منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 21 إلى 26 من 26

العرض المتطور

  1. #1
    (34)

    طلب علوان من سائق (تكسي ) أن يوصله الى أطراف الغابة، سأله السائق: الى أين بالضبط؟ لم يجبه، ظن السائق أن صاحبه سيتجه لاحتساء الخمر في كازينو قريب من الغابة، لكن هيئته ووقت العصر لا يرجحان ذلك الاحتمال، لم يتكلم معه كثيراً، رغم أنه أعدَّ سلسلة من الأسئلة، كانت تغور في بلعومه قبل أن تتحول لكلامٍ منطوق، كما أنه قد تجاوز مكان الكازينو، دون أن يبطئ من سرعته، بعد عدة كيلومترات... طلب منه التوقف، وناوله أجرته...

    لم يكن باستطاعة أي فريقٍ من المختصين أن يتعرفوا على مسحة الوجوم والحيرة التي وسمت وجه علوان، وهو يرمي بقطع من الحصى في مياه النهر الجاري تحت الصخرة التي جلس فوقها... كان الطقس أكثر ميلاً للبرودة قبل حلول الربيع بقليل..

    جلس فوق صخرة تعتلي النهر قليلاً وأخذ يراقب الموجات المتتابعة التي كانت تشتت أثر الدوائر الناتجة من سقوط الحصى التي يرميها، وأشعة الشمس تلعق بسطح الماء فتزيل النتوءات البسيطة المتلاحقة من الماء والحصى.. هل تعطش أشعة الشمس لتلعق وجه (روجات) النهر؟ هل تخزنها في معدة السماء لتعود بنثرها كأمطار في موسم آخر؟ هل تنزل نفس القطرات في نفس المكان، هل تتعرف تلك القطرات على ما كان يحاذيها من قطرات أخرى؟ هل للماء مجتمع كمجتمعاتنا يحن الأفراد فيه الى بعض، ويتخاصمون كما يتخاصم أفراد مجتمعاتنا؟ هل تتكلم قطرات الماء أو حتى النهر؟ أصاخ سمعه.. نعم إنها تتكلم! فالهسيس الذي تحدثه ثم تكسره أصواتٌ أعلى بين حين وآخر لا بُد أن يكون كلاماً أو غناءً، ولماذا لا تتكلم وهي أم لكل أشكال الحياة؟

    كانت ذكريات عشر سنوات تتشابك مع تأملاته في الماء، فكان خلالها أحداثٌ كثيرة، استقلال كثير من دول الخليج، تأميم النفط العراقي، اغتيال ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، (كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار) وانقلاب على (سلفادور الليندي) في تشيلي، وحرب تشرين، وزواجه من فتحية ابنة عمه قدري، وولادة ابنته وابنه، واتفاقية كامب ديفيد، وبدايات الحرب العراقية الإيرانية...

    كانت نصف المدة التي قضاها في حالة صعود، ليس عنده بل عند كل من كان يعرفهم، فقد كان الجميع يشعر أنه قد اقترب من تحقيق أهدافه، كثيرٌ ممن كان يعرفهم تطوع الى ساحات القتال في لبنان وفلسطين، وبعضهم استشهد هناك أو في زنازين دولهم... لم تكن تنقصهم الروح الوثَّابة، كانوا سعداء فيما يقومون به. أما نصف المدة الأخرى، فكانت تنبئ بأشياء لم يرتح لها كثيراً، بل كان يتمنى العمل على تصويبها، وإن كانت لم تؤثر على قناعاته، لكنها كانت تخيفه في بعض الأحيان...

    عاد معظم الطلبة العرب الى بلدانهم بعد تخرجهم، وكان كلما يبتعد أحدهم يقل رصيده من مخزون الذكريات، ويتساءل هل ممكن له أن يتواصل معهم؟ أم أن احتمالية ذلك لا تزيد على احتمالية التقاء قطرات مياه النهر في دورتها الأزلية؟ وآن له أن يعود...

    (35)

    تناقل أبناء البلدة خبر اعتقال علوان...
    وأخذوا يتساءلون: كيف عاد؟ ولماذا عاد؟ وأين ذهبت زوجته؟ ألم يقل أهله أنه تزوج من ابنة عمه قدري (فتحية)، متى كان ذلك؟ لم نحضر الزفاف، ألم يقل أهله أنه رُزق ببنت وولد؟ أين ذهبا؟

    وتأتي اجتهادات البعض بالإجابة.. إنه وقبل أن يسافر المرة الأخيرة قبل ست سنوات، أتاه عمه قدري، وأخبره أن هناك من تقدم لخطبة فتحية، فبادر وقال له أنا سأتزوجها يا عم.. فعقد قرانه عليها، وبعد أن عُلم أنه مطلوب للمخابرات، تم إرسال فتحية إليه مع والدته، بعد أن أقاموا له عرساً دون أن يحضره.. ويضيف البعض أنه سمع أنه قد ذهب بها الى بريطانيا لعلاجها، عندما اكتشفوا أنها تعاني من مرضٍ خطير، وقد صرفت لهما الدولة التي كان يقيم بها جوازان للسفر، وذهبت والدته لإحضار الطفلين قبل سفره لبريطانيا...

    وكعادة أهل الأرياف، كان كل واحد يهتم بمعرفة التفاصيل الدقيقة، وإن لم تكن تلك التفاصيل مهمة وتجعل من يستمع إليها مشدوداً، فإن من يروي يتطوع لإضافة ما يجعل قصته مهمة وأن لديه سبقاً صحفياً يمتاز به على غيره... كانوا يقومون بذلك حتى عند روايات الموت، حيث يصبح الميت أشهر من روَّاد الفضاء، ولكن لمدة يومين أو ثلاثة، ثم يُركن في زوايا النسيان...

    (36)

    دائرة المخابرات تأخذ شكلاً من أشكال قوتها مما يُحاك حولها من قصص، ربما تخترعها هي، فالرعب يملأ نفوس من يودعوا فيها أو يُطلبوا لها طائعين أو مكرهين، يبقى كذلك، حتى يؤول مصيرهم داخلها، فإما أن ينهاروا منذ اللحظة الأولى، وإما أن يتكيفوا كتكيف امرأة ريفية وشمت وجهها..

    كانت الممرات المؤدية إليها قد صممها مهندسون خصوصيون لتكون كاختبارات متصاعدة في صعوبتها، لتزلزل تماسك من يدخلها، وكان في داخل تلك المحطات المرحلية الصغيرة مَن يرصد ردة فعل المطلوب الجديد، لتعين المُحققين على اختيار منفذ لسبر أغوار (زبونهم) الجديد..

    بعد أن اقتيد علوان وُضع في قاعة انتظار أو اختبار أولي، يزيد عرضها عن عشرة أمتار، أما طولها فكان خمسة أمتار!. جلس مع المطلوبين المنتظرين على مقاعد خشبية أمام (كاونتر) طويل يتكون من مستويين من السطوح، السطح المنخفض يضع عليه الموظفون المستقبلون أوراقاً لا يراها من يجلس أمامهم، وسطح مرتفع لا يسمح للمنتظرين برؤية أشكال الموظفين الذين أمامهم، فإن أخفض الموظف بصره، فإن المنتظرين يرون قمة رأسه من الخلف، وإن رفع بصره، فإنهم سيرون عينين تلمعان، ومنتصف الأنف من الأعلى...

    كان الجلوس في قاعة الانتظار هو لمعرفة تماسك الزبون في ظاهرة التَبَوُّل وشرود الذهن، فإن نقل ساقيه شمالاً ويميناً، فإن رغبته بالتبول تفضح تماسكه، وإن طلب الذهاب الى الحمام، فهو إشارة على أنه سيوقع على أي وثيقة يريدها المحقق منه...

    كان موظفو الاستقبال يحترفون قنص مثل تلك الإشارات، وأحياناً يكتفون بها دون جولات التحقيق، فالمطلوب الذي يبقونه من الصباح الى الثانية ظهراً، يأمرونه بالانصراف والعودة في اليوم التالي، ويتركونه لتفاعلاته الداخلية، عدة أيام متكررة، حتى يطالبهم (هو) بالتطوع للعمل معهم أو الاعتراف بأي تهمة حتى لو كان يعلم براءته منها...

    كان علوان، يعلم تلك التصرفات من خلال التدرب عليها، ليس هو فقط بل كل من كان بمستواه حزبياً، ويتعاملون معها بشكل طبيعي... وقد اكتشف موظفو الاستقبال تلك الحالة، عندما دخل مطلوبٌ آخر من رفاقه، لم يره منذ مدة طويلة، فقام وصافحه وعانقه، وسأل أحدهما الآخر عن أحواله. تدخل أحد الموظفين ناهراً لهما وطالبهما بالصمت، فبادر رفيقه بالرد على الموظف: وهل نحن بقاعة امتحانات حتى نصمت؟ هنا، أمر الموظف بتحويلهما الى الداخل، حتى لا يخدشا هيبة المكان...

