* دمعة *
.............
أتابع أبى وهو يعيد وضع كنكة البن على السبرتاية . لم يعد لتناول القهوة موعد محدد ، إنما هى سلسلة متصلة الحلقات . يعيد كوب القهوة إلى الطاولة بجواره ليبدأ فى إعداد كوب جديد . يطيل وقفته فى الشرفة المطلة على المينا الشرقية . يمضى إلى المطبخ بخطوات متباطئة . يلقى نظرة دون أن يفعل شيئاً ، ويعود . يضيع وقتاً فى إدارة مؤشر الراديو ، ثم يغلقه . يتنقل بيننا حيث نجلس أو ننام ..
أعرف أنه يعانى ما صرنا إليه . كانت شقتنا أشبه بفندق للكثيرين من عائلتى أبى وأمى ، هم دائمو التردد عليها ، وقضاء الأيام الطويلة معنا ، كأن أفراد الأسرة الخمسة قد أصبحوا عشرة أو أكثر . وكانوا يملأون البيت بالونس والحياة ، ويدخلون مع أبى فى مناقشات ، ويظهرون له عظيم الاحترام ..
فقد أبى ـ بتأثير المرض ـ وظائفه فى الشركات الثلاث التى كان يعمل فيها . لم يعد يترك البيت إلا لزيارة الأطباء ، وتقلصت موارده المادية إلى حد الندرة . إنما هى رسائل قليلة يترجمها من لغة إلى أخرى ، أنقلها من الشركات إليه ، ومنه إلى الشركات ، وأعود بقيمة المكافأة فى أظرف مغلقة ..
تبدّل الحال تماماً . مشاركاتنا مع الأقارب فى صنع الحياة داخل الشقة شحبت تماماً ، كأن إيقاع الحياة لا يعلو إلا بوجودهم . انطوى كل منا على نفسه ، يذاكر ، أو يقرأ ، أو يتشاغل بما يجده بين يديه ، وخلا أبى ـ مضطراً ـ إلى نفسه لا يجد ما يفعله . يطالع قواميس اللغة للاستزادة ـ كما كان ينصحنا ـ من المفردات ، ويهب وقتاً أطول فى قراءة الصحيفة الوحيدة التى استبدلها بالصحف الخمس ، ما بين عربية وأجنبية . يعاوده الخوف من تصور الأذى على أيدى من لا نعرفهم ، أو لا نصدق أنهم يفعلون ذلك . يعروه الملل ، فيفعل ما يدفعنا إلى متابعته بقلق . إذا عرضنا عليه مشكلة تتصل بأحدنا ، أو بالبيت ، اكتفى بالقول : اتصرفوا . وكان يظهر التململ ، ويثور بلا مناسبة ، فنتركه فى حاله ـ والتعبير له ـ ونخلو إلى ما ننشغل به . حتى الأغنيات التى كان يتذوقها فى الأيام الخوالى ، كنا نستمع إليه وهو يدندن بها بصوت متعب ..
مسحت شقيقتى دمعة من عينها وهى تنصت ـ فى إشفاق ـ إلى استعادته أغنية صالح عبد الحى :
ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين
لماذا هذه الأغنية ؟