(16)

توجه حلمي عند الظهيرة صَوْبَ عمال البساتين، ليشاركهم غدائهم أو ليتفحص ماذا يتناولون في غدائهم. سلك طريقاً كان يحب أن يسلكه في بدايات الصيف، فوق كتف ساقيةٍ مرتفعة عن الأرض بشكلٍ يسمح لها أن توزع مائها على جانبيها من خلال مساربٍ أُعدت لذلك. كان يحب المشي على كتفها ليلتقط ما تستطيع يده من ثمار (التوت) الأحمر الحلو.

الزمن في منتصف الخريف، فلا توت ولا ثمار غير ثمار الزيتون والحمضيات وبعض أصناف الكمثرى المتأخرة النضج تنتشر على جانبي الساقية. وقد زرعت أشجار التوت بصفوف متوازية مع أشجار (البايرس كارليانا: الكمثرى البرية) لتصد الرياح وتمنع الثمار من التساقط.

لاحظ نظافة جانبي الساقية من الأدغال (النباتات الغريبة) التي تمتص المياه من الساقية وتُسهِّل عمل القوارض في تسريب مياه الساقية الى أعماق الأرض، دون أن تستفيد النباتات المزروعة منها.

جلس ليشعل لفافةً من التبغ وتأمل ـ كما يفعل يومياً ـ ألوان أوراق أشجار (الكمثرى البرية) العملاقة والتي أصبحت في الجهة المقابلة له، كل يومٍ ألوانها تختلف عن اليوم الذي يليه، فمن أخضرٍ غامق الى أخضر مصفر الى أصفرٍ محمر الى بُني غامقٍ في بعض أطرافها، كان المنظر يُلهم رساماً محترفاً ليضفي على لوحته تشابكاً رائعاً في الألوان، خصوصاً عندما ينزل الناظر بنظره ليرى من خلال المسافات بين سيقانها أشجار (الكالمنتينا: اليوسفي) ذات اللون البرتقالي الغني والتي تزاحم اخضرار أوراق أشجارها.

لا تسمح الشجرة النفضية (التي تتساقط أوراقها في الخريف) من أن تسقط ورقة واحدة منها، دون أن تمتص كل عناصرها، ولا يبقى إلا الألياف اليابسة، وفي هذه العملية التي تطول عدة أسابيع، تتغير صبغة الألوان من لون الى لون، منذرة باقتراب أجل تلك الأوراق.

نفث آخر نَفَس من لفافة التبغ قبل أن يدوس بقدمه عقب سيجارته، وكان النفس الأخير يشبه النَفَس الأول، كان التشبث بلفافة التبغ والشوق لها، متشابهاً فيهما، بعكس وسط السيجارة.

(17)

وصل الى كوخ عمال البساتين عند تجمعهم لتناول طعامهم في استراحة مدتها ساعة، رحبوا به ترحيبا ودوداً، وناولوه كرسياً قديماً لا ظهر ولا مساند له، فجلس عليه، وشاغلهم بملاطفتهم وامتداح الشاي الذي يُصنع على الحطب، فناولوه كوباً من الشاي، ورجوه أن يشاركهم طعامهم.

لم يكن طعامهم جماعياً، بل كانوا يجلسون في حلقة متعرجة قريبين من النار التي تندَّسُ في جوانبها عدة أباريق لصنع الشاي، تفاهم أصحابها على اقتسامها. لاحظ أن البيض المسلوق في بيوتهم والطماطم وعُلبٍ من حليب الأطفال تم استخدامها لوضع اللبن (المخيض) داخلها، مع بصلة يابسة يحملها كل عاملٍ بصرته التي يحتفظ فيها بما أعدت له زوجته من طعام.

كان أحدهم قد قطع حديثاً له وقت وصول المهندس (حلمي)، وكانت الأعين تتجه إليه ليكمل حديثه، مُشجعةً إياه لإزالة الحرج، فأوجز بإكمال حديثه بالقول: (كَلب ما يبَّعِد .. حصيني ما يفوت). فهم المهندس أنه كان يحكي عن قصة تحرش معينة لاحظها إما في حيِّهِ أو في مكان ما، ولاك الناس في تلك القصة، فأراد القول أن حارس كل فتاة أو امرأة يسكن في داخلها، كما يرابط كلب الحراسة عند دواجن كل بيت، فإن لم يبتعد الكلب فلن يدخل الثعلب لسرقة دجاجة!

لم يشأ أن يدخل في حديث معهم بهذا الشأن لأكثر من اعتبار، وأهم تلك الاعتبارات أنه كان مشغولاً في حساب ما تحتويه كل وجبة من وجبات العمال من (سعرات حرارية) ليدونها في دفتر ملاحظاته، عسى أن يقف على مسببات انخفاض الإنتاجية.

(18)

توقف عند العامل الذي كان يُنظف بالساقية الرئيسية، فسأله عن طبيعة عمله ـ وإن كان يعرفه ـ فأجاب: أستاذ هذا الوقت نُكِّدْ السواقي ونتتبع (الخوَّانَات)، وكان يقصد الثقوب التي في أسفل السواقي التي تهدر كميات المياه.

كان العمال والمهندسون، يعرفون واجباتهم جيداً، كما تعرف أفراد طوائف النحل والنمل والسناجب الأعمال الواجب القيام بها مع ما يقابلها من تطورات الطقس المختلفة، لكن الفرق عند البشر، يتعلق بما يُضاف من تراكم خبرات ومعلومات تنتقل وِفق أحد ركائز النظرية العلمية وهي عمومية العلم.

لفت انتباهه، إصرار العامل على التعمق في ثقبٍ، يوسعه، ويهدم من جوانبه ويُدخل فيه أداة حادة، وكأنه يلاحق ثعبان عرف مكان اختبائه. سأله: ماذا تفعل؟ فأجاب: أريد أن أغلق تلك (الخَوَّانة) بشكل نهائي!

تذكر، أنه في طفولته، وفي بيتهم، حيث كان هناك، بئرٌ لجمع مياه الأمطار، تستخدمه أسرته في الشرب والطبخ وغيره، كانت مياهه تكفيهم طيلة أيام السنة، ولكنه في أحد السنين، لم تكفِ مياهه سوى شهرين، وعندما اندهش أفراد الأسرة من تلك الظاهرة، أجابهم جَدَّهُ: أن هناك ثقب في البئر، لا بُد من تتبعه وإغلاقه.

انتهى