منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى ... 2345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 40 من 50

العرض المتطور

  1. #1
    نص حوار ناهد خيرى مع الروائي الكبير محمد جبريل
    ..................................................
    نص الحوار الذى أجرته ناهد خيرى مع محمد جبريل ، ونشر فى جريدة " الجماهير " المصرية ـ 9/4/2008
    ـ هل تذكر متى بدأت الكتابة ؟
    * من الصعب أن أحدد موعداً لبدء علاقتى بالكتابة . نشأت فى بيئة تحض على القراءة والتأمل والدهشة واكتساب الخبرات . مكتبة أبى الممتلئة بكتب الاقتصاد والسياسة ، باعتبار مهنته كمترجم للعديد من اللغات ، فى العديد من الشركات الأجنبية ، زمن الكوزموباليتينية السكندرية ، لم تكن تخلو من كتب فى الإنسانيات المختلفة . قرأت لطه حسين والعقاد والزيات وتيمور والمازنى والسباعى [ خلت المكتبة من عمل لنجيب محفوظ الذى اكتشفته ، وأحببته مطلقا، فى فترة تالية ] . أقبلت على القراءة إلى حد أزعج أبى ، وأظهر خشيته من أن تدركنى حرفة الأدب [ حدث ما كان يتوقعه ، ويخشاه ] ، ومثلت الروحانية التى يكاد يتفرد بها بحرى بين الأحياء والمدن المصرية دافعأ موازياً أو متشابكاً . لا أذكر متى تحول حب القراءة والمشاهدة والمعايشة إلى محاولات للكتابة . لكن ما أذكره أنى أقدمت فى حوالى الرابعة عشرة من عمرى على طباعة محاولة ، سميتها " الملاك " ، لجأت فيها إلى التوليف بأكثر من عنايتى بالتأليف ، فكلماتى أشبه بأدوات الوصل بين تعبيرات وتشبيهات وكنايات للأدباء الذين أحببت كتاباتهم . ولعل قصتى الصغيرة " يا سلام " كانت أولى المحاولات التى عبرت فيها بصوتى الخاص .
    ـ فى سطر واحد : ماذا تعنى الإسكندرية لمحمد جبريل ؟ وهل حقاً تستمد منها معظم موضوعاتك ؟
    * تريدين إجابة فى سطر واحد عن سؤال فى سطرين . والحق أن علاقتى بالإسكندرية تبدأ منذ الطفولة ، بحيث يصعب أن أتحدث عنها فى مساحة محدودة ، ومحددة . الإسكندرية ـ وحى بحرى بخاصة ـ هى الأرضية التى تتحرك فيها أحداث أعمالى وشخصياتها . لا تعمد ، وإنما أنا أعبر عما عشته وعرفته . ربما لو أنى لو لم أرحل عن الإسكندرية فى مرحلة الشباب الباكر ، ما كان المكان السكندرى يلح فى أن يكون قواماً لأعمالى الإبداعية . حتى الأعمال التى قد تنتسب شخصياتها أو فضاءاتها إلى مدن غير الإسكندرية ، تتخلق حياتها فى بيئة مدينتى . ذلك ما حدث فى روايتى " الصهبة " التى تتحدث عن طقس حقيقى فى قرية صعيدية ، لكن الموالد والأذكار والابتهالات والأدعية والطقوس الدينية التى تسم الحياة فى بحرى ، كانت هى الدافع لأن تنتقل إلى مساجده وميادينه وشوارعه وأزقته ومعتقداته وتقاليده
    ـ قلت فى أكثر من مناسبة أن الحنين هو الدافع الأهم لكى تكتب عن بحرى .. فماذا عن الروايات التى توظف التاريخ أو التراث ؟
    * الحنين إلى الزمان هو الباعث للروايات الكبرى فى القرن التاسع عشر . ذلك ما ما يطالعنا ـ على سبيل المثال ـ فى أعمال بلزاك وفلوبير وستندال وتولستوى وغيرهم ، وهو ما يجد امتداداته ـ فى الفترات التالية ـ فى أعمال وولتر سكوت وجورجى زيدان وسارتر وكامى والعريان وأبو حديد وعادل كامل ومحفوظ والسحار ومكاوى وباكثير وغيرهم .
    ولعل الحنين إلى الزمان ـ بالنسبة لى ـ يتوضح فى الأعمال التى تحاول توظيف التراث ، سواء كان الزمان فرعونياً كما فى " اعترافات سيد القرية " ، أو هيلينيا كما فى " غواية الإسكندر " ، أو إخشيدياً كما فى " من أوراق أبى الطيب المتنبى " ، أو فاطمياً كما فى " ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله " ، أو عثمانياً كما فى " الجودرية " ، أو ينتسب إلى ألف ليلة وليلة كما فى " زهرة الصباح " إلخ .
    حين أنشغل بقصة تحاول توظيف التاريخ ، أو تحاول توظيف التراث ، فإنى أحيا ذلك الزمن البعيد ، أقرأ فى المعتقدات والعادات والتقاليد وسلوكيات الحياة اليومية . أحيا فى كتاباتى ما عشته ، أو قرأته ، من قبل . يصبح الماضى ـ بفعل الكتابة ـ حاضراً ، أحياه بكل تفصيلاته وجزئياته ومنمنماته .
    ـ ماذا يعنى لك تدريس قصصك فى عدد من الجامعات ؟
    * المبدع يكتب ليقرأه الناس ، وليس ليودع كتاباته الأدراج ، فإذا مثل طلاب الجامعات ـ وهم قاعدة عريضة ـ بعض هؤلاء القراء ، فظنى أن ذلك ما يسعد المبدع .
    ـ لماذا كتاباتك متعلقة دائماً بالتراث والتاريخ والحوارى والأزقة والشوارع ؟
    * أتحفظ على مضمون السؤال ، أو فى الأقل صياغته ، لكن المبدع يستمد كتاباته من حياته ، من قراءاته وحصيلته المعرفية ومشاهداته وخبراته وخبرات الآخرين وتأملاته . وكما قلت فإنى نشأت فى بيئة لها خصوصيتها على مستوى الأسرة والحى ، وكان لابد لذلك أن ينعكس فى كتاباتى .
    ـ يتهمك الكثيرون بالإنتاج الضخم كما وكيفاً ؟
    * لعلى أستعيد المقولة الشهيرة عن التهمة التى يجد المرء أنه لا يستحقها . والواقع أن حياتى فى الإبداع . ذلك ما حرصت عليه منذ بداية لا أذكرها على وجه التحديد . أومن بالنظام وبالحرص على الوقت وبأن تسبق اهتماماتى بالقراءة اهتماماتى الإبداعية . أرفض تعبير قتل الوقت لأن الوقت هو الذى يقتلنا ، وحين بدأت مشروعى الإبداعى ، فقد حاولت أن أخلص له بالقراءة والتأمل والتحصيل المعرفى ومحاولة التوصل إلى وجهات نظر . أهملت الملذات الصغيرة ، كالجلوس على المقاهى ، والاطمئنان إلى البلادة ، والمنتديات التى تكتفى بالثرثرة . تكونت فى وجدانى وذهنى ملامح معظمها يعانى الشحوب ، لكنها اكتسبت الوضوح بالانتصار لقضية الفن . رأيى أن المبدع يحاسب على قيمة ما يكتبه ، وليس على كثرة ما يكتبه . هل تستحق أعماله القراءة ، أم أنها تنطوى على استسهال فى الكتابة ، دون معنى حقيقى ؟
    ـ ماذا يعنى ترجمة بعض أعمالك ؟
    * ما ترجم من أعمالى قليل جداً بالقياس إلى الوفرة التى تفضلت بالإشارة إليها ، نقلاً عن آخرين . وكنت سأشعر بالأسى لو أن هذا الأمر شغلنى أكثر مما ينبغى ، لكن نصيحة أستاذنا يحيى حقى فى بالى دوماً ، وهى أن يكون انشغالى بالإبداع قضيتى الأولى ، فلا أنشغل بقضايا قد تصرفنى عن الحياة التى اخترتها لنفسى .
    ـ هل كتبت قصة حياتك ،أو جزء منها ، فى أحد مؤلفاتك ؟
    * أنا موجود بصورة كاملة ، سيرة ذاتية يعنى ، فى كتابى " حكايات عن جزيرة فاروس " ، وفى روايتى " مد الموج " وفى " أغنيات " و " قراءة الصور " و " أيامى القاهرية " والأعمال الثلاثة الأخيرة لم يتح لها النشر . بالإضافة إلى أنى موجود ـ على نحو ما ـ فى العديد من رواياتى : الشاطئ الآخر ، قاضى البهار ينزل البحر ، النظر إلى أسفل ، زمان الوصل ، رباعية بحرى ، أهل البحر ، كوب شاى بالحليب ، ذاكرة الأشجار ، وغيرها .
    ـ ماذا تعنى القراءة بالنسبة للمبدع ؟
    * أصارحك بأنى أعتبر نفسى قارئاً قبل أن أكون كاتباً . كانت القراءة دليلى إلى الكتابة . والقراءة ـ حتى الآن ـ هى الحافز والمستفز لمناقشات وأفكار ورؤى ، تجد سبيلها إلى الورق فى أعمال روائية وقصصية . يذهلنى قول البعض إنه قد حصل من القراءة ما يكفيه ، وأنه يعتمد على موهبته ، تلك نظرة قاصرة ، وعكست تأثيرات سلبية على مواهب كبيرة ، توقعنا أن يعمق صوتها بإيجابية فى إبداعنا الحديث ، لكنها صدقت نفسها ، فلم تلحظ الصدأ الذى ران على موهبتها بالتوقف عن القراءة بكل ما تعنيه من تعرف وتشوف وتجارب وخبرات ، حتى تآكلت الموهبة تماماً .
    ـ ما رأيك فى جائزة البوكر التى حصل عليها بهاء طاهر ؟
    * ظنى أن فوز بهاء طاهر بهذه الجائزة قد أنقذها من التشكك الذى كان المثقفون العرب ينظرون من خلاله إلى الجوائز الأجنبية ، فضلاً عن عمليات الترجمة والنشر من العربية إلى اللغات المختلفة . وكما قال صديقى الناقد الكبير الدكتور محمد عبد المطلب فإن الكثير من الإبداعات فى الأعوام الأخيرة كتبها أصحابها بشروط ، هم يكتبون عن الجوانب السلبية ومظاهر التخلف فى البيئة تصوراً بأنهم يرضون العين الأجنبية فيسهل ترجمة كتاباتهم ، بصرف النظر عن مستواها . لقد أسرف فاقدو الموهبة على أنفسهم وعلينا بكتابات تطفح بزنا المحارم والشذوذ والعلاقات المشبوهة وتوهم الصراع الطائفى ، سعياً للترجمة وللحصول على الجوائز . والمؤسف أن بعض الناشرين الممولين من جهات أجنبية جعل تلك الطريق معبدة أمام هؤلاء الأدباء ، فقصروا أعمالهم على ما يريده الآخر ، وليس ما يريده الفن . إنهم يمسكون فى أيديهم " مازورة " ويقيسون ويفصلون ، دون اعتبار لما تؤهلهم له قدراتهم الفنية الضحلة ، وثقافتهم الساذجة ، بهاء طاهر جعل من بوكر ـ حين فاز بها ـ جائزة حقيقية ، تستحق الاحترام ، ولعل ذلك ما تحرص عليه فى دوراتها القادمة .
    ـ هل توجد علاقة بين الأدب والصحافة ؟
    * أثق أنى أدين للصحافة بأفضال كثيرة . إنها هى المهنة الأقرب إلى الأدب من حيث أنها عمل يتصل بالكتابة . وقد أتاحت لى الصحافة قراءات وأسفار وخبرات وعلاقات ممتازة وراتب يعين على الحياة فى مجتمع يحرص على مجانية الكلمة مقابلاً للأجور الفلكية التى يتقاضاها نجوم السينما والغناء والرياضة . أما القول بأن الصحافة تلتهم وقت الأديب ، فإنى أعتبره من قبيل حجة البليد . النظام والحرص على الوقت وإهمال التفاهات وسيلة المبدع الحقيقى للقراءة والتأمل والكتابة الإبداعية . أذكرك بأستاذنا نجيب محفوظ الذى ظل لأعوام طويلة فى وظيفة تمتص أكثر من نصف النهار ، لكن حبه للفن ، ومثابرته ، وحرصه على النظام ، ذلك كله أثمر الإسهامات الأجمل فى الرواية العربية . ولعلى أذكرك ـ فى المقابل ـ بالعديد من المنتسبين إلى الأدب ، يقضون أيامهم فى التنقل بين المقاهى والقعدات الخاصة وأحاديث النميمة ، يكتفون بالنيل من الآخرين دون أن ينظروا إلى داخل أنفسهم .
    ـ هل حرية الكاتب مطلقة أم ملتزمة ؟
    * فى رأيى أن الحرية هى الأصل . وإذا كان البعض يتعمد الإساءة إلى هذا المعنى الجميل بكتابات تستهدف الإساءة للمشاعر الدينية ، أو دغدغة المشاعر الحسية ، أو افتعال القضايا التى تهدد نسيجنا الاجتماعى ، فإن ذلك لا يعنى المصادرة ولا المحاسبة الرقابية من الدولة ، إنما هى مسئولية المثقفين أنفسهم . إن عليهم أن يقرءوا ويناقشوا ويحللوا ويبدوا الرأى فى مواطن الإيجاب والسلب ، الرأى العام المثقف يستطيع أن ينبه إلى الأعمال التى تستحق القراءة والتقدير ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . وإذا كان النقد يفضل الاسترخاء فى غيبوبة ، فلعل المجتمع الثقافى فى عمومه يضع أيدينا على ما ينبغى قراءته ، وما يجد موضعه الحقيقى سلال المهملات !
    ـ ما رأيك فى النقد والنقاد الآن ؟
    * أنا أكتب بعناد أمواج البحر ، وليس بعناد الثيران كما قال أستاذنا نجيب محفوظ . عناد الثور ينتهى بمصرعه ، تلك هى النهاية . أما عناد أمواج البحر فإنه يظل ، قد ينحسر بالجزر ، لكنه يعود بالمد . تهمنى آراء النقاد ، لكنها لا تشغلنى ، لا يشغلنى أن يكتبوا عن أعمالى ، أم ينصرفون إلى كتابات يرون أنها أكثر جدوى عن أصدقاء وأفراد شلة ومحاسيب . مع ذلك فإنى أعتز بكتابات كثيرة لنقاد مرموقين عرضوا لأعمالى بالدراسة والتحليل ، ونشروا كتاباتهم فى صحف ودوريات مهمة على امتداد الوطن العربى ، كما أعتز بأربعة عشر كتاباً تناولت أعمالى ، وأيضا ما يقرب من عشر رسائل جامعية ما بين الماجستير والدكتوراه . يزعجنى التعبير المشفق : أنت لم تأخذ حقك . إذا تمثل هذا الحق فى الأخبار الصغيرة ، الشخصية والتافهة ، بالصحف فأنا لا أريده ، إنما أريد النقد الذى يقوم ، ويقيم ، بموضوعية ، تحتاج إليها حياتنا الأدبية . وهذا ما حصلت عليه بامتياز .
    ـ لماذا اختفت الرواية الأدبية من السينما ؟
    ـ لقد توصل السادة كتاب السيناريو إلى السر الذى يحفظ عليهم الجهد ويحقق لهم أقصى الكسب . إن كل ما يصدر من أعمال روائية أمامهم ، يقلبونه ويختارون موقفاً من رواية ، ويستوحون شخصية من رواية أخرى ، المهم أن ينسب لهم القصة والسيناريو والحوار ، ولا أريد أن أستطرد فى هذا الأمر ، حزنى يتجدد كلما نبهنى صديق إلى موقف فى أحد أعمالى سطا عليه ـ باستسهال سخيف ـ كاتب للسيناريو ، وضفره فى مواقف أخرى للآخرين ، ومزجها بمواقف أملاها خياله السقيم ، وطالعنا برواية تنسب إليه من الألف إلى الياء ، ويجنى عائداً يصعب عليه أن يتنازل عن جزء منه ، حتى لو كان ذلك التصرف من قبيل إبراء الذمة .
    ـ ما آخر أعمالك الإبداعية ؟
    * فاجأنى الناشرون فى نهاية العام الماضى بنشر ما كان مودعاً فى أدراجهم طيلة العام ، فصدر لى " كوب شاى بالحليب " عن دار البستانى " ، و " أهل البحر " عن هيئة الكتاب " ، و " المدينة المحرمة " عن دار مجدلاوى بالأردن ، وبدأت الوفد فى نشر روايتى " ذاكرة الأشجار " منجمة . ولى على الكومبيوتر ثلاث روايات أخرى أرجو أن أقدمها للنشر فى وقت مناسب ، فلا تختلط أوقات الصدور .

  2. #2
    من المحرر:
    بقلم: محمد جبريـــــــــــــــــــــل
    .................................................. ..........
    تحدث الدكتور أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة عن ضرورة فك الاشتباك - والتعبير له - بين الثقافة الجماهيرية وهيئات وزارة الثقافة الأخري وأشار إلي التحفظات الواضحة علي تجاوز الهيئة دورها في الفترة الماضية.
    والحق ان ما سماه د.مجاهد اشتباكا بين هيئته وبقية هيئات الوزارة يشمل كل هذه الهيئات.
    معني انشاء هيئات وزارة ما - لتكن وزارة الثقافة - انها تقدم أنشطة مساعدة كل في مجال محدد بما يعين علي تنفيذ استراتيجية الوزارة في المجالات المختلفة.
    أكاديمية الفنون - علي سبيل المثال - تعني بتخريج كوادر من الفنانين والفنيين المتخصصين في مجال الفنون قد تحتاج - تطبيقيا - إلي تقديم عروض مسرحية أو اقامة معارض للفن التشكيلي أو اصدار بعض المطبوعات التي تفيد دارسيها لكن التحفظ يفرض نفسه عندما تقدم مهرجاناً سنويا للمسرح بينما هيئة المسرح التابعة للوزارة تكتفي بالفرجة!
    وهدف إنشاء هيئة قصور الثقافة "لماذا استبدل بالثقافة الجماهيرية. الاسم القديم. الجميل؟" هو توفير الثقافة الحقيقية للملايين من أبناء شعبنا وأن تصل أنشطتها إلي أصغر قرية مصرية وأبعدها. لا تغلب نشاطا علي أنشطة أخري وإنما السعي إلي التكامل هو ما تحرص عليه في أنشطتها المختلفة وبالتحديد فإن الثقافة الجماهيرية هي المعني الذي يجب أن تكون له - في أنشطة الهيئة - أولوية مطلقة.
    وقيمة المجلس الأعلي للثقافة الأهم في لجانه التي تضع الخطط الاستراتيجية والمرحلية بما يكفل تصحيح الصورة وتصويب الأداء في مجالات العمل الثقافي بحيث لا تتحول - كما نري الآن - إلي قاعة للمؤتمرات التي قد تكون مسئولية هيئات أخري.
    ألاحظ ان فاروق حسني يتعامل مع رؤساء الهيئات التابعة لوزارته بالقطعة بمعني انه يكتفي بتبعية كل هيئة للوزارة. دون اجتماعات دورية - يرأسها - للمتابعة والتنسيق والحرص علي عدم تداخل التخصصات فضلا عن تضاربها.
    من الخطأ أن تتحول كل هيئة تابعة لوزارة الثقافة إلي وزارة ثقافة مصغرة. تمارس الأنشطة نفسها التي قد تكون من صميم عمل هيئات أخري. المفروض ان تلك الأنشطة تصدر عن استراتيجية محددة هي الوعاء الذي يشمل انشطة الهيئة فلا تختلط الأمور إلي حد ان تقصر هيئة ما عن العمل الذي انشئت لتقديمه بينما تتجه إلي مجالات أخري. لن يخسر العمل الثقافي لو انها اهملتها لسبب بسيط هو ان الاتجاه إلي تلك المجالات مسئولية هيئات أخري تابعة للوزارة نفسها معرفة الدور الحقيقي. وعدم الخلط في الرؤية وضرورة التنسيق. أبعاد مهمة لضمان الحد الأدني الذي يكفل نجاح عمل ما.
    هذا هو ما نأمله من فاروق حسني. ومن الهيئات التي نثق انه لم ينشئها للوجاهة. ولا للمظهرية ولا لمجرد أن تتبع وزارته مجموعة من الهيئات.
    المراجعة واجبة ان حدث خلط أو انتفت الضرورة.
    .....................................
    *المساء ـ في 12/7/2008م.

  3. #3
    رسام الضوء

    شعر: د. حسن فتح الباب
    ـــــــــــ

    (إلى الصديق الكاتب الروائي الكبير محمد جبريل)

    هذا الملاح الجواب الآفاق
    لا يرسو فى مرفأ
    ليس يقر على جبل
    أو يسبح فى فلك واحد
    يمضى العمر جموحا
    كجواد أسطورى
    أو طير مبهور بالضوء
    فوق ضفاف الكلمة
    الحرف لديه ينبوع لا ينضب
    نغم من يتوهج
    قلب يتهدج
    يبحث عن سر مكنون
    فى أعماق الكون.. النفس
    الزمن الدوار
    مسكونا بالحب الأول
    عشق الأم
    أول ما فتح العينين عليها
    أم الدنيا
    هى عالمه المفعم بالعشق وبالثورة
    بالبهجة والحزن
    بالحلم وبالمأساة
    يكونها وتكونه
    يتكتم حينا أوجاع القلب
    وحينا ينثرها
    فوق الأمكنة.. الأزمنة
    يوزعها بين الأوجه والأسماء
    أتراه لا يدرى
    منذ تلظى بلهيب الوجد
    أن الإمساك بغصن الوطن متاهة
    ضرب فى المجهول ؟
    أم يدرى أن الغصن شعاع
    مخبوء فى ظلمات الأرض..
    البحر.. الآفاق
    وعليه أن يطلعه
    لتكون الشمس.. تكون الشجرة
    (من أوراق المتنبى)
    و(رباعية بحرى)
    حدث فى (أيام الأنفوشى)
    حيث السمان يعشش سربا سربا
    كالغربان السوداء
    وملايين الأعين والأنفاس تراقبه
    يحتل الدور ويغشى الشرفات
    وعلى حين فجاءة
    ينبثق الوعى الغائب:
    أن الصمت عن الطير الواغل
    يحفر درب الموت
    ومقاومة الشبح الجاثم فوق الأنفاس
    خير طريق للإنسان الصاعد
    فى معراج الغد
    أن يهوذا الأفاق
    يتربص بالآتين
    من أطفال النيل
    من أبناء العرب الأحرار
    أن الصمت عن الوحش الشبح جنون
    ينسج جبريل (الطوفان)
    بأنامل فنان ورعه
    تلمس أعماق الجرح
    عبر حكايات الأجداد
    لتنير دروب العتمة
    و(نبوءة عراف مجهول)
    يرويها قصاص ملهم
    (محفوظ) الستينيات
    أو (ماركيز)
    فى مصر المحروسة
    قيثارة شعر من منثور الروح
    يعزفها فتنة
    ترياقا.. بوحا مشروعا
    يعلن عن حاجته
    أن يولد بين يديه
    وأمام العينين
    كى نتأمل.. بنصر ما يخفى
    مرحى يا رسام الضوء
    حرفك لون الفرحة
    طعم الأيام الجهمه
    والسنوات الخضر
    شرف الإنسان المسكون
    بالحب وبالثورة.

  4. #4
    ماذا تعني الموهبة؟
    بقلم: محـــــمد جبريل
    ...........................
    يغيظني إصرار البعض علي أن يكون تعامله مع الآخرين بالأرقام والمسطرة والبرجل والتصورات المسبقة التي يشغله ألا تخرج عن أطر حددها.
    جعلت المساء همها -منذ يومها الأول- أن ترعي المواهب الحقيقية. بصرف النظر عن الأيديولوجية. أو المجاملة أو الميل إلي التجريب من عدمه ما يستحق النشر فهو ينشر. وقدمت المساء إلي الحياة الثقافية عشرات الأسماء. هي الآن أهم رموزنا الإبداعية.
    ثمة من تصور أنه يستطيع أن يصنع مجداً شخصياً بتقديم من يعانون نقص -أو غياب - ملكة الإبداع. يجعل منهم مريدين يدينون بالولاء للقطب. هذا هو التصور لم يخطر في بال صاحبه أن التطبيق قد لا يأتي في مدي تصوره. وهذا ما حدث بالفعل: اختلط الحابل بالنابل. والحقيقي بالزائف. وشحب الصوت الجاد في زعيق الأصوات المفتعلة. ونشطت نظرية قتل الأب كأقوي ما تكون. ومن كان يعجب بتحطيم اللغة -هذا هو التعبير الذي بصقه الكاتب ببساطة في برنامج التليفزيون- وبالتركيز علي الشاذ الذي لا يعدو هوامش معيبة في حياتنا. راعه تخلق فرص النشر والترجمة من قبل هيئات يشغلها الإساءة لهويتنا وثقافتنا المعاصرة. فهي ترصد الجوائز لمن يكتب وفق شروطها. بداية من رفض اليقين الديني وانتهاء بزنا المحارم. مروراً بالاقتصار علي تدني وضع المرأة والحساسيات الطائفية والعلاقات الجنسية الصريحة والتفكك الأسري وحياة المهمشين وساكني العشوائيات والقوادين والمومسات وغيرها من الظواهر التي لا تخلو منها المجتمعات المتقدمة قد تشكل جزءاً من الصورة. لكنها ليست كل الصورة فضلاً عن أن الفنان الذي يمتلك موهبة حقيقية يرفض التقريرية والمباشرة.
    أذكر أن عدداً من أدباء الستينيات حاولوا محاكاة إبداعات الرائد محمد حافظ رجب -وهي محاولات جادة. وذات قيمة فنية عالية - فتصوروا أن الإبداع الذي يستحق القراءة. لابد أن يتسم بالغموض. وكما تري. فقد تلاشت كل تلك المحاولات المقلدة. وغاب أصحابها. ولم يعد إلا الفن الحقيقي.
    الفن إضمار. لكنه الإضمار الذي يوميء بالدلالات والمعاني. وهو ما لم يفطن إليه الباحثون عن الطريق السهلة. أو فاقدو الموهبة وهو كذلك ما لم يضعه في اعتباره ذلك الذي شغله البحث عن القطبية. فلم يعن إن كان المريدون علي فهم وأصالة فنية. أم أنهم مجرد استكمال لصورة متخيلة؟!
    لسنا -بالتأكيد- ضد حرية الفن. لكننا نرفض أن يتحول الفنان إلي "مقصدار" يكتب ما يمليه الزبون!
    هامش:
    يقول سارتر: ليس العمل الأدبي بجميل قط. ما لم يستعص علي نحو ما علي الفنان إذا أخذ العمل الأدبي صورته دون تعمد من مؤلفه. وإذا تخلصت الشخصيات من رقابة المؤلف. وتصرفت بحرية لم يتدبرها. ولا يتوقعها. وإذا جري القلم بكلمات هي بالنسبة للكاتب نفسه أقرب إلي المفاجأة. فإنه يكون -حينئذ- قد أنتج أفضل أعماله.
    ...........................................
    *المساء ـ في 19/7/2008م.

  5. #5
    من المحرر:
    عاشور عليش
    بقلم: محمد جبــريل
    ......................
    مع أن عاشور عليش في تعدد المواقع التي تولاها في الصحف المختلفة كان صحفياً ناجحاً. فإنه لم يكتف بالنجاح الشخصي. وإنما حرص أن يفيد بخبراته وتجاربه ورؤاه عشرات من صحفيي الأجيال التالية. صار لهم قدوة وأستاذاً. يوجه. وينصح. ويرفض أحياناً. ويري أن الصحفي الحقيقي هو من يأتي بالخبر. ويحسن اختيار العناوين. ويجيد كتابة التحقيق والمقال. ويلم بالعمل الصحفي في كل أبعاده.
    كان الصحفي في تقديره موهبة أولاً. ثم مجموعة معارف وخبرات بالمهنة التي ينتسب إليها. فضلاً عن الحب والإحساس بالمسئولية.
    أذكر مناقشاته معنا محيي السمري وأنا حول بعض القضايا التي تشغل الناس. يسأل. ويستوضح. ويحاول استجلاء ما يراه غامضاً.
    يقول لي السمري : الأستاذ عليش يحتشد لمقاله القادم!
    وكان ذلك دأب عاشور عليش في كل ما يكتب. فلابد أن يتعرف إلي رأي الشارع. ويستند إلي معلومات صحيحة. ويعبر في الوقت نفسه عن وجهة نظر تستحق الالتفات.
    وحين صدرت أولي مجموعاتي القصصية. كتب عنها عاشور عليش كلاماً لا تستحقه. لكنه عكس رغبته في تشجيع أحد تلامذته. وهو التصرف نفسه الذي كان يلتزم به حين يقرأ لواحد من هؤلاء التلاميذ ما يستحق التشجيع. لا يكتفي بالملاحظات السلبية الشفهية. لكنه يزكي ما قرأ بعد أن ينشر بكلمات متحمسة. تدفع كاتبها إلي مزيد من الإجادة.
    ومع أنه كان ينتسب إلي جيل الوسط بين قيادات "المساء" في أعوام الستينيات. فإنه كان يتميز بأبوته التي قاربت أبوة أستاذنا الرائد الكبير محمد نجيب الذي تدين له الصحافة المصرية. وليست "المساء" وحدها. بأفضال مهمة. وثمة العشرات من كبار الصحفيين الذين تعلموا علي يديه. أذكر منهم موسي صبري الذي روي أن أول أجر تقاضاه كان خمسة جنيهات. دفعها له محمد نجيب من جيبه!
    كانت مساعدة الأجيال الطالعة بالتقويم والنصح والتشجيع. سمة ملازمة لتصرفات عاشور عليش. يرافقها تفوق حقيقي. تمثل في الكتب التي أصدرها. والمقالات التي ناقش من خلالها هموم المجتمع. والتحقيقات والأخبار التي تولي صياغتها وتقديمها.
    آثر عاشور عليش أن يخلد إلي الراحة في أخريات أيامه. لكن تأثير معطياته يبين في التطور الذي أحدثه في الصحافة المصرية. وفي عشرات التلاميذ الذين يصعب إغفال إسهاماتهم فيما تحقق للصحافة والصحفيين.
    هامش :
    يقول أحمد عباس صالح : إذا كان المقصود بأدب الشباب هو الجدة والحداثة. فإن هناك الكثير من الأدباء الشباب الذين يكتبون أدباً رجعياً. ويفكرون بشكل متحجر. بينما أدباء شيوخ يعبرون عن أفكار حديثة. ويمتلئون بالحيوية.
    ..................................
    *المساء ـ في 26/7/2008م.

  6. #6
    "الجودرية" النص التاريخي ورهانات التحويل الروائي
    "ملاحظات عامة"

    بقلم: د.وفيق سليطين
    .....................

    تثير رواية "الجودرية لمحمد جبريل أسئلة الاشتباك الروائي بالتاريخ, وتفرض علينا إعادة تأمل العلاقة بين الجانبين من داخل الحدود الخاصة بهذا العمل, الذي يستوي بكيفيات محددة تنهض بها المعالجة الروائية للتاريخ, بحيث يمكن النفاذ من خلالها إلى استخلاص التصورات النظرية والتجريدات الفكرية القانونية المتصلة بهذا المسعى.‏
    أولى الملاحظات تطالعنا بها عبارة الغلاف المثبتة تحت العنوان الأساسي, وهي: "عن تاريخ الجبرتي بتصرف". مما يشير إلى ارتهان الرواية للمرجع, وخضوعها لمادته في إنشاء نفسها عليه. وتأتي كلمة "بتصرف" لتقيّد من حجم ذلك الارتهان, وتخرق منحى المطابقة, في إشارة إلى الجهد الذي ينحو بالعمل ليحقق صفته الروائية. لكنّ "التصرّف" المشار إليه يبقى ضمن الحدود العامة للوثيقة, مراعياً التسلسل الكرنولوجي, وناصّاً على الوقائع الأساسية والمفاصل التاريخية الكبرى لانبثاق الأحداث وتواليها, بما من شأنه أن يشدّ, على نحو لافت, إلى الزمن المرجعي. فالرواية تبدأ بنزول الفرنجة على الشواطىء الشمالية للبلاد في يوم الاثنين الثامن عشر من المحرّم سنة /1213/ من الهجرة النبوية الشريفة الموافق للثالث عشر من يوليو /1798/ من الميلاد, وهم من رجال الإنكليز الذين يترصدون الفرنسيين لقطع الطريق عليهم وإحباط مسعاهم. وانطلاقاً من هذا التحديد الزمني يتوالى السرد الإخباري في تقديم رحلة الجيش الفرنسي, التي بدأت من طولون, وفي طريقها إلى الإسكندرية تمّ الاستيلاء الفرنسي على جزيرة مالطة في الثاني عشر من يونيو /1798/, ثمّ ظهر الجيش الفرنسي أمام سواحل الإسكندرية في أول يوليو من العام نفسه.‏
    وثاني هذه الملاحظات يتصل بشكل الرواية ونهجها في تشييد مبناها, وهو ما يجري اعتماداً على تقسيمها إلى أبواب وفصول, إذ تتم معالجة المادة وفق هذا التقطيع, الذي يوزّع المتن على أحد عشر باباً, يشتمل كلّ منها على عدة فصول, يتفاوت عددها بين باب وآخر, مستجيباً لكتلة الوقائع والأحداث التي تتفاعل وتتنامى وتصل إلى ذروة ما, بحيث تغدو مؤطرة في باب واجد يشتمل على عدد من الفصول. ويبدو الباب, في تقنية التقسيم هذه, علامة على الفصل والوصل في حدوده الزمنية والحديثة التي يُسيِّج بها المادة, ويؤذن بتحولها النوعي في الباب التالي, الذي يُمكن أن ينعطف بها جيئة وذهاباً على النحو الذي يؤمّن قدراً من الاستقلال, في الوقت الذي يؤدي به وظائف التنامي والحبك والتصعيد.‏
    وفي ذلك ما يحيل على عمل المؤرخ في تعمله مع مادته تنظيماً وتقطعياً, وربطاً وتسلسلاً. وعلى هذا المستوى الهيكلي تتبدّى استجابة الرواية لتقنية المصادر القديمة في التأريخ, وللنهج الذي اختطّه المؤرخون القدماء في مدوّناتهم. وهذا الأثر الذي ينسرب إلى هنا, ويلقي بطابعه على جسم الرواية, لا يخلو من دلالة على ترشيح عناصر القوة المهيمنة في المعادلة التي نحن بصددها, وهي التي تأتي حصيلة للتفاعل, وخلاصة للتفاضل في النسب والكيفيات والمقادير من كلا الجانبين, على النحو الذي تترجّح معه الفاعلية النصيّة, التي تترجم حصيلة الاشتباك, وتكشف عن قوى الشدّ أو الاستجابة, وعن مدى المتابعة وإسلاس القياد, أو عن شدّة الأثر وقوة المخض وعمق التحويل.‏
    وحسب هذا التوجّه تكون الملاحظة الثالثة متولّدة عما سبقت الإشارة إليه, ومعها نلمح قدراً من التمايز بين شطري الرواية. ففي القسم الأول منها تحضر المادة التاريخية, وتطفو القرائن المرجعية في نظام تأسيسي يتكفّل بإظهار الوقائع والأجواء والتواريخ والشرائح الطبقية ومظاهر الفسيفساء الاجتماعية في بنيتها المتراتبة وانقساماتها العميقة الحادّة في تلك المرحلة الخاصة من التاريخ الذي تنصبُّ عليه الرواية, وتتخذ منه موضوعاً لها, وهو القسم الذي يهيّئ لما بعده, ويشكّل المهاد الضروري لانطلاقة الفعل الروائي وتضافر عناصره وتفعيل أثره.‏
    وعلى الرغم من أساليب المزاوجة التي تضخ أحد الجانبين في الآخر, وتسهم في تعديل مجراه وكسر حدَّة برزوه, يبقى القسم الأول مجلَّلاً بقوة حضور "التاريخي" وسيطرة مؤشرات المرجع, التي ستتراجع نسبياً في القسم الثاني, تحت الضغط المتصاعد لعناصر البنية الروائية, بخيوطها المتشابكة وحكاياتها الفرعية, التي تشكّل انفراجات سردية, تتنوّع, وتتباعد, وتعود لتندغم في مجرى السرد وإطاره العام. وهنا تتبدّى مقدرة الكاتب على النمذجة, والتمثيل الروائي, وضخّ مظاهر الحيوية في بناء متقن, يزخر بألوان الحياة, ويدفع بنا إلى خضّم المجتمع المصري في ظل الوجود العثماني المتردي, لمعايشة نبضه واحتداماته, ومواجهة صوره وتنوعاته وأجوائه المتوترة وتركيبته الآيلة إلى التحلل, وإلى تفسّخ بنيتها الرثة في ظلّ الحملة الفرنسية التي تنتهي عام /1801/.‏
    وعلى الرغم من ذلك تبقى المساءلة واجبة, روائياً, عن مدى بروز الوثيقة في جوانب العمل على النحو الذي تعيق به إمكانات التحويل الروائي.‏
    ..............
    *جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

  7. #7
    عن عالم محمد جبريل الروائي
    قراءة في رواية "حكايات الفصول الأربعة"

    بقلم: إدوار الخراط
    ــــــــــــــــــــــــــ

    من العلامات الفارقة للكاتب الحقيقى الموهوب أن يكون له عالمه الخاص، أن تكون له رؤاه المتفردة لهذا العالم.
    محمد جبريل كاتب حقيقى موهوب.
    عالمه يقع فى اسكندرية الشمال الغربى، اسكندرية بحرى والأنفوشى والسيالة وراس التين وحلقة السمك، اسكندرية الصيادين والمراكبية، ليسوا فقط صيادى السمك، أو مراكبية البحر، هم أيضاً وربما أساساً صيادوا الأقدار المتقلبة، مراكبية الرحلات المضطربة، ساجية أو جياشة، عبر شواطئ العمر وعبر سنوات الغربة والحنين.
    نصوصه دائما نقلة متصلة إلى "الشاطئ الآخر" (وذلك عنوان إحدى روياته الجميلة). لكن الشاطئ الآخر -كما أصبحنا نتوقع- ليس "جغرافياً" فحسب، هو شاطئ روحى آخر، أو شاطئ رؤى أخرى، تصل إليه -أو لا تصل- مراكب الحياة على المدّ والجزر، على القربى العائلية أو قربى المشارب والمنازع والأهواء، وتخوض إليه غمرات الخصومات والخلافات، أو تطفو على مويجات التراحم والحب المترقرقة.
    ومن ثم فإن التيمات -أو الموضوعات الأساسية فى عمله الروائى- تيمة الموت مرتبطا بالشغف بالحياة، وموصولا بمتعاتها، ترقب الموت، وترصده، أو اللامبالاة بانقضاضه، تيمة تسرى فى سردية محمد جبريل، أو تستبطن هذه السردية، سافرة حينا ومضمرة حينا، ولكنها ماثلة باستمرار، تستدعى تيمة لصيقة بها، بل تكاد تكون مترادفة معها، هى تيمة الشيخوخة والوهن وتقاعس البدن المتهاوى الذى تحركه شهوات قديمة مؤرقة.
    يقول بطل "حكايات الفصول الأربعة" بعد أن كتم ضحكة قصيرة: أشعر أنى شاب لكن حركة جسدى لا تساعدنى على هذا الشعور.
    لعل موضوعة الشيخوخة، الموت التدريجى للقدرات نتيجة صراع الجسد ضد الموت الذى يؤذيه بالمجئ، مما يشغل الكاتب فى مجمل عمله الروائى وخاصة فى هذه الرواية، لعل فى عنوانها وحده "حكايات الفصول الأربعة" ما يشير إلى هذه الموضوعة، ليست تلك فقط فصول السنة الأربعة، بل هى أساسا فصول العمر الأربعة. ليست فقط فصولا تمر بها سنوات بطل أو شخص واحد فى غمار الرواية، بل هى أيضاً موزعة على شخوص الرواية بحذق وذكاء سردى ملحوظ، من ربيع الصبا، وعنفوان صيف العمر، إلى خريف التهاوى والإيذان بالسقوط، ومنه إلى الشتاء الموحش القاحل.
    تقلبات هذه الفصول تدور فى اسكندرية محمد جبريل النصية التى تخايل بواقعية تكاد تشفى على الطبوغرافية الدقيقة، لكنها تجيش بحياة تتجاوز مجرد محاكاة الواقع الظاهرى، ذلك أن للكاتب ولعا مشبوبا بالأماكن، وأوصافها، وتحديدها، وابتعاث أجوائها: القهوة التجارية، قهوة فرنسا، مقهى ايليت أو التريانون، اتينيوس، فضلا عن معالم اسكندرية الشمال الغربى، وهو ولع يضفى على هذه الأماكن حياة كأنها مستمدة من حياة أبطال أو شخوص العمل الروائى - ولعلها من وهج الكاتب الروحية نفسها، وليس ذلك بالغريب عند معظم الروائيين الحقيقيين إذ تتناوب عندهم وتكاد تندمج أماكن الروح بأماكن الواقع، وهو عند محمد جبريل شغف يكاد أن يكون فيتيثسياً بتسمية الشوارع والمقاهى والجوامع والزوايا، ويكاد يقتصر على اسكندريته تلك، هى اسكندرية قريبة إلى حد ما من اسكندرية الراحل صالح مرسى، على اختلاف الرؤى والموضوعات بينهما اختلافا جذريا، ومختلفة أيضا جد الاختلاف عن اسكندريتى مثلا، اسكندرية الجنوب وراغب باشا وغيط العنب بالقرب من الملاحة وترعة المحمودية التى لا تأتى سيرتها قط فى عمله كله إن لم يخطئنى الحصر والتقصى، حتى لو كان للبحر حضور ماثل بل مسيطر فى كتابتى، وهى أيضا تختلف بالتأكيد عن كاتبٍ أراه من أكثر كتاب الإسكندرية موهبة هو حافظ رجب، إذ تقع اسكندريته الفانتازية فى سرة المدينة، محطة الرمل حيث يجرى الترام فى رأس الرجل وحيث يشغل اليونانيون مكانا روائيا لا يكاد يعرفه يونانيو محمد جبريل الذين لعلهم ينتمون إلى حقبة زمانية أحدث من الحقبة "الكوزموبوليتانية الشعبية" التى عاش فيها "الاجريج" عند حافظ رجب، هم قريبون بشكل ما من جريج قسطنطين كافافى.
    ولا أحتاج أن أقول إن اسكندرية محمد جبريل أوقع وأقرب إلى صورة الإسكندرية البحرية المثلى من اسكندرية كاتب مثل إبراهيم عبد المجيد، التى تكاد تقتصر -من حيث الموقع المكانى، ومن ثم الموقع الروائى، على صحرائها الغربية المفضية إلى خط سكة حديد العلمين ومرسى مطروح، وهو الجانب "الصحراوى" الأصيل من جوانب الإسكندرية، لم يهتم به -فى حدود علمى- إلا كاتب اسكندرانى آخر هو أونجاريتى الإيطالى الذى عاش فى محرم بك حتى العشرين من عمره (لعلنى أيضا قد عنيت بهذا الجانب الصحراوى من الإسكندرية). ولعل محمد جبريل لم يعن كثيرا -أو إطلاقا- بهذا الجانب، فهل ثم معنى لاختياره "البحر" أى الانفتاح على الآخر، وعلى الشاطئ الآخر؟ أم أن إضفاء دلالة إثنوجرافية، وربما أيديولوجية على البحر باعتباره الأفق الشمالى المفتوح على العالم الأوربى وعلى "الرمال الصحراوية" باعتبارها المعنى البدوى المنبثق من الخصوصية العربية المغلقة على ذاتها، ربما،.. من الشطح التأويلى ما لعله ينأى به عن المصداقية؟
    هذه على أى حال أسئلة خصيبة (فيما أظن) تثيرها رواية "حكايات الفصول الأربعة" من بين ما تثيره من أسئلة.
    تيمة الشيخوخة والموت لا تضفى على عمل محمد جبريل كروائى قتامة أو جهمة عابسة؛ فى مفرداته ورؤاه قدر من الرشاقة والسلاسة ينأى بها عن التشاؤم أو العدمية، على العكس، فإن اهتمام الكاتب بالقضايا ذات الشأن العام، من قبيل المسائل والأحداث والآراء السياسية، أو المشكلات والمجادلات الدينية، يكسب عمله الروائى حيوية ومعاصرة وراهنية مشغولة بالهموم والشئون العامة.
    إن أحد أبطاله يأخذ على المصريين أنهم "يمتلكون موهبة صنع الطغاة. يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومة من الخطأ، ومحصنين ضد الحساب حتى لو كان إلهيا، يفدونهم بالروح والدم، ويحسنون التغنى بمآثرهم والتطبيل لإنجازاتهم، ويحرقون البخور لذكراهم".
    (وبالمناسبة، فإن المصريين لا يجعلون من الساسة والزعماء وحدهم طغاة أو أشباه آلهة، بل هم يحولون من يسمونهم الرموز فى الحياة الثقافية والعلمية أيضا إلى أشباه آلهة معصومين لا يجوز المساس بذواتهم العلية).
    اهتمام النص عند محمد جبريل بالشئون العامة لا يقتصر على المسائل السياسية بل ينصب كذلك على المسائل الدينية: "الإسلام لا يعرف رجال دين. من جعلوا الدين مهنتهم. إنه يعرف العلماء والمجتهدين". قد يبدو هذا الاهتمام جانبيا، أو هامشيا، تتناوله حوارات عابرة، وأقدر أنه اهتمام أساسى، يأتى بحذق ملحوظ على هيئة إشارات سريعة فى الحوار أو فى السرد الروائى سواءً، ضربات خفيفة ولكنها نافذة، موجزة ولكنها قاطعة، فهذه هى -فى تقديرى- تقنية رئيسية فى عمله الروائى.
    من الموضوعات التى يتناولها محمد جبريل مرة بعد مرة فى عمله الروائى موضوعة الفجوة بين الأجيال.
    النزعة نحو الرحيل، ليس فقط من شاطئ إلى شاطئ آخر، ليس فقط من عالم إلى عالم آخر (من الإسكندرية إلى اليونان مثلا) بل هى أيضا وربما أساسا نزعة إلى الرحيل من جيل إلى جيل، ومن هموم مرحلة معينة من العمر إلى هموم مرحلة أخرى -تلك من حكايات الفصول الأربعة- هذه النزعة لا تتحقق فقط بركوب البحر، بل هو ركوب موج السنوات المضطرب المتلاطم.
    ***
    لعل محمد جبريل من أبرع روائي ما بعد نجيب محفوظ، مع فرادة لغته ونعومة انسياب صياغاته، والصياغة بداهة لا تنفصل عن الرؤية ولا عن الموضوعة. ذلك أن لغة محمد جبريل فى إيجازها واقتصادها ونفاذها تتساوق مع رؤيته لعالمه الإسكندرانى والنفسى أو الروحى على السواء، فهى رؤية ناصعة مضيئة ليس فيها تدفق هادر ولا صخب التزاحم، لا نكاد نقع عنده على محاولة للغوص فى أغوار -وأكدار- الحياة الحلمية أو اضطراب ما تحت الوعى، لغته ورؤاه معا صافية صحة سماء الإسكندرية عندما تصحو سماؤها، وهو ما يحدث فى أغلب الأحوال.
    وعندى أن الإيقاع الموسيقى فى هذه اللغة -وهو إيقاع ملموس- ينبع من تناغم وتناسق (لعله تنغيم وتنسيق متدبر مقصود، أو لعله ملهم وعفوى، أو هما معا) فى تسلسل السرد وتبادل الحوار والنأى عن محسنات -أحيانا ضرورات- الاستعارة والكناية وكثافة اللغة، لغته -مثل موضوعاته- صافية واضحة وسائغة السلاسة، بقدر ما هى ممتعة وشائقة.

  8. #8
    دلالات الكتابة

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً‏
    كاميلو خوسيه ثيلا‏

    لعلي أتفق مع تشيخوف في قوله "إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة" ولعلي اختلف ـ في المقابل ـ مع ألان روب جرييه في أن الحدوتة لم يعد لها قيمة في رواية اليوم, وألح في رفض الرأي بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى. إن أهم المشكلات التي تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظي المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعي أو النقدي ـ هي معنى النص, أو قدرته على الدلالة. المعنى, أو الدلالة, هي كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية التي ظهرت عن الحداثة. وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هي أن يعيد إلينا الوعي بالأشياء التي أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومي المعتاد (ت. جابر عصفور) فإن الحدوتة, الحكاية, الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هي نواة العمل الروائي, بعداً رئيساً لها. إذا حاول المبدع أن يستغني عنها, فإنه يستغني عن عمود مهم في أساسات عمارته الروائية. أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه, فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر, ولا لقضية من القضايا, وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة (لطيفة الزيات: فورد مادوكس والحداثة ـ هيئة الكتاب 91). الفنان ينتهي ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية. وهو قول صحيح تماماً. فللداعية وسيلته, ولعالم الاجتماع وسيلته, وللفنان وسيلته كذلك, وهي ـ ببساطة ـ وسيلة الفن. وإذا كان تشيكوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعي, ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز, فإني أجد انحياز الكاتب لقضية ما, لوجهة نظر معينة, لموقف أو مجموعة مواقف, مسألة مهمة ومطلوبة, ولعلي أتصورها ـ للفنان الحقيقي ـ بديهية. الفنان لا يجدف في الفراغ, ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر, رؤية معينة, أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ "فلسفة حياة"‏
    ثمة رأي أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة في الدرجة الأولى, ثم وجهة نظر مخلصة في الطبيعة الإنسانية, ثم يأتي الأسلوب في النهاية. بل إن وت بيرنت الذي يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوي شيئاً, يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فني, على أن يكون لديه بناء فني دون مقولة. النص المغلق ودعناه في قصص أمين يوسف غراب, النهاية الباترة الحاسمة التي تحرص أن تهب المتلقي دلالة واحدة, وحيدة. والحق أنه لا يشغلني شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا, لكنني أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعي. كلما تفوقت فنية العمل الإبداعي تعددت دلالاته, والعكس ـ بالطبع ـ صحيح. الاختلاف بين النص العلمي والنص الأدبي أن النص العلمي يعنى بتحقيق معنى محدد, دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة. أما النص الأدبي فهو يرفض ـ في دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد. إن قيمته في تقديري ـ في تعدد معانيه, في تعدد دلالاته, وبتعبير آخر: في تعدد مستويات القراءة. ولعلي أضيف إن النص الإبداعي ليس نصاً واحداً, ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات. لا أقصد التفكيكية, وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد. إساءة القراءة كما يذهب التفكيك, معنى لا أفهمه, ولا يهمني, بل أعني القراءة الواعية الفاهمة التي تتعدد بها مستويات التلقي.. ولعل الاختلافات النقدية حول روايتي "الصهبة" ما يبين عن تعدد الدلالات. ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية في تشابكاتها المحيرة, ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادي وتأثيراتها, وثمة من اعتبرها رواية واقعية, ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم... واجتهادات أخرى كثيرة, تنتهي إلى دلالات عابرة تصل ـ في تباينها ـ إلى حد التضاد!‏
    ***‏
    الرواية ـ في رأي روجر ب. هينكلي يمكن أن تكون وسيلة إدراك معرفي, بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق في قدرتها على التأثير فينا ما يمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان (قراءة الرواية ـ 19). أما كازنتزاكس فربما كانت الكتابة ـ كما يقول ـ ممتعة في وقت التوازن واعتدال الأمزجة. أما الآن, فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن في داخل الإنسان" ويقول ميشيل بوتور: "أنا لا أكتب الروايات لأبيعها, بل لأحصل على وحدة في حياتي. إن الكتابة بالنسبة لي هي العمود الفقري".‏
    ***‏
    تقول سيمون دي بوفوار: "إن الرواية الفلسفية إذا ما قرئت بشرف, وكتبت بشرف, أتت بكشف للوجود لا يمكن لأي نمط آخر في التعبير أن يكون معادلاً له. إنها وحدها التي تنجح في إحياء ذلك المصير الذي هو مصيرنا, والمدون في الزمن والأبدية في آن واحد, بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهري".. ومع ذلك فإن الرواية التي أعنيها هي التي تعبر عن فلسفة الحياة, وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقي. أرفض تحول الروائي إلى مفكر جدلي, كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلي إلى روائي. ذلك نوع من الخلط يسيء إلى الفلسفة وإلى الرواية في آن. أعرف أن تولستوي يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته. إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة, لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً, وتربطها كلها في وحدة عضوية متماسكة" (صبري حافظ: دنيا الله ـ المجلة ـ مارس 1964) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة, قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً, ولكن من المستحيل أن نراها في صورتها الكلية. ولعلي أشير كذلك إلى قول آلان روب جرييه "الفن ليس فيه شيء معروف قبلاً, فقبل العمل الأدبي لا يوجد شيء ما, لا يقين ولا دعوى ولا رسالة. والزعم بأن الروائي لديه شيء يقوله, وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله زعم فاحش الخطأ, فإن هذه الكيفية, أو طريقة القول, هي ـ بالتحديد ـ التي تكون مشروعه بوصفه كاتباً (ت. شكري عباد).‏
    ***‏
    إن الأدب هو الأسبق دائماً في النظرة, في محاولة استشراف آفاق المستقبل. إنه يسبق في ذلك حتى العلم نفسه. وكما يقول كافكا: "فإن رسالة الكاتب هي أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية. أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق مع القانون العام. إن رسالة الكاتب نبوية". كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوي هي الترديد المستمر للأفكار العامة. للنظرة الشاملة لفلسفة الحياة, في مجموع تلك الأعمال.‏
    وكان ذلك هو الذي أعطى أعمال تولستوي ـ كما يقول أدينكوف ـ "تكاملاً وتماسكاً داخلياً". وكما يقول تولستوي, فإن الكاتب الذي لا يمتلك نظرة واضحة, محددة وجديدة للعالم, ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة, لن يستطيع تقديم عمل فني حقيقي. وقد حاول كل من تولستوي وديستويفسكي أن يجيب عن السؤال: هل الحياة جديرة بأن تحيا؟. وكان تقديرهما أن الحياة التي نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى, أو أنها تنتهي بالعدم. ثمة ما ينبغي أن نتطلع إليه, وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل.‏
    ولعل القيمة الأهم في روايات الروسي إيفان جونتشاروف هي "الدعوة الموضوعية إلى العمل الذي تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى: التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنساني وروحي" (أشرف الصباغ: جوانب أخرى من حياتهم: المجلس الأعلى للثقافة ـ 59). وإذا كان الموت هو المصير الإنساني, فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت "بالعمل وحده سيبزغ الفجر, ولو في القبر". كان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم في الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف, كان الطب مهنة تشيخوف, وكان الأدب هوايته, لكنه أخلص في العناية بحديقته الصغيرة, كأنه يحترف الزراعة, وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان في العالم فعل كل ما بوسعه في الرقعة التي تخصه, فسيكون العالم جميلاً. يقول: "إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار, والقراءة الدؤوبة, والدراسة, والسيطرة على الإرادة, فكل ساعة من الحياة ثمينة". ويذهب إيتالو كالفيو أننا كلما تقدمنا في قراءة تشيخوف, التقينا بشخصيات تقرر ـ في نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية, أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التي ستقوم على الأرض بعد مائة عام, أو بعد مائتين, أو عن تلك الزوبعة التي سوف تجتاح كل شيء". ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية "الخال فانيا": "كل ما في الإنسان يجب أن يكون جميلاً, وجهه, ملابسه, روحه, أفكاره, ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره". أما رؤية د. هـ. لورنس المتكاملة, فتعنى بعزلة الإنسان في العالم الحديث, والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة, في مقابل تشوه الثورة الصناعية, وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية في آن. والحرية هي النبع الذي تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية وإبداعاته. إنها المحور في فلسفة حياته. حرية الفرد والجماعة والوطن.‏
    أما همنجواي فقد تمحورت رؤيته الحياتية في أن العالم قادر على تحطيم أي إنسان, لكن كثيرين يستعيدون قواهم, وينهضون. الحياة ـ في نظر شخصيات همنجواي ـ معركة خاسرة, لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة, ومقاومة. وبتعبير آخر, فإن الإنسان ـ في فلسفة همنجواي الحياتية ـ قد يتحطم, لكنه لا ينهزم, أبطال همنجواي يدركون أن الموت هو الواقع الذي لا مفر منه. إنه اليقين الوحيد في حياة الإنسان. ولعل ممارسة الجنس في أتون المعارك الحربية, والتلذذ بمصارعة الثيران, وبالصيد.. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت. وكما يقول جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواي لم يكن لها الحق في الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار.‏
    والإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة, لا معقوليتها, وليس بوسعه إلاّ أن يتحدى كل شيء في هذا العالم. شجاعة الإنسان ـ في تقدير كامي, ليست في غياب اليأس, وإنما في القدرة على التحرك ضد اليأس, ضد عبثية الحياة. إن العادلين في مسرحية كامي يحملون رسالة تعطي لحياتهم معنى, فهم يحيون من أجل أدائها, يجعلونها قضيتهم. وباختصار, فإنه لكي يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقي على شعور العبث في داخله كي يستمد منه طاقة التحدي اللازمة للبقاء.‏
    ***‏
    إن ما يغيب عن إبداعاتنا هو الفلسفة المتكاملة, فلسفة الحياة التي تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات. فمعظم روائيينا يرون أن العمل الإبداعي يجب أن يقتصر على المتعة, على تحقيقها, واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته, ومشاعره. أذكر قول أستاذنا زكي نجيب محمود: "إن الكاتب في مصر, إنما يكتب في غير قضية أساسية تكون في حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى" (الأهرام 25/2/1985).‏
    حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبّلها. بعض الأصدقاء المبدعين يعتز بحياديه إبداعاته، وهو قول ينطوي على قدر من المبالغة. أو من النية الحسنة. المبدع ـ في تقديري ـ يجب أن يكون منحازاً لقيمة, أو لقضية, أو لقيم, أو لجماعة. وهذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما في مجموع أعمال المبدع, وهو ما سميته بفلسفة الحياة, تلك الفلسفة التي تطالعنا ـ بصورة مؤكدة ـ في أعمال نجيب محفوظ, بينما تغيب ـ أو تكاد ـ في أعمال غالبية مبدعينا.‏
    يوماً, سألت يوسف السباعي عن فلسفته في أعماله. وتطرقت المناقشة إلى توفيق الحكيم. قلت: عبّر الحكيم عن فلسفته نظرياً في كتابه "التعادلية" وعبر عنها تطبيقياً في الإبداعات التي أصدرها, ونحن نجد فارقاً كبيراً بين النظرية والتطبيق عندما نفتقد التعادلية فيما قرأناه للحكيم. إنه يتحدث عن فلسفة أخرى يمكن تسميتها "الزمنية". الزمن في حياة الإنسان المصري, وانعكاسه على قيمه ومعاملاته ونظرته إلى الأمور. قال السباعي في تحيّر: الواقع أنني لم أفكر في الزمنية هذه في أعمال الحكيم, ولم أبحث عنها (المساء 18/11/1962).‏
    ولعلي أذكرك بقول أحمد بهاء الدين أننا إذا جمعنا أعمال الحكيم الفكرية والآراء التي عبر عنها، فسنجد أنه عبر عن كل رأي، ودعا إلى الشيء ونقيضه (الأهرام) 30/4/1978).‏
    واللافت أن الزمن هو نبض العديد من الأعمال الإبداعية العالمية, مثل "عوليس" لجيمس جويس, و"البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست. و"الجبل السحري" لتوماس مان الخ..‏
    وبالطبع, فإن الفكرة الفلسفية تصبح ـ في اللحظة التي تدخل فيها إلى العمل الفني ـ خاضعة لقوانين العمل الفني, وليس قوانين العمل الفلسفي.‏
    ***‏
    بالنسبة لي فإني أكاد أتصور أن الكتابة خلقت من أجلي, قبل أن أخلق أنا للكتابة, لا أتصور نفسي في غير الكتابة, وفي غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والإبداع.‏
    الكتابة عندي جزء من حياتي اليومية. جزء من تكويني الجسدي والنفسي, وهي مثل احتياجات الإنسان الضرورية مثل الطعام والجنس والنوم والحرية. أذكر قول رايوموني Rayaumoni لقد أصبحت روائياً بالضرورة, وما استطعت تجنب ذلك".‏
    لقد بدأت في المعايشة والملاحظة والاختزان من سن باكرة للغاية, ربما لأني كنت مهموماً بكتابة القصة في تلك السن. لم أتعمد أي شيء, لكن ما أختزنه ـ دون تعمد ـ من قراءات, وتجارب لي, وتجارب للآخرين, ورؤى, وخبرات, وملاحظات, يظهر في لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة..‏
    ثمة مشكلة, أو مشكلات, تلح على وجدان الكاتب, وتبين عن ملامحها في مجموع أعماله.. هذه المشكلة, أو المشكلات, هي محصلة خبرات شخصية, وتعرف إلى خبرات الآخرين, وقراءات, وتأملات, يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية. وحتى الآن, فإني أستعير من توماس هاردي قوله, في إجابتي عن السؤال عن فلسفة الحياة في أعمالي, بأنه ليس لي فلسفة بعد, إنما هي كومة مختلطة من الانطباعات, مثل انطباعات طفل حائر أمام عرض سحري. أنا أحاول أن أفيد من قراءاتي وخبراتي وخبرات الآخرين صوغ وجهة نظر متكاملة. ولعلي أزعم أن عالمي الإبداعي يتألف من تيمات أساسية, يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة. من يريد تناول أعمالي, أو حتى يكتفي بقراءتها, أن يقرأ كل هذه الأعمال, مجموع ما كتبت. ثمة وجهات نظر, نظرة شمولية, إطار عام أحاول أن أعبر ـ من خلاله ـ عن فلسفة حياة مكتملة, بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنياً, وربما أعدت تناول "التيمة" الواحدة في أكثر من عمل. لا يشغلني التكرار بقدر ما يشغلني التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية.‏
    وطبيعي أن نظرة الكاتب إلى الهموم التي تشغله, موقفه الكامل منها, يصعب أن تعبر عنه قصة واحدة أو قصتان, لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان في مجموع أعماله, وفي كتاباته وحواراته التي تناقش تلك الأعمال. لذلك فإن الكثير من أعمالي تنويع على لحن سبق لي عزفه في أعمال سابقة, وربما مهدت لعمل ما بعملين أو ثلاثة, أعتبرها إرهاصاً لذلك العمل, أو إنها استكمال له. إني أفضل ـ مثلما كان يفضل كافكا ـ أن أُقْرأ كعمل كلي, وليس كأعمال منفصلة. أن يقرأ الناقد مجموع أعمالي, ويتأمل دلالاتها المنفصلة, ودلالاتها الكلية, يحاول أن يتعرف فيها إلى فلسفة حياتي, إلى نظرتي الشاملة..‏
    للمبدع وجهات نظر في الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن. وهو يضمن إبداعاته ذلك كله, أو جوانب منه.‏
    وقد حاولت ـ في مجموع كتاباتي ـ أن أعبّر عن القضايا الأساسية التي تلح على ذهني, وأعتبرها قضية حياة..‏
    لست الكاتب البريطاني أنتوني باول الذي يؤكد أن هدفه من الكتابة هو إعادة تشكيل العالم, أو تحقيق النظام فيه.. ولا أريد ـ مثل الألماني ستيفن هيرمان ـ أن أترك أثراً, بل ولا أريد ـ بقصد ـ تغيير العالم اليومي للمتلقي, الذي هو واحد ممن تتجه إليهم إبداعاتي.‏
    ما أريده أن أتخطى حواجز المكان, بل وحواجز الزمان, فأتخذ من الإنسان موضوعاً, ومن العالم موضعاً, وأجعل وقتي هو العصر الآني. أتفهم قول أندريه موروا أنه ليس على الرواية أن تبرهن على شيء ما, فالعمل الفني ليس جدلاً, ولا برهاناً, وخصيصته ـ بالعكس ـ هي أن يبعث على الإقناع, بمجرد التأمل. "إنه هناك, هذا كل شيء".‏
    إن تجربتي الإبداعية ـ على تعدد أبعادها وتنوعها ـ تخضع لوجهة نظر شاملة, لفلسفة حياة تحاول التكامل, وإن استخدمت في كل عمل ـ الأدق: يستخدم كل عمل ـ ما يناسبه من تقنية. إن القارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع, في مجموع ما كتبت...‏
    من المؤكد أني لا أميل ـ التعبير الأدق: أني أرفض ـ دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته, لكنني لا أنفي القيمة, لا أرفضها. أجد فيها بعداً مهماً في العمل الإبداعي, وإلاّ تحول إلى ثرثرة لا معنى لها, لا قيمة فيها ولها. وكما يقول بودلير فإن الإنسان يحتاج دائماً إلى المبدعين الذين يعيدون ترتيب الأشياء, ويوضحون له الطريق إلى الأفضل. ربما أكون محمّلاً بفكرة, أو مقتنعاً بها, وربما حاولت أن أعبّر عن ذلك في كتاباتي, لكني أفضّل أن يتم على نحو فني, فلا تقريرية, ولا جهارة, ولا مباشرة, وإنما حرص مؤكد على فنية العمل الإبداعي من حيث هو كذلك..‏
    كانت "الأسوار" هي روايتي الأولى. كتبتها بعد إنهاء الأجزاء الثلاثة من كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين". ثم شغلتني "إمام آخر الزمان". حاورت فيها أصدقاء, أذكر منهم سامي خشبة الذي سألني وهو يودعني في رحلة عمل إلى منطقة الخليج: لماذا تشغلك دائماً فكرة المخلص؟..‏
    يقول مالرو: "إننا نعلم أننا لم نختر أن نولد, وإننا لن نموت باختيارنا, وأننا لم نختر أبوينا, وأننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً ضد الزمان". الموت هو الحقيقة التي تواجهنا, تصدمنا, منذ بواكير حياتنا. يموت الأب أو الأم, فنبدأ بالقول الكاذب: لقد سافر. ثم نعلم الابن السائل بالحقيقة ـ فيما بعد ـ فيبدأ في إلقاء الأسئلة: ما الموت؟ ما الآخرة؟ ما الجنة والنار؟ الخ. نحن نمضي في الطريق إلى الموت دون أن تكون لنا إرادة. إنه ـ كما يقول مالرو ـ يحيل الحياة إلى مصير. من الأصوب ـ على حد تعبير مالرو ـ أن نواجه الموت باسم غاية نحيا من أجلها. يتساءل: ما قيمة حياة لا يقبل المرء أن يموت في سبيلها؟. إن الإنسان يقامر بحياته في سبيل ما يؤمن به من قيم, ويتحدى الموت بوصفه التأكيد النهائي لشخصيته الحقة. سيكون للبذل, للتضحية, معنى: لو أنه اكتفى بما قدمه دون أن ينتظر جزاءً إيجابياً, ولا يفاجأ لو أن الجزاء سلبي. وقد فضّل الحسين ـ كما تعلم ـ أن يستشهد, على أن يتنازل عن الفكرة التي يؤمن بها.‏
    المثقف الحقيقي مطالب ـ دوماً ـ بأن يغلب الموضوعي على الذاتي. إنه يرضى بالمنطق الذي ترفضه العلاقة بين حبيبين, فهو يحب من طرف واحد, لا ينتظر من المحبوب اعترافاً بالجميل ولا مساندة, وربما انتظر جزاءً سلبياً. إنه قد يموت وهو يهتف باسم من دفع حياته ثمناً لخذلانه, لخذلان المثقف!‏
    ***‏
    القهر في الداخل...‏
    أتذكر كلمات خوان جويتيسولو ـ بعد وفاة فرانكو ـ "لقد عشنا احتلالاً طويل الأمد وغير ملحوظ من الخارج, احتلالاً بلا خوذ ولا بنادق ودبابات, وليس احتلالاً للأراضي, بل احتلال للعقول".‏
    الإنسان مطارد منذ الميلاد إلى الموت. إنه ـ كما يقول سارتر ـ مخلوق يطارده الزمن, لكن المطارد في رواياتي ليس الزمن وحده. إنه قد يكون السلطة, أو قيم الجماعة, أو غيرها مما قد يضيع حياته في محاولة الفرار منه. قد يكون البطل مطارِداً, وقد يكون ـ في الوقت نفسه ـ مطارَداً. ذلك ما يسهل تبينه في شخصية منصور سطوحي في "الصهبة", أو شخصية السلطان خليل بن الحاج أحمد في "قلعة الجبل", أو أبي الطيب المتنبي في أوراقه, أو "زهرة الصباح", أو رؤوف العشري في "الخليج", أو "الحاكم بأمر الله في سيرته الروائية, الخ...‏
    وإذا كان المصريون القدماء يسمّون الموت "النزول من البحر", فإن محمد قاضي البهار نزل إلى البحر, ولم ينزل منه, فهو إذن قد نزل إلى الحياة. وبالإضافة إلى محاولة قاضي البهار الفرار من القهر, فإني أتصور حياته قد أظهرت الهوة التي تفصل بين عالم المثالية الذي كان يحيا فيه, والواقع القاسي الذي يريد أن يفرض عليه طقوسه وقوانينه وأحكامه, وهو واقع لا يستند إلى قيم نبيلة, ويلجأ إلى الزيف والخداع ونكران الحقيقة..‏
    ***‏
    الآن, فإن التيمة الأساسية التي تلح في غالبية أعمالي, هي مواجهة الآخر, سواء بالمقاومة الجسدية, أو بتفعيل التحدي الحضاري..‏
    إن الصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد مواجهات سياسية وعسكرية, إنما هو صراع ذو أبعاد تاريخية وحضارية وثقافية. إنه تواصل واستمرارية حياة, وتناول الإبداع لجوانب من ذلك الصراع لا يعني السقوط في هوة المباشرة أو الجهارة, بل إن الأعمال الكبيرة هي التي تناولت قضايا كبيرة. المثل "خريف البطريرك" لجارثيا ماركيث, و"الحرب والسلام" لتولستوي" و"الطاعون" لكامي و"الحرافيش" لمحفوظ و"الحرام" لإدريس, و"سمرقند" لمعلوف, وغيرها. وبالنسبة للصراع العربي الصهيوني ـ تحديداً ـ فمن الصعب إغفال أعمال غسان كنفاني المهمة, مثل رجال في الشمس, وعائد إلى حيفا, وغيرها. وفي المقابل, فقد ذوى إعجابي القديم بعبقرية زفايج, وروايات كافاكا, واجتهادات فرويد, ونظرية إينشتين, ولوحات شاجال, شحبت الملامح الجميلة في مرآة الصهيونية. فرض التوجس نفسه حتى فيما لم يعد يحتمل ذلك.‏
    ***‏
    ماذا يبقى من ذلك كله..‏
    بالطبع فإن المتلقي قد ينشد الدلالة في العمل الإبداعي. وقد يكتفي فحسب بمتعة التلقي, بمتعة القراءة أو السماع أو المشاهدة. لكن الإنسان ـ إذا تعلم أن ينظر إلى الفن على أنه شيء لا ينتمي إلى الجمال والحق, بل إلى الرأي وحده ـ فإنه سيفقد بصيرته, ويصبح كما يريده رجال العصابات, حيواناً ينتمي إلى قطعان.‏
    وإذا كان رامان سلدن يرى أن العمل الإبداعي الجيد هو الذي يخبرنا بالحقيقة عن الحياة الإنسانية, بالكيفية التي تكون عليها الأشياء, فإني أستعير قول بورخيس: "المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه الكاتب".‏
    .....................................
    *جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

  9. #9
    صورة البطل في الوجدان الشعبي

    بقلم: د.فاخر صالح ميا
    ..........................

    قطع التاريخ, منذئذ رحلة وعرة, تطورت خلالها مفاهيم الإنسان حتى غدا البطل في الوجدان الشعبي حاملاً للقيم الإنسانية من مغامرة إلى أخرى, طموحاً, مجابهاً, متحدياً, وغدت الحياة بعد هذه العصور, أكداساً بالغة التعقيد من النقائض والمتضادات والحيوات المتصارعة عاشتها أجيال من الناس. وأنا أريد هنا أن أكتب ببساطة, بلا تقعر ولا تصنع عن البطل في الوجدان الشعبي للكاتب المصري "محمد جبريل", واصفاً تلك اللقطات المهمة التي يأخذها "جبريل" على عاتقه, وهي مسؤولية الكتابة في معمعان المراحل المتخالفة, وبكل ما اختلط فيها الحلو بالمر, وهنا لابد لي وأن أرى بأم عيني تلك القيم الأصيلة التي غرسها الأبطال الشعبيون الذين يبتغون أن يزيحوا عن الآخرين غشاوة ما كابدوه, وما اختلطت عليهم سبل الحياة ومفارق طرقها. إن كل ما أردته لدراستي عن هذا الكتاب هو أن تكون نموذجاً للانكشاف وللتفتح على الحياة وللصراع والعراك مع الطبيعة بل ومع القدر نفسه, فضلاً عن التقاليد والأعراف المألوفة والموروثة والمتخلفة, ولكن ثمة شيئاً يجب أن نلتفت إليه مع مؤلف الكتاب "جبريل" تلك الصور التي تتفتح عن وعي كبير لتعطي الحياة للإنسانية ولدحض آراء عبد الحميد يونس, من أن الهلالين لم يكونوا سوى أهل شغب... ص 7 ـ 8, بل إن ثمة من يرى في ملحمة هوميروس مفتاحاً لفهم بعض عناصر أدبنا الشعبي الذي عكسته السير, وقد توقف بعض الباحثين أمام التشابه الواضح بين أوديسيوس وأبي زيد الهلالي وبين أغاممنون والسلطان حسن, وهيلين والجازية وبريام والزناتي خليفة وآخيل ودياب بن غانم... ومن موقع اهتمام الكاتب "جبريل" بالسير الشعبية, فإننا نجد توصيفاً ضاراً للسير الشعبية بشكل عام وللسيرة الهلالية بشكل خاص, لما قدمه "عبد الحميد يونس" ص63 ومحمد فهمي عبد اللطيف ص65 وكذلك ابن الأثير ص67 من آراء لا تحسن فهم السير الشعبية وقوانينها, فعلى الرغم من توالي الأزمنة ودورة العصور, فإنها لا تزال تتوهج بالمعاني الإنسانية العميقة بفضل وفائها للجوهر الإنساني الأصيل وحضها الدائم على الالتزام بالخير ومحاربتها لكل ضروب الشر والنقائص ـ ومن هذه الزاوية تكتسب صورة البطل في الوجدان الشعبي قيمة تربوية, لأنه تأكيد على الانجذابية الإنسانية نحو اقتحام المجهول وتجاوز حدود الواقع وتحقيق الأحلام. تلك الأخبار التي شغلت مجلدات كثيرة لنتأمل فيها طفولة المجتمع وتفاسيره من خلال حكايات وأقاصيص وسير تذاوب فيها سحر البناء وجاذبية التشويق بكثير من الأبعاد والمعاني التي تدفع بالإنسان إلى التأمل والتفكير.‏
    وثمة شيء مهم يراه الباحث "محمد جبريل", من أن غزو الهلالين للشمال الإفريقي هو الذي أفضى إلى تعريب المنطقة وانحسار الجنس البربري الذي كان مسيطراً بحكمه ولغته وعاداته وتقاليده. بل إن البعض يجد في دخول العرب الهلالية إلى تلك البلاد امتداداً للروح البدوية التي ترفض الظلم والقهر. وهو ما تبدى بعد مئات السنين في مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري للاحتلال الفرنسي للجزائر, ومقاومة عمر المختار للرحالة الإيطالي لليبيا ص67, وهنا لابد لي من الوقوف على الحالة التي تعكس تطور المجتمع الإنساني وعلاقة الإنسان بالطبيعة والمحيط كقوة تترك لمساتها الواضحة على التراث الفكري والإنساني.‏
    يقدم لنا الكاتب "جبريل" لوحة للوعي الإنساني نحو تلك الأحقاب الزمنية التي لا تزال معلوماتنا عنها محدودة إلى حد ما عندما كانت حياة الإنسان شديدة الخضوع للتراب والأرض ملتصقاً بالقيم يدرك جواهر الأشياء, ولهذا كانت الأرض بالنسبة للبطل في الوجدان الشعبي بمثابة الأم الولود التي ينطلق فيها كل شيء ص119 ـ 120 وما "شجرة الدر" سوى القوة الحية التي تضفي على الوجدان الشعبي استقلالية الذات الإنسانية واحترامها, وعلى هذه الخلفية الواسعة من الأبطال نجد تصدي "شجرة الدر" باقتدار للعدوان الصليبي ص120 ـ 121, ومما يلفت النظر أن مفردات الفضيلة والخير لم تتغير عبر التاريخ فالشجاعة والكرم والعفة والإيثار والمروءة كل هذه الخصال كرمتها السير الشعبية وحضت عليها مثلما أدانت الشرور بكل مفرداتها, بل إن الأغنية الشعبية تسهم في إغناء مضامين جديدة لتغدو أكثر تعبيراً عن عصرها وأدق تصويراً للمجتمع الذي أوجدها, فهاهو ياسين يتوسل إلى الشمس أن تترفق بهم فلا تلسعهم حرارتها:‏
    قولوا لعين الشمس ما تحماش أحسن حبيب القلب صابح ماشي ص220‏
    وبهذا المنظور تعكس الأغنية الشعبية الواقع الاجتماعي مع تلاشي الأنا الإنسانية أو الأنا الروحية (Ego), فبدت تلك الصور الكئيبة لتحل محلها أساطير لمرحلة جديدة, حيث كان البطل في الوجدان الشعبي, محورها الرئيس لمواجهة ظلم الحاكم لا بمجرد الحلول السلبية التي برع فيها المصريون مثل النكتة والشائعة واللغز الخ, وإنما بالثورة وبالمقاومة المسلحة ص262, التي تدفع الظلم والهزائم والأعراف المتخلفة عن الشعبي والوطن.‏
    الهوامش‏
    .......
    محمد جبريل, البطل في الوجدان الشعبي مكتبة الدراسات الشعبية القاهرة 2000.‏
    ................................
    *جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1006 تاريخ 13/5/2006م.

  10. #10
    محمد جبريل وحكايات الفصول الأربعة

    بقلم: وائل وجدي
    ......................

    " ... تكتب ، وتكتب ، وتكتب .... شعور أقرب إلى الراحة ، تطمئن إليه بأنك تعبر عن نفسك . تستدعي الأفكار والذكريات والرؤى والخواطر التي لا رابط بينها إلا استعادة ما مضى من أعوام العمر. تتلاحق الصور . تتلاقى ، وتتعامد ، وتتشابك . تختلط الملامح والسحن والتعبيرات والمشاعر . تعود للمواقف والحكايات العجيبة . يعود الأمل والقلق والخوف . تتخفف مما لا تقدر على تبين ملامحه . توشي الألوان والظلال قطع الفسيفساء في مساحة اللوحة .." (1)
    هكذا ، ينهي الروائي المبدع / محمد جبريل ، روايته - الجديدة - حكايات الفصول الأربعة ؛ والتي تضاف إلى إنجازه الإبداعي ، وكذلك إلى الإبداع الروائي العربي في آن.
    وهو - بحق - يأخذ الإبداع بجدية ودأب ؛ وهذا أمر ، يتبينه - بجلاء - المتتبع مسيرته الأدبية.
    تدهشك - دوماً - أعماله الإبداعية ، بتطورها - الملحوظ - في تقنيات السرد. ويشغف - محمد جبريل - بالإسكندرية ؛ وخاصة : حي بحري ، والذي يدور فيه معظم إبداعه الروائي:
    "..الحنين إلى المكان عندي ، يتمثل في حنيني إلى ( حي بحري) ، وهو الحي الذي ولدت فيه . وإذا كنت أحيا - الآن - بعيداً عنه ، نتيجة لظروف عملي في القاهرة ؛ فإنه يحيا في داخلي دوماً .. المعتقدات ، والعادات والتقاليد ، وحياة الصيادين ، وأضرحة الأولياء ، والحياة في الميناء ، وصيد العصاري ، وليال رمضان ، والموالد ، والأذكار ، وكل ما يجتذبني إلى ذلك الزمن القديم... أنا من المفتونين بالمكان المصري ، وقد تمنيت أن تتاح لي الفرصة نفسها ، التي أتيحت لشتاينبك ، عندما طاف مع كلبه " تشارلي" كل المدن الأمريكية ، وتعرف إلى حياة الناس في مختلف البيئات ؛ وهو ما انعكس على إبداعه بصورة مؤكدة . وبالطبع ، فإن ( حي بحري ) ؛ هو أشد الأماكن قرباً من وجداني وفني في آن ..."(2)
    لا تعدو أن تكون - هذه القراءة- سوى وقفات تأمل ، عند بعض الشخصيات ، والأحداث ، التي بثها - الفنان المبدع - بفرشاته ، العبقة بزخم المشاعر والاحساسات - المنداحة ، بشجن شفيف - في السرد الروائي ، المصاغ بحنكة ، وحذق.
    ورواية : حكايات الفصول الأربعة ؛ هي، سيرة حياة - رفعت القباني - ، والتي اضطر ؛ لكتابتها ، بعد أن حبس في شقته - بالطابق الثاني عشر- لتعطل المصعد:
    "..تشرد عيناك في تلاقي البنايات والسماء والأفق ..
    شمس الضحى تصبغ الواجهات والأسطح والمدى . أسراب الطير تلتمع في وهج الأشعة كنثار الفضة . تحط على الأمواج ، تلتقط الأسماك ، ثم تعاود الطيران . الفلوكة الصغيرة تتمايل وهى تجر الطراحة في عومها المتباطيء . أصداء إيقاع الأمواج تنداح على الشاطيء . أصوات الطريق شاحبة من وراء النافذة الزجاجية المغلقة..
    حين ترامى صوت من الطوابق التحتية : المصعد معطل ، اصطدم كل ما أعددت له نفسك بحائط مسدود. لم تعد تملك التصرف الذي يصلك بالأماكن التي كنت تعد نفسك للذهاب إليها في داخل المدينة ، مقهى التريانون ، مكتبة دار المعارف بالمنشية ، مبنى الغرفة التجارية . تقدم ترجمة تقرير إنشاء منظمة التجارة العالمية...... الصعود إلى الطابق الثاني عشر ، لم يعد متاحاً منذ ذلك المساء الذي ارتميت فيه - بثياب الخروج - على أول كرسي تصادفه في الصالة . خانك الجسد ، وتهيأ للسقوط...."(3)
    ومن البداية ، يدخلنا - الكاتب - في الحدث ، الذي كبل حرية - الراوي - ، وجعله يمكث في شقته ؛ يتأمل حياته الفائته ، بكل ما فيها ... وينثر بقلمه - بحذق - ما يعانيه من وهن الشيخوخة ، ورؤيته للعجز والموت...
    " .. لم تعد تجلس إلى مكتبك ، أو تتحرك من موضعك ، إلا بجهد تشعر به وإن حاولت إخفاءه كأنك تداري ما يجب ألا يعرفه الآخرون .."(4)
    ثم، أخذ يحدد معالم الشقة - ببراعته المعهودة في وصف المكان - : " أدهشك موقعها المطل - في الطابق الثاني عشر - على شبه جزيرة الإسكندرية . البحر من الجهات الثلاث والكورنيش والبيوت والجوامع والساحات والشوارع والأسواق . لما خصت إيناس أمها بالسر الذي أخفته عن الجميع ، طالبت رئيفة بحجرة لإيناس لا يشاركها فيها أحد . شقة شارع فرنسا ذات الحجرات الثلاث لم تكن تسمح بذلك . حجرة لكما - رئيفة وأنت - والثانية ، والثالثة للسفرة ، والصالة للاستقبال ...... لما نظرت - للمرة الأولى - من نافذة الطابق الثاني عشر ، أحسست بدوار ، وما يشبه الميل إلى إلقاء نفسك . أدركت أنك تعاني عقدة الخوف من الطوابق العليا ..
    اكتفيت - في الأيام التالية - بالنظرة الخاطفة السريعة . ثم ألفت المشاهد دون أن تشعر بالدوار، أو بالميل إلى إلقاء نفسك ، أو تغادر موضعك ..."(5)
    ويسرد - الراوي - علاقاته المختلفة: بالأصدقاء .. كيفية تعرفه على زوجته، الخلافات في الرأي مع أولاده، والهوة بين الأجيال: رضوخه ؛ لرغبة ابنته إيناس ، الزواج من زميلها ياسر ؛ رغم اعتراضه على ذلك:
    " - زوجتك ابنتي!
    قال بهجت عبد المنعم العبارة ، ويدك في يده تحت المنديل الأبيض .
    - وأنا قبلت .
    رددت العبارة خلف المأذون المعمم . قدم من دكانه الخشبي الصغير قبالة أبو العباس . الجلسة مختلفة. اختلف المأذون فهو يرتدي البنطلون والقميص. لم تختلف العبارتان : أزوجك ابنتي ، وأنا قبلت. شعرت - وأنت تردد ما قاله المأذون - بطعم المر في شفتيك . اصطدم رفضك بأفق غائم. تحدثت رئيفة عن الخطر الذي تلوح نذره ، وبكت.. كتمت الرفض ، والألم في داخلك . وضعت ما يجري في إطار الفرجة . تشارك بما أذنوا لك به : أزوجك ابنتي ! . تطلب من ما لا توافق على أن يطلبه ، لو أنه هو الذي ردد العبارة الأولى وراء المأذون . إذا كانت إيناس قد لوحت - بإيعاز ياسر - إلى ما لم يدر لك ببال ولا تصورته ، فإن الشاب هو الذي يجب أن يردد العبارة : زوجني ابنتك!. ترد بالموافقة أو الرفض . لكنك عرضت ما ترفضه ، ومنحك ياسر موافقته!"(6)
    وهجرة ابنه هاني ، وعدم الالتفات إلى نصائحه بعدم السفر ، والبحث عن فرصة عمل أخرى:
    " قال هاني:
    - حصلت على شهادة التجنيد مقابل حصولي على بكالوريوس التجارة..
    ثم في لهجة باترة :
    - من حقي الآن أن أرحل!
    كان قد عرف البلد الذي يهاجر إليه ، وأنهى كل أوراقه . الموعد وحده هو ما أبلغنا به . تستطيعون وداعي على باب الشقة ، أو في المطار ..
    وهو يحاول السيطرة على ارتعاشة صوته:
    - حتى لا أتعبكما ، يكفي الوداع في الإسكندرية .."(7)
    ولقد بث في ثنايا الرواية ، لمسات سياسية خاطفة ؛ ولكنها دالة: "ولدت بعد عام واحد من ثورة 1919، وكنت في السابعة حين توفى سعد زغلول . أحدثت تطورات الفترة تأثيراتها في نفسك . الوفد هو الحزب ... ثم تبدلت المشاعر بمعارك الزعامات ، وإلغاء دستور 1923 ، والقمصان الزرقاء ، والقمصان الخضراء ، والقمصان الصفراء ، وتزييف الانتخابات ، وخيانات الأحزاب ، والأزمة الاقتصادية ، وتدخل قصر الدبارة ، والحرب العالمية الثانية ، وحادثة 4 فبراير ، وحرب فلسطين ، ومعارك القناة ، وثورة يوليو ، وعدوان 1956، ونكسة 1967، وحرب الاستنزاف ، وحرب أكتوبر.."(8)
    نجح الكاتب في التعبير عن خلجات - الراوي - وما تعتمل الشخصية من مشاعر : " زاد إحساسك بالوحدة . غلبك التأثر . تمنيت لو تذهب إلى مكان بعيد ، يخلو من البشر تماماً . تتمدد على رمال الشاطيء . تأثر الأمواج . تغطيك ، تغسلك ، تنحسر . تعود لتغطيك ، وتغسلك إلى ما لانهاية .
    تضيء النور ، وتعيد تأمل ما حولك : الأثاث الستائر ، المكتبة ، التليفزيون ، النوافذ ، الشرفات . تلاحظ الشقوق الواضحة في السقف والجدران ، والتكوينات التي صنعها تساقط الطلاء.
    تنظر - بآلية - إلى ساعة الحائط ، تحت إفريز السقف . الحادية عشرة وخمسة عشرة دقيقة . أكثر من ساعة لم تذهب للتبول..
    تنفخ بتلقائية . تمضي إلى النافذة دون أن تتوقع ما ستطالعه . مجرد حركة لم تتدبرها . تسقط احتمال الخطوة التالية ..
    كانت حركة الطريق قد هدأت ، وشحبت الأصوات المتصاعدة من أسفل . وكان الظلام قد ابتلع البحر. لا مرئيات سوى نقاط ضوء متناثرة في بلانسات بعيدة . وثمة توالي حركة الموج في مد وجزر متلاحقين ، وغابت أسراب النورس عن سماء الشاطيء."(9)

    تتميز الرواية ، بالتقنيات السردية المختلفة ؛ فنجد: الكولاج ، القطع ، المونتاج الزمكاني ، المونولوج.. المزج بين الماضي والحاضر . لا يسير السرد على مستوى أفقي أو رأسي ، وإنما ينساب هنا وهناك ؛ ليعطينا رؤى - الراوي - بلغة متفردة : في اختيار المفردة اللغوية ، والتركيب اللغوي للجملة .. اقرأ هذه الفقرة : " يغطس قرص الشمس في البحر، وإن خلف بقايا ضوء شديد الاحمرار. ينطلق سرب من الطير في الأفق ، يواصل طيرانه حتى يتحول إلى نقطة بعيدة ، ما تلبث أن تختفي. ترين على المكان رمادية شفيفة ، تستطيل الظلال . تفترش مساحات من الطريق والبنايات ، ووميض بقايا أشعة الشمس ينعكس على النوافذ الزجاجية المغلقة . وغربان البحر تنعق ،وتصرخ ، وتزعق ، وهى تحوم فوق بلانس اجتاز حاجز الأمواج ، ودخل نصف الدائرة ما بين السلسلة وقايتباى . طوى الرجال الشراع ، وأعدوا المخطاف ."(10)
    اللغة ، مكثفة ، رقراقة ، شفيفة ، تتواءم مع سيكولوجية الشخصيات ، والعالم المحيط بها؛ والذي برع في نسجها بمهارة وتفوق .. واختياره لأسماء الشخصيات ، كان اختياراً دقيقاً ، وحصيفاً - تأمل معي ؛ هذه الأسماء : رفعت ،رئيفة ، إيناس ، هاني ، مسعد، بدر...
    ومما لا شك فيه ، أن الروائي المبدع / محمد جبريل ، برواية : حكايات الفصول الأربعة ، يكون قد أنجز عملاً إبداعياً - سامقاً - يضاف إلى المشهد الروائي العربي. وتعد - من ناحية أخرى - نقلة نوعية وكيفية في إبداعاته الروائية ، والمحلقة - دوماً - إلى آفاق جديدة..

    هوامش:
    1- محمد جبريل – رواية : حكايات الفصول الأربعة – ص 139، 140- دار البستاني للنشر والتوزيع- 2004.
    2- مجلة : أنداء – العدد الثاني – 2001 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – إقليم شرق الدلتا الثقافي – حوار مع الروائي الكبير / محمد جبريل – ص 5،4.
    3- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 13، 14.
    4- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 14.
    5- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 17،16.
    6- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 29.
    7- محمد جبريل – المصدر السابق – ص54.
    8- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 49،48.
    9- محمد جبريل – المصدر السابق – ص 101.
    10- محمد جبريل – المصدر السابق – ص102.

صفحة 4 من 5 الأولىالأولى ... 2345 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. حوار مع الروائي محمد العشري
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-27-2011, 07:42 AM
  2. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-31-2009, 04:41 AM
  3. أغنيات / نصوص سردية قصيرة / للروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 72
    آخر مشاركة: 03-03-2009, 09:00 AM
  4. من أروع ما كتب محمد جبريل .. هذه القصة القصيرة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى منقولات قصصية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-24-2008, 12:12 PM
  5. الروائي/ طاهر أحمد الزهراني
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-18-2008, 02:11 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •