منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 5 من 8 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 73

العرض المتطور

  1. #1
    * عشق الروح *
    .....................

    واربت الباب ، فدخلت ..
    فى حوالى الخامسة والعشرين . ترتدى فستاناً ضيقاً ، عليه نقوش مستديرة ، ملونة . أهملت إغلاق الزرار العلوى ، فظهر من صدرها ما أغرانى بالتحديق . سمراء البشرة . عيناها سوداوان ، مكحولتان . عقصت شعرها فى جديلة ألقتها خلف ظهرها . لردفيها الممتلئين استدارة واضحة ، تختلف مع الضمور النسبى للخصر وأعلى الصدر ..
    تعرفت إليها فى أشهر إقامتى بالسيالة . التقينا ـ للمرة الأولى ـ عند عم عبد المعطى مكوجى الرجل على ناصية شارعى العوامرى والسيالة . اجتذبتنى الحياة فى الحى الشعبى بناسه وتجاره وحرفييه وسلوكيات حياته . أمضى الساعات متأملاً انحناءة عم عبد المعطى على مكواة الرجل ، فصاله مع الزبائن ، تبادله النكات مع أصحاب الدكاكين المجاورة ، تعليقاته المرحة على ذوات الملاءات اللف والبسمات المحرضة ..
    طلب شهادتى فى قيمة كى الملاءة . ذكرت ما اعتدت سماعه منه ، وهو يعد أنواع الملابس . اتجهت ناحيتى بسؤالها . أجبت بما أعرفه ..
    التقينا بعيداً عن بحرى .
    سرنا فى منطقة السلسلة ، والشوارع المتفرعة من محطة الرمل ، وحدائق الشلالات [ قبلتها تحت ظل شجرة ] والشوارع المحيطة باستاد البلدية ..
    كنت ـ آنذاك ـ مفتوناً بروايات محمد عبد الحليم عبد الله . وجدتها امتداداً جميلاً لروايات المنفلوطى التى قرأتها فى مكتبة أبى . كلمتها عن التسامى فى الحب ، وعن يتمى الباكر فأنا أريد فى حبيبتى عاطفة أمومة . وكلمتنى عن زوجها البحار . حياته كلها فى البحر . حتى فى أيام إجازاته ينشغل بأصدقائه وقعدات قهوة الزردونى ..
    أستعيد الآن ملامحها وهى تغالب التوتر :
    ـ أنا فى حاجة إلى رجل !
    شردت فى المعانى الجميلة ، وقلت :
    ـ أنا أيضاً فى حاجة إلى حبيبة لها قلب الأم ..
    ودندنت برومانسية ساذجة ـ كأنى أغنى لنفسى ـ :
    وعشق الروح مالوش آخر لكن ده عشق الجسد فانى
    كان ذلك آخر لقاءاتى بالمرأة . لم تعد تتردد على دكان عم عبد المعطى ، ولا رأيتها فى شوارع بحرى ..
    غابت عن حياتى تماماً .

  2. #2
    * يمامة بيضة *
    .....................

    يتناهى الصوت الأنثوى الرائق بكلمات الأغنية التى لم أكن استمعت إليها من قبل :
    يمامة بيضة ومنين أجيبها طارت يا عينى عند صاحبها
    الباب مغلق . أكتفى بتصور الفتاة ـ أو المرأة ـ التى تنشر الغسيل فى السطح ، وتغنى ..
    حين تسلمت مفتاح الغرفة ، أوصانى الريس بركات شيخ الصيادين ، وصاحب البيت ، أن الزم الحجرة ، فلا أغادرها إلا لضرورة . تحددت الضرورة فى عودتى إلى الغرفة ، وخروجى منها ، واستعمال دورة المياه الملاصقة لها ..
    دفعنى الفضول للتظاهر بأنى أتجه إلى دورة المياه . طالعتنى بقامتها القصيرة ، وعينيها اللامعتين الواسعتين ، يعلوهما حاجبان أسودان ، طويلان ، والأنف الأقنى ، الصغير ، والجلابية القصيرة ، المشمرة عن ساعديها .
    اتجهت عيناى ـ بادعاء الخجل ـ إلى الناحية المقابلة ـ وإن تأكدت ـ من النظرة السريعة ـ أن الفتاة ـ التى لا تتجاوز الثامنة عشرة ـ فائقة الجمال ..
    تكرر خروجى ، ودخولى ، من باب الحجرة . أضفت إلى جرأتى صوت هامس :
    ـ مساء الخير ..
    شجعنى ردها ، فمالت عيناى عن اتجاهها الجانبى ، ونظرت إليها ..
    ساعدتها ـ فى الأيام التالية ـ على رفع " القروانة " بالغسيل الذى جف فوق المنشر . ثم سألتنى فيما لا أذكره ..
    انفرج باب الصداقة الموارب . تحدثنا فى أحوال السيالة والصيادين وعمال البحر ومعلمى حلقة السمك . امتدت أحاديثنا ، فلامست الحب . وبدت لى جريئة ..
    ذات أصيل . غادرت الحجرة على تناهى الصوت . كانت الفتاة مشغولة فى لم الثياب . وكان قرص الشمس قد سقط فى أفق الأمواج بالأنفوشى ، واختفى تماماً . لم يعد إلا تداخلات الألوان وهى تذوب فى رمادية شاحبة ..
    لا أدرى ما الذى حرضنى على تعرية أسفل جسدى ، والرنو إليها بنظرة محرضة ..
    داريت نفسى ـ فى اللحظة التالية ـ وأنا أعانى الذهول للبكاء الذى انخرطت فيه الفتاة ، وجريها نحو باب السطح ، فلا تصعد إليه ثانية !

  3. #3
    * أهواك *
    .............

    بدت مختلفة عن كل الفتيات اللائى تصورت ـ وربما تصورن ـ أن العلاقة الخاصة فى أفق البحر . لم تكن جميلة ، ولعلها كانت أقرب إلى الدمامة ، فعيناها مشروطتان ، وشعرها مجعد ، وثمة ما يشبه الشارب الخفيف فوق شفتيها ..
    شدنى انسحابها ـ بالخجل ـ من النافذة المطلة على عم عبد المعطى مكوجى الرجل فى ناصية شارعى السيالة والعوامرى ..
    كنت ـ لبواعث أسرية حدثتك عنها من قبل ـ قد استأجرت غرفة فوق سطح بيت بين البيوت القديمة المتلاصقة ، داخل الحوارى الملتوية والمتعرجة والمتقاطعة . أمضى الوقت فى المذاكرة ، وأطرد إحساسى بالملل ، أو أنشد الصداقة فى بيئة لم يسبق لى الحياة اليومية فيها . تعرفت إلى دقائق المهن المتصلة بركوب البحر : الصيد وصناعة السفن ، وغزل الشباك ، وبيع السمك ، والعمل فى الحلقة ، وفى الدائرة الجمركية . أفدت من ذلك كله فى أعمالى التى تناولت الصلة بين اليابسة والبحر
    لاحظت نظرتها المتسللة من خصاص النافذة . شدنى انسحابها بالخجل ، فنقلت ملاحظتى إلى عم عبد المعطى ..
    قال فى هدوء وجدية :
    ـ عفاف .. لا .. دى غير كل البنات !
    حرصت أن ألتقط طرف خيط الكلام عن عفاف بين خيوط أحاديثنا المتشابكة . نشرق ونغرب فى مناقشات بلا ضفاف ولا آفاق . أعاود إلقاء الطراحة ، ربما تصيد ولو سمكة وحيدة تتصل بسيرتها . نفض عم عبد المعطى اليد الخشبية للمكواة بقدمه الحافية ، واعتدل فى وقفته ، وأسند ظهره إلى ساعده ، وتنهد :
    ـ البنت دخلت مخك .. هل تريد التقدم لخطبتها ؟
    أضاف دون أن يعبأ بالدهشة التى ملأت وجهى :
    ـ إنها مثل ابنتى .. أستطيع أن أقنعها بلقائك ليتعرف كل منكما إلى الآخر ..
    سبقتها حين اقتربت من أول شارع السيالة . مضيت ـ بحيث ترانى ـ فى شارع الموازينى ، إلى رأس التين ، فشارع الميدان . التفتّ نحوها ـ للمرة الأولى ـ مسلّماً فى ميدان المنشية . غلبنا الارتباك ، فلم نجد ما يتيح لنا الكلام ، والسير المتمهل ..
    لم أكن أعرف كيف يتكلم الحبيبان ، من يسأل ، ومن يجيب ، مدى الأفق فى حديثهما ، بل إنى لم أكن أعرف الفوارق البيولوجية بين المرأة والرجل . طاقتى الجنسية أنفقها فى ممارسة العادة السرية ، ترافقها صور أتمثلها ، وأتخيلها ، وأستدعيها من الذاكرة ..
    ترامى من المقهى المطل على الميدان صوت عبد الحليم حافظ :
    أهواك واتمنى لو أنساك ..
    قلت :
    ـ أغنية جميلة ..
    قالت :
    ـ فعلاً ..
    ـ تحبين عبد الحليم حافظ
    هزت رأسها مؤمّنة ..
    وأنا أشير إلى الكراسى المتناثرة فى حديقة المنشية :
    ـ هل نجلس ؟
    ـ لا .. أريد أن أعود إلى البيت ..
    ـ لكننا لم نتكلم ..
    فى حسم :
    ـ بل تكلمنا ..
    طالعنى عم عبد المعطى فى عودتى إلى السيالة بوجه يعلوه الاستياء :
    ـ ضيّعت فرصة عمرك .. البنت للزواج لا للفسحة !
    رنوت إلى النافذة المطلة على الدكان . فلما ظلت النافذة مغلقة ، أهملت الأمر ، وتناسيته ..

  4. #4
    * ألوان *
    .............

    أبيض غار النهار منه ..
    أتفاءل بالعبارة ، يعلو بها صوت محمد عبد الوهاب فى جهاز الكاسيت بسيارة الدكتور جمال الدين ..
    كنت أجلس إلى جواره ، من خلفى اثنان من مؤيدى الدكتور فى حملته الانتخابية . جو الصباح الباكر يحيط بنا . معظم النوافذ مغلقة ، والمارة قليلون ، وعربات الفول على نواصى الشوارع يلتف حولها عمال وصيادون وتلاميذ ..
    لم تكن لى بالدكتور جمال الدين ـ نسيت بقية الاسم ـ سابق معرفة . هو أستاذ بكلية العلوم . رشح نفسه لانتخابات مجلس الأمة ، ودعا مثقفى بحرى إلى تأييده . ولأنى وجدت فى نفسى مثقفاً يسعى إلى التحقق ، فقد اعتبرت مساندة المرشح المثقف وسيلة لإثبات الذات ، وأيضاً لتأكيد موقفى ، وأن لى توجهاً سياسياً ..
    أمضيت غالبية أيام الحملة الانتخابية فى مقر الدكتور جمال الدين . شقة بالطابق الأول من بيت فى شارع حسن باشا عاصم ، خصصها لحفظ كتبه وأدواته العلمية . جعل من إحدى الغرف مخزناً للمكتب والكتب والأدوات ، بينما فرشت الصالة والغرفتان الباقيتان بالكراسى ، ليجلس عليها مؤيدو الدكتور ..
    أقنعنا الأستاذ الجامعى ـ وكان يعانى الخجل والارتباك ـ بأن الانتخابات لها وسائلها التى يجب أن نعنى بها . خرجنا فى ثلاث مظاهرات على مدى عشرة أيام . أعداد قليلة من المتعلمين ، زادت بالأولاد والمتسكعين فى شوارع السيالة وحواريها . رددنا هتافاً واحداً : إن جيت للحق .. جمال أحق . لا أذكر أننا بدّلنا الهتاف . اكتفينا بترديده كشريط " الأنسر " الذى يخاطب الطالبين بكلمات محددة ..
    فى صبيحة يوم الانتخاب صحبنا الدكتور جمال الدين فى سيارته إلى مراكز الانتخاب . أدار جهاز الكاسيت ، فعلا صوت عبد الوهاب بأغنيته الجميلة ..
    مع أنى لا أومن بالسحر ، ولا التنجيم ، ولا الأعمال التى تقرّب وتبعد ، فإنى ورثت عن أبى ميلاً إلى التفاؤل والتشاؤم . إذا ظل الضوء الأخضر قبل أن أصل بسيارتى إلى الإشارة ، فهو يوم طيب . إذا علا صراخ أو صوات موضع قريب ، فذلك أدعى للتشاؤم .. وهكذا ..
    كان عبد الوهاب يقلّب الألوان فى أغنيته . داخلنى يقين بأن اللون الذى ستقف به السيارة أمام أول مركز انتخابى هو الذى سيحدد حظ الدكتور من أصوات الناخبين . ارتحت للون الأبيض . ضايقنى اللون الأصفر . عاودتنى الراحة فى الأحمر .. ثم اختلط قلقى وتوقعى بتعليمات الدكتور لنا فيما يجب أن نفعله ..
    فى اليوم التالى ، أعلنت نتيجة الانتخاب ..
    تصورت أن اللون الذى أغلق عليه الدكتور جهاز الكاسيت يرفض التفاؤل ، ويرفض التشاؤم كذلك . خسر الرجل ، وفاز من يمتلكون النفوذ والأموال ، وإن استطاع ـ وهو ما اعتبره أبناء بحرى مفاجأةً ـ أن يستعيد تأمينه الانتخابى !

  5. #5
    * الحب *
    .............

    تبينت عمق السكون من حولى ، حين صدرت خشخشة وأنا أقلب الورقة التى سودت سطورها لأكتب ورقة أخرى .
    كان قد مضى على قدومى إلى القاهرة ثلاثة أيام .
    صدمت خالتى المقيمة فى مصر الجديدة تصورى بأن أقيم ضيفاً عليها حوالى الشهر . اعتذرت بالحرج من زوجها ، فبدأت البحث عن شقة بالقرب من دور الصحف ، فى وسط البلد . رحب خالى باستضافتى حتى أعثر على الشقة ـ أو الحجرة ـ المناسبة . لم أوفق فى مقابلة سعد الدين وهبة فى مكتبه بمجلة البوليس . تذكرت اسم أحمد عباس صالح . كنت أحب كتاباته النقدية . منحنى إصغاءه ، وقرأ لى . توسط ببطاقة زرت بها عدداً من أصدقائه . أزمعت ألا أضيع وقتاً ، فانشغلت بالكتابة . ترك لى خالى شقته فى حدائق القبة . طابق أول من بناية عالية . تركت الباب مفتوحاً استجلاباً لنسمة هواء تلطف حرارة أغسطس . ترامى من نافذة تطل على المنور الخلفى صوت نجاة : العواذل ياما قالوا .. ليه تحبوا ليه ؟.. رد قلبى وقال وماله .. لما احبه إيه ؟..
    كنت أحب الأغنية . أجد فى كلماتها تحدياً للمثبطات ، وإصراراً على مشاعر الحب . استدعت ذاكرتى ـ بلا رابط ـ مكتبة أبى ، والكلمات المشجعة لصديقى فتحى الإبيارى ، وقراءة الفاتحة فى القطار ، وأبواب دور الصحف الموصدة ، وعناد أمواج البحر فى تواليها على الشاطئ ..
    جففت عرق وجهى بجاكتة البيجامة التى كنت ألقيتها على الكرسى المجاور ..
    واستأنفت الكتابة .

  6. #6
    * سباق القوارب *
    .........................

