عندما انقلب كعب الفنجان
بقلم: شامل سفر
تأخر صديقي .. كنتُ قد طلبت كأساً من الشاي الـ (خمير) وجلستُ أنتظره في المقهى .. ثم بعث رسالةً يقول فيها أنه يعتذر عن الموعد .. أغراني الشايُ العقيق بالبقاء، ريثما ينتهي لونه الخمري القاني من دغدغة مشاعر صديقته اللدود .. السيجارة .. فرجةٌ من الوقت الضائع .. وفرجةٌ على مشهد الرائحين والغادين في الشارع المجاور ..... بعدي بطاولتين .. جلس شاب وفتاة.
أقل من الخامسة والعشرين دون شك .. وليس أكثر من العشرين بكثير .. جلسا متجاورين .. أمامهما أوراق .. يتناقشان حولها ... لم أعرهما انتباهي في البداية .. ظننتُ أنهما عاشقين التقيا في الجامعة أو نحو ذلك .. ودعوتُ لهما في سري أن يرزقهما الله الحلالَ وييسر لهما .. وتابعتُ جلسةَ الاستمتاع بساعةٍ من اللاشيء .. أتاحتها لي ظروف انشغال صديقي.
المشكلة .. المعضلة .. أن ثلاثة عقود من الزمن أمضيتُها وأنا أحلل هذا الجانب بالذات من حياة بني الإنسان .. جعلتني لا أملك إلا أن أتابع .. أن ألمَح .. أن أهتم .. حتى بعد أن منحتُ نفسي تقاعداً مبكراً كي أتفرغ للتأليف .. المهنة السابقة كالمرض المزمن .. لا فكاك منها .. حتى في جلسةٍ قصيرة بمقهى ... فتابعت .. نعم .. تابعت.
الشاب يبتعد .. يرجع بجذعه إلى الوراء .. والفتاة تقترب ... هو يحاول بشتى الوسائل ألا يقترب أكثر .. وهي تصر إصراراً عجيباً .. يده اليسرى في الجهة الحرة .. ويمناه تمسك بالقلم .. وهي .. الفتاة .. إلى يمينه .. كلما أرادت أن تشير إلى كلمات في الأوراق التي أمامهما .. تلمسه .. فيبتعد الرجل .. لم أقل أنه شاب .. بل رَجُل .. في زمنٍ عزَّ فيه الرجال الحقيقيون وقلُّوا ... ولمّا فشلت جهودها في جذبه من جهة اليدين .. بدأت تحاول ملامسة ركبتها بركبته .. أبعد القابضُ على جمرته ركبته .. دون جدوى ... ثم إنها مدت يدها نحو وجهه .. وقالت له شيئاً لم أفهم منه إلا أنها تريد أخذ رأيه بمدى جمالية عطرها .. النساء يضعن العطر عادةً على باطن الرسغ .. المنطقة التي يكون فيها الجلد أرق ما يكون ... انتبهتُ إلى أنه رفض .. فقربت هي يدها حتى كادت أن تلامس أنفه وفمه ... ارتفعت طبقة صوتهما قليلاً وهما يتناقشان .. النص الذي أمامهما بالإنكليزية .. صحح لها كلمةً أخطأت في لفظها .. فضربته بالأوراق ...
محسوبكم .. الداعي لكم بالخير .. وصَّاف .. والكلامُ صنعتي ... ولو أردتُ أن أتابع وصفَ ما جرى، لفعلت ... لكن هذا الكلام يقرأه كل من يملك جوالاً .. ولهذا لن أتابع .
روى لي أبي رحمه الله .. أنه نزل مرةً من طائرته .. فلمح عمي عمر رحمه الله .. مستلقياً على العشب وهو ما يزال بلباس الطيران ... جلس إلى جانبه .. سأله: «ما بك؟» ... قال أنه بخير .. كرر والدي السؤال .. فقال له عمي: «أتدري يا كمال .. أخشى أن يأتي يومٌ .. يركض فيه الشاب .. وتركض الفتاة وراءه» ...
بالمناسبة .. دارت المحادثة المذكورة في أربعينات القرن الماضي ... وبما أننا اليوم نكاد نتم الخُمسَ الأول من القرن الحادي والعشرين .. فلن أعلّق .. لن أقول سوى .. مساؤكم تأمُّل .. وتفكُّر .
#Shamel_Safar