  2. #2
    (37)

    أمره أن يُخرج يديه من جيبي معطفه، بصوتٍ مليء بالشوائب، لم يكن بعيداً منه أكثر من خطوة واحدة من الخلف. سار أمام من ينهره في ممرٍ مُضاء كهربائياً،لا نوافذ ولا أبواب تُفضي إليه، وبانحدارٍ مسحور لم يلحظ أنه انحداراً، حتى وصل الى غرفة تبدو وكأنها مخزناً للأمانات، يجلس عند بابها ثلاثة أفراد، خصص واحدٌ منهم لتلك المهمة.

    طلب منه الموظف المختص، تسليم ملابسه، وحزامه والنقود التي في جيوبه، وعلبة لفائف التبغ والمقدحة، وساعة اليد، والتوقيع على تسليمها، وارتدى الملابس التي تعطى للنزلاء الجدد، واقتاده من أحضره الى زنزانة طولها أكثر من ثلاثة أمتار بقليل وعرضها يكاد أن يصل الى مترين، ولها بابٌ صُنع من القضبان الحديدية الثخينة، احتل واجهتها الأمامية بشكل كامل، فيها سريران ثُبِّت أحدهما فوق الآخر. فتح قفلها حارس يرتدي ملابس عسكرية، وأشار إليه أن يدخل..

    كان كل سرير مُغطى ببطانية من القطن القاتم، وتتقدم طرفه مخدة، وطُويت بطانية أخرى من نفس النوع لتُشعر النزيل أنها للغطاء إذا ما أراد النوم.

    تمر لحظات التكيف ببطءٍ شديد، بينما تتزاحم الأفكار والصور والذكريات بسرعة البرق، فتتداخل لتشكل صوراً كأنها رسمت بألوان متضادة، على صفائح من مادة بلاستيكية شفافة، وعندما توضع فوق بعض لا يكاد يميز أي صورة منها، وإن أزاح صفيحة الى جنب لن تقل ضبابية الصور المعكرة ولكنها ستزداد تشويشاً..

    انتبه في لحظة استراحة من التشويش، فلمح نسختين من القرآن الكريم وضعتا في زاوية الزنزانة... تناول واحدة، وفتح الكتاب لا على التعيين، وبقي كذلك دون أن يقرأ كلمة واحدة، كان الهدوء والصمت مبالغ فيهما، ولو أراد التنصت على صوت جريان الدم في عروقه، لسمعه بكل وضوح...

    كسرت حاجز الصمت أصواتٌ لولولات ورجاء تصدر من مكانٍ لم يعرف بعده عنه، يتخللها وقع أصوات عصي على جسم المولول.

    جاء الحارس مع المرافق المخصص لاقتياد النزلاء ومعهما نزيل آخر، أدخلاه الى نفس الزنزانة، كان شاباً منعماً حسن الوجه مبتسماً، عرف بنفسه مهندس إلكترونيات (هُمام) خِريج كندا. لكنه شارك علوان الهواجس، فعندما رأى كلٌ منهما الآخر ظن به ظناً غريباً، فقد يكون أحدهما متعاوناً مع المخابرات جيء به ليساعد في سبر أغوار الآخر.

    (38)

    طرق الجندي باب غرفة التحقيق، وأدى التحية وانصرف..
    لم يطرح علوان التحية على محقق ضئيل الحجم، قَلَّم شاربه وتدرب على نفخ شفته العُليا، وكأنه يتقمص شخصية نَذَر نفسه لخدمتها. وكان بجانبه مساعدٌ بدا وكأنه في أول محاولة من محاولات القيام بمثل تلك المهمة، كان المحقق يتعامل معه كطقم أسنان ركبه صاحبه لأول مرة، فلم يكن متيقناً من أن هذا الطقم سيقضم الطعام ويقطعه كما في حالة الأسنان الطبيعية...

    لم يرتح علوان للمُحقق كما لم يرتح المحقق له، فقد دبَّت الكراهية فيما بينهما منذ اللحظة الأولى... كان في الغرفة منضدة يتوسطها كرسي يجلس عليه المحقق وكرسي بجانبه اليمين يجلس عليه المساعد (طقم الأسنان)، وكرسي يبعد عنهما بالمقابل بحوالي خطوتين..

    أشار المحقق لعلوان أن يجلس على الكرسي، فجلس، فبادر بنهره بصوت عالٍ: اقعد (مليح)..

    نهض علوان عن الكرسي وقال: أرني كيف أجلس حتى لا تصبح تلك قضية تشغل نفسك بها...

    تدخل المساعد: هل ترى سيدي مدى وقاحته؟
    رمقه علوان بنظرة استمرت للحظات قال فيها الكثير دون أن يتكلم..
    المحقق: وجهك مبين وجه واحد يبحث عن (الرزالة)..
    علوان: ليس بيني وبينك قضية شخصية، لا على طلاق أخت، ولا على إفراز أرض، وأنا أبعد عنك خطوتين وسمعي جيد، فلا تراهن على تعميم أساليبك على الجميع، قم بمسئوليتك بمنتهى المهنية سأتعامل معك بما هو داخل نطاق القانون.
    المحقق: يشتم قيادات الحزب فرداً فردا، ويهدد! في مكانك هذا جلس فلان، هل تعرفه؟ وفلان وعدد مجموعة أسماء...
    ابتسم علوان دون أن يعلق..
    ـ لماذا تبتسم؟
    ـ أبتسم لأنني غبت عن هذه البلاد أكثر من عشر سنين، دون أن أشتم أحداً..
    ـ طبعاً، لأنه بلدك، وقيادته، قيادتك
    ـ القضية مختلفة!
    غير المحقق لهجته: ماذا عملت لكم الدولة آل (علوان): أليس سليمان بك قرابتك؟ و أليس فلان وفلان من أقاربك؟
    ـ وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
    ـ شكلك تعبان والسهر مؤثر عليك، (انقلع) لزنزانتك وسنكمل فيما بعد..

    (39)

    سأله همام: كيف كانت جلسة التحقيق؟
    ـ عادية.. في بلدٍ مثل بلدنا، ورغم أن الجندي يتلذذ في اقتياد المثقفين، والمحقق يتلذذ في التأسد عليهم، حتى الحلاق والحارس، أراه يتمتع وهو يجبر النزلاء على تنظيف قضبان بوابة الزنزانة بالديزل، ومسح الممرات، فإن في داخل كل واحدٍ منهم رجل مهزوم مسكون في مخاوف لا أعلمها... أنظر: أنا وأنت وكل نزيل له اسم ثلاثي وربما رباعي، واسم والدته وزوجته وأمه... أما هؤلاء، فإنهم ينادونهم (حجي) ( بيك) الخ... ربما يخافون من أن أهل النزيل سيبعثون له بأزعر للاقتصاص منه...

    همام: لا أظن ذلك، بالتأكيد، فأنا هنا منذ ثلاثة أشهر، هم يخشون من الصليب الأحمر، فزيارات أفراده تتم كل شهرٍ مرة، قبل أن تأتي أنت بيوم تمت زيارة الصليب الأحمر، ولكنهم لا يعرضون كل النزلاء على المفتشين، فمن أرادوا أن يفرجوا عنه يتركون له فرصة لمقابلة المفتشين، وكما هو معروف التوقيف دون محاكمة مسموح به دولياً شهراً واحداً، وبعده عليهم إما الإفراج عنه وإما تحويله للمحكمة...

    علوان: ألم ترَ مفتشي الصليب الأحمر؟
    همام: كلا، فهناك طابق تحت هذا الطابق، يُرحل إليه الذين لا تريد المخابرات عرضهم على الصليب الأحمر، وأنا منهم.

    كان علوان أقرب للقبول بتصديق ما قاله شريكه في الزنزانة..

  3. #3
    مرة تلو المرة أتقدم بالتعبير عن امتناني أستاذتنا الكريمة

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

المواضيع المتشابهه

  1. تلوث مياه الشرب
    بواسطة أسامه الحموي في المنتدى منتدى العلوم العامة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-31-2017, 05:45 PM
  2. قطرة عسل توضع على السرة:
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الطب البديل.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-22-2012, 12:51 AM
  3. الطائر الصغير
    بواسطة مؤيد البصري (مرئد) في المنتدى - فرسان أدب الأطفال
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-03-2011, 08:13 PM
  4. أنا و غزة خارج السرب ..
    بواسطة د.هزاع في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-28-2009, 03:27 PM
  5. الشرب واقفا
    بواسطة noureldens في المنتدى فرسان الافتاءات
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-28-2006, 03:34 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •