بطاقة التموين والقهر الاجتماعي!!
بقلم: د. حلمي محمد القاعود
.................................
في خضمِّ التخبُّط الذي تعيشه السلطة ويتجلَّى في سلوكها على المستويين الداخلي والخارجي، يعيش المواطنون حالةً من القهر تصنعها وزارةُ التموين (يسمونها للمفارقة التضامن الاجتماعي!!)، فقد بدا لهذه الوزارة أن تطلب من المواطنين البائسين مراجعةَ بطاقات التموين الخاصة بكل منهم!! وما أدراك ما مراجعة بطاقات التموين!!
إنها "علقة ساخنة" يتلقَّاها المواطن المصري منذ استلامه استمارة المراجعة من البقَّال حتى وصوله إلى مكتب التموين التابع له، مرورًا بجهة العمل التي يعمل فيها، أو منطقة التأمين والمعاشات إذا كان من ذوي المعاشات، والبحث عن شهادات الأولاد الذين تخرَّجوا، وقسائم الزواج للذين تزوَّجوا، وبعدئذٍ تطمئن جهة التموين على دخل المواطن التعيس كي يحصل على شيء من الزيت وشيء من السكر أو تمنعهما عنه!!
كانت وزارة التموين قد منعت توزيع السلع الغذائية الأخرى (مثل الفول والعدس والسمن والدقيق) بحجة أن الناس لا تُقبل عليها، وتبقى في المخازن، ولم تقل لنا الوزارة من أي مصدر استَقَت هذه المعلومة، فقد يكون صحيحًا إلى حدٍّ ما في الريف، أو بعض المناطق الزراعية، ولكن مَن قال للوزارة وأكد لها أن أغلبية الشعب البائس لا تحتاج إلى مثل هذه السلع؟!
وزارة التموين لا تقيِّد المواليد الجُدُد منذ أعوام طويلة في بطاقة التموين، فضلاً عمَّن هم خارجها أصلاً، فذكاء الوزارة يعمل في اتجاه حرمان أكبر قدر ممكن من المواطنين من الاستفادة بدعم الدولة المحدود في السكر والزيت، فلا تضيف أفرادًا جددًا إلى قائمة المستفيدين، سواءٌ كانوا من المواليد الجُدُد أو الذين انتقلوا بحكم الزواج أو غيره إلى أُسَر أخرى أو مناطق أخرى، أو المسافرين إلى الخارج، وتطبِّق الحرمانَ على مَن يثبت أن لديه شخصًا تُوفِّيَ لم يقُم بخصمه من البطاقة!!
بالطبع فإن ذكاء وزارة التموين الساعي إلى توفير أموال الدولة لا يمكن أن يمتدَّ إلى ساداتنا وكبرائنا الذين يتقاضون مئاتِ الألوف من الجنيهات شهريًّا في وظائف لا تعود على الوطن بفائدة.. عشرات الألوف من المستشارين يتقاضون ملايين الجنيهات دون عمل أو إنتاج، وهناك موظَّفون لا ينتجون غير الموت والدمار والسرطان للشعب المصري، وأكتفي بالإشارة إلى المهندس "حنفي الأبهة" رئيس هيئة السكة الحديد، الذي يتقاضى 235 ألف جنيه شهريًّا، أي ما يقرب من ربع مليون جنيه كل شهر، ومع ذلك فإن قطاراتِه قد فلَتَ عيارُها، فراحت تقتل وتجرح وتصيب المئات دون رادع أو ضابط.
وبالطبع فإن وزارة التموين أو "القهر الاجتماعي" لا شأنَ لها باللصوص الكبار أو الحيتان الكبار بلغة الشعب المهذبة، الذين ينهبون أموال البنوك والمؤسسات، ويُقيمون الأفراحَ واللياليَ المِلاحَ وأعيادَ الميلاد في أفخم الفنادق أو على الساحل الشمالي بمسمَّياته الإفرنجية والبلدية، ولا تمثِّل لهم بطاقةُ التموين مشكلةً على الإطلاق، فهم- بملايينهم وملياراتهم الحرام- قادرون على استيرادِ الكافيار والجمبري والجاتوه، فضلاً عن أفخر الأطعمة من أشهر مطاعم باريس ولندن وروما لتصل ساخنةً بالطائرات النفاثة!!
