حياة أميرة عثمانية في المنفى"12"
بعد حضور سلمى إلى تلك الحفلة : (حبست نفسها في بيتها،بعد هذه التجربة المؤلمة. وهي ناقمة على الأرض كلها،إنها لا تحبها(..) وسرعان ما شاع الخبر بوجود هذه الأميرة الشابة ذات العيون الزمردية،الطويلة،بقدر ما هي متعالية. وفي كل يوم تأتيها بطاقات دعوة موجهة من أسماء عظيمة.وفي مثل هذا المجتمع الذي يعرف بعضهم بعضا حتى الفتيان،فإن وجها جديدا هو تسلية عظيمة القيمة. وكانت الفتاة قد أقسمت ألا تقبل أية دعوة. ولكنها انتهت بعد بعض الوقت،ومن طرف الشفاه،بالقبول : فها إنها قد بلغت الثامنة عشرة .. (..) وخلال بضعة أشهر تنشئ سلمى لنفسها مكانا تغبط عليه،في المجتمع البيروتي العالي،لا لأنها الأجمل بين كل هؤلاء النساء – فاللواتي يغرن منها ينتقدن أنفها الطويل بعض الشيء وذقنها المثلثة الشكل – لكن الرجال لا ينظرون إلى هذه التفاصيل.){ص 282 - 284}. ويحل عيد ميلاد سلمى .. فيا لله من الفرق بين احتفال الحاضر،واحتفالات الماضي :
(فيلاديتين تيدريك إيدريم! ليكن مبارك يوم ولادتك! ولتزهر زمنا طويلا ورود خدّيك،وتملأ روائح الجنة أنفك،ولتكن حياتك كلها عسلا ولبنا!
واجتمعت الأسرة في الصالة التي قامت الكالفتان بتزيينها بطاقات الخبيزة والداتورا،لكي تحتفل بالعيد العشرين لولادة سلمى. وكانت الهدايا المقدمة قد صُفت على الطاولة المصنوعة من الخشب المذهب،وأحاطوها،بعناية،بالورق البلوري. فقد جاءها من نيرفين و ليلى خانم مناديل لطيفة من الباتيستا،طرزتاها بأرقام سلمى،وفقوها تاج،ومن زينل زجاجة من"الكريب دوشين"من صناعة مييو،وهي الرائحة التي تفضلها لدى العزيز زينل. والذي احتاج إلى أن يحرم نفسه من السجائر خلال أسابيع لكي يستطيع شراءها لها. أما خيري،العملي دائما،فقد قدم لأخته علبة من الفواكه المجففة التي يمكن لأهل البيت جميعا أن يستفيدوا منها. أما السلطانة ... فقد هيأت مانطو من الزيبلين،وهو روعة تتذكر سلمى أنها رأته على أمها في الماضي،عندما كانت تذهب إلى "ضولمة باهشتة"،ووضعته على الفوتوي. (..) وأشعلت نيرفين الشمعات العشرين الموضوعة في قالب الكاتو الكبير،بالشوكولا. (..) وتتأمل سلمى،حالمة تلك "الشعل"التي تتراقص،وقليلا تراها تتحول،وتكبر،وتتكاثر. وهي الآن مئات ومئات تتألق تحت ثريات الكريستال في قصر أورطاكوي. وكانوا في أعياد ميلادها،في عهد الطفولة يشعلونها كلّها،على شرفها. وتعود تفاصيل هذه الحفلات الفخمة كلها إليها الآن،واحدا بعد آخر. وكانت الأوركسترا النسوية التي توقظها على نغمات الموسيقى،بينما كانت الإماء تُعنى بها لجعلها أجمل ما يمكن،تستمر في عزف الأنغام التي كانت تحبها،ثم يأتي دور الكالفات الصغيرات،الاثناعشرة،وقد لبسن ثيابا جديدة قدمتها السلطانة،فيأتين ويواكبنها إلى بهو المرايا،حيث كان أبواها ينتظرانها،هما وكل من كان الحرملك. وعندما كانت الأوركسترا تبدأ بعزف لحن عيد الميلاد – وكانوا في كل عام يؤلفون لحنا جديدا – وكانت الكالفات ترمي فوقها آلاف من زهرات الياسمين الصغيرة التي كانت تعطر الغرفة كلها.
وعندئذ يبدأ توزيع الهدايا التي تكون سلمى قد اختارتها مع أمها السلطانة،لكل واحدة من إماء القصر ونسائه. ذلك أنهم،في المشرق،يعرفون،أن في العطاء من السعادة أكثر من تلك التي توجد في الأخذ،وأن عيد الميلاد يجب أن يكون عيد بالنسبة لكل من يحيط بنا. (..) وكانت سلمى تحتاج إلى ساعتين أو ثلاث لتفتح هذه الحزم،وتنظر في محتوياتها (..) وكثيرا ما تتذكر سلمى،بشكل خاص،عيدها الثالث عشر،أو الأخير،قبل النفي. ذلك أن أباها استقدم من باريس،من عند بائع الحلي المشهور كارتييه ساعة صغيرة عجيبة،لم تستطع البُنية أن تفهمها لأول وهلة. وكان الإطار الكريستال محاطا بلآلئ وماسات،وكانت عقارب الساعة من الماس أيضا،وكان الرقاص المصنوع من الذهب،والمعلق بين عمودين صغيرين من الكوارتز الزهري،ينعكس في قاعدة من الكريستال الصخري. (..) ومن خلال الشعل التي تترنح،كانت سلمى ترى نفسها لابسة ثوبا طويلا له ذيل،وعلى جبينها تاج. كما ترى باقات وأزهارا نارية،تلهب حديقة قصرها،قصر الدانتيل،وأوركسترا متوارية في الغيوبات،تعزف فالسات رومانتيكية. أما هي فإنها تمشي والوجه معرض لنسائم البسفور،وحولها نساء يلبسن قفطانات مطرزة بالذهب،يهرولن ويضحكن من سعادتها ... وبدأ الشمع يسيل على قطعة الكاتو الشوكولاتية. وبنفخة واحدة قوية،أطفأت سلمى الشموع،وصفقت الكالفات. وهذا يعني،على ما يتنبآن به،أن الأميرة ستتزوج خلال سنة.
أتتزوج إذن؟ ولكن ممن؟ إن سلمى تعرف أن أمها عادت إلى مراسلة بعض الأمراء،الذين كانوا، في الماضي،من أتباع الإمبراطورية. وحزرت الآن أنها كانت موضوع هذه الرسائل،ولكنها تتظاهر بأنها لا تُعنى بهذا الأمر.){ص 289 - 291}.
يبدو أننا سنخرج إلى الحديث عن السياسة في لبنان,بطبيعة الحال كما جاءت في الرواية ... والحديث عن إضرابات 1931 :
(أما المطالبة بالاستقلال،ومشكلة الاحتلال حتى لو أطلق عليه اسم الانتداب،فإن سلمى عاشت مثل ذلك كله في تركيا،وتألمت منه بدرجة كافية،لكي تفهم نفاد صبر أصدقائها.(..) لكن أكثر المرشحين لرئاسة الجمهورية هم الموارنة. ومن أبرزهم،إميل إدّة،وهو رجل قصير القامة في السابعة والأربعين من عمره،ومعروف بسلامته الخلقية وعواطفه المنحازة إلى فرنسا،وبشارة الخوري،وهو محامي لامع،أكثر انفتاحا على العالم العربي،وأشد نقدا لنظام الانتداب. ويقف ضد هؤلاء جميعا رجل مسلم هو الشيخ محمد الجسر،رئيس البرلمان. وهو رجل وسيم ذو لحية بيضاء،محترم بين أنداده المسلمين والمسيحيين على السواء. وكان نائبا في العهد العثماني،ونائب حاكم بيروت. وأثناء الحرب قام بخدمات كبيرة للطائفة المارونية،وأنقذ بطريركها من النفي. وهكذا فإنه مدعوم لا من الشيعة والسنة والدروز فحسب،بل كذلك من الكثيرين من الروم الأرثوذكس ومن الموارنة. ولما كان المسيحيون منقسمين على أنفسهم،فإن النجاح يصبح كبيرا. ولكن أيُقبل مسلم على رأس الحكم في لبنان؟ ويرى كثيرون من المسيحيين اللبنانيين،وفرنسا التي فصلت لهم بلدا على مقاسهم بُغية أن يكون لها في الشرق الأوسط حليف موثوق،أن هذا غير معقول،إذ يوشك أن يرمي لبنان في فلك سورية والعرب. (..) وتقضي سلمى ساعات في النقاش مع مروان وأمل. ونراها تستاء أشد الاستياء من موقف الفرنسيين،وملأى بالحماسة للشيخ الجسر،وهو صديق السلطانة يساعدها بأكثر مما يستطيع منذ أن جاءت منفية : وهي لم تنس قط تلك الليلة التي قضاها في قصر ضولمة باهتشه،وعندما كانت لا تزال في عمر الرابعة. وكان يصحب أباها إلى الدعوة الموجهة إليه من قبل السلطان عبد الحميد. وتقف سلمى مع أنصار الشيخ الجسر المتحمسين جدا. وظلت تفعل ذلك حتى جاء ابن عمها أورهان مع خيري،إلى شارع مار إلياس،وأنّبها بعنف على ما تفعل.
- إن هذا كله أمر لا علاقة له بك،أيتها الأميرة. وليس عليك أن تدخلي فيه.
وعلى الطريق،أمعن أورهان في تأنيبها،لمدة طويلة.
- سلمى،أأضعت صوابك. أتريدين أن يطردونا جميعا مرة جديدة؟ وإلى أين نذهب؟ أرجوك أن لا تكثري من الكلام،وتذكري أننا لسنا في بلادنا.
ترى أكان يمكن أن تنسى ذلك. ولكن عليها أن تعترف أن أورهان على حق. ذلك أن أفراد الأسرة العثمانية ما يزالون يُنظر إليهم وكأنهم السادة القدماء. فلا يمكن أن يسمحوا لأنفسهم بالتحيز لأية جهة. "وحتى بين الأصدقاء ينبغي أن تظلي على الحياد،إذ ما من شيء يبقى خافيا على الناس".){ص 292 - 293}.
في الحلقة القادمة : هل تصبح الأميرة سلمى نجمة من نجمات هوليود؟ أم تصبح "ملكة"على ألبانيا؟ .. إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
حياة أميرة عثمانية في المنفى"13"
نبدأ هذه الحلقة بالحديث عن السينما .. ( ومنذ عشر سنوات،فرضت هوليود نفسها كعاصمة "للفن السابع"،ولقد وصف تشرشل في مقال له في جريدة الـ Reveil،إحدى أهم جريدتين في لبنان،بعد أن تخلي مؤقتا عن العمل السياسي،وزار الولايات المتحدة،وصف هذه المدينة الجديدة "ككرنفال في بلاد الجن".
فالستوديوهات تغطي آلاف الفدادين التي تؤوي آلاف الممثلين – الاختصاصيين من ذوي الأجور العالية. وهناك جيوش من العمال يبنون بسرعة ومهارة شوارع صينية،أو لندنية،أو هندية. وقد يجد الإنسان عشرين فيلما في آن واحد. "والشباب والجمال هما ملكا العالم".
وعلى كل حال،فإن نجوم هذا العالم هن الإمبراطورات،اللواتي يفرضن معايير الموضة على العالم كله. فإذا ظهرن على الشاشة،ابتهجت الجماهير أكبر الابتهاج. وما من يوم بلغت فيه ملكة ما،مهما كانت شعبيتها طاغية،درجة الشهرة التي بلغها "الملاك الأزرق" أو "المرأة السماوية la Divine..".
وتذهب سلمى لرؤية كل فيلم من أفلام هؤلاء. فمارلين تهزها وتغريها. أما شخصية "لولا"فإن صوتها الأجش،وشهوانيتها المضطربة،عندما تغني "إني ملأى بالحب،من الرأس إلى القدمين"كل ذلك كان بالنسبة لفتاتنا اكتشافا حقيقيا. أوَ يمكن أن نَحمل الرجال على الافتتان إلى هذه الدرجة؟ ولكنها تجدها أجمل في فيلم "موروكو"عندما سحرت الجندي غاري كوبر،وهي في السموكنغ،واللباس الرسمي جدا،أو عندما تراها في فليم ماتا – هاري،مرة كطيارة في لباسها الرسمي،ومرة كامرأة مشؤومة،تصلح،بحركة أخيرة،حمرة شفتيها الحلوتين بحد سيف الضابط المكلف بإعدامها.
ومع ذلك فإن جريتا جاربو هي التي تستهويها أكثر من كل واحدة أخرى. (..) وذات يوم،وبمناسبة استقبال تم في منزل أسرة طراد،وهي من الأسرة التي تملك المصارف،والبارزة جدا في بيروت،تلاحظ سلمى رجلا في الخمسين من عمره،لم ينقطع عن النظر إليها طيلة العشاء. وعندما انتقل المدعوون إلى الصالة لشرب القهوة،فإنه يقترب منها ويقول :
- لقد نسي أصحاب الدعوة أن يقدمونا لبعضنا. فأنا ريشارد مورفي،المدير الفني لمترو غولدن ماير،وأنا ألاحظك منذ بداية السهرة،فهل أنت ممثلة؟
وسُرت سلمى لهذا المديح،وفتحت فمها لضحكة خفيفة وقالت :
- هل تدل هيئتي على ذلك؟
- أنت جميلة،وهذا لا ريب فيه،ولكن ليس هذا هو الأهم. ذلك أن لك حضورا وهذا أمر نادر جدا. فهل فكرت يوما ما بالدخول في عالم السينما؟
- لن أكون قادرة على ذلك أبدا ...
- هيا،لا تكوني متواضعة. فالتحرك أمام الكاميرا،هو مهنة،وهي تتعلم. ولكن الذي ينقص هوليود،هو هؤلاء الفتيات الشابات مثلك،ممن يمتلئن حيوية،ورقة،ومع وجود المستوى الذي ينبئ عن نفسه،بمجرد النظر. وأريد أن أقول لك شيئا قلما أقوله : إنك من قماشة الكواكب ... فما هو اسمك؟
- سلمى ...
- رائع،وخلال سنة سيكون هذا الاسم معروفا لدى الناس جميعا،ذلك لأني،يا آنسة سلمى،أريد أن أقود خطاك إلى المجد. فهل تسمحين لي بذلك؟
ولا يقول ريشار مورفي أنه استعلم،وأنه يعرف جيدا من هي سلمى،وأن هذا وحده هو الذي يهمه. ذلك أنه إذا كانت فتاة حلوة،فإنها،على الأرجح،ستكون ممثلة تافهة. أما المهم فهو أنها أميرة في هوليود! .. ويكاد من الآن أن يرى عناوين الصحف. فالأمريكيين يجنون بكل ما له رائحة الأرستقراطية. ومع حفيدة لسلطان،وحتى إن كانت لأفلام تافهة،فإن الـ MGM ستسبق بكثير الكولمبيا،والوارنر والفوكس.
ولكن المسألة ليست بهذه السهولة. إذ لا يمكن للسلطانة المعروفة بطبعها المتصلب،أن تسمح لابنتها بأن تنطلق إلى مهنة،لابد أنها تعتبرها معادلة لمهنة المومس. ثم هي في الجانب الآخر من العالم،في هوليود،هذا المكان المضيّع! ويبتسم مورفي داخليا : "فماذا إن هو أخذ الأم مع البنت لتراقبها؟ سلطانة مكتهلة محجبة في هوليود. إن الضربة ستكون عبقرية .. ولكن لا ندع لنفسنا أن تحلم: فإن الصغيرة هي التي يجب إقناعها وإغراؤها،بآمال المجد،إلى الدرجة التي تكون معها قادرة على تجاوز الاستئذان من أمها. فهي في عمر الرشد،أخيرا! وها هو الخطر يمد يده إلهيا. إن حياتها كلها هنا في الميزان".
وهذا ما حمل ريشارد مورفي على العمل لإقناع سلمى. فهو يسكن الآن ضيفا عند عائلة طراد،وسيدعوها كل يوم إلى حفلة شاي. ولا ينبغي أن يترك لها فرصة لتعود فتتماسك وهو يعرف التكتيك الذي يجب استخدامه مع هؤلاء الفتيات الطموحات والساذجات.وهو لم يعرف الخيبة قط.