    أشار أبى إلى الطاولة التى كان يجلس إليها عم حسونة غباشى ، وقال :
    ـ أين الرجل ؟
    قال الجرسون عطية :
    ـ هزيمة قوارب السيالة أمام قوارب رأس التين ألزمته البقاء فى القزق ( ورش المراكب ) ليصنع قارباً يصعب تجاوزه !
    نشأت الصداقة بين أبى وعم حسونة فى توالى اللقاءات ـ صباح كل جمعة ـ أمام مقهى المهدى ، أسفل بيتنا . ينتظران خطبة الشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدى على تمراز ، تجتذبهما كلمات الرجل ضد الإنجليز والسراى وأحزاب الأقلية . لا تشغله تحذيرات وزارة الأوقاف ، ولا تهديدات السلطة القائمة . آلاف المصلين يملأون صحن الجامع وخارجه . جموع من البشر يفترشون ميدان " الخمس فوانيس " وأجزاء من شوارع رأس التين وسراى محسن باشا وإسماعيل صبرى وفرنسا .
    من يضمن رد الفعل لو أن الأوامر صدرت بنقله أو إسكاته ؟
    كان عم حسونة غباشى فى حوالى الخامسة والأربعين . أميل إلى البدانة . فى وجهه استدارة تهبه طفولة واضحة . مشط شعره الخفيف بامتداد الرأس ليدارى صلعته . تدلى طارفا شاربه على جانبى فمه . له طريقة مميزة فى نطق الكلمات . يغلب التلعثم على نطقه ، فيصعب عليه التعبير عن نفسه . تتداخل الكلمات فى غمغمات غير مترابطة ..
    كان معظم حديث عم حسونة عن سباق القوارب . يجيد الانتقال من أحاديث خطب الشيخ عبد الحفيظ والسياسة والانتخابات والحرب الكورية إلى سباق القوارب . يعد له أبناء رأس التين والسيالة فى امتداد العام ، يبذلون كل قدراتهم لصنع قوارب تخوض السباق فى أول أيام عيد الفطر . يفوز أحدها بالمركز الأول ، فيحمله الرجال على رءوسهم ، وتعلو أصواتهم بالغناء . إذا كان القارب للسيالة ، ردد الرجال :
    قفة ملح وقفة طين على دماغ راس التين
    وإذا كان القارب لرأس التين ، ردد الرجال :
    سيالة يا سيالة ياللى ما فيكى رجاله
    صحبنى أبى ـ ذات عصر ـ إلى ورش القزق ، ما بين سينما السواحل وقبالة شارع الحجارى . بلانسات ولوتسات ولانشات وقوارب وفلايك . جديدة ، وقديمة يجرى إصلاحها ، وهياكل خشبية ، وروافع ، ومناشير هائلة ، وأدوات نجارة ..
    لم يخف عم حسونة ـ فى ترحيبه بأبى ـ تأثير المفاجأة ..
    رنا أبى إليه بنظرة مودة :
    ـ هل خاصمتنا ؟
    ـ أنت أعز الأصدقاء ..
    ـ إذن خاصمت الشيخ عبد الحفيظ ؟
    ـ لو كنت صوفياً لاعتبرته قطبى ..
    ـ فلماذا انقطعت عن صلاة الجمعة فى على تمراز ؟
    ـ أصلّى فى جامع طاهر بك بالحجارى . قريب من القزق ..
    ثم بلهجة أسيفة:
    ـ لابد أنك عرفت ما حدث . لن أضيع دقيقة حتى أصنع القارب الذى تعجز عن ملاحقته كل قوارب رأس التين !

  7. #7
    * بسيمة *
    ................

    لمحت فى عينيها نظرة داعية . خلفت شارع نجيب الريحانى ورائى ، واتجهت ناحية الدرجات الحجرية . تفضى إلى شارع فيه بيوت ودكاكين ونوافذ مفتوحة ومغلقة ومناشر غسيل ..
    أهملت الانشغال بنهاية الشارع لما دخلت البنت ـ بجسدها الأنثوى ـ بيتاً من طابقين ..
    ـ تعال ..
    فاجأنى النداء من سيدة جاوزت الستين . فاض الكرسى الذى جلست عليه بردفيها الممتلئين . زججت حاجبيها ، وسدت فجوات التجاعيد فى وجهها بأصباغ وألوان . المقهى الذى تجلس أمامه أقرب إلى دكان من ضلفتين ، خلا إلا من نصبة انشغل وراءها رجل بدس كنكة القهوة فى الرمالة ، وثلاث طاولات ، وكراسى فارغة . وتناهى من الراديو ـ فوق الحامل الخشبى ـ صوت عبد الوهاب : مين عذّبك بتخلّصه منّى ..
    قاومت التردد لحظات ، قبل أن تومئ لى بنظرة محرضة :
    ـ ماذا تريد ؟
    انتزعت الكلمات بصعوبة :
    ـ هذه البنت ..
    ـ أى بنت ؟
    ـ التى طلعت فوق ..
    ـ بسيمة ..
    وربتت فخذى :
    ـ ذوقك حلو ..
    وأردفت :
    ـ معك جنيه ..
    دسست فى يدها خمسين قرشاً :
    ـ كل ما معى ..
    استعادت يدها فارغة :
    ـ ما نعطلكش !
    وأنا أهبط الدرجات ، تلفت ـ بعفوية ـ ورائى . وضعت السيدة فى صدرها ما أخذته من الشابين اللذين ربما قدما من الناحية المقابلة . وعلا صوتها وهى ترنو إلى شرفة الطابق الأول :
    ـ بسيمة !