بطاقة التموين يا سادة ليست أمرًا ثانويًّا أو هيِّنًا أو بسيطًا بالنسبة لجموع الشعب البائس التعيس.. إنها تكاد تكون العُكَّاز الذي يعتمد عليه الناس المطحونون في عزِّ موجة الغلاء الطاحن والجباية الشرسة والإتاوات الفاحشة والأجور الهزيلة.
ألا يعلم وزيرُ القهر الاجتماعي (التموين سابقًا) أن ملايينَ من الشعب المصري البائس صارت لا توقِد النارَ (أي لا تطبخ) إلا من الهلال إلى الهلال في أفضل الأحوال؟ هل يعلم وزير القهر الاجتماعي السعرَ الذي وصل إليه كيلو اللحم حاليًا؟ هل يعلم كم يبلغ ثمن الدجاجة المتوسطة؟!
مشكلة هذا الوزير وهذه الوزارة أو هذا النظام.. أنه نظامٌ كذابٌ منافقٌ ظالمٌ، لا يقول الحقيقة أبدًا، ولا يعترف بما يريد، ولا يقيم العدل إطلاقًا.. إنه يدور ويلف حول مقصده، دون أن يكون صريحًا، ولا بأسَ أن يشعل النار في كل شيء ولا يُبالي.. إنه يشعل النار في اللحاف من أجل قتل برغوث؛ ليظل السادة اللصوص والحيتان الكبار في أمان دون أن يعكِّر صفوَهم أحدٌ.
على سبيل المثال رفع النظام الظالم أسعار البنزين 90، 92 وادَّعى أن بنزين 80 سيبقى سعرُه على ما هو عليه، واكتشف الناس أن بنزين 80 لا وجودَ له، أي اختفى من محطات البنزين تمامًا، ثم إن سائقي الأجرة وأصحاب المحلات والحرفيين وبقية التجار رفعوا أسعارهم تلقائيًّا ليرتفع البنزين!!
وزارة القهر الاجتماعي تدَّعي أنها تريد توصيل الدعم لمن يستحقه، فاخترعت ما يُسمَّى بعقد المخابز، وهو ما أثار بلبلةً وأنذر بوجود أزمة قد تؤثر على وجود رغيف الخبز نفسه بسبب الإضراب المتوقَّع من جانب أصحاب المخابز أو إغلاق المخابز نفسها، ولم يسأل وزير القهر الاجتماعي نفسه عن تأثير هذه اللعبة السخيفة التي اخترعها أحد موظفيه على الناس والمجتمع والنظام.
مشكلة هذا النظام الظالم أنه لا يواجِه الناسَ بالحقائق، ولا يخبرهم بمقاصده الحقيقية، ولا يطرح المشكلات طرحًا صحيحًا، ويستسهل أن يقهر جموع الشعب على أن يسلك سلوكًا متحضرًا سليمًا.
قبل رفع الدعم وإشعال الأسعار ينبغي أن يراجع النظام نفسه، فينظر في دعمه للمواطن الإسباني- أقول الإسباني بالعربي الفصيح- والقاتل النازي اليهودي في فلسطين، بالغاز المخفَّض والبترول الرخيص، من خلال عقود تمتد لسنوات طويلة، فضلاً عن مساعدته للأخير على سفك دماء المسلمين بتحريك دباباته ومدرعاته وآلياته!!
ولينظر أولاً في الميزانيات المَهُولة التي يُخصِّصها لأجهزة القمع والقهر وأجهزة الدعاية الرخيصة ومؤسسات التهريج والتغريب.. فضلاً عن الإنفاق السفيه الذي يعرف وجوهه القاصي والداني!!
إن إذلال المصريين في طوابير مراجعة البطاقات التموينية- زحامًا وانتظارًا وعناءً وإهمالاً لأعمال الناس ومصالحهم- لهو خيرُ دليلٍ على تخلُّف السلطة الغشوم، وسوء تفكيرها، وبؤس منطقها، وإني أسألها: هل الموظف أو صاحب المعاش الذي يتقاضى في أحسن الأحوال ألفَ جنيه يمكن أن يواجِهَ متطلبات الحياة، بل فواتير الكهرباء والمياه والهاتف وحدها!! ولنفترض أنه يأخذ ألفين أو ثلاثة فهل يجوز- في ظل الخلل الاجتماعي القائم- أن نقهره بإلغاء بطاقته التموينية؟!
اتقوا الله يا ظلمة.. فإن حسابكم أمام الله عسير!!
</i>