سورة البلد
أقول: وجه اتصالها بما قبلها أنه لما ذم فيها من أحب المال وأكثر التراث ولم يحض على طعام المسكين ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة سورة الشمس والليل والضحى أقول: هذه الثلاثة حسنة التناسق جداً لما في مطالعها من المناسبة لما بين الشمس والليل والضحى من الملابسة ومنها سورة الفجر لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم كما فصل بين الانفطار والانشقاق وبين المسبحات لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول إنما يكون حيث لا يعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد فإنه سبحانه لما ختمها بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفذلكة فقوله في الشمس قَد أَفلحَ مَن زكاها هم أصحاب الميمنة في سورة البلد وقوله: وقد خابَ من دساها في الشمس هم أصحاب المشأمة في سورة البلد فكانت هذه السورة فذلكة تفصيل تلك السورة: ولهذا قال الإمام: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي ونزيد في سورة الليل: أنها تفصيل إجمال سورة الشمس فقوله فأَمّا مَن أَعطى واتقى وما بعدها تفصيل قَد أَفلحَ مَن زكاها وقوله: وأَما مَن بَخِلَ واستغنى تفصيل قوله وقَد خابَ مَن دساها ونزيد في سورة الضحى: أنها متصلة بسورة الليل من وجهين فإن فيها وإِنَّ لنا للآخرةُ والأُولى وفي الضحى: وللآخرةُ خيرٌ لكَ مِنَ الأُولى وفي الليل ولسوفَ يَرضى وفي الضحى ولسوفَ يُعطيكَ ربُكَ فترضى ولما كانت سورة الضحى نازلة في شأنه صلى الله عليه وسلم افتتحت بالضحى الذي هو نور ولما كانت
سورة الليل
سورة أبي بكر يعني: ما عدا قصة البخيل وكانت سورة الضحى سورة محمد عقب بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم ألا واسطة بين محمد وأبي بكر أقول: هي شديدة الاتصال بسورة الضحى لتناسبهما في الجمل ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما قال الإمام: والذي دعاهم إلى ذلك هو: أن قوله: أَلم نشرح كالعطف على: أَلم يجِدكَ يتيماً فآوى في الضحى قلت: وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويت وضالاً فهديت وعائلاً فأغنيت وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وفي هذا أو في دليل على اتصال السورتين معنى
سورة التين
أقول: لما تقدم في سورة الشمس: ونَفسٍ وما سواها فصل في هذه السورة بقوله: لَقد خلقنا الإِنسانَ في أَحسنِ تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلى آخره وأخرت هذه السورة لتقدم ما هو أنسب بالتقديم من السور الثلاث واتصالها بسورة البلد لقوله: وهَذا البلدِ الأَمين وأخرت لتقدم ما هو أولى بالمناسبة مع سورة الفجر لطيفة: نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندرى في لطائف المنن عن الشيخ أبي العباس المرسي قال قرأت مرة: والتينِ والزيتونِ إلى أن انتهيت إلى قوله: لقَد خلقنا الإِنسانَ في أَحسنِ تقويم ثُم رددناهُ أَسفلَ سافلين ففكرت في معنى هذه الآية فألهمني الله أن معناها: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحاً وعقلاً ثم رددناه أسفل سافلين نفساً وهوى قلت: فظهر من هذه المناسبة وضعها بعد أَلم نشرح فإن تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستدعي كمال عقله وروحه فكلاهما في القلب الذي محله الصدر وعن خلاصه من الوزر الذي ينشأ من النفس والهوى وهو معصوم منهما وعن رفع الذكر حيث نزه مقامه عن كل موِهم فلما كانت هذه السورة في هذا العلم الفرد من الإنسان أعقبها بسورة مشتملة على بقية الأناسى وذكر ما خامرهم في متابعة النفس والهوى
سورة العلق
أقول: لما تقدم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم بين هنا أنه تعالى: خَلقَ الإِنسانَ مِن عَلق وذلك ظاهر الاتصال فالأول بيان العلة الصورية وهذا بيان العلة المادية
سورة القدر
قال الخطابي: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن ووضعوا سورة القدر عقب العلق استدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكناية في قوله: إِنّا أَنزلناهُ في ليلةِ القدر الإشارة إلى قوله اقرأ قال القاضي أبو بكر بن العربي وهذا بديع جداً سورة لم يكن أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لما قبلها كأنه لما قال سبحانه: إِنّا أَنزلناهُ قيل: لم أنزل فقيل لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة وهو رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة وذلك هو المنزل وقد ثبتت الأحاديث بأنه كان في هذه السورة قرآن نُسخ رسمه وهو: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ولو أن لابن آدم واديا لابتغى إليه الثاني ولو أن له الثاني لابتغى إليه الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها حيث ذكر هناك إنزال القرآن وهنا إنزال المال وتكون السورتان تعليلاً لما تضمنته سورة اقرأ لأن أولها ذكر العلم وفي أثنائها ذكر المال فكأنه قيل: إنا لم ننزل المال للطغيان والاستطالة والفخر بل ليستعان به على تقوانا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
سورة الزلزلة
أقول: لما ذكر في آخر لم يكُن أن جزاء الكافرين جهنم وجزاء المؤمنين جنات فكأنه قيل: متى يكون ذلك فقيل: إِذا زُلزِلَت الأَرضُ زِلزالها أي حين تكون زلزلة الأرض إلى آخره هكذا ظهر لي ثم لما راجعت تفسير الإمام الرازي ورأيته ذكر نحوه حمدت الله كثيراً وعبارته: ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها وجوها منها: أنه تعالى لما قال: جَزاؤهُم عِندَ رَبِهِم جناتُ عدنٍ فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك يا رب فقال: إِذا زُلزِلَت الأَرض ومنها: أنه لما ذكر فيها وعيد الكافرين ووعد المؤمنين أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال: إِذا زُلزِلَت الأَرض ونظيره: يومَ تبيضُ وجوهٌ وتسودُ وجوه ثم ذكر ما للطائفتين فقال: فأَما الذينَ اسودت وجوهَهُم إلى آخره ثم جمع بينهما هنا في آخره السورة بذكر الذي يعمل الخير والشر انتهى
سورة العاديات
أقول: لا يخفى ما بين قوله في الزلزلة: وأَخرَجتِ الأَرضُ أَثقالها وقوله في هذه السورة: إِذا بُعثرَ ما في القبور من المناسبة والعلاقة
سورة القارعة
قال الإمام: لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله: إِنَّ ربَهُم بِهِم يَومئذٍ لخَبير فكأنه قيل: وما ذاك قال: هي القارعة قال: وتقديره: ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه بقوله: إِذا بُعثِرَ ما في القبور
سورة التكاثر
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها كأنه لما قال هناك: فأُمهُ هاوية قيل: لم ذلك فقال: لأنكم أَلهاكُم التكاثُر فاشتغلتم بدنياكم وملأنم موازينكم بالحطام فخفت موازينكم بالآثام
سورة العصر
ولهذا عقبها بسورة العصر المشتملة على أن الإنسان في خُسر بيان لخسارة تجارة الدنيا وربح تجارة الآخرة ولهذا عقبها بسورة الهمزة المتوعد فيها من جمع مالاً وعدّده يحسب أن ماله أخلده فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع وحست اتساقها ظهر لي في وجه اتصالها بعد الفكرة: أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالاً وعدده وتعزز بماله وتقوى عقب ذلك بذكر قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالاً وعتوا وقد جعل كيدهم في تضليل وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه وجعلهم كعصف مأكول ولم يغن عنهم مالهم ولا عزهم ولا شوكتهم ولا فيلهم شيئاً فمن كان قصارى تعزُّزه وتقوِّيه بالمال وهَمز الناس بلسانه أقرب إلى الهلاك وأدنى إلى الذلة والمهانة سورة قريش هي شديدة الاتصال بما قبلها لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة
سورة الماعون
أقول: لما ذكر تعالى في سورة قريش: الذي أطعمَهُم مِن جوعٍ ذكر هنا ذم من لم يُحض على طعام المسكين ولما قال هناك: فليعبدوا رب هذا البيت ذكر هنا من سها عن صلاته قال الإمام فخر الدين: هي كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور: البخل وترك الصلاة والرياء فيها ومنع الزكاة وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل: إِنّا أَعطيناكَ الكوثَر أي: الخير الكثير وفي مقابلة ترك الصلاة فصَلِّ أي دُم عليها وفي مقابلة الرياء: لربك أي: لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون: وانحر وأراد به: التصدق بلحوم الأضاحي قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة
سورة الكافرون
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: فصل لربك أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه ولا يعبد ما يعبدون وبالغ في ذلك فكرر وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه
سورة النصر
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه قال في آخر ما قبلها: ولي دين فكان فيه إشعار بأنه خلص له دينه وسلم من شوائب الكفار والمخالفين فعقب ببيان وقت ذلك وهو مجئ الفتح والنصر فإن الناس حين دخلوا في دين الله أفواجاً فقدتم الأمر وذهب الكفر وخلص دين الإسلام ممن وقال الإمام فخر الدين: كأنه تعالى يقول: لما أمرتك في السورة المتقدمة بمجاهدة جميع الكفار بالتبرى منهم وإبطال دينهم جزيتك على ذلك بالنصر والفتح وتكثير الأتباع قال: ووجه آخر وهو: أنه لما أعطاه الكوثر وهو: الخير الكثير ناسب تحميله مشقاته وتكاليفه فعقبها بمجاهدة الكفار والتبرى منهم فلما امتثل ذلك أعقبه بالبشارة بالنصر والفتح وإقبال الناس أفواجاً إلى دينه وأشار إلى دنو أجله فإنه ليس بعد الكمال إلا الزال توقيع زوالا إذا قيل تم
سورة تبت
قال الإمام: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما قال: لكُم دينكُم وَلي دين فكأنه قيل: إلهي وما جزائي فقال الله له: النصر والفتح فقال: وما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام فقال: تبت يدا أَبي لهبٍ وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر معللاً بقوله: ولي دين ويكون الوعيد راجعاً إلى قوله: لَكُم دينكُم على حد قوله: يومَ تبيضُ وجوه وتَسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم قال: فتأمل في هذه المجانسة الحافلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من أواخر ما نزل قال: ووجه آخر وهو: أنه لما قال لَكُم دينكُم ولي دين كأنه قيل: يا إلهي ما جزاء المطيع قال: حصول النصر والفتح فقيل: وما ثواب العاصي قال: الخسارة في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت سورة الاخلاص قال بعضهم: وضعت ههنا للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة تَّبت وأقول: ظهر لي هنا غير الوزان في اللفظ: أن هذه السورة متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى ولهذا قيل: من أسمائها أيضاً الإخلاص وقد قالوا: إنها اشتملت على التوحيد وهذه أيضاً مشتملة عليه ولهذا قرن بينهما في القراءة في الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة وذلك أنه لما نفى عبادة ما يعبدون صرح هنا بلازم ذلك وهو أن معبوده أحد وأقام الدليل عليه بأنه صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك وليس في معبوداتهم ما هو كذلك وإنما فصل بين النظيرتين بالسورتين لما تقدم من الحكمة وكأن إيلاءها سورة تبت ورد عليه سورة الفلق والناس أقول: هاتان السورتان نزلنا معاً كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قُرتنا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ وعقب بهما
سورة الإخلاص
لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقوافل وقدمت الفلق على الناس - وإن كانت أقصر منها - لمناسبة مقطعها في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت وهذا آخر ما من الله به على من استخراج مناسبات ترتيب السور وكله من مستنبطاتي ولم أعثر فيه على شيء لغيري إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوى له فلله الحمد على ما ألهم والشكر على ما من به وأنعم سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ثم رأيت الإمام فخر الدين ذكر في تفسيره كلاماً لطيفاً في مناسبات هذه السور فقال في
سورة الكوثر
أعلم أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها من السور وكالأصل لما بعدها أما الأول فلأنه تعالى جعل سورة الضحى في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وتفصيل أحواله فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته ما ودعكَ ربُكَ وما قلى وللآخرةُ خيرٌ لكَ من الأولى ولسوفَ يُعطيكَ رَبُكَ فترضى ثم ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا: أَلم يجِدكَ يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدكَ عائلاً فأغنى ثم ذكر في سورة ألم نشرح أنه شرفه بثلاثة أشياء: شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ثم شرفه في سورة التين بثلاثة أشياء أنواع: أقسم ببلده وأخبر بخلاص أمته من الناس بقوله: إلا الذين آمنوا ووصولهم إلى الثواب بقوله: فلهم أَجرٌ غيرُ ممنون وشرَّفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع: اقرأ باسم ربِكَ وقهر خصمه بقوله: فليدع ناديه سندع الزبانية وتخصيصه بالقرب في قوله: واسجد واقترب وشرفه في سورة القدر بليلة القدر وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة: كونها خيراً من ألف شهر وتنزل الملائكة والروح فيها وكونها سلاماً حتى مطلع الفجر وشرفه في لم يكُن بثلاثة أشياء: أنهم خير البرية وجزاؤهم جنات ورضى عنهم وشرفه في الزلزلة بثلاثة أنواع: إخبار الأرض بطاعة أمته ورؤيتهم أعمالهم ووصولهم إلى ثوابها حتى وزن الذرة وشرفه في العاديات بإقسامه بخيل الغزاة من أمته ووصفها بثلاث صفات وشرفه في القارعة بثقل موازين أمته وكونهم في عيشة راضية ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية وفي ألهاكم التكاثر هدد المعرضين عن دينه بثلاثة: يرون الجحيم ثم يرونها عين اليقين ويسألون عن النعيم وشرفه في سورة العصر بمدح أمته بثلاث: الإيمان والعمل الصالح وإرشاد الخلق إليه وهو: التواصي بالحق والصبر وشرفه في
سورة الهمزة
بوعيد عدوه بثلاثة أشياء: ألا ينتفع بدنياه ويعذبه في الحطمة ويغلق عليه وشرفه في
سورة الفيل
بأن رد كيد عدوه بثلاث: بأن جعله في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل وجعلهم كعصف مأكول وشرفه في
سورة قريش
بثلاث: تألف قومه وإطعامهم وأمنهم وشرف في الماعون بذم عدوه بثلاث: الدناءة واللؤم في قوله فذلكَ الذي يدعُ اليَتيم ولا يَحضُ عَلى طعامِ المسكين وترك تعظيم الخالق في قوله: فَويلٌ للمُصلين الذينَ هُم عَن صلاتِهِم ساهون الذينَ هُم يُراءونَ وترك نفع الخلق في قوله: ويمنَعونَ الماعون فلما شرفه في هذه السور بهذه الوجوه العظيمة قال: إِنّا أَعطيناكَ الكوثر أي: هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها فاشتغل أنت بعبادة ربك إما بالنفس وهو قوله فصل لربك وإما بالمال وهو قوله وانحر وإما بإرشاد العباد إلى الأصلح وهو قوله: قُل يا أَيُها الكافرون لا أَعبدُ ما تعبدون( فثبت أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها) وأما كونها كالأصل لما بعدها فهو: أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يكف عن أهل الدنيا جميعاً بقوله: قُل يا أَيُها الكافرون إلى آخر السورة ويبطل أذاهم وذلك يقتضى نصرهم على أعدائهم لأن الطعن على الإنسان في دينه أشد عليه من الطعن في نفسه وزوجه وذلك مما يجبن عنه كل أحد من الخلق فإن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون واحد فقالا: إِنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ومحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الخلق جميعاً فكان كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه فدبر الله في إزالة الخوف الشديد تدبيراً لطيفاً بأن قدم هذه السورة وأخبر فيها بإعطائه الخير الكثير ومن جملته أيضاً: الرئاسة ومفاتيح الدنيا فلا يلتفت إلى ما بأيديهم من زهرة الدنيا وذلك أدعى إلى مجاهدتهم بالعداوة والصلح بالحق لعدم تطلعه إلى ما بأيديهم ثم ذكر بعد سورة الكافرين سورة النصر فكأنه تعالى يقول: وعدتك بالخير الكثير وإتمام أمرك وأمرتك بإبطال أديانهم والبراءة من معبوداتهم فلما امتثلت أمري أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر وكثرة الأتباع بدخول الناس في دين الله أفواجاً ولما تم أمر الدعوة والشريعة شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصوراً على الدنيا فليس له إلا الذل والخسارة والهوان والمصير إلى النار وهو المراد من سورة تبت وإما أن يكون طالباً للآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات وقد ثبت أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من قال: أعرف الصانع ثم أتوسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته وهذا هو الطريق الأشرف ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور ثم إنه سبحانه ختم كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف فبدأ بذكر صفات الله وشرح جلاله في سورة الإخلاص ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في الفلق ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية في الناس وعند ذلك ختم الكتاب فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة في كتابه المكرم هذا كلام الإمام ثم قال في
سورة الفلق
سمعت بعض العارفين يقول: لما شرح الله سبحانه أمر الإلهية في سورة فعالم الأمر كله خيرات محضة بريئة عن الشرور والآفات أما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة والجثمانيات فلا جرم قال في المطلع: قُل أَعوذُ برَبِ الفَلق مِن شَرِ ما خَلق ثم الأجسام إما أبدية وكلها خيرات محضة لأنها بريئة عن الاختلافات والفطور على ما قال: ما ترى في خَلقِ الرحمن مِن تفاوت فارجِع البصر هل ترى مِن فطور وإما عنصرية وهي إما جمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية فالظالمات فيها خالصة والأنوار عنها زائلة وهو المراد من قوله: ومِن شَرِ غاسقٍ إِذا وقب وإما نبات والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معاً فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقدة وإما حيوان وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب والاشتغال بقدس جلال الله وهو المراد بقوله: ومِن شَرِ حاسدٍ إِذا حسد ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية وهي المستفيدة فلا يكون مستفاداً منها فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها في
سورة الناس
مراتب ودرجات النفس الإنسانية ولم يبين المراتب المشار إليا وقد بينها ابن الزملكاني في أسراره فقال: إضافة رب إلى الناس تؤذن بأن المراد بالناس: الأطفال لأن الرب من: ربه يربه وهم إلى التربية أحوج وإضافة ملك إلى تؤذن بإرادة الشباب به إذ لفظ ملك يؤذن بالسياسة والعزة والشبان إليها أحوج وإضافة إله إلى الناس تؤذن بأن المراد به الشيوخ لأن ذاته مستحقة للطاعة والعبادة وهم أقرب وقوله: يوَسوسُ في صدورِ الناس يؤذن بأن المراد بالناس: العلماء والعباد لأن الوسوسة غالباً عن الشبه وقوله: مِنَ الجِنَةِ والناس يؤذن بأن المراد بالناس: الأشرار وهم شياطين الإنس الذين يوسوسون لهم والله تعالى أعلم