  8. #8
    * ماجدة *
    ..............

    قالت جدتى فى هدوء ، أذهلنى :
    ـ ماجدة ماتت ..
    ـ ماجدة من ؟
    ـ بنت خالتك ..
    ـ متى ؟ وكيف ؟
    ـ اشتد عليها المرض فى الليل . أخذتها فى حضنى ، لكنها ماتت ..
    ـ لماذا لم تقولى لنا ؟
    ـ ولماذا أثير مشكلة بلا داع ؟.. يأتى الصباح فندفنها ..
    لاحظت جدتى أن الراديو ـ على غير العادة ـ ظل مغلقاً . أصرت على أن ندير الراديو ، فلا يفطن الجيران إلى ما حدث ، وتتناثر الأسئلة والشائعات ..
    علا الراديو بأغنية أم كلثوم :
    يا صباح الخير ياللى معانا .. الكروان غنى وصحانا
    قالت جدتى :
    ـ ليس لها شهادة ميلاد .. ولن يكون لها شهادة وفاة .. حاولوا إنهاء كل شئ ..
    ماجدة هى الشقيقة التوءم لطفلة أخرى هى نعمت . لم يفارقها المرض منذ ولادتها قبل أسبوع ، وتوقع الجميع موتها ، حتى أن خالتى أهملت استخراج شهادة ميلادها ..
    قامت جدتى بتغسيل ماجدة ، ولفها بطيات بشكير . احتضنت جثمان ماجدة بجوار سائق التاكسى [ وعدناه بأجر زيادة ! ] ، بينما جلست خالتى وقريبة لزوجها فى المقعد الخلفى ..
    اخترق التاكسى شوارع القاهرة المزدحمة ، وتوقف فى إشارات المرور . عانينا توقع الخطر حتى بلغ التاكسى ـ فى النهاية ـ مقابر الدراسة ..
    حدثتك عن العقدة التى أعانيها من رؤية الموتى . لم يكن ما فعلته كذلك ، وإنما احتضان جثمان طفلة ، سعياً لدفنه . اجتذبتنى اللحظات القاسية ، فلم أفطن إلى التفاصيل . لم أدرك ما حدث ، حتى انطلق التاكسى بنا فى طريق العودة ..
    هل جرى ما جرى بالفعل ؟

  9. #9
    * حسن ونعيمة *
    .........................

    لا أذكر أين ولا متى التقيت بعبد الرحمن الخميسى للمرة الأولى . ربما اتصلت به فى التليفون ، أسأله رأيه فى بعض القضايا الثقافية ، وربما التقيت به فى مبنى الجمهورية . ولعلى تعرفت إليه فى مسرح الكورسال ، حيث كان يجرى بروفات مسرحية " حسن ونعيمة " ..
    كنت قد قرأت للخميسى قصائد وقصصاً قصيرة فى المصرى والنداء ، وصياغته لألف ليلة وليلة . وشاهدت فيلم " حسن ونعيمة " الذى قامت ببطولته أشد فنانات جيلنا مصرية : سعاد حسنى ..
    ما أذكره أنه اجتذبنى إليه فى لقائنا الأول ، ذلك الذى لا أذكر أين ولا متى حدث . اختلاط الطيبة والبساطة والثقافة والشخصية الآسرة . ما يسمى بالكارزماتية . لا يشخط ، ولا ينطر .. لكن الجميع ينفذون أوامره ، فلا أسئلة ولا استفسارات ..
    تكررت الموضوعات التى أخذت فيها رأيه . وطلب كمال الجويلى ، الناقد التشكيلى ، ورئيسى فى العمل ـ ذات مساء ـ حواراً سريعاً مع شخصية معروفة ، فاتصلت بالخميسى . لم أجده . تجرأت ، فأجريت الحوار بينى وبين نفسى ، وقدمته إلى الجويلى ..
    قال الخميسى ، بعد أن قرأ الحوار :
    ـ متى أجريت معى هذا الحوار ؟
    ـ كتبت ما أعرف أنها آراؤك ..
    قال فى بساطته الطيبة :
    ـ لم أكن أتصور أنك تجيد التعبير عن رأيى إلى هذا الحد ..
    ترددت على مسرح الكورسال . تابعت بروفات " حسن ونعيمة " . الخلفية الموسيقية ترديد لمقدمة البرنامج الإذاعى ، وإن ميزت سعاد حسنى وسلوى محمود من بين زواره فى المسرح ..
    طالت البروفات ـ ليلة ـ فقرر الخميسى أن يستكمل قراءة النص فى شقة بأول شارع شبرا ..
    انتهت بروفة القراءة ، وبدأ الممثلون فى العودة إلى بيوتهم . دس الخميسى فى أيدى البعض ما لم أتبينه . فوجئت ـ وهو يصافحنى ـ أنه وضع فى يدى عملة ورقية . فردت يدى على الخمسين قرشاً ..
    ـ ما هذا ؟
    ـ مواصلاتك ..
    غلبنى التأثر فبكيت . طفرت الدموع من عينى ، فلم أستطع إسكاتها . سقطت الورقة وإن ظلت يدى مفرودة كجزء من تمثال ..
    بعد غيبة منى ، جاءنى صوته الضاحك ، العميق ، على التليفون :
    ـ مخاصمنى ؟!.. فمن سيكتب حواراً معى دون أن أعرف ؟!

  10. #10
    * أمل حياتى *
    ....................

    قال الطبيب : لا أمل ..
    داخلني عاملان : توقى لأن أصبح أباً، وإشفاقي الدائم من تحمل مسئولية الآخرين. ولأن ظروفي المادية لم تكن تتيح لى الأبوة التى أريدها، ولا لأبنائى المحتملين ما يجب أن أوفره لهم من رعاية، فقد أعددت نفسى لتقبل الحياة بلا أبناء، وتصورت أن هذا هو ما أعدت زوجتي نفسها لتقبّله ..
    فى زيارة إلى الطبيب للسؤال عن ظواهر مرضية شكت منها زوجتي، قال الطبيب فى بساطة : مبروك .. المدام حامل ..
    ارتبك المستقر، واختلطت التوقعات. وحين ولدت ابنتي، لم أكن أعددت نفسي لاختيار اسمها. أهملت الأمر حتى نبهتني الحكيمة فى مستشفى الدكتور فؤاد رخا ، المطلة على ميدان روكسي:
    ـ المفروض أن تبلغ المستشفى مكتب الصحة باسم المولودة ..
    بدا الاختيار صعباً فى ارتباكات اللحظة. تناهى ـ من النافذة ـ صوت أم كلثوم . أمل حياتي، أشهر الأغنيات فى ذلك العام ..
    قال الممرض :
    ـ أمل .. لماذا لا يكون هذا هو الاسم؟
    تبادلنا ـ زوجتي وأنا ـ النظرات ..
    وابتسمنا .
    ............
    (يتبع)

صفحة 5 من 8 الأولىالأولى ... 34567 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. انقلاب ( نصوص قصيرة جدا )
    بواسطة حسين العفنان في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 07-04-2012, 10:46 AM
  2. قصيدة أغنيات مبعثرة شعر / خالد أحمد البيطار
    بواسطة الشاعر خالد البيطار في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-29-2011, 06:26 PM
  3. الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 49
    آخر مشاركة: 09-21-2011, 04:57 AM
  4. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-31-2009, 04:41 AM
  5. من أروع ما كتب محمد جبريل .. هذه القصة القصيرة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-24-2008, 12:12 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •