف تتبدل المشاعر الإنسانية إلى هذا الحد؟ ماذا يبين من حقيقة النفس، وماذا يختفي؟ كيف تتحرك شفتا المرء بعبارات الود، بينما اليد تتخفى ـ بالخنجر ـ فى داخل الثوب ؟.
    المثل الشعبى يقول: "من أمّنك لم تخونه ، ولو كنت خاين". أنت لم تكتف بمنح الأمان، وإنما منحت حياتك كلها: الحاضر والمستقبل والأفكار والأحلام الصغيرة. كيف نصف بالتوحش حيوان الغابة، وبعض البشر ينطبق عليهم ما نصف به الحيوان الذي لا يقتل إلا إذا قرصه الجوع ؟!

  10. #60
    * فايزة أحمد *
    .....................

    لاحظ حسين مرسى ـ زميلى فى " الوطن " العمانية ـ أنى أتخلى عن الشرود ، وربما الحزن ، حين يترامى صوت فايزة أحمد من دكان محيى الدين ، بائع المأكولات الهندى المجاور فى سوق الخضر ..
    أحب صوت فايزة أحمد. أعتبره صوتاً متكاملاً. خارج المنافسة بلغة الاقتصاديين . أتابع أغنياتها منذ: ما تحبنيش بالشكل ده .. أنا قلبى إليك ميال .. يا امه القمر ع الباب .. تضاعف حبي فى أغنياتها الطويلة .. هذا هو الطرب كما ينشده وجداني، يحسن استقباله. الموجة الصحيحة. لا شأن لي بطبقات صوت ولا مقامات ولا حتى ما قد يشوب الأغنية من سخف كلمات، أو سذاجة لحن. أحب الصوت فى ذاته. يضعنى ـ بسماعه ـ فى قلب النشوة ..
    أدركت أن الملاحظة أصبحت حدساً. حسين مرسى يسألنى : مش عاوز تسمع فايزة ؟.. أو يلطف من حدة انشغالي: روق وانا اسمعك فايزة .. ويسألنى ذات يوم: تحب تسمع مين غير فايزة ؟
    تتكرر ملاحظة حسين مرسى لفعل الصوت الجميل فى وجداني. أشرد، أو ينتابنى القلق أو الحزن ، أو يهدنى التعب.
    الأحلام التى قدمت بها من القاهرة، واجهها انعدام الوسائل ، وموقع الدكان فى قلب السوق [ كان مبنى الجريدة مجرد دكان خشبى ، وسقفه من الصفيح ! ] ، واقتصار طاقم التحرير على شخص واحد ، والاكتفاء بنقل أخبار الإذاعة العمانية ، بينما تتكفل المطبعة ـ فى بيروت أو الكويت ـ بالقص واللصق فى بقية الصفحات. وسّط الشيخ سليمان الطائى صديقى عاطف الغمرى لأعدل عن قرار العودة. أردف وعداً بأن يجاوز الوضع ـ فى مداه القريب ـ صورته القائمة. انداحت فى أعماقى ـ وفى تصرفاتى الظاهرة أيضاً ـ مشاعر الاستياء والغضب، والإحساس بأنى بعت مستقبلى لقاء بضعة ريالات. وكنت أستعيد نصائح يحيى حقي وسهير القلماوي ونجيب محفوظ. تتفق فى المعنى ، وإن اختلفت فى الكلمات: ما معنى أن تحصل على جائزة الدولة فى الأدب، ثم تسافر إلى الخليج للارتزاق من الصحافة؟!
    يختار حسين مرسى شريط كاسيت بصوت فايزة ـ اقتنى حسين كل أغنياتها ! ـ يدسه فى الجهاز . يتجه ناحيتي بابتسامة ود ..
    يثق من رد الفعل.

صفحة 6 من 8 الأولىالأولى ... 45678 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. انقلاب ( نصوص قصيرة جدا )
    بواسطة حسين العفنان في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-04-2012, 10:46 AM
  2. قصيدة أغنيات مبعثرة شعر / خالد أحمد البيطار
    بواسطة الشاعر خالد البيطار في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-29-2011, 06:26 PM
  3. الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 49
    آخر مشاركة: 09-21-2011, 04:57 AM
  4. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-31-2009, 04:41 AM
  5. من أروع ما كتب محمد جبريل .. هذه القصة القصيرة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-24-2008, 12:12 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •