الفصل السادس عشر: صورة الآخر من خلال تقارير الرحلات السفارية المغربية الى أوروبا..
قدمه: عبد السلام حيمر ..أستاذ في جامعة مكناس/ المغرب
كتب الأستاذ عبد السلام حيمر بحثه هذا بعد مرور 500 عام على خروج العرب من الأندلس، وقد تساءل في بحثه عن مغزى هذا التاريخ ودلالته بالنسبة للحاضر والمستقبل. وأراد أن يلقي الضوء على الرحلات المغربية التي تلت تاريخ خروج العرب من الأندلس، مؤشرا على صورة الآخر من خلال الرؤية التي كان يثبتها كل من هؤلاء الرحالة (بالطبع لن يتطرق الى ابن بطوطة)
أولا: رحلة الموريسكي أحمد بن قاسم الحجري (أفوقاي) 1611ـ 1613م.
(ناصر الدين على القوم الكافرين)
يرى (جاك بارك) أن المغرب حتى القرن السادس عشر، لم يكن بعيدا كل البعد عن السيرورة الحضارية العامة التي هيمنت على بلدان شمال البحر الأبيض المتوسط . بيد أنه ابتداء من القرن نفسه أخذت الشقة الحضارية بينهما تتسع وتتعمق الى الحد الذي يمكن القول معه بأن تقدم أوروبا كان شرطا مرافقا لتأخر المغرب، بل وتأخر كل البلدان العربية*1
من هنا تبرز أهمية النظر بكتاب أحمد بن قاسم الحجري (أفوقاي) : ((ناصر الدين على القوم الكافرين))، كون الكاتب الرحالة كان يعيش حياة (المناددة) لا حياة الشعور بالتخلف عن الغرب، وهو يمثل تصوير المسلم العربي للآخر الغربي الأوروبي.
لقد كانت رحلة (أفوقاي) الى مدن فرنسية وهولندية مثل (باريس و بوردو وتولوز وأمستردام ولاهاي) معرضا لمزاوجة ما ذهب من أجله: وهو استرداد ما سلبه اللصوص الأوروبيين من (الموريسكيين: المسلمين الهاربين من أسبانيا الى المغرب وتونس)، مع انتباهه الى الحوارات والنقاشات الفكرية الدينية مع الرهبان والأحبار وبعض أفراد النخب الحاكمة في فرنسا وهولندا.
من جهته يذكر الرحالة من قابلهم بأنهم أهل (دار الكفر) وعندما يتحدث عن نفسه أو قومه أو من يمثلهم ينعتهم بأهل (دار الإسلام)، لقد كان يتكلم باسم العرب والمسلمين والعثمانيين في مناظراته مع أهل (دار الكفر).
صورة المغربي (العربي/المسلم) في مخيلة الأوروبي
يذكر (أفوقاي) بأن مخاطبات سكان المدن الأوروبية التي زارها له: بقولهم (أنتم االتركيون) ولقبوا أفوقاي بالرجل التركي، لأن الأوروبيين في تلك الفترة كانوا لا يطلقون اسم مسلمين أو عرب أو مغاربة بل أتراك. والصورة عندهم عن هذا التركي بأنه محارب مرعب يسرق ويزني ويجبر زوجته على لبس الحجاب، ومع ذلك يبتعدون عن مباهج الحياة من خمر ولحم خنزير. هذه الصورة التي نقلها (أفوقاي) والذي كان يجيد الإسبانية والفرنسية ولديه اطلاع واسع في الديانات.
صورة الأوروبي في مخيلة المغربي ـ (الموريسكي)
الأوروبي هو أولا وقبل كل شيء مشرك كافر نصراني، خائن للعهود والمواثيق، ودليل (أفوقاي) على ذلك ما فعله ملوك الإسبان بالمسلمين. ثم يمضي (أفوقاي) بوصف التحالف بين الإقطاع والكنيسة (البابا)، فيقول هم وكبار الملاك يستخدمون الخدم والحشم ويقضون أوقاتهم في ترف ونقاشات في الدين وترجمة الكتب بما في ذلك العربية.
ثم يذهب الى وصف المدن فيقول إن مدنهم لم ترق في جمالها وعمارها الى مصاف المدن العربية. لكن مدينة مثل (أمستردام) بها سفن (ذكر 6 آلاف سفينة). ثم يتحدث عن الإصلاح الديني، فيعرج على (لوثر ويسميه هو لطري) وكالفن وبسميه (قلبن). ويذكر أفوقاي (كل واحد من السلاطين النصارى يرتعد ويخاف من سلاطين الإسلام والدين ... وهم السلاطين الفضلاء العظماء العثمانيون التركيون)*2
ثانيا: رحلة الوزير محمد بن عثمان المكناسي توفي 1799م
(الإكسير في فكاك الأسير)
تمت هذه الرحلة عام 1780، وقد جاءت بعد أن حاول المغرب استرجاع (مليلة) عام 1774، حيث اعتقد المغاربة أن انشغال أسبانيا في حروب أمريكا اللاتينية وخلافاتها مع بريطانيا على جبل طارق، يجعل من ذلك التوقيت أمرا مرغوبا يمكن فيه تحقيق النصر، لكن الأسبان دمروا (مليلة) عن بكرة أبيها وألحقوا هزيمة نكراء بالقوات المغربية وأسروا من المقاتلين الكثير، والغريب أن المقاتلين كانوا أتراكا وجزائريين ولم يكونوا مغاربة*3. فذهب الوزير بمهمة استرجاع الأسرى.
الوحدة والتشابه
يتحدث ابن عثمان عن إسبانيا ولا سيما الأندلس بوصفها (دار إسلام) اغتصبها النصارى، فهي ليست بلادا غريبة عنه، إنها أرض الأجداد في رفاتهم ومنجزاتهم الحضارية لا تزال ماثلة للعيان، إنها جزء من تراثه وتاريخه. فالعرب ماثلون في أسوار المدن وأزقتها الضيقة وفي مكتبة الأسكوريال وفي الكتابة العربية التي تزين القصور والأبواب والأضرحة.
ويكتشف ابن عثمان أن الأسبان يشاطرونه حبه وتقديره للآثار العربية الإسلامية، فعندما سأل الأسبان عن شيء تبقى من الآثار، أحضر بعضهم نقودا وخناجر وعندما فاوضهم على شراءها رفضوا ذلك بأي ثمن لأن تلك الآثار التي يتوارثونها عن الأجداد لا تقدر بثمن ولا يمكن التفريط بها.
ويذكر ابن عثمان: أن هناك من جاءه يعلمه بأن أجداده عرب وأقاربهم بالمغرب، فأظهر له أحد أعيان نصارى أشبيلية أنه من أصل عربي وجده اسمه (قردناش) وفي مدينة (أندوخر) قالت له سيدة أنها من بنات (بريس) وأمها بنت (بركاش) وأعمامهم في المغرب.. ويكثر من تلك القصص.
الاختلاف
بعد أن أظهر ابن عثمان ما شاهده من علامات الفرح في وجوه من قابلهم للتشابه بينه وبينهم، يظهر الاختلاف فيما بين العرب والأسبان، من حيث دينهم الذي وصفه بالفساد، من حيث التثليث واقتصار الصوم على الامتناع عن أكل اللحوم، وارتكاب المعاصي والظن أنها تزول بالاعتراف أمام رجال الكنيسة.
ثالثا: الرحلة الإبريزية الى الديار الإنجليزية 1860م
و ((رحلة الى إنجلترا)) للحسن الغسال 1902م
تمت هاتان الرحلتان بعد أن قويت قبضة أوروبا على دول الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، فتلك حملة نابليون وتلك احتلال الجزائر، وهناك تربص بتونس، وهناك هزيمتان متتاليتان للمغرب في اسلي 1844 وتطوان 1860، فكان من نتائج ذلك اندماج المغرب بالنظام الرأسمالي من جهة وتتالي البعثات السفارية والطلابية الى أوروبا من جهة أخرى، وهاتان الرحلتان من هذا النوع.
لقد تراجع تفكير الرحالة عن أن ما يجري في أوروبا هو من إنتاج المسيحية بعقيدتها وتنظيماتها، الى أن ما يجري هو من تدابير فكرية (اقتصادية واجتماعية وسياسية) واختراع طقوس لم تكن لا في أوروبا ولم يعهدها العالم الإسلامي من قبل، نقابات واختراعات (قطارات وغيرها).
لقد كان السلطان في المغرب بأمس الحاجة الى نقل الرحالة لما يشاهدون في رحلاتهم.
لقد كانت رحلة (الطاهر الفاسي) الى لندن سببها ما كان يُسمع عن الغرب بأنهم وجدوا علاجا للريح الأصفر (الكوليرا) التي انتشرت في (فاس). وهنا كان وصف الطاهر الفاسي للإنجليزي بأنه صانع للأدوات التقانية المذهلة التي يضيق النطق عن الإحاطة بها ووصفها، فقد مر على استعدادات الجيش الإنجليزي وتطوير صناعة الخشب والسفن والقطارات الخ.
ويصف الطاهر الفاسي البابور (القطار) بقوله: (( والحاصل أنهم أتعبوا أنفسهم في إدراك المسائل النظريات، وكابدوا على تحصيلها حتى صارت عندهم ضروريات، ولا زالوا يستنبطون بعقولهم أشياء كثيرة، كما أحدثوا البابور وغيره. وسبب إحداثهم له، أن صبيا كانت بيده ناعورة صغيرة من كاغيد (ورق)، فجعلها متصلة بجعب في فم بقرج على نار، وبعد اشتداد غليان الماء فيه، جعلت تدور بقوة البخار، فرآه رجل وتعجب واستنبط هذا البابور))*4
خلاصة:
إذا كنا قد اختصرنا الكثير مما جاء بالبحث، فإننا نستطيع تلخيص العبرة من آداب تلك الرحلات، أنها تركت انطباعين أحدهما طابع سوء الآخر ورداءة خلقه كما جاء في الرحلتين الأوليتين، واجتهاد الآخر وكده في ابتكار ما ينفعه كما جاء في الرحلات المتأخرة.
وأن آثار ذلك لا زالت ماثلة في أذهان كل العرب، فبين الإعجاب واحترام قدرة الغربي على الابتكار والعمل، وبين الاحتقار واستصغار خلق وطبيعة ذلك الغربي المسبب للكثير من الأزمات في واقعنا.
هوامش:
*1-Jacques Berque, Ulemas, fondateurs, insurges du Maghreb, xvii siècle, la bibliotheque (2) arabe, collection hommes et societes (Paris: Sindbad, 1982 p.18.
*2ـ ناصر الدين على القوم الكافرين/احمد بن قاسم الحجري أفوقاي/ تحقيق: محمد رزوق/ الدار البيضاء: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية. 1987/ صفحة 99.
*3ـ من تعليق مقدم البحث: د عبد السلام حيمر في الكتاب الذي بين يدينا (صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه/ تحرير: د الطاهر لبيب/ مركز دراسات الوحدة العربية صفحة 317.
*4ـ الرحلة الإبريزية الى الديار الإنجليزية/ محمد بن الطاهر الفاسي/ ص 28
* ـ الهوامش أعلاه ذكرها المؤلف (الباحث)، والهامش الأول كُتب بالحروف الفرنسية، وكون لوحة المفاتيح لا تمكن من الكتابة بالفرنسية، فكتبتها بالحروف الإنجليزية (اقتضى التنويه).