الإعلام يغتال أطفال فلسطين بقلم/ توفيق أبو شومر
أكرر الحديث مرة أخرى عن أطفال الفلسطينيين ممن غادرتهم طفولتهم منذ زمن، وأصبحوا يعيشون حياة الكهولة!فمن الصعب أن يعثر المتابعون والباحثون في الطفولة الفلسطينية، على عواطف الطفولة وخيالاتها، وعلى براءتها وألعابها، يبدو أن الأطفال الفلسطينيين تجاوزوا طفولتهم منذ زمن بعيد، بعد أن أرغمهم واقعهم المرير على خلع الطفولة وارتداء الرجولة بدلا منها، فنسبة تقمص أدوار الكبار، ونسبة الحذر والرعب والاستفزاز عندهم أكبر بكثير من النسب المعتادة عند معظم أطفال العالم.
فهم بعد الولادة مباشرة يُضطرون لإرضاء آبائهم، ولا يجدون مفرا سوى التخلص من طفولتهم وألعابهم ولباسهم وطريقة حديثهم لينالوا رضى وثناء الآباء!
إن متابعتي لتفاصيل حياة الأطفال تجعلني متأكدا بأن هذا الخلل يسبب أخطر الآثار على مستقبلنا، فهو أخطر من كل الكوارث التي يتعرض لها وطننا .
بالأمس القريب حضرت احتفالا (حاشدا) كما يسمى في وطني، وحظي أحد الأطفال ممن لم يصل عمره سن العاشرة بتصفيق حار وإعجابٍ من كثيرين من الحاضرين ممن لا ينتبهون لخطورة ظاهرة اغتيال طفولة الأطفال الفلسطينيين، بل إنهم يعتقدون بأن تحويل الأطفال إلى رجال ناضجين واجب وطني، ونضال مشروع ! وأن هذه الظاهرة هي ظاهرة صحية ! حتى أن بعض الصحفيين لحقوا الطفل (الكهل) بمجرد أن نزل من فوق منصة الخطابة، وكان يلبس بدلة الكبار، وربطة عنقهم ، ويسير كما يسيرون ، ويبتسم بلا قهقهة أو ضحك ليجروا معه لقاءات.
ويعود سبب الإعجاب بهذا ( الطفل الكهل) أنه ألقى قصيدة عصماء في حب الوطن بلسان الكبار، والقصيدة من نظم أحد الشعراء!
هكذا إذن أصبح مقياس أطفال فلسطين؛ أنهم لا يثيرون الإعجاب ما داموا أطفالا، إذن عليهم أن يبرؤوا من طفولتهم، أو يلقوها في سلة المهملات حتى يحظوا بالتقدير والاحترام والتشجيع والمكافأة!
أنا أعتبر هذه الأفعال انتهاكا لحق أطفالنا، تستحق العلاج، لأن نتائجها تدخل ضمن خطيئة التغرير بالأطفال، بل هي أشد قسوة وإيلاما لأنها أصبحت مستساغة ومقبولة من الرأي العام الفلسطيني ، ويسعى إليها الآباء في معظم الأسر! والغاية طبعا من اغتيال طفولة الأطفال هو جلب الرفعة والعزة والسمعة لهؤلاء الآباء.
وهكذا يذبح كثير من الآباء أبناءهم على موائدهم!
واللوم بالطبع لا يقع على الأسرة وحدها، بقدر ما يقع على وسائل الإعلام التي تساعد في انتشار هذا المرض، وكان مفروضا وفق الأصول والتقاليد الإعلامية أن تحترم هذه الوسائل مهنتها وألا تساعد على انتشار هذا الداء في مجتمعنا الفلسطيني!
فقد حولت وسائل الإعلام طفلا فلسطينيا عقب اجتياح الجيش الإسرائيلي لغزة إلى محلل سياسي، ومعلق على الأحداث التي جرت ومنحته مساحة وكافأته على أفعاله، وضحّت وسيلة إعلام بطفلة صغيرة أخرى أيضا بعد أن جعلتها بطلة فيلم تحكي قصة اغتيال الجنود لأفراد عائلتها.
وما أزال أذكر أنني كتبتُ قبل أربع سنوات مقالا في جريدة الأيام عن الطفلة الصغيرة ( هدى أبو غالية) التي كانت في العاشرة من عمرها حين فقدت أسرتها على شاطئ بحر غزة، ونجت هي من القنبلة الإسرائيلية، كيف تغذَّى إعلامُ (قناة الجزيرة) على لحمها أمام الجماهير، عندما استضافها ومعها طبيب نفسي يجري عليها تشريحا نفسيا إعلاميا أمام الجماهير في بث( حي ومباشر) وأقرّ الطبيب النفسي الذي كان يجلس إلى جوارها بأنها مصابة بمرض ما بعد الصدمة، وهي حالة خطيرة وأضاف الطبيب النفسي بدون أن يكون حذرا من وجودها إلى جواره، وهذه إحدى أهم أبجديات علاج المرضى قائلا:
إنها تبول في ثيابها أثناء النوم، ولا تتكلم كثيرا !!
ثم زفَّ خبرا أمامها يقول:
لقد وافقت الجامعة الأمريكية على تبنيها!!
وحولها بعدئذٍ وبسرعة مذيع قناة الجزيرة إلى محللة سياسية، فسألها سؤالا لا يستطيع فقهاء علم النفس وأمهر الأطباء ، وأشهر المحللين أن يجيبوا عنه قائلا:
ما شعوركِ عندما كنتِ تصرخين؟
ثم أعقبه بسؤال آخر وهو:
ما تعليقك على اعتذار وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس عن جريمة القتل؟
هزَّت الطفلة رأسها في لقطة تقطع نياط القلب!!
وما أزال أكرر دوما المقولة الرائعة لروسو واضع الشعار القائل:
دعوا الطفولة تنضج في الأطفال.
يجب أن يمر الإنسان في مراحل حياته الثلاثة ، ويعيش كل مرحلة منها، كما تقتضيها ليصبح النمو سليما خاليا من أمراض النفس ، كما أن الطفل الذي تُغتال طفولته سوف ينتقم من اغتيال الطفولة فيستردها حتى في سنوات عمره الأخيرة!