ثانيا..سؤال الصيدلانية "ندى نحلاوي"..
اسمح لي بطرح أمور لم نجد لها كمجتمع شرقي حلا ولو وسطيا يبعدنا عن الجدل الدائر في مجتمعنا العائلي والثقافي عموما، يهمني وجهة نظرك حولها:
رمضان شرقي، قضايا الرجل والمرأة، الفجوة بين جيلين، الوعي الصحي، الموثوقية المعرفية، الدراسة لجامعية وما قبلها ومابعدها.
...........................
الإجابة..
لم أفهم ما المقصود بالتساؤل عن عبارة "رمضان شرقي". فيما أوضحت تصوري لـ "الفجوة بين جيلين"، عندما ناقشت في إجابتي على أسئلة السيدة "ملدا شويكاني"، مفهوم
"الجيل الجديد"، لذلك أتمنى عليك الاطلاع عليها هناك كي تعفيني من مغبة الإعادة والتكرار. كما أنني لم أفهم بالضبط ما الذي تريدين معرفته من رأيي حول ما سميتِه "الدراسة الجامعية وما قبلها وما بعدها". فلم تبق سوى ثلاث مفاهيم هي "قضايا الرجل والمرأة"،
و"الوعي الصحي"، و"الموثوقية المعرفية".
أرجو أن أتمكن من إبداء رأي، فيه ما يفيد.قضايا الرجل والمرأة..هي قضايا قديمة قدمَ وجود الإنسان. وما من مجتمع قد تحرر من وجود أزمة فيه ناتجة عن شكل تنظيم العلاقة بين الرجال والنساء، وما ينبثق عن هذا الشكل من قضايا ومعضلات وخلافات. لا يتحرر من ذلك حتى أكثر المجتمعات تقدما وتطورا في الغرب والشرق على حد سواء، وإن اختلفت طبيعة القضايا وجواهر المشكلات من مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى.ولأن هذا الموضوع شائك وطويل ومتشابك إلى درجة أن عشرات المنظمات الدولية ذات التأثير أسِّسَت للتعاطي معه، وآلاف المنظمات المحلية في كل دول العالم ظهرت إلى حيز الوجود لتشكيله وإنتاجه وفق هذه الثقافة أو تلك. فإنني لا أجد المكان هنا مناسبا للحديث فيه بذلك القدر من التفصيل، وسأكتفي بعرض مجموعة من العوامل التي أراها – من وجهة نظري المتواضعة – قادرة على ضبط تداعياته وإعادة وضعه على السكة المعرفية والتنظيمية الصحيحة..
1 – إن الأزمة في ضبط العلاقة بين قضايا الرجل وقضايا المرأة، ليست أزمة أصيلة في بنية الوجود، بل ناتجة عن تغيرات اعترت المجتمعات البشرية من زمن لآخر، وهي تغيرات ذات طبيعة اقتصادية في الأساس، نتجت عنها تغيرات ثقافية وبالتالي مجتمعية، غذَّتها الطبيعة البيولوجية لكل من الرجل والمرأة، وبالتالي فمن غير الصحيح ولا الموضوعي عزل الأزمة وقضاياها عن سياقاتها تلك، وحصرها في قضايا يحاول مروجوها تطبيعها وجوديا، بجعلها قضايا تستند فقط إلى مفارقات بيولوجية صرف.
2 – الفوارق البيولوجية بين الرجل والمرأة بموجب طبيعة الخلق والوظائف الحيوية الموكلة إلى كل منهما، لا ترتب حقوقا وواجابات إنسانية متباينة، ولا بأي شكل من الأشكال، ولكنها ترتب إجراءات تنظيمية لا تحظى بالقداسة ولا بالثبات، وتغييرها رهن بالتطور وبفعالية العلم والمعرفة وبتوافق البشر والمجتمعات البشرية من زمن لآخر، ومن مكان لآخر. وبالتالي فإن كل من يرتب تباينا في الحقوق والواجبات على كل من المرأة والرجل، استنادا إلى هذه الفروق البيولوجية والوظائف الحيوية، إنما هو يغير في صميم بنية الوجود الذي خلقه الله قائما على العدل والمساواة والحرية، بشكل تعسفي.
3 – مع الأسف، فإن المرأة في كل مجتمعات العالم من أكثرها تطورا إلى أدناها تطورا، مضطرة لأن تناضل على جبهتين في الوقت ذاته. الأولى.. جبهة النضال من أجل حريتها كمواطنة إلى جانب نضال الرجل على هذه الجبهة، من منطلق تساويهما في هذا الشأن على أساس إنساني بحت. الثانية.. جبهة النضال من أجل حريتها بوصفها امرأة في مواجهة الرجال ومؤسسات المجتمع التي تمنحهم حقوقا أكثر منها، وتنتزع حقوقها المشروعة بالاستناد إلى تبريرات بيولوجية، لا أثر لها تُرَتِّبُه في توزيع الحقوق كما قلنا سابقا. وهي فقط ترتكز في ذلك إلى الموروث الذكوري الصرف. وتختلف المجتمعات بشكل كبير في مستويات النضال التي تترتب على المرأة على الجبهتين. وعلى الرجل الذي أدرك الحقائق التي نرسخها بشأن المرأة هنا، أن يجعل نضاله من أجل حرية المرأة، وتعديل ميزان الحقوق بينها وبين الرجل، جزءا لا يتجزأ من نضاله لانتزاع المجتمع ككل حريته وحقوقه.
4 – بناء على كل ما سبق، فإنني لا أرى أن هناك حدودا لحقوق المرأة إذا ما قورنت بحقوق الرجل، ولا حدودا لواجباتها إذا ما قورنت بواجبات الرجل، على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية.. إلخ. وكل ما علينا هو أن نعترف بأن هناك إجراءات تنظيمية ضرورية تفرضها الطبيعة البيولوجية للمرأة، يحددها الخبراء وأهل الاختصاص، وتتدخل فيها وفي تحديدها النساء بشكل أساسي، كي لا يتم اعتداء المجتمع على الطبيعة، لأن التجاوب مع المتطلباتت الضرورية للطبيعة جزء من بنية العدالة في الوجود الذي خلقه الله.ولست هنا بصدد الإشارة إلى إمكان انتزاع حق من المرأة هنا أو حق هناك بسبب هذه الطبيعة. فحق المرأة المكافئ والمساوي لحق الرجل في كل شيء، لا يؤثر عليه أي بناء بيولوجي من حيث هو حق. فالمرأة مثلا يحق لها أن تكون قاضية ورئيسة محكمة ورئيسة دولة وقائدة جيش ورياضية محترفة ومقاتلة وشرطية تلاحق عصابات الإجرام، إذا توفرت فيها شروط ذلك ورغبت فيه. وعلى المجتمع أن ينظم وجودها في تلك المواقع بما لا يؤثر على دورها الطبيعي، على أن لا يكون هذا التنظيم قائما على تفضيل إلغاء الحق، فهذا لا يجوز؟فلو كانت هناك رئيسة دولة ولديها طفل رضيع يجب أن تعتني به وترعاه وترضعه، فيجب أن يتم التجاوب مع الوظيفتين، بحيث توضع التشريعات والتنظيمات والإجراءات التي تكفل قيامها بالمهمتين دون إخلال، لا أن تعطى الأولوية لمهنة دون أخرى ولوظيفة دون الثانية. والمجتمع في كل مكان وزمان هو الذي يُخَوَّل بابتكار آليات التنظيم المطلوبة، ولا وجود لثوابت ولا لمقدسات في هذا الشأن.الوعي الصحي..لست أدرى إن كان لدي شيء زائد أضيفه في هذا الشأن أكثر مما لدى امرأة متخصصة في المجال الصحي. فأنا كما فهمت أتحدث الآن مع صيدلانية، يعني مع امرأة لو احتجت إلى أي استشارة في المجال الصحي لكنت سألجأ إليها أو إلى طبيبة مثلا. ولكن على ما يبدو أن الصيدلانية "ندى" تعاني من عدم إدراك الناس لمسؤولياتهم الصحية تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، وبالتالي فكأنها تبحث عن تأصيل قيَمي وأخلاقي لفكرة
"المسؤولية الصحية" القائمة بالضرورة على مسألة "الوعي الصحي" بالأساس. وهذا توجه مشروع ويدل على نبل المقصد.في هذا السياق نفهم جميعا نحن المسلمون وأتباع الديانات السماوية، أن أجسامَنا وصحتَنا تقع في دائرة مسؤولياتِنا التي سنتحملها ونحاسب عليها أمام الله يوم القيامة. فعندما يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع.."، من بينها "جسده فيما أبلاه".. وعندما يقول أيضا: "إن لجسدك عليك حقا".. فضلا عن الكثير من النصوص في القرآن والسنة الصحيحة التي تؤكد على ضرورة الاعتناء بالنفس والجسد وعلى ضرورة التداوي.. إلى آخره. نفهم على الفور أن الله يحملنا المسؤولية الكاملة عما يحصل لأجسادنا ولصحتنا، إذا كان هذا الذي حصل كان بسببنا، اهتماما ورعاية أو تقصيرا وأهمالا.خلاصة القول أن وعيَنا بمسؤوليتنا تجاه صحتنا وحياتنا وأجسادِنا وسلامة كل ذلك، هو مطلب شرعي ديني، وبالتالي فهو مطلب أخلاقي قيَمي بالدرجة الأولى. ويجب بناء على ذلك أن تتجه مؤسسات التنشئة الاجتماعية حتما، نحو تكريس هذه المسؤولية في أذهان النشء، وعلى أوسع نطاق ممكن. فالوعي الصحي لا يقف عند حد الاعتناء المباشر بالجسد ونظافته وغذائه، بل هو يتسع نطاقه ليصل إلى اعتبار الحفاظ على البيئة من كل مظاهر التلوث، مظهرا من مظاهر الوعي الصحي، وإلى اعتبار الاهتمام بالنظام العام المخفف لتوتر للأعصاب مظهرا من مظاهر الوعي الصحي، وإلى اعتبار تجنب كل مظاهر الغضب والعصبية والقلق والانفعالات، مظاهر حتمية لتحقق الوعي الصحي، مادام كل ذلك يجنبنا الوقوع في أمراض تنتج كلها عن هذه الحالات النفسي.. إلخ. الوعي الصحي في نهاية المطاف ثقافة كبيرة، تعتبر جزءا لا يتجزأ من ثقافة النهضة، إذا كانت هناك لدينا ثقافة للنهضة أصلا.الموثوقية المعرفية..إن كنت فهمت جوهر الفكرة التي تضمنها السؤال بخصوص هذا المفهوم "الموثوقية المعرفية"، أستطيع القول أن المعرفة تحظى بالثقة الدافعة إلى اليقين بها، إذا التزمنا في تحصيلها والاستدلال عليها بمصادر المعرفة الصحيحة، ووفق منظومات التحصيل والاستدلال المعترَف بها عقلا، باعتبار العقل هو المصدر الأول والأعلى لكل المعارف. وفي هذا السياق أود أن أؤكد على أن هناك انفلاتا معرفيا كبيرا جعلنا نفقد بوصلة
"الموثوقية المعرفية" التي أشرتِ إليها. ولكي لا أطيل هنا بسبب أن الموضوع فلسفي دقيق، فلا الوقت والمساحة يسمحان بالتعمق في الموضوع، فإنني أحيلك إلى (كتابي تجديد فهم الإسلام، الفصل الأول وهو المعنون بـ "العقل"، وهو يعالج هذا المسألة بعمق وتفصيل، فقد تجدين هناك الإجابة الدقيقة على سؤالك سيدتي، ولعل السيدة ريمة الخاني حصلت على نسخة إلكترونية من الكتاب يمكنك طلبها منها).أرجو أن أكون وفيت بما أمِلْتِه مني في إجاباتي.
ولك بالغ الشكر
أسامة عكنان
..........................