- سلمى،أعتقد أنك أصبحت مجنونة تماما!
وهاهي السلطانة منتصبة على كرسيها،وحاجباها متقطبان،وهي تنظر إلى ابنتها كما لو أنها تحاول الإمساك بالشخص الغريب الذي يكلمها.
وللمرة الثالثة،تعود سلمى فتقدم شرحها للموضوع.
- أيندجيم،أرجوك حاولي أن تفهمي. فالـ MGM هي أكبر شركة للسينما في العالم. ويريدون أن أعمل معهم. إنهم يعقدون معي عقدا ذهبيا : خمسة أفلام في العام،وفي كل منها أنا البطلة. وهل تعرفين كم يدفعون لي؟ مئة ألف دولار في العام. تخيلي إذن. سنستطيع أن نشتري لأنفسنا قصرا،وستكوني براحة حتى آخر أيامك.
- إنك طفلة. أفلا تتخيلين فساد الجو المفعم بالممثلين،وما فيه من اللا أخلاقية؟
- أوه،ولكني أعرف كيف أفرض احترامي. {هذه عبارة تتكرر في تأريخ المرأة المحدثة بشكل لافت!! فكل ما حُذرت المرأة من أمر ما قالت : أستطيع أن أحمي نفسي!! فهل دعاهن جميعا ريشارد مورفي؟!!!} وأصلا فإني أفهمت أصحاب العلاقة أني لن أمثل أدوارا جريئة،وقد قبلوا.
- أدوار جريئة! .. ,قد قبلوا! ... إنه لشيء حسن من جانبهم. وحقا فإني أرى الآن أني أنا التي أصبحت مجنونة. ولن أناقش لحظة واحدة بعد الآن في هذا المشروع اللا معقول.
ونفرت الدموع إلى عيني سلمى،,هي لا تحاول حتى إيقافها. فنهضت واجتازت الغرفة بخطوات كبيرة غاضبة.
- بدأت أفقد الصبر من الحياة التي أعيشها! من حفلات الشاي الراقصة،والدعوات إلى العشاء،والبالات ثم البالات ... وها إني قد قضيت أربع سنوات بعد أن غادرت المدرسة. وعمري واحد وعشرون عاما،والزمن يمضي،ولم أفعل شيئا بعد بحياتي.
وشعرت السلطانة أن في هذا الانفجار العاطفي الشاب،آثار مرارة،ويأس،يرهقانها. وكانت تفكر أيضا بأن ابنتها لا تستطيع أن تكتفي بهذه الحفلات،كشاغل لحياتها.
فقالت بصوت حنون :
- هيا،يا سلماي. لا تأخذي الأمور بصورة مأساوية. والحقيقة أن لك من الشخصية أكثر مما ترضين معه بحياتك هذه. ويجب أن نزوجك.
ووقفت سلمى،وقالت بصوت ساخر :
- وأين هو الأمير الرائع؟
وردت الأم من غير أن تفارق هدوءها.
- لقد فكرت أنه ينبغي لك ملك.
فنظرن سلمى إلى أمها مذهولة : إذ ليس من عادة أمها أن تمزح! وقالت :
- ملك؟ ولكن ..
ومن غير أن يبدو على السلطانة أنها لاحظت دهشة ابنتها تابعت كلامها بنفس اللهجة :
- شكرا لله،فما يزال هناك بعض الملوك على هذا الكوكب. والملك الذي فكرت فيه لك،هو زوغو ZOG ملك ألبانيا. ومنذ بعض الوقت،قمت ببعض الاتصالات،السرية طبعا. وأنت تعرفين أن أخته تزوجت منذ مدة قريبة،عمك الأمير عابد،أصغر أبناء السلطان عبد الحميد. وهذا مما ييسر المفاوضات. وأنا لا أخفي عنك أن الملك أحمد زوغو ليس بملك كبير،ذلك أنه لا يحكم إلا ما هو قريب من المليون نسمة. ولكنه ما يزال شابا،وهو جميل،ويبدو أنه يملك صورة التعامل الحلوة،ولا يُعرف له عيب شائن. ثم إنه يتكلم التركية بطلاقة لأنه أتم دراسته في إستانبول،وهو يُكن أكبر الاحترام لأسرتنا. (..) فما رأيك في هذا؟ أترضين أن تكوني ملكة؟
"أي دور"وقضت سلمى ليلها بالتقلب في سريرها،مرة لطرف،ومرة لطرف آخر،ذلك أنها أكثر هيجانا مما تستطيع معه النوم. وفجأة تظهر لها أنوار هوليود براقة وتافهة : وستكون ملكة،ولكن لا ملكة من السيلوئيد! ومنذ الغد سنخبر مخرج مترو غولدن ماير أنها لم تعد مستعدة لتوقيع العقد،وأن لديها ما هو أفضل كعمل! وتتخيل دهشته : سيفتح فاه ليصبح أكبر من فم الأسد الذي جعلته الشركة شعارا لها،وسيطرح عليها ألف سؤال. وبديهي أنها لم تستطيع أن تجيب بشيء..
وخلال الأسابيع التالية،ستغرق سلمى في كل الكتب،وكل المجلات،التي تتحدث عن ألبانيا. واتفقت مع أمل على القيام بغزو على جميع مكتبات المدينة،لأنها الوحيدة التي حدثتها عن هذا الموضوع. ستقرآن،وتناقشان،وتُشغفان بالإطلاع. غير أن ما تكتشفانه ليس بالمفرح دوما. لاشك أن المملكة الصغيرة الجبلية رائعة الجمال : وقد عُرف أبناؤها،وهم فلاحون جفاة وشرفاء كيف يحتفظون بعادات أجدادهم،واحتفظوا بقانون رائع لقضايا الشرف. (..) وهناك صحف تُعجب بكرم الملك،وتوضح أن الهدايا التي يقدمها لأصدقائه وأسرته،تنشأ إلى حد كبير عن خلطه بين ماله و مال الدولة. (..) وبالجملة فإنها تسجل،بانتباه شديد،جملة الأرقام والتفاصيل التي تتحدث عن فقر المملكة وعما فيها من تخلف. إذ يجب أن تبني المشافي والمدارس. ومنذ الآن تتخيل البسمة المطمئنة التي ترتسم على وجوه النساء والأطفال،الذين قررت أن تكرس نفسها لهم. وهي تعرف أن مهمتها ليست سهلة،وأنه يجب تغيير العادات،والاصطدام بالمواقع المكتسبة،ولكنها ستناضل،و تشعر فجأة أنها قوية بالحب الذي يحمله شعب كامل.
وبنوع من الاندفاع العفوي،أحاطت بذراعها خصر صديقتها،لتقول لها :
- لن تنسيني. و ستأتين مرات كثيرة لزيارتي،أليس كذلك؟
فتعانقها أمل بحنان،وتقول سآتي لرؤيتك طبعا،أعدك بذلك. (..) منذ ذلك الحين،ومنذ أن تعود سلمى إلى البيت،نراها تختلي بزينل. وخلال ساعات،يتكلمان "على بلادهما"وما فيها من غابات واسعة،وشلالات،وقرى جميلة من الحجارة البيضاء،جاثمة على طرف الجبل،وعلى الليالي الطويلة في الزاوية التي فيها النار،حيث بتسامر الناس حول حكايات فرسان شجعان تحميهم الجن،وعن المُعيزة الرائعة التي تزوجها ابن الملك،ذلك أنها كانت تخفي تحت صوفها وقرنيها"حسناء الأرض"،وحكاية"الدب النادم"وحكاية"الصوص الساحر"..
وكان زينل في الثالثة عشرة من عمره،عندما أخذه جنود السلطان من قريته في ألبانيا،إلى عاصمة الإمبراطورية. ولقد حاول النسيان،و نجح في ذلك جزئيا. ولكنه اليوم يتذكر كل التفاصيل،كما لو أنها حدثت البارحة.(..) ومضى شهران. ولا يصل من ألبانيا خبر. وبعد أن أعطت السلطانة موافقتها المبدئية،فإنها ترفض الآن متابعة الاتصالات. وهذه المفاوضات حرجة بطبيعتها،وتحتاج إلى وقت. وقد يكون أثر الاستعجال فيها سيئا جدا .
وأخيرا وصلت الرسالة المنتظرة من زمن طويل،مختومة بخاتم الأسرة الملكية. وكانت صادرة عن أمين السر الشخصي للملك. وهو شخص في غاية التميز عرفته السلطانة منذ أن كانت وظيفته في إستانبول. وبعد التهاني المعتادة والتمنيات المتصلة بالصحة والسعادة وللأسرة الإمبراطورية،يقول فيها :..) {ص 294 - 301 }
ذلك ما سنعرفه في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
حياة أميرة عثمانية في المنفى"14"
وتقرأ السلطانة في رسالة أمين سر الملك أحمد زوغو :
(إنك لا تجهلين،يا سيدتي السلطانة أن الرئيس مصطفى كمال قرر قطع العلاقات مع ألبانيا بعد زواج الأمير عابد بأخت جلالته. غير أن الملك مضطر لأسباب تفهمينها،لإعادة العلاقات مع تركيا. وهكذا فإن الزواج بأميرة عثمانية يفسد نهائيا ذلك التفاهم الضروري بين بلدينا.
ولهذا فإن جلالته،الشديد الأسف،مضطر إلى العدول عن هذا المشروع الذي كان يتمناه من كل جوارحه. إلا أن الأماني الشخصية يجب أن تمحى أمام مصالح الدولة.
وتفضلي،يا سيدتي،بقبول ..". وبطبيعة الحال فقد أطلعت السلطانة ابنتها سلمى على هذه الرسالة،وهي شاحبة الوجه جدا. فقرأتها سلمى،وانفجرت ضاحكة،ومزقتها بهدوء. (..) وبنفس الهدوء عادت سلمى لحياتها الطبيعية،متناسية هوليود،بنفس الطريقة التي نسيت بها زواجها بالملك زوغو. وعند عودتها إلى المنزل،ذات ليلة فوجدت ..( أمام سور البيت سيارة سوداء من نوع الأحصنة الخمسة،وكان باب البيت مفتوحا،وبقفزة،اجتازت سلمى البهو وكانت كل الأنوار مفتوحة،ولكن ليس هناك أحد. فتصعد على السلم بأقصى سرعة،وتتجمد أمام باب غرفة أمها : فقد حدثت مصيبة،وكانت تعرف ذلك (...) وتدفع الباب،وهي ترتجف. وكانت الغرفة مغمورة بنور قاتم. ولم تر سلمى أول الأمر إلا ظهرا عريضا يلبس الريد نجوت الرمادي. ثم قليلا فقليلا بدأت ترى زينل والكالفتين،الذين أشاروا لها بحركة إصبع على الشفتين بأن تسكت. فتتقدم ببطء وتبحث عن أمها بعينيها،وآنئذ استدار الريد نجوت الرمادي وحرّك النظارة الوحيدة التي على عينيه،لينهر هذا الفتى المعمم. ولكن سلمى لا تراه،فتقترب،وفجأة تلمح شكلا متمددا على الأرض متصلبا ... ميتا!
فصرخت "أيندجيم"واندفعت نحو أمها. ولكن قبل أن تصل إليها،كانت هنالك يد قوية تمسك بها.
- الهدوء ! ليس هذا الوقت وقت التصنع!
وبعد أن دفعتها بقسوة إلى ذراعي زينل،جلس الطبيب القرفصاء وعاد إلى فحصه. وبعد عدة ساعات أو عدة دقائق،مما تعجز هي عن تحديده،نهض وطلب أن تغطى المريضة بأغطية إضافية. (..) - إن أمك أصيبت بنوبة قلبية،خطيرة جدا،أيها الشاب،ولحسن الحظ فإن القلب قاوم.
- ولكن.
- أخشى أن تبقى مشلولة.
وأمام البيانو،كانت سلمى جالسة،لا تتحرك. فقد عزفت منذ قليل بضع مقطوعات "لشوبير"،هي المرتجات الثانية والخامسة،أي تلك التي تأثرها آيندجيم (..) أما السلطانة الجالسة باستمرار على مقعد متحرك،لا تتحرك منه إلا لكي تنقل على ذراعي زينل،إلى سريرها،فقد أصغت إليها،والعينان نصف مغلقتين،في وضع من يشعر بكامل الغبطة.(..) وكان مروان وأمل،وحدهما،يتابعان زيارة شارع رستم باشا،بانتظام. وكانا قلقين من ملاحظة أن سلمى تنكمش على نفسها،وتقضي كل ما بعد الظهر،في تأليف ألحانsonatives وبالات حزينة. وذات يوم خلت السلطانة بمروان وقالت له :
- لابد لهذه البُنّية أن تخرج! أرجوك،جد وسيلة لذلك،وإلا فإنها ستصاب بمرض. ومريضان في هذا البيت أكثر مما يجب – قالت ذلك وهي تضحك – وأنا أحرص على الاحتفاظ بتميزي!){ص 301 - 313}.
وبدأت سلمى في الخروج وحضور الحفلات،ثم تعلقت بابن عم مروان وأمل!! مناضل درزي،حلمت معه بتحقيق أحلامه .. ثم .. ( وكانت ساعة تشير تقريبا إلى منتصف الليل،عندما عادت سلمى إلى البيت،ودخلت على رؤوس أصابع قدميها،وكانت أمها تنتظرها في الصالون. وبكل برودة تسألها عن صحة أمل،ولكن قبل أن يتاح الوقت للرد،قالت لها أمها :
- وفري عليّ كذبك. فهذه هي المرة الثانية التي يقولون لي فيها إنهم رأوك مع هذا الشاب الدرزي. فماذا بينكما؟
وعندئذ لا مجال لسلمى أن تضلل أمها،ولكنها في الأعماق تخفف عن نفسها،فقد أصبحت لا تطيق الإخفاء.
- هنالك،يا أيندجيم،أننا متحابان.
فترفع السلطانة حاجبيها،بفقدان صبر :
- ليس هذا سؤالي. فهل يريد الزواج منك؟
- بالتأكيد.
وبدت لحظة ما،مترددة. فوحيد لم يتقدم قط بطلب رسمي،ولكن من البديهي أنه يريد الزواج منها!
- وإذن فلماذا لم تأت أمه لتحدثني بهذا الشأن؟
- إنها تسكن بعيدا جدا،في عين زلفا،وهي قرية في الجبل،وأظن أن صحتها لا تسمح لها بالسفر.
- جيد جدا. فغدا تأتيني بهذا الشاب،في وقت ساعة الشاي.
- ولكن يا أيندجيم.
ليس هناك "ولكن". فإما أن تطيعي،وإما أن لا تخرجي من البيت بعد الآن،إلا مصحوبة بزينل أو بإحدى الكالفتين. واعتبري أنك سعيدة إذا أنا استقبلت هذا الشاب. وهذا حسن،لأنك وصمت نفسك،والله شاهد عليّ بأني حلمت بزوج آخر لابنتي الوحيدة،وعندما أفكر ... أنه درزي! حتى ولا هو مسلم.
- ولكن يا أندجيم،إن الدروز مسلمون.
- إن هذا ما يدعونه. ولكنهم لا يرعون أركان الإسلام الخمسة. ثم إنهم يؤمنون بالتقمص،مثل الهنود. هيا. غيبي عن وجهي،أو أرفع راية الغضب.){ص 334 - 335}.
انتهى مشروع الزواج هذا أيضا بالفشل ... فقد تزوج الشاب الدرزي بامرأة أمريكية .. لثرائها،أو لأسباب سياسية ... (- وعلى كل حال،فإنه يجب على الفتاة أن تتزوج،قالت أمل،مع ضحكة خفيفة.
- وأنت يا سلمى؟
أنا؟ ما لك يا أمل؟ إن العالم مفتوح أمامي. وأقول أحيانا لنفسي إنه يمكن أن أكون ممن يدخلن سباق السيارات،أو قد أذهب فأعنى بالمجذومين. والمشكلة هي أني أخاف من السرعة،وأن المرض يصيبني بالهلع ... أما ملكة؟ فقد جربت،ولكن ذلك لم ينجح،أو نجمة سينما،فلم أنجح أيضا ... أو عاشقة،فقد كان النجاح أقل! فإن كان لديك فكرة ما،فأنا مستعدة لتجريبها.(..) وقد خطر ببال سلمى أحيانا أنها تستطيع أن تعمل! فهناك بعض السيدات البورجوازيات،على ما يقال،يعملن. وهي لا تعرف منهن أحدا،ولكنها سمعت الناس يقولون ذلك. فلو أنها اقترحت ذلك على السلطانة ... حقا إنها لا تجرؤ على تخيل رد فعلها. ثم،وعلى كل حال،ماذا تعرف أن تفعل؟
وسألت بلهجة مثيرة :
- هل تعتقدين بأنهم يقبلوني كخادمة؟ فأنا أعرف كيف أطرز،وأنشئ باقات زهر رائعة.
فنهضت أمل،وأخذت سلمى بين ذراعيها.
- يا عزيزتي،لا تكوني شديدة المرارة،إن هناك على الأقل عشرة رجال لا يطلبون إلا أن تقبلي بأي منهم زوجا،أوليس بينهم واحد يرضيك؟ (..) وما كاد الباب ينغلق وراءه {مروان} حتى دعت السلطانة ابنتها،وأخبرتها يصوت مرح جدا،مما هو غير مألوف لديها،بأنها تريد أن تحدثها بأشياء جديّة. وهذا النوع من المقدمات،يجعل سلمى عادة،تقف حذرة. ولكن أيندجيم اليوم تبدو على أحسن حال،مزاجا.
- يجب أن تفكري،يا بنيتي،بأن أمك تهتم أسوأ الاهتمام بمستقبلك ... لا،لا تقاطعيني! فكل صديقاتك قد تزوجن. وأمل نفسها على وشك الزواج. والحقيقة أني تلقيت في هذه الأيام الأخيرة عدة طلبات،لم أخبرك بأي منها،لأني كنت أأبى لك أن تكوني زوجة،لرجل لا على التعيين،لمجرد أنه أرستقراطي. وكنت أريد زوجا لائقا بمرتبتك،وبجمالك. ولقد بحثت مدة طويلة،واليوم ربما ... (..) وتتنهد سلمى،وتقول :
- هل يجب حقا أن أتزوج؟
- أي سؤال. ولكن بالتأكيد يجب أن تتزوجي،إلا أن تفضلي البقاء عانسا؟ (..) إنك لم تعودي في ذلك العمر الذي تتقلب فيه الفتاة تقلبات غير منتظرة. وعليك أن تبني مستقبلك،وأنت تعرفين أن هذا،بالنسبة إلى المرأة،يمر عبر الزواج.
وتخرج من حقيبة يدها غلافا أزرق طويلا.
هاك الرسالة. وأظن أنه سيهمك. إنه من صاحب السعادة مولانا. شوكت علي،مؤسسة الحركة الهندية لدعم الخلافة. وهو،على ما تتذكرين،الذي كان الوسيط في زواج بنات عمك،نيلوفر،ودورو شيهفار (..) إن سعادته يكلمني عن راجا في الثلاثين من عمره،غني بطبيعة الحال،ولكنه كذلك مثقف وعصري. ولقد قضى نصف حياته في إنكلترا،في إيتون Eton ،ثم في الجامعة في كمبريدج،ويسمى (أمير) وهو يحكم دولة بادلبور،غير بعيد عن الحدود النيبالية : ولكنه يقضي أكثر الوقت في قصره في لوكنوفLucknov ،إحدى أهم المدن في الهند. ويوضح سعادته أنه من أسرة مشهورة،تنحدر بخط مستقيم من حضرة حسين (أي حضرة الحسين)،حفيد النبي.{صلى الله عليه وسلم} أما أجداده،فهم من أوائل الفاتحين العرب الذين وصلوا إلى الهند في القرن الحادي عشر.
وماذا أقول لك أكثر من أنه رأى صورتك،وأنها أغرته،وقد أرسل طلبا بالزواج. بالشكل الرسمي. وبطبيعة الحال فقد أجبت بأن عليكما أن تتلاقيا. لكنه،حاليا،مشغول بمعركته الانتخابية،إذ سمح لأول مرة منذ أن صارت الهند تحت سيطرة الإنجليز،سُمح بالانتخابات. ويجب أن تجري في آخر السنة،وسيأتي إلى بيروت،مباشرة،بعد ذلك.
وتقول سلمى بلهجة حازمة :
- ليس عليه أن يلقى هذا العناء.
- أرجوك،كوني عاقلة،اقبلي على الأقل،أنه تريه. ولن نتحدث لأحد حول هذا الموضوع،بحيث إذا جاء،ولم يعجبك،رُدّ على أعقابه بكل حرية. ولكن ربما حلا لك؟ إذ ليس من المألوف أن نجد كل هذا الرصيد في شخص واحد. فلأكثر الأمراء الهنود،عقليات متخلفة جدا،أما هذا،قد رُبيّ في أوربا ..
- أيندجيم،لقد أسأت فهمي. ولقد قلت : ليس عليه أن يأتي. إذ أنني مستعدة للزواج منه.
ولا شيء يعيد سلمى عن عزمها،لا تحذيرات السلطانة القلقة من هذا العزم المفاجئ،ولا رجاء زينل،ولا بكاء الكالفات. إذ تبقى صامدة كالحجر،وتندهش من قلق الذين حولها،لاسيما وأن أكثر "الزيجات"التي تمت لأفراد العائلة،كانت حصيلة ترتيبات مسبقة،ورغم أن الحالات النادرة الأخرى لم تكن مكللة بالنجاح العظيم،أليس كذلك؟
ولا تقف السلطانة عند على هذه السفاهة الأخيرة،لأنها تشعر أنها تكاد تفقد أعصابها. ولكي نحصل على تعديل ما في موقفها،ربما كان من الأفضل أن لا نصدمها. والسلطانة التي لم تطلب قط في حياتها،الشيء نفسه مرتين،هاهي الآن تبذل قناطير من الصبر،لكي تحاول إقناعها.
- فكري يا سلمى،فأنا لم أكلمك عن الراجا إلا لأخرجك من بؤسك،وأبرهن لك على أن هناك رجالا يستحقون الاهتمام ... لا لكي تندفعي إلى الزواج في الطرف الآخر من العالم،في بلد لا تعرفين عنه حتى الآن شيئا.(..) إذن فليكن ما تشائين،ما دمت قد اخترت،وما دمت قد بلغت الخامسة والعشرين،فإن من واجبك أن تعرفي ما ذا تفعلين. ولكن،على الأقل،وخلال هذه الأشهر التي يكون فيها الراجا مشغولا في الهند،تكاتبا،وحاولا أن يعرف كل منكما الآخر،فنحن لن نذيع الخبر،ولكن تذكري سلمى،شيئا واحدا : فعندما تتزوجين فإنه لا يسعك العودة إلى الوراء،وما دمت قد وعدت بكامل حريتك،فلا بد من الوفاء بالوعد،حتى لو رأيت أنك أخطأت.
وكان الراجا يكتب مرة كل أسبوعين،بانتظام (..) وانقضى فصل الشتاء بهدوء،وكانت سلمى تهيئ سفرها.(..) وستمضي الأيام الأخيرة في حمى التحضيرات النهائية،التي بفضلها ينشغل الناس عن عواطفهم. بيد أن سلمى،لحظة السفر،تدخل إلى الصالون،لكي تودع أمها. ولم تستطع السلطانة حبس دموعها : إنها مسنة،ومريضة. تُرى هل يقدر لها يوما ما أن تعود فترى ابنتها؟ وتضم سلمى بين ذراعيها،بأكبر قوة لها،وتقول :
- يا غاليتي،هل أنت متأكدة تماما؟
- أوه،أيندجيم!
وتدس سلمى رأسها في كتف أمها،فتشعر أنها ترتعد،ولكنها تبقى حيث هي لتتنشق رائحة النرجس التي رافقت طفولتها.
- أيندجيم،إنك تعرفين جيدا أنه يجب أن نرحل،وأنه ليس هنالك من حل آخر.
وانتصبت ونظرت كل من المرأتين إلى الأخرى طويلا،وبعنف امّحت معه السنون،أصبحتا،من جديد،كما في الأزمنة الأولى،مختلطتين إحداهما بالأخرى،في اكتمال دافئ.
- يا بنيتي الصغيرة ...
وتغمض سلمى عينيها،ولاسيما أنها قررت ألا تدع مجالا لتأثير الحنان،ووهجه.
وبنعومة ترخي قبضتها ومعانقتها،وبحب لا مزيد عليه تُقبّل يدي أمها الجميلتين.
- سأعود،أيندجيم،لا تخافي. انتظري.
ومضت بسرعة،كما لو أنها كانت تهرب.){ص 343 - 353}.
حياة أميرة عثمانية في المنفى"15"
إلى الهند وصلت سلمى .. (أين هو إذن قطار المهراجا؟
ويبدو لسلمى أنها ما تزال تمشي منذ ساعات في هذا العفن المشمس،وفي هذا الصخب من الألوان والأصوات وفي هذه الفوضى الغريبة التي تهدد في كل لحظة أن تودي بها،لولا هذا الحاجز القوي،من حولها،والمؤلف من حوالي عشرة حراس في غاية الضخامة،ومن ذوي الشوارب أيضا.
ونحن في شهر آذار / مارس / والجو حار،ومحطة بومباي تشبه مركز ألعاب فروسية،في حالة الجنون،أكثر منها محطة أولى في شبكة السكة الحديدية التابعة للإمبراطورية البريطانية الفائقة العظمة،فهناك تحت القباب القوطية بين تيجان الصلصال،الرملي،والأعمدة الفكتورية المنحوتة نحتا يملؤها بالأزهار،جمهور صاخب يزدحم،صاما أذنيه عن النداءات الخنّاء للباعة الصغار،باعة الحمص،وغير مبالين بالروائح الكريهة لأطواق الياسمين المخلوطة ببقايا العرق والبول.
وتشعر سلمى بالاختناق،ولكنها لاتريد أن تكون في أي مكان آخر،مهما كان الثمن : هاهو إذن وطنها الجديد،وبعيدا جدا تقوم أبهاء الرخام الأبيض و نوافير الماء في فندق تاج محل (..) لقد شعرت بالاضطراب فالتفتت إلى رشيد خان،الرجل الثقة لدى الراجا،والذي جاء لاستقبالها لدى وصولها من بيروت،كأنما هي تسأله،ولكنه ابتسم مطمئنا،أمام سؤالها الصامت (المضمر) ثم كيف لها أن تصوغ سؤالا مطلقا كهذا؟
وقال :
...