سوف اتابع معك اخي عبد الغفور بالنسبة لتحويل النص اعتقد ان ام فراس كفيلة به بعد اذن منك
وفقك الله
ابو فراس
سوف اتابع معك اخي عبد الغفور بالنسبة لتحويل النص اعتقد ان ام فراس كفيلة به بعد اذن منك
وفقك الله
ابو فراس
أشكر اهتمامكم أخي الكريم أبو فراس
تقبل احترامي و تقديري
الانشقاقات المبكرة
على الرغم من المساومة غير الكاملة التي طرحها (توما الأكويني)، استمر النزوع الى تحويل السيادة السياسية (Regnum) من فرع للجماعة المسيحية الى هيئة جماعية مستقلة للدولة، وبقي هذا النزوع يجد عداءً مستحكماً في دعاوى (البابوات) بأنهم يجب أن يشرفوا على الجماعة بكاملها.
كانت أطروحة (مارسيليوس) التي رأت أن مصالح المجتمع كلها يمكن حصرها داخل حدود الدولة الدنيوية، هي المفجر الذي قلب الموازين من سلطة الكنيسة الى المصالحة مع الكنيسة ثم أخيرا الاستغناء عن الكنيسة.
لقد اقتنص (دانتي أليجيري Dante Alighieri) فكرة من مارسيليوس مفادها: وجوب استعادة السلام المدني الذي عطلته الكنيسة بتطفلها في الشؤون الإيطالية، وادعاء البابوات بالحصانة الكنسية إزاء سلطة الدولة. فقد اعتبر هذه التعديات على واجبات الميدان السياسي مسئولة عن تقويض التوازن الذي رسم حدود مجتمع مدني مسالم على نحو معقول.
(1)
لقد ركز (دانتي) على مسألة واحدة، اعتبرها أساساً لفكرة الحكم السياسي (الأرضي)، وهي حاجة الناس للسلام والسكينة والأمن. فإن تحقق لهم ذلك فإن عطائهم وإنتاجهم وحركتهم نحو التقدم ستزيد، وبعكسه فإنهم يبقون في حالة خوف وعدم اطمئنان على مشاريعهم وأموالهم وحياتهم.
لكن، من سيقدم لهم العون في تحقيق ذلك؟ يجيب دانتي: إنها الحكومة الواحدة (حكومة عالمية واحدة!) التي يجب أن تكون مفهومة، بمعنى أنها تحكم البشرية على أساس ما نشترك فيه جميعاً وأنها تقود الجميع نحو السلام بقانون عام.*1
وإن وجود إرادة واحدة توجه الجميع هو الشيء الوحيد الذي يضفي معنى على تنوع الغايات البشرية. ف (الملِك) يخدم الله لأنه هو فقط من يستطيع (حمل البشر على الخضوع لنظام واحد من القبول والرفض).
ما دام الإمبراطور والبابا يمثلان (نوعين مختلفين من السلطة) التي لا يمكن المساس بها، فإن السلطة الزمنية للإمبراطور تتنزل مباشرة من الله دون توسط الكنيسة*2.
لكن دانتي كان على معرفة بحدود محاججته، فهو يعلم أن الإمبراطور الكلي للعالم لا يستطيع الإلمام بكل تفاصيل الحياة في مختلف الأقاليم، فقال: (إنه ليس من الخطأ القول إن كل تنظيم لكل مدينة لا يمكن أن يأتي من الحكومة العالمية مباشرة، لأنه حتى القوانين البلدية تكون أحياناً قاصرة وبحاجة الى تعديلات مستمرة.
(2)
كان لدانتي خصوم ألداء، فقد واصل البابا (إنوسنت الثالث Innocent III) و (إنوسنت الرابع Innocent IV) الإعلاء من مقام السلطة البابوية وادعاء السلطة على مجالات الحياة الدنيوية.
لكن (المرسوم البابوي Unam Sanctum) الشهير الذي أصدره البابا (بونيفيس الثامن Boniface VIII) عام 1302م دفع بالنزاع الى أشد مراحله تطرفاً بالنسبة للسلطة البابوية. وكرد فعل على سعي (إدوارد الأول Edward I) ملك إنجلترا و (فيليب الجميل ملك فرنسا) لفرض ضريبة على أملاك الكنيسة، فأعلن البابا، أنه لا سلطة فوق الكنيسة إلا سلطة الله.
لم تمنع الاحتجاجات الكنسية، الملك الفرنسي (فيليب الجميل) من إرسال جنوده للقبض على البابا بونيفيس الثامن، ولكن الموت سبقهم إليه.
(3)
انتقل الصراع الى (الكرادلة) الذين انتخبوا بابا على الفور، وواصلوا صراعهم مع السلطة ليبدأ قرن من الزمان سمي ب (الأسر البابلي 1309ـ 1378)، وضعت خلالها نظريات من قبل الكنيسة انشق عليها الراهب الدومنيكاني (جون الباريسي Dominican John of Paris) الذي دافع عن السلطة المستقلة للإمبراطور.
حُسم النزاع أخيراً لصالح الدولة القومية، بسبب التطورات الاقتصادية والسياسية، التي أنحى (مارسيليوس البادوي) باللائمة على البابوية بسبب الفساد والحزازات الفئوية والعنف المستشري في شمال إيطاليا، وقال أن الكنيسة أضعف من أنها تستطيع التماشي مع تلك التطورات وتساهم في تنظيم المسائل الدنيوية الأخرى. وتوقع (مارسيليوس البادوي) نهاية تقاليد العصور الوسطى برمتها.
وقد ساهم كتاب (مدافع عن السلمDefensor Pacis )*3 الذي ألفه (مارسيليوس البادوي) في معالجة الشرور الناجمة عن تعديات البابوية في الميدانين الروحي والزمني، وعواقبها السيئة على السلم المدني.
وبدأ مارسيليوس البادوي بالحاجات الإنسانية الأهم وتطلع الى أن تنظم الدولة المجتمع المدني حتى يتمكن الناس من العيش المشترك بسلام.
(4)
مما جاء بكتاب (مدافع عن السلم): (( لا يمكن للمجتمعات المدنية بوصفها مجتمعات ذات روابط منظمة سياسياً وأكثر سعة من العائلة أن تصبح مجتمعات كاملة ومكتفية ذاتيا كما أرادها الله من دون وجود السلام. فالبشر يحيون نوعين من (الحيوات) الخيرة: الحياة الزمنية والكونية والحياة الأبدية السماوية والمجتمع المدني هو منزل الحياة الأولى، وهو يشمل المدى التام لحياتنا على الأرض. ولكونه وجد أصلاً من أجل الحياة، فإنه يتشكل من الفصل في النزاعات وحبس المخالفين ومعاقبتهم، وحماية ما هو مشترك، والإعلاء من قيمة عبادة الله وتمجيده. أما حياة الكنيسة فمتضمنة ومحددة بالمؤسسات السياسية لمجتمع مدني دنيوي)).
رفض (مارسيليوس البادوي) لوجود أي صلة بين عمل الدولة وعمل الكنيسة، ودعا الكنيسة الى الانشغال بالدراسات اللاهوتية، وترك الشأن السياسي والدنيوي لسلطة الحكومة.
انتهى الفصل الثاني (الصفحات 73ـ 119)
هوامش
*1ـ ليلاحظ القارئ الكريم، أن تلك الأرضية الفلسفية كانت ولا زالت تغلف الخطابات السياسية والأيديولوجية التي توجه الإمبراطوريات في توسعها، زاعمة أنها وحدها القادرة على القيام بذلك.. فالمعارك الإغريقية والرومانية والفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وحروب نابليون بونابرت وهتلر وبوش كلها تندرج تحت هذا المعنى.
*2ـ تعتبر هذه أول إشارة لتحدي (الهرمسية) التي سادت ردحا من الزمن ولا زالت جذورها قائمة في العالم. وهذه الظاهرة تكونت بعد موت نبي الله (إدريس) عليه السلام، حيث حار الناس بمن يكون إدريس(هرمس): هل هو الله أم ملك من الملائكة؟ فتم الاتفاق على أنه وكيل الله في الأرض، فكان شكل البابا في الفاتيكان أو في الكنيسة الأرثوذكسية أو القبطية ممثلاً لله في الأرض، وقد كان للمراجع الدينية (الشيعية) شكلاً قريباً من ذلك.
*3ـ كتاب فيلسوف إيطاليا (مارسيليوس البادوي)، وهو أحد الكتب الأساسية في النظرية السياسية خلال العصور الوسطى. كُتب في باريس بين عامي 1320 و 1324م انتقد فيه السياسة البابوية وبعد أن ذاعت شهرته هرب الى بافاريا الى بلاط الملك لويس الرابع. [ هذا من تهميش المؤلف].
الفصل الثالث:
المجتمع المدني والانتقال الى الحداثة
الفضيلة والسلطة
إن الحقب الانتقالية ليست يسيرة على الإطلاق، والانتقال الى الحداثة ليس استثناء. فلقد أسفر انحلال الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية في القرون الوسطى الى استشراء قدر عظيم من الفوضى والاضطراب، حال دون بلورة نظرية متسقة عن المجتمع المدني.
كان من الواضح أن المقولات القديمة لم تكن وافية، ولم تكن المقولات الجديدة قد برزت بعد، ولم يعد بالإمكان فهم المجتمع المدني بوصفه جماعة سياسية ودينية شاملة، ولكن البنى الاقتصادية والسياسية الحديثة كانت لا تزال في طفولتها الأولى. وكانت السلطة النامية للأسواق القومية والدول القومية تَطحَن لبعض الوقت بُنى الإقطاع التراتبية للمكانة والرتب والطبقات الاجتماعية قبل الهجوم المدمر الذي شنه عصر النهضة وحركة الإصلاح.
(1)
كانت مرحلة التحول تلك مشوبة بفسادٍ سياسي، جعلت من المفكرين في ذلك العصر أن يشغلوا عقلهم في الخلاص مما كانت الدولة تمر فيه، فقاد هذا الوضع (نيكولاي مكيافيللي) الى حسم العلاقة بين ما هو دنيوي وما هو ديني، ولكنه لم يستطع الخروج عن المقولات الجمهورية المألوفة.
إن اقتصاد السلطة الدنيوية الذي جاء به مكيافيللي، وحرية الضمير التي نادت بها حركة الإصلاح المدني استبقت نشوء مجتمع مدني منظم على أساس المصالح الخاصة. وأعلن (توماس هوبز) ميلاد فرد مصلحي جديد ينشط في مجتمع مدني تنظمه سلطة الدولة. وإن هي إلا مدة قصيرة حتى انهارت محاولة العصور الوسطى لفهم (الكنيسة والدولة) بوصفهما سلطتين تشريعيتين متكاملتين لجماعة مسيحية واحدة.
انتقد مكيافيللي تمركز السلطة في كل من الكنيسة والاستبداد الملكي على حساب نظام مركب من المؤسسات الوسيطة والأديرة والبرلمانات والمدن والأصناف الحرفية والطبقات الاجتماعية التي ميزت مشهد النظام الإقطاعي في أواخر عهده.
(2)
ركَزَ مؤلف الكتاب (جون إهرنبرغ) على أبرز ما تناوله كتاب (الأمير) لمكيافيللي، ومن يتمعن بالنقاط التي ركز عليها المؤلف، سيتعرف على حِراكٍ كان قائماً في تلك المجتمعات الآخذة بالتحول، لتقود في حراكها التوجهات السياسية لدى النُخب الأوروبية لما آلت إليه العلاقة بين الدين والدولة.
يقول مكيافيللي: إن النظام السياسي المتين يستند الى رضا السكان، ويستلزم احترام عاداتهم، واحترام أسس النظام الاجتماعي القائم. فالأمير (يجب أن لا يغير قوانينهم ولا ضرائبهم) وأن يحذر من التصرف غير المحتشم مع النساء، ويحاول أن يحكم المدن المفتوحة من خلال مواطنيها ومؤسساتها هي بالذات. وقبل هذا وذاك، من الضروري ألا يغفل الأمير أبداً عن العنصر الأهم المتمثل في أملاك رعاياه الخاصة، فعلى الأمير (أن يمنع نفسه بممتلكات الآخرين، لأن الرجال ينسون موت آبائهم أسرع من نسيان ضَيَاع ممتلكاتهم)
تعليق:
كان الأمراء في أوروبا في تلك الحقبة، إذا ما رأوا بستاناً ذا حدائق غناء أمر رجاله بطرد أصحابه وضمه لممتلكاته، وإذا ما رأى فتاة أو امرأة جميلة، أمرهم بإحضارها وقتل من يريد الدفاع عنها (زوجها، أو والدها). هذا الأمر ظهر بكتابات (مونتسكيو) عندما طالب أنه لا يجوز قتل شخص إلا بقانون، ولا يجوز الاستيلاء على أرض إلا بقانون، ولا يجوز سن قانون إلا بموافقة ممثلي الشعب، وكانت تلك النواة الأولى لفكرة الديمقراطية الحديثة.
ولو عدنا في منطقتنا العربية، الى بداية القرن العشرين، لرأينا تصرفات الإقطاعيين لا تختلف كثيراً عن تلك التصرفات، فكان الإقطاعي يعبث بعفاف نساء الفلاحين لديه، وله زبانيته الذين يصدون من يعترض، من خلال حظوات اكتسبها الإقطاع في الفترات التي سبقت انهيار الإمبراطورية العثمانية. وما أن أخذت الدولة العربية بالتكون، حتى شاهدنا من فقدوا امتيازاتهم الإقطاعية يهرعون للوقوف ضد التغيير، تارة بالتباكي على زوال (دولة الخلافة!) وتارة بزعمهم معاداة التقليد الغربي. وهم بالحقيقة لا يهمهم سوى ما فقدوه من امتيازات، ولا زالت تلك الفئات وما شابهها تشكل عائقاً كبيراً أمام الانتهاء من تشكيل الدولة العربية الحديثة التي تخلو من لوائح الاستثناءات والمستثنيين.
(3)
يقول مكيافيللي: ( إذا كان الأمير هو الذي يبني سلطته اعتماداً على الشعب، وكان رجلاً قادراً على القيادة وشجاعاً، غير آيسٍ في ساعات المحنة، وغير هياب من اتخاذ التدابير، حائزاً الولاء بفضل المؤسسات التي شادها، وبما له من صفات شخصية، إذا كان الأمير كذلك فلن يخذله الشعب مطلقاً، وسيكون قد شاد سلطته بإحكام)
ويقول في مكان آخر: (على الأمير أن يشجع الرجال المقتدرين، ويُكرم المتفوقين في أعمالهم. وعليه أن يوفر الأسباب ليمضي المزارعون والصناعيون والتجار بأعمالهم بسلام، فعلى المرء ألا يخشى من تحسين ممتلكاته مخافةً أن تُسلب) و (عليه أن يُدخل البهجة في أوقات مناسبة من السنة في قلوب الناس من خلال الاستعراضات والمهرجانات).
وما دام أن مجتمع المدينة مقسم الى أصنافٍ حرفية وعائلية فيجب أن يحظى كل صنف برعاية تحسسه بمواطنته وعضويته في حلقة أو دائرة في المجتمع المدني.
(4)
إن في كل جمهورية نزعتين مختلفتين: نزعة العامة ونزعة الطبقة العليا، أما التشريع الملائم للحرية فيتحقق نتيجة الفهم للصراع بينهما. لا يمكن إزالة الصراع الاجتماعي، ولكن يمكن جعله صراعاً مدنياً من خلال مؤسسات مناسبة، وحياة عامة نشطة، وقيادة خلاقة.
تسقط الدول عندما ينحط الصراع الاجتماعي الى مستوى نزاعٍ سياسي. بيد أن مكيافيللي كان واثقاً من أن مثل هذا الصراع يمكن أن يعزز الحرية إن تمكنت المؤسسات السياسية من حل الجدالات الحتمية التي تنشأ عن الصراع الطبقي أو عن المصالح الشخصية.
عندما يتم تعيين أو انتخاب المدافعين عن العامة فإن النظم المستبدة الملكية ستتحول الى دول أرستقراطية ثم تواصل طريقها للتحول الديمقراطي.
(5)
تحمل كل الدول بشكل طبيعي جرثومة الانحطاط، فالقوة والثروة الزائدة مع غياب المؤسسات التي تصون الدولة، تسحبان الدولة الى الفساد رغم وجود تألق ثقافي.
وأحياناً يكون ضغط العامة لإيجاد وظائف لمدافعين عنهم، تجعل هؤلاء المدافعين يدخلون في نزاع أو تفاوض مع النبلاء وعلية القوم (في الدولة التي لم تصل بعد الى الديمقراطية) لتقاسم الألقاب والامتيازات. وهذا سيقود الى إجهاض حالة الصعود في تشكيل الدولة الصلبة.
إذا كان العامة يرغبون في قبول فقرهم لأنهم حظوا بالتمثيل السياسي (فالفضيلة كانت تُلتمس مهما يكن البيت الذي تقيم فيه. فجعلت طريقة الحياة هذه من الثروات أقل جاذبية). ولكن تبين أن ضغط طبقة النبلاء المتواصل، واشتداد قلاقل العامة، وفشل المؤسسات السياسية، هي توليفة قاتلة.
(6)
من هنا تأسست فكرة ضرورة إيجاد المجتمع المدني بمؤسساته الفاعلة، فالبرلماني الذي لا ينتمي الى هيئة اجتماعية تساعده في تكوين رأيه واتخاذ موقفه المنسجم مع موقف الدائرة الاجتماعية التي أوصلته للبرلمان، وتحاسبه إذا ما انحرف، سيكون منشغلاً منذ اليوم الأول في تحقيق مكاسبه الشخصية على حساب مصالح المؤسسة المدنية (مؤسسة المجتمع المدني) التي انتخبته. وهذا ما يجعل من الانتخابات البرلمانية المنقوصة في كثير من البلدان، عبئاً إضافيا على المجتمع ودولته وميزانيته، ويقود الى الفساد وخراب الدولة.
يتبع
المجتمع المدني والضمير المتحرر
لقد كانت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا تدور حول فكرة (مارتن لوثر) بأن هناك دوراً مركزياً للتجربة الباطنية للإنسان، التي تقلل تماما من قيمة الخدمات الظاهرية التي يؤديها رجال الدين. وكان لهذا الدفاع عن ميدان الحياة الشخصية الذي لا يمكن النفاذ إليه أثره العميق في مفاهيم المجتمع المدني الحديثة.
دخل مارتن لوثر في صراع مع الكنيسة من خلال طرحه لتساؤلات هامة فتحت الأبواب لجذب الأتباع مثل: (لماذا يناصر الله الباطل؟ [باعتبار سلوك الكنيسة في زمنه وحسب رأيه باطلاً] و (الله لا تسترضيه الأفعال الظاهرية). أدار مارتن لوثر ظهره لعالم مسيحي استند الى تراتبية وسلطة كنسيتين.
(1)
لا يمكن معالجة مفهوم النعمة الإلهية باعتبارها ثمرةً لصفقة تنال فيها الكائنات البشرية رضا الله بموجب أفعال ظاهرية. فلا البابوات ولا القرابين المقدسة ولا القوانين ولا القساوسة ضروريون لأجل الخلاص. فالتعبد، والطقوس، والشعائر الدالة على الخضوع الظاهر لم تكن بدائل مقبولة عن طهارة القلب والعقل.
يقول لوثر: إن الضمير هو مركز الإيمان، (( فلا البابا ولا الأسقف ولا أي كائن آخر له الحق في فرض أمر واجب على الإنسان المسيحي من دون رضاه)).
لم يتنكر مارتن لوثر للقول المسيحي القديم القائل بأن المرء يعيش حياته من أجل الآخرين، ولكنه اعتبر أن الأعمال التي لا تنبع من الإيمان بالله ونيل رضاه، لن تكون أعمال خير حتى وإن بدت كذلك، فالصالح بإيمانه يأتي بأعمالٍ صالحة والطالح يأتي بأعمالٍ طالحة. وهذا كله يعود لنقاء الضمير.
(2)
كان لوثر يأمل في أن تقوم الكنيسة بإصلاح نفسها، ولكنه اكتشف أنه لا يمكن أن تقبل الكنيسة بأدوار صغيرة، فلجأ حينها بالاستعانة بالسلطة الدنيوية لمعالجة وضع الكنيسة، لكنه أدرك فيما بعد أن مسائل الإيمان لا تقع ضمن مسئوليات الأمراء، وأن المجمع الكنسي هو فقط من يستطيع تناول المسائل اللاهوتية، فانحرف باتجاه أن مسئولية المجتمع المدني (المواطنين بهيئاتهم) هي من مسئولية الأمراء، وطالما أن هذا المجتمع يتعرض لحيف من الكنيسة، فعلى الأمراء التصدي للكنيسة من أجل إصلاحها.
سرعان ما جابه لوثر المواقف الثلاثة الجوهرية السائدة في زمنه وهي: أولوية السلطة الروحية على السلطة الدنيوية، والحق البابوي في تأويل الكتاب المقدس، والسيادة البابوية على المجمع الكنسي العام. فشرع في تهديم كل واحد من هذه الجدران الثلاثة على التعاقب.
(3)
رفض لوثر المزاعم القائلة بأولوية السلطة الروحية على السلطة الدنيوية، وعمل على إقامة أساس لاهوتي للفصل بين الكنيسة والدولة، وهذه الخطوة الأولى الحيوية نحو قيام نظرية حديثة عن المجتمع المدني. وأعلن أن للمسيحيين مهمات مختلفة في العالم ولكنهم جميعا أعضاء متساوون في الكنيسة وإن التقسيم الاجتماعي للعمل لا ينطوي على تراتبية متفاوتة في الشرف أو الخلاص.
إن جميع المسيحيين ـ القساوسة والحدادين والمزارعين والأساقفة والإسكافيين والأمراء سواء بسواء ـ مسؤولون الواحد عن الآخر وعن المجتمع ككل. إن تمايزات المجتمع المدني المميز لا تمس البتة في مساواة المؤمنين. وإن النظام الدنيوي ضروري للروحي.
كان لوثر بكلامه هذا، يبرر مسبقاً للأمراء بأن يتدخلوا في شؤون الكنيسة كون القساوسة رعايا مثلهم مثل بقية المواطنين.
وعند الجدار الثاني: أي تأويل الكتاب المقدس وحصره بالبابا، فقد قال أن مفاتيح الفهم قدمت لجميع المؤمنين فكل المؤمنين قساوسة وكلهم بابوات.
أما الجدار الثالث، وهو سيادة البابا على المجمع الكنسي العام، فقد استنبط لوثر منفذاً يسمح للمؤمنين بمحاكمة المجمع الكنسي إذا ما لعب به الشيطان، وهنا يكون للأمراء ـ كونهم من المؤمنين ـ الحق في محاكمة المجمع الكنسي وليس البابا وحده.
(4)
عندما أحرزت حركة لوثر زخما قويا، ذهب الى أبعد من ذلك، فطالب الأمراء بوقف (البهرجة) في طقوس الرهبان وملابسهم، ودعا الأمراء الى إجبار القساوسة على الزواج، وطالبهم برفع أيديهم عن تنظيم التجارة والصناعة، كان هذا في مسودة قدمها عام 1520.
إن فكرة المساواة والضمير، فتحت الأبواب أمام الفلاحين والأجراء ليقوموا بثورتهم عام 1524ـ 1525، فقاد لوثر (المستعين بالأمراء) الى الوقوف ضد تلك الثورات، مبررا أن تساوي الأرواح لا يعني تساوي الأجساد، ويخطب بالعبيد والفلاحين: ألم يكن للأنبياء عبيداً وخدماً؟
يجوز للعبد والمريض والسجين أن يكون مسيحيا ولكنه ليس حراً!
على المسيحيين أن يطيعوا السلطات الدنيوية لضمان الاستقرار ولأن السلطة تمنع تسلل اللاأخلاقيين وتمنع الشرور، اعبدوا الله بضمائركم وأطيعوا السلطات. هذا موقف لوثر.
السيادة، والمصلحة، والمجتمع المدني
كان ظهور كتاب (اللوياثان Leviathan) في العام 1651 البرهان البالغ الأهمية الذي قدمه (هوبز) على أن المجتمع المدني لا تقوم له قائمة من دون سلطة الدولة. فجهده القوي لإظهار "قلب" و "أعصاب" و"مفاصل" الجسم السياسي انتهى الى نتيجة مؤداها أنه يجب دمج هذه الأعضاء في مصدر مهيمن واحد، إذا كان يُراد للمجتمع المدني أن ينتظم، وللسلم المحلي أن يتوحد.
إن إيجاد (كائن مصطنع Artificial Man) تُنفخ فيه (روح سيادة مصطنعة Artificial Soul of Sovereignty) هو وحده الذي يستطيع أن يُنزل نِعَم الحضارة للأفراد الذين تتأتى أخطارهم الجماعية من مساواتهم ورغباتهم. لقد بحث (هوبز) المذعور من الثورة الإنجليزية، عن ملاذٍ في إقامة دولة ذات حدود مشتركة مع المجتمع المدني، ومؤسسة لهذا المجتمع الذي يُفهم، بحسب التعبير الحديث، ميداناً يمور بنشاط المصلحة الشخصية.
(1)
إن مخطط نظرية هوبز العامة معروف بما فيه الكفاية (القول للمؤلف). فانعدام الأمن المستشري الذي يقدم له المجتمع المدني علاجاً هو النتيجة الحتمية لرغبة الإنسان الدائمة في حيازة السلطة لغرض حماية نفسه. ونتيجة انعدام الأمن هذا، فإن جوع الإنسان الى مراكمة السلطة ـ " وسائله الحالية للظفر بخير مستقبلي ظاهر *1 " ينتقل به من شيء الى آخر، وإحرازه لشيء ما هو إلا مجرد حافز لإحراز شيء آخر أيضاً.
إن الفرد الجديد الذي يحسب حساب المصلحة (Calculating Individual) يحدد لنفسه أهدافه الشخصية في غياب " الخير الأعظم " الذي سوف يقصده الناس كافة طواعيةً.
إن الإنسان يأمل في الحصول على لذةٍ أكبر مما كان قد حصل عليه، أو أنه لا يستطيع الاقتناع بسلطة معتدلة. إن الحاجة الى مراكمة المزيد من السلطة أمر ملازم لجوهر الشرط الإنساني.
إن هذه "الرغبة في حيازة سلطة إثر سلطة " يشكل تهديداً عارما باندلاع حرب بلا نهاية ما لم توضع هذه الرغبة تحت السيطرة. والمفارقة العظيمة في حياتنا الإنسانية هي أن رغبتنا البسيطة في الأمن، وقابلياتنا المتساوية في العدوان، يسفران معاً عن وضعٍ لا يُطاق.
عندما يرغب الناس في الأشياء نفسها و (لا توجد سلطة قادرة على إرهاب الجميع) فإن الاضطراب المتساوي والقابليات المتساوية والرغبات المتساوية تنتج حالة حرب دائمة.
في ظرف كهذا لن تكون ثمة صناعة؛ لأن ثمارها غير مؤكدة، ولا حراثة للأرض؛ ولا ملاحة للبحر، ولا فائدة مرجوة من استيراد البضائع عبر البحار، ولا عملية بناء واسعة، ولا وسائل للنقل، أو لرفع تلك الأشياء التي تحتاج الى قوة؛ ولا معرفة لنا بوجه البسيطة؛ ولا تقدير للزمن؛ ولا فنون؛ ولا آداب؛ ولا مجتمع، لن يكون هناك سوى الأسوأ: خوف دائم وتحسب من خطر الموت العنيف؛ وحياة يقضيها الإنسان منعزلاً وبائساً ومقرفاً ومتوحشاً وفظاً، حياة قصيرة*2
(2)
من المستحيل قيام المجتمع المدني من دون (سلطة عامة)، ولسوف تجعل فوضى الشرط الطبيعي الإنساني من الحياة نفسها أمراً مستحيلاً. والمفارقة العميقة هي أن كل فرد يعتمد على عقله الشخصي ينتهي سريعاً الى وضع لا يُطاق بالنسبة للجميع.
ليس بوسع الناس العيش بسلام ما لم يرغبوا في التخلي عن (حقهم في الأشياء كلها)، ويقنعوا بدرجة محدودة من الحرية. ينتج عن هذا التخلي عن حساب مصلحي معين، مفاده أن منافع السلم تفوق ما يخسره الناس حين لا يعولون على فطنتهم أو لا يكونون هم من يبت في المسائل التي تهمهم.
لا تقوم للمجتمع المدني قائمة ما لم تُنفذ العهود وتُحترم الاتفاقيات. فإذا ما وثق الناس بأن الآخرين قادرون على السيطرة على أنفسهم، يكون بوسعهم العيش معاً بقدر كبير من الاطمئنان.
يجب أن تكون هناك سلطة قسرية تجبر الناس، سواءً بسواءٍ، على تنفيذ مواثيقهم من خلال رادع العقاب الذي يكون أعظم بكثير من المنفعة التي يتوقعونها من نقضهم للميثاق*3
(3)
إن العنصر المهم في المجتمع المدني لدى (هوبز) يعود الى الجماعة المنظمة سياسياً، ويعني ذلك صهر الدولة (المجتمع الحاكم) مع المجتمع (الكلي)، بتأسيس طوعي واتفاق دائم بين الطرفين لإتاحة حرية التعبير لمنظمات المجتمع المدني في معاونة الدولة (الحكومة) وردعها بحالة انحرافها، فهذا يصنع عقلاً عاما يحمي المجتمع.
إن الطريقة الوحيدة لإقامة سلطة عمومية كهذه، سلطة قادرة على الدفاع عنهم بوجه غزو أجنبي، وبوجه المظالم التي يسببونها بعضهم لبعض، وبذلك يحيون في طمأنينة عندما ينالون قوت يومهم بنفس راضية بمعونة الصناعة أو غلال الأرض، هي نقل سلطتهم كلها الى شخص واحد قوي أو الى مجلس من الرجال يصهر إراداتهم كلها من خلال تعددية الأصوات في إرادة واحدة، فيقر كل واحد من أبناء المجتمع بما يفعله أو يقرره ذلك الرجل.
إن العمل السياسي هو الذي يؤسس المجتمع المدني، وليس ثمة اختلاف بين القانون والأخلاقية، وتوضع السلطة كلها في يد صاحب السيادة، أما القوة فهي التي تشكل الدولة والمجتمع المدني بالطريقة نفسها.
خاتمة لهذا الفصل
لم تحظ أفكار هوبز تلك بإعجاب عام في وقتها، أي في القرن السابع عشر، لأنه حصر السلطة في فرد ينال شرعيته من وسائل تحددها منظمات المجتمع المدني المنصهرة مع الدولة (الحكومة) من خلال لوائح داخلية تستند الى دستور ينظم علاقة الجميع.
لكننا في الوقت الحاضر ومن خلال تصفحنا للكتابات السياسية والفكرية التي صدرت في القرن الماضي (العشرين) وما يصدر من كتابات في هذا القرن، فإننا لا نستطيع تجاهل نظريات ذلك المفكر والفيلسوف وتأثيره على المفكرين الحاليين في مختلف أنحاء العالم.
يتبع
هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Thomas Hobbes, Leviathan, Edited by C.B. MacPherson (New York: Penguin 1985, p150.
*2ـ المصدر نفسه صفحة 186.
*3ـ المصدر نفسه صفحة 202
القسم الثاني: المجتمع المدني والحداثة
الفصل الرابع: نشوء (الإنسان الاقتصادي)
عندما أخضع نيكولاي مكيافيللي الإيمان لمصالح الأمير والجمهورية المدنية، أحدث قطيعة مع العصور الوسطى. وأفرَد تشديد مارتن لوثر على حرية الضمير الفردي قوة كبيرة للسلطات السياسية التي كانت مسئولة عن تنظيم المجتمع المدني حول الحاجات الظاهرية لمجتمع مؤمن. والكثير من هذا يصدق على إعلان (هوبز) أن المجتمع وُجِدَ بسبب فاعلية قوة السلطة التي يتمتع بها صاحب السيادة وحده. ما من شخصية من هذه الشخصيات الانتقالية الثلاث السابقة قد عول على القوى السماوية لتطبيق المعايير العامة التي تمكن من تعيين الأهداف الجزئية والسعي وراءها.
الحقوق، والقانون، والميادين المحمية
(1)
في دفاع (جون لوك) عن (الثورة المجيدة) في إنجلترا، لم يبدأ بمهاجمة (هوبز) بل هاجم حجة البلاط القائلة أن السيادة شكلٌ للملكية يمكن أن يورث من ملك الى ملك، وهي حجة كانت أسرة ملوك ستيوارت (1603ـ1688) تسوقها لحقبة طويلة لدعم مزاعمها بالسلطة المطلقة.
جادل (جون لوك) بأن سلطة الدولة اللامحدودة سوف تقوض الأمن الذي صُممت هذه السلطة لحمايته أصلاً، وسوف تجعل من قيام المجتمع المدني أمراً مستحيلاً. كان (هوبز) قد فشل في مسألة أن الحفاظ على الذات لم يعد بحاجة الى سلطة صاحب السيادة، السياسية الآمرة، فالحفاظ على الذات يمكن أن يندمج الآن مع حماية الملكية.
إن الأرض وُهبت في الأصل لجميع بني البشر كي ينعموا بطيباتها، ولكل فرد الحق في أن ينال رزقه من هبات الطبيعة. يقول (لوك): (لكني سأحاول أن أبين كيف تسنى للناس أن يتملكوا بضعة أجزاء مما وهبه الله للبشر جميعاً، ومن دون أي اتفاق صريح بين عامة الناس)!
تعليق مبكر:
حاول لوك أن يبين في الفقرات التي ذكرها مؤلف الكتاب عن الكيفية التي يمكن للفرد أن يتملك بها، فذكر الجهد وحماية الدولة لملكية الفرد، ولم يتطرق لهبات الدولة للأفراد أو استغلال أصحاب المال لحاجات الناس للتخلي عن أراضيهم مقابل بعض المال الذي تحدده الحاجة، ولم يتطرق للأراضي التي تنتقل للإفراد عن طريق الإرث بغض النظر عن الطريقة التي حصل عليها الآباء والأجداد.
وهذه مسائل دار ويدور حولها النقاش الاقتصادي في مدارس الفكر السياسي المختلفة من اشتراكية ورأسمالية وغيرها.
(2)
المجتمع المدني الذي وفر الفعل السياسي فرصة قيامه، وأسسته حاجات المِلكية الخاصة، لم يخلق أي حقٍ جديد، بل سجل فقط نقل السلطة التي كانت بيد الأفراد لحماية أنفسهم في حال الفطرة الى سلطة عامة شرعية. فالناس شكلوا المجتمع المدني لأن قوة مصالحهم الجزئية جعلت من الصعوبة بمكان تنظيم سلطة عامة (لغرض تنظيم المِلكية الخاصة وحفظها).
أراد (لوك) أن يقول: أن الغاية الرئيسية للرابطة الإنسانية، في المجتمع المدني، كما هي الحال قبل التفكير فيه، كانت حماية المِلكية الخاصة، فعندما كان الإنسان العاقل يثق بقدراته للدفاع عن مِلكيته الخاصة لم يفكر في تأسيس تقليد جديد يتم فيه التعاون مع الأفراد الآخرين للدفاع عن تلك المِلكية، وعندما أحس بعقله أنه لم يعد باستطاعته الدفاع عن تلك المِلكية، دون التعاون والتنسيق مع الآخرين، فكر بموضوع المجتمع المدني.
يتدرج لوك في تفكيره لشرح موضوع المجتمع المدني انطلاقاً من (الحفاظ على المِلكية فيقول: (السلطة التي يملكها كل إنسان في حال الفِطرة (الطبيعة) ويتخلى عنها للمجتمع ومن ثم للحكام الذين نصبهم المجتمع عليه بثقة صريحة أو ضمنية، لتستخدم من أجل صالحهم، وحفظ ملكيتهم).
(إن الغاية العظيمة والرئيسية للناس المتحدين في جماعات سياسية، يضعون أنفسهم تحت قيادة حكومة، هي المحافظة على ملكيتهم)
(إن أولئك المتحدين في هيئة واحدة، ولديهم قانون ونظام قضائي راسخان وعموميان يمكنهم أن يحتكموا إليهما، ويتمتعون بسلطة للفصل في النزاعات التي تنشب بينهم، ومعاقبة المعتدين، أقول إن أولئك إنما يعيشون في مجتمع مدني: أما أولئك الذين يفتقرون الى مرجعية في هذا العالم يحتكمون إليها فما زالوا في حال الفطرة. فكل واحد منهم، بمعزل عن الآخرين، يحكم وينفذ لنفسه بنفسه).
(3)
لقد كان لتركيز (لوك) على المِلكية الخاصة، والحقوق التي يجب حمايتها من قبل الدولة، أثرٌ بل آثار في تشكيل الليبرالية الحديثة، حيث أصبحت النظرة الأساسية في هذا النمط من التفكير، هو خلق الثروة ومراكمتها.
لقد راق للمفكرين خلال قرن من الزمان فصل بين (جون لوك) الذي فَصَل في كتابه (رسالة ثانية في الحكم) وبين كتاب (آدم سميث) المدوي (ثروة الأمم)، لقد راق لهم فكرة أن المِلكية مستمدة من الطبيعة وليس من العرف أو الامتياز، فنشط المفكرون خلال قرن كامل والذي يسمى بقرن أو عصر (التنوير) في استخدام الحق الطبيعي لتقويض السلطة القائمة على خرافة التفويض الإلهي للحاكم المفوض بموجب مباركة الكنيسة.
وافق جميع المفكرين تقريباً على أن الملكية الخاصة شرط ضروري للاستقلال الخلقي. فبقدر ما يكون الفرد حائزاً على ممتلكات، يكون حُراً في إعمال عقله ومقاومة الخوف والخنوع.
بيد أن النزعة الفردية لم تفضِ بسهولة الى نشوء نظرية متماسكة عن الواجب السياسي، وكان مفكرو عصر التنوير الأوائل عُرضة لاتهام مفاده أن استقلالية الشخص العقلاني تهدد التكافل والمجتمع. فجاءت محاولة (آدم سميث) الشهيرة في نهاية هذا العصر للتوفيق بين الرغبة الخاصة والفضيلة العامة.
هوامش:
* جون لوك: فيلسوف إنجليزي تجريبي ولد في 29/8/1632 في إقليم سمرست، مارس الطب، كان ناصحاً لأنتوني آشلي (وزير العدل الإنجليزي) بعد أن أجرى له عملية جراحية، ففتحت صداقته معه عيونه للانصراف للفلسفة وأمور الدولة، كان معروفاً بأنه الفيلسوف المعادي للفطرية[ من موسوعة الفلسفة/ عبد الرحمن بدوي/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت ط1/1984 صفحة 375 من الجزء الثاني].
الأسس الأخلاقية للمجتمع المدني
أراد آدم فيرغسون، وهو أحد قادة مفكري عصر التنوير الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، أن يقيد السلطة السياسية الجزافية، وأن يخفف نفوذ المصلحة الخاصة عبر تأسيس المجتمع المدني على مجموعة من المشاعر الأخلاقية الفطرية*1
فيما كان (هوبز) و (لوك) يريان في المجتمع المدني وسيلة ينتجها التعاقد وتضمنها السياسة بيد أفراد اجتمعوا لتحصيل غاية مقصودة، ومع أنهما وبسبب تشديدهما على الصراعات الشخصية، فشلا في تقديم تفسير مقنع للروابط الاجتماعية؛ فإن (فيرغسون) شن هجوماً أخلاقياً على فكرة ومنطق (المصلحة الشخصية).
لقد اتفق (فيرغسون) مع العديد من معاصريه على أن (هم العيش والبقاء هو الينبوع الأصلي للفعل الإنساني)، ولكنه كان يدرك بوضوح أن الناس يشكلون المجتمعات لأسباب أوسع من مجرد البقاء. فهم قبل كل شيء، كائنات أخلاقية، ولا يمكن للعقل الذرائعي والتقدم الفردي أن يوفرا حياةً متحضرةً. *2
(1)
أصر فيرغسون على أن الرأفة والتعاون المتبادل، والإحسان هي ما يميز التعاملات البشرية، مثلما يعتورها الجشع والوحشية والقسوة. فالأنانية سوف تدفع الناس الى العيش وحيدين، وفي تنافس مع أقرانهم، ولكن القدرة على الاجتماع الطبيعي تمكننا من العيش مع الآخرين، ومساعدتهم، والإفادة من ميلهم لفعل الشيء نفسه.
ويسهب فيرغسون في المقارنة بين حالتي المنافسة البغيضة ومع حالة الرأفة، فيتساءل مستنكراً: هل السجايا الرائعة موجودة في مواطن الزيف، أم السلاطة، والخيلاء التي تروج فيها الموضة، ويتبختر فيها اللطف المتكلف؟ أم في المدن العظيمة والغنية حيث يعيش البشر متنافسين، بعرباتهم وهندامهم وصيت ثرائهم؟ هل في أفنية البلاط الباهرة، حيث نتعلم الابتسام بلا شعور بالمسرة، ونبدي الحنو من دون عاطفة، وفي السر يجرح بعضنا بعضا بأسلحة الحسد والغيرة، ولا عماد لرفعة قدرنا غير ظروف ليس بوسعنا نيلها بشرف دائماً؟
(2)
لم يكن فيرغسون راغباً في تأسيس المجتمع المدني على عقد، ورفض أن يتأمل في حال الفطرة (الطبيعة) السابقة على المجتمع والسابقة على السياسة. فمن البلاهة العودة الى زمان كان فيه البشر من دون أواصر اجتماعية، لأنهم من دون هذه الروابط لم يكونوا بشراً.
إن (المشاعر العظيمة) التي تؤسس طبيعة البشر الاجتماعية هي عواطف فطرية. والمجتمع المدني هو نمط الوجود البشري؛ فنحن ولدنا فيه وله، ولا يُتصور أننا نستطيع العيش خارجه. فتطورنا الخُلقي ورفاهنا المادي يتحققان من خلال ارتباطنا الحميمي بالآخرين، وليس ثمة تناقض بين المصلحة الذاتية الفردية والرفاه الأخلاقي للمجتمع.
إن حال الفطرة (الطبيعة) ليست جنة عدن القصية الغائبة، إنما هي موجودة هنا والآن، تتشكل حيث يعيش البشر معاً.
إن لدينا سبباً للنظر الى وحدة الإنسان مع أبناء نوعه بوصفها أنبل جزء من حظه. فمن هذا المصدر لا يستمد القوة وحسب، بل يستمد وجود أسعد عواطفه؛ ولا يستمد منه أفضل شيء في طبيعته، بل يستمد جُل طبيعته العاقلة. فإذا ما أُرسل إنسانٌ الى الصحراء وحيداً، فسيكون نبتةً اجتثت من جذورها، وقد يبقى شكلها الخارجي، ولكن ستسقط كل ملكاته وتذبل؛ فتتلاشى شخصيته الإنسانية الفريدة وطبيعته الإنسانية.
وعند الحديث عن الصقل، يقول فيرغسون: لا بد من التمييز الكلاسيكي بين البربرية والحضارة. فالناس البدائيون كائنات اجتماعية من حيث طبيعتهم، ولكنهم لا يستطيعون تطوير روابطهم الى أبعد من أواصر القرابة لأنهم يعيشون في حال البؤس والخضوع. فلا يمكن تأسيس حياة أخلاقية متطورة تماماً في بيئة كهذه، ولكن الانتقال من البدائية الى المجتمع المدني تميز في الرغبة بالأمان، وعزوف الأفراد عن (زج كل فرد في خدمة المنفعة العامة). وعليه كان ثمن نضج الإمكانات الأخلاقية للمجتمع المدني باهظاً.
(3)
يحاول فيرغسون أن يتفرد بشيء ـ وهو فعلا قد فعل ـ عندما يجعل من النمو الطبيعي للتطور في المجتمع أمراً مسلماً به، وأن التسريع في الوصول الى التطور بمدة أقصر يتطلب إرادة ونضال متواصلين. وأنه عندما يكون المجتمع غير مستعد للتسريع فإن سمات الانحطاط والتخلف ستظهر عليه.
(إن الذي كان أول من قال: سأتملك هذا الحقل، وسأتركه لورثتي من بعدي) لم يدرك أنه كان يضع أسس القوانين المدنية والمؤسسات السياسية. وإن الذي كان أول من يضع نفسه تحت إمرة قائد، لم يدرك أنه كان يضرب المثال على الخضوع الدائم بذريعة أن السَلاَب كان يستولي على ممتلكاته، والمتغطرس يطالب بخدمته.
(4)
من أهم إسهامات فيرجسون بالتطوير السياسي في معظم أنحاء العالم، هو قانون النتائج غير المتوقعة Law of Unanticipated Consequences. حيث يبين فيه، أن من المهم ألا نتوقع الكثير من التفكير المتروي والعقلانية، لأن التقدم الأخلاقي في بلد ما قد يأتي من أفعال الناس المصلحية الرامية الى ضمان ملكيتهم، أو زيادة التجارة، أو حماية حقوقهم. فالمجتمع المدني متشكل عبر ممارسات عرضية وعادات بقدر ما يتشكل بفعل قواعد صارمة.
المِلكية الخاصة، في المسار العام للشؤون الإنسانية، غير موزعة بالتساوي؛ لذلك فإننا مضطرون للمعاناة من تبديد الأثرياء للثروة، ومن وجوب إدامة الفقراء؛ ومضطرون لأن نحتمل وجود أنظمة معينة تضع بعض البشر فوق الحاجة للعمل، كي يكونوا بحسب حالتهم تلك، موضوعاً للطموح، ومرتبة يتطلع إليها من يكد ويعمل. ولسنا مضطرين لذكر أعداد الذين قد يُنظر إليهم في اقتصاد صارم على أنهم فائضون عن الحاجة في القائمة المدنية، والعسكرية، والسياسية، ولكن لأننا بشر، ونفضل الشغل، والترقي، والسعادة لطبيعتنا على مجرد كونها موجودة، فيجب أن نتمنى لكل جماعة، أن ينال أكبر قدر ممكن من أعضائها حصتهم من المشاركة في الدفاع عنها وفي حكومتها.
(5)
لم يقتنع فيرغسون بأن التحسن الاقتصادي كان نعمة لا تشوبها شائبة. فلعل الإفراط في الحضارة يمثل كارثة للمجتمع المدني نفسه بسبب التشظي الذي تطلق عنانه المصلحة الفردية وتقسيم العمل. والنمو الاقتصادي غير المُقيد يعني أن (المجتمع قد خُلق ليتألف من أجزاء، لا شيء فيها من المجتمع نفسه).
كان فيرغسون قلقاً بشأن النزعة الفردية ذاتها التي كانت ينبوع التقدم الذي لا ينضب. (إن أعضاء جماعة ما قد يشبهون، بهذه الطريقة، مواطني إقليمٍ محتل، فقدوا الإحساس بأي ترابط، سوى رابطة الدم أو الجيرة؛ ولا يشتركون في شؤون معينة يتعاملون بها، سوى التجارة: إن الترابطات، أو في الحقيقة الصفقات، قد تحوي الأمانة والصداقة؛ ولكن تفتقد الروح الوطنية التي نعاين الآن جَزْرَها ومَدها).
نحن نعيش في مجتمعات لا يكون فيها البشر وُجهاء حتى يكونوا أغنياء؛ حيث تُلتمس اللذة نفسها بدافع الخيلاء؛ وحيث الرغبة في سعادة مفترضة تُلهب أبشع الأهواء، فتغدو هي نفسها أساس البؤس؛ حيث العدالة العامة، مثل القيود المطبقة على الجسد، ربما تحول دون الارتكاب الفعلي للجرائم، ولكن دون استلهام مشاعر الصدق والتكافؤ.
كان فيرغسون يقف على أعتاب بدايات التطور الناضج لمجتمع السوق، واستبق ما سيفعله مجيء الرأسمالية بالجماعة الأخلاقية المتجسدة التي كانت بالنسبة له نموذجاً للمجتمع المدني. ولكنه لم يستطع أن يرى المستقبل بوضوح أكبر.
يتبع
هوامش من تهميش المؤلِف
*1ـ Adam B. Selingman, The Idea of Civil Society (New York: Free Press; Maxwell Macmillan International; Toronto: Maxwell Macmillan Canada, 1992. pp25-36
*ـ Adam Ferguson, An Easy on the History of Civil Society (New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 1995 p205
ظهور المجتمع المدني البرجوازي
كان (آدم سميث) أول من صاغ الفهم البرجوازي للمجتمع المدني بصورة دقيقة. وسعيه الى دمج النشاط الاقتصادي وعمليات السوق في فهم وتشريح الحياة المتمدنة مَعْلَمٌ مهم في مسار تطور الفكر الحديث. فعمله الذي انصرف الى ملاحظة انحلال (المركنتلية) [ المركنتلية أو الاتجارية، هي مذهب سياسي واقتصادي ساد بين القرنين السادس عشر والثامن عشر في أوروبا، يرى أن مقدار قوة الدولة يُقاس بما في خزائنها من ذهب ومعادن نفيسة، ولا يقاس بما تنتج الدولة من سلع كما هو سائد الآن].
وقبل أن ندخل في الموضوع دعنا نلقي الضوء على الحراك الفكري والسياسي الذي كان سائداً في الفترة التي ظهر فيها آدم سميث، ونتعرف على شخصية آدم سميث.
كانت معظم دول أوروبا الغربية تعيش حالة ثورات متعددة الأشكال، رافقت التوسع الاستعماري والاستكشافات الجغرافية ونقل الذهب والمعادن من المستعمرات، وخصوصا أمريكا، كما كانت الكنيسة قد بدأت تفقد سيطرتها ومكانتها في التدخل بتنصيب الملوك والأمراء بشكل نهائي، وقد رافق هذه التغيرات حراك فكري وفلسفي سياسي واجتماعي، بدا وكأنه مساجلة، فما أن يخرج أحد المفكرين بنظرية حول الدولة أو الاقتصاد أو فيما يخص الملكيات وهياكل المجتمع المدني، حتى يظهر من يرفض تلك النظرية أو يوافق عليها مع بعض التعديل.. كان المجتمع الفكري والفلسفي منشغلاً في دراسة النظريات القديمة ومواضعتها على ما هو قائم وراهن، وكان هناك من يستنبط نظريات جديدة تستفيد من الماضي وتراعي ما حدث من تطور.
آدم سميث: (1723ـ1790) مفكر اقتصادي بريطاني، من أبرز المنظرين التاريخيين للرأسمالية، درس في جامعة غلاسكو وأكسفورد، من أشهر أعماله، (ثروة الشعوب).. رغم أن الرأسمالية تجاوزت أفكار سميث لكن أفكاره لم تفقد مكانتها التاريخية [من موسوعة السياسة/ عبد الوهاب الكيالي وآخرون/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الجزء الثالث/ ص239].
(1)
إن غزارة الموضوعات التي تناولها سميث تكشف الى أي مدى كان تقسيم العمل الفكري لا يزال ناقصاً. ولكن القرن الثامن عشر كان قرن رجال الاقتصاد السياسي، وكشف هيمنة علم الاقتصاد على الفروع العلمية الأخرى.
التقى جهد سميث في الهجوم على المركنتلية مع جهد الفيزيوقراطيون الفرنسيون [ جمعية ملخص أفكارها أن ثروة الأمم تأتي بشكل رئيسي من الزراعة]. وقد قال هؤلاء: (إن كل فرد يعمل من أجل الآخرين، حتى لو تخيل أنه يعمل من أجل نفسه فقط. فالنظام الاقتصادي سلس، ومتناغم، ويصحح نفسه بنفسه؛ فينتج من ذلك أنه كلما اقتربت أمة ما من تنظيم نفسها طبقاً لقوانين الطبيعة، زادت استقراراً وازدهاراً) وهؤلاء هم أصحاب الشعار الذي لا يزال ماثلاً حتى أيامنا هذه (دعه يعمل .. دعه يمر).
رغم أن سميث قد التقى مع هؤلاء في الكثير من أفكارهم، لكنه تفوق عليهم في عجزهم في تفسير معقول للرسوم الجمركية والضوابط المقيدة للأصناف، في حين أن سميث استطاع أن يأخذ باعتباره انتشار التسليع والاتجار بالأرض والعمل والأشياء النافعة الأخرى.
وقد تلخص جهد سميث في تأسيس نظرية عن المجتمع المدني تقوم على النشاط الاقتصادي المدفوع بالمصلحة الذاتية والمسند من طرف دولة فاعلة ومؤيدة.
(2)
يرى سميث أن (المجتمع المدني شبكة من الاعتماد المتبادل تنظمها السوق. وإن ما تنقله هذه الشبكة من عمل يقتضي معنى حديثاً دقيقاً للحرية الفردية، ينبغي ألا تكون هناك تقييدات اعتباطية تحول دون أن يزاول أي فرد ما يختاره من عمل)
ويقول في مجال الملكية الفردية (إن ملكية كل فرد لعمله الخاص، باعتبارها الأساس الأصلي لكل ملكية أخرى، مقدسة ومحرمة على أي انتهاك. ويكمن ميراث الفقير في قوة يديه وبراعتهما؛ وإن منعه من استخدام قوته وبراعته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة من دون إلحاق الحيف بجاره، هو انتهاك سافر لهذه الملكية بالغة القداسة).
فالمجتمع المدني في نظر سميث يشكله تقسيم العمل وتنظمه الأسواق وهو الذي يحيل التبادلات الطوعية بين الأفراد الأحرار الى جوهر حياة متحضرة كلياً.
وعناصر الإنتاج في نظره هي: الأرض، والعمل، ورأس المال. وتؤدي الى ثلاثة أشكال من المكافئات: الريع، والأجور، والأرباح.
(3)
لم يعلق سميث كثيراً على الجانب الأخلاقي، كما فعل من سبقوه، فهو لا يتوقع تشكيل نظام اجتماعي متين بالاعتماد على إحساس فطري بالرفقة أو الأخلاقية، فلا أحد يتوقع أن يحصل على عشائه من مطعم بشكل صدقة ولا على قطعة لحم من جزار، ولا رغيف خبز من خباز مجاناً، إن كل هؤلاء يبحثون عن مصالحهم الذاتية، فلا يجب التوجه الى إنسانيتهم إنما لحبهم لذواتهم، ولا يجب التكلم معهم على ضرورياتنا وإنما لفوائدهم.
لقد كانت النظريات التي سبقت سميث تفترض أن السوق هي التي تنظم ذاتها بذاتها وهي المحرك الدائم للتقدم والازدهار الاقتصاديين. لقد وافق سميث هذه المقولة وزاد عليها لينجز مهمته في تأسيس المجتمع المدني على (نزوع ) إنساني أساسي (نحو التعامل، والمقايضة، والتبادل).
وفي ما يتعلق بالإسراف، أي المبدأ الذي يحض على الإنفاق [نهج متبع في اليابان الآن]، فهو ولعٌ بمتعة حاضرة، هي عموماً مؤقتة وعرضية فقط، على الرغم من أنها أحياناً عنيفة ومن الصعب جداً كبحها. أما المبدأ الذي يحض على الادخار فهو الرغبة في تحسين حالنا، وعلى الرغم من أنها رغبة ساكنة وهادئة عموماً، فهي تصاحبنا منذ ولادتنا ولا تفارقنا إلا بموتنا.
إن عدم الرضا بالحاضر يقف وراء (الرغبة في تحسين حالنا) وعدم الرضا هذا هو السمة الدائمة للحياة الإنسانية. فهو أمر طبيعي لدى البشر.
(4)
إن نظرية النتائج غير المقصودة مكنت سميث من تجسيد الهوة القائمة بين الحافز الفردي والنتائج المنهجية. فالعقل لا يؤدي أي دور في تنظيم الحياة الاجتماعية أو الموازنة بين المصلحة الفردية والصالح العام، أو بين الشهوة الخاصة والرفاه العام.
إن كل فرد يجهد نفسه باستمرار كيما يجد الاستخدام الأكثر ربحاً لأي رأسمال يستطيع أن يديره. فما يدور في ذهنه هو منفعته الخاصة وليس في الحقيقة منفعة المجتمع. ولكن معرفته لمنفعته تقوده بشكل طبيعي، أو بالضرورة، الى تفضيل الاستخدام الأكثر نفعاً للمجتمع.
في الحقيقة أن الفرد بشكل عام، لا يقصد تشجيع المصلحة العامة، ولا يعرف مقدار تشجيعه لها. وبتفضيله دعم الصناعة المحلية على الصناعة الأجنبية يقصد أمانه الخاص فقط؛ فهو يعلم بالفطرة كيف يكون مردود ذلك على كيانه الشخصي ضمن مجتمعه.
ويُعرف سميث على نطاق واسع بأنه مُنظر (اليد اللامرئية) والسوق التي تصحح ذاتها بذاتها.
(5)
يتطرق سميث لواجبات الدولة تجاه المجتمع المدني ويحددها بثلاث واجبات: الأولى أن تحمي المجتمع المدني من الخطر الخارجي، وهذا يقتضي جيشاً، كما يقتضي رفع الحيف عن المواطن بوضع نظام قانوني عادل يراقبه الشعب من خلال مؤسسات متينة. والثانية: إحساس أصحاب الملكية بالأمان، وعدم تكييف القوانين للدفاع عن الأغنياء ضد الفقراء الذين لا يملكون شيئاً. والواجب الثالث: هو إقامة وصيانة المؤسسات العامة والأشغال العامة.
في أغلب البلدان، نجد أن الدخل الحكومي كله، أو تقريباً كله، يُنفق لديمومة أيدٍ غير منتجة، وهذا يهدد في انهيار الدول والمجتمعات.
الفصل الخامس: المجتمع المدني والدولة
المجتمع المدني والجماعة الأخلاقية
أدركت المفاهيم الكلاسيكية عن المجتمع المدني أن الحياة الاجتماعية تدور في ميادين منفصلة، ولكن المنظرين لم ينظموا فكرهم حول المصالح الفردية. فالإغريق والرومان، في أغلب الأحوال، وضعوا الصراعات الخاصة في إطار مفاهيم واسعة عن المواطنة.
لم تكن ظاهرة عدم الاتفاق على أساسيات مفهوم المواطنة والمجتمع المدني متعلقة بالفترات التاريخية. بل كانت أيضاً متفاوتة في الأقطار الأوروبية نفسها وفي وقت وتاريخ بعينه، ففرنسا وبريطانيا اللتان كانتا تصدر مفاهيم نظرية عن المواطنة والمجتمع المدني، لم يتفق معها فلاسفة ألمانيا التي لم تتطور الأسواق والصناعة فيها بنفس الدرجة التي كانت في بريطانيا وفرنسا، فكانت الاختلافات في وجهات النظر عند (كانط وهيغل وماركس) تختلف عنها عند آدم سميث وغيره.
(1)
كان (ديفيد هيوم 1711ـ 1776) المؤرخ والفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي، قد خالف من سبقه بإثارته وجوب التمييز بين العقل والمبدأ الأخلاقي، بقوله عن لزوم التمييز بين (ما هو كائن Is) و (ما يجب أن يكون Ought) إذ ثمة حد قاطع يفصل المفاهيم الخلقية المتجذرة في (مشاعر النوع الإنساني وعواطفه) عن الحقائق التي يكشفها العقل.
فكيف يمكن صوغ مفهوم عن الصالح العام تصورياً في بيئة كهذه؟ عن هذا أجاب (هيوم) بأنه لا يمكن الكشف عن الصالح العام من خلال التفكير الخُلقي، كما أنه لا يوجد بمعزل عن مجموع المصالح الفردية. فالقواعد التي يسير وفقها المجتمع المدني غير مستمدة من القانون الخلقي الطبيعي؛ فهي (مصطنعة)، والمجتمع المدني ليس غير تنظيم اتفاقي لغرض السعي وراء الأهداف الخاصة.
لأن العقل الذرائعي يساعد الأفراد على تشخيص مصالحهم، ويدلهم على السبيل الأفضل لتطمينها. لقد حلت الخبرة والعادة محل المبدأ الأخلاقي والفضيلة بوصفهما معيارين للحقيقة. ولا يُتوقع من الناس إتباع القواعد الأخلاقية إلا إذا تم تلبية حاجاتهم المباشرة.
(2)
كان (إيمانويل كانط) أعظم فلاسفة عصر التنوير، وبدأ رده على (هيوم) بالقناعة القديمة القائلة إنه ليس بوسع المصلحة الذاتية أن تقدم أساساً مقبولاً للحياة الإنسانية. أراد كانط تأسيس المجتمع المدني على إحساس باطني بالواجب الخلقي يوحد البشر معاً.
أعلن كانط أن البشر أحرار خلقياً لأنهم يستطيعون معرفة الحق، من دون أن يطلعهم أحدٌ عليه، وأنهم يستطيعون أن يستخلصوا القواعد الخلقية الصحيحة باعتبارها متطلبات يفرضونها على أنفسهم. كان الاسكتلنديون قد قالوا أشياء كثيرة مماثلة، ولكنهم فشلوا في تمييز الحد الذي يمكن أن تتصادم عنده الواجبات الخلقية مع الأهواء، والتحيزات، والشهوات، والرغبات الجامحة. فقد جعلوا الأمور غاية في اليسر والسهولة، ولكن كانط أدرك أن المعنى الأخلاقي لا يُنال بسهولة؛ إنها حالٌ نقاوم فيها بعنف ضبط سلوكنا.
بشر (كانط) بعصر التنوير وعرف التنوير بأنه (هو خروج الإنسان من قصوره المولد ذاتياً) أما تعريف القصور عند كانط فهو (عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه من دون توجيه شخص آخر. فهذا القصور مُوَلَد ذاتياً إذا لم تكن علته الافتقار الى الفهم، إنما الافتقار الى العزم والشجاعة في استخدام قدرة الفهم من دون توجيه خارجي. وإن شعار عصر التنوير هو (( كن شجاعاً واستخدم عقلك)).
(3)
عند تطرقه للحرية، يؤكد (كانط) بأن الحرية (هي إمكانية الاستقلال عن الضرورة التي تحكم العالم المحسوس. وإذا كانت الإرادة تتحدد بقانونها الخاص، فإنها تظل محدودة، لأننا لسنا مثل الله كي نعرف دائماً ما هو الحق بوضوح تام. أدرك كانط أن لنا رغباتنا وأهدافنا التي تفرض علينا مراعاتها. إذ لا يمكن تجاهل المصلحة الخاصة ولا محوها، فشرطنا الإنساني موسوم بتوتر دائم بين ما نريد فعله وما يجب فعله.
إن الإرشاد الى الفعل الخُلقي يناسب الكائنات الناقصة عقلياً، ذلك أن (الفريضة المنطقية) تقدم معيار الحكم الوحيد الذي سيختاره الكائن التام عقلياً، وهو: (اجعل من القاعدة التي تسير على هديها إرادتك مبدأ يوفر القانون الكلي في الوقت نفسه).
كان المجتمع المدني، من وجهة نظر كانط، يمثل مجموعة من الممكنات الملائمة لأناسٍ متحضرين، وقد لاحظ العديد من دارسي كانط أن فكرة (الفريضة المنطقية) هي في الواقع مجموعة من الإجراءات. وقال إنه من السذاجة أن نستطيع الاعتماد على خيرية الآخرين. صحيح أن الفعل الخيِّر مهم، لكن لا يمكن أن يكون منبعاً للعدالة، أو مبدأ يُنظم المجتمع المدني.
إن الاستخدام الحُر للعقل النقدي لا يضمن الاتفاق، إلا أنه يوفر ببساطة مجموعة من قواعد السجال. لأن السجال يمكنه تلطيف المصلحة الفردية المناهضة للمجتمع. هذا السجال سيكون سبباً في قيام نظام اجتماعي يحكمه القانون. وهذا التناحر أو السجال هو ما يسميه كانط (الاستعداد الاجتماعي للااجتماع) لدى الإنسان: أي التناقض بين النزوع الإنساني الى تشكيل المجتمعات المدنية ومقاومة ذلك النزوع في الوقت نفسه.
(4)
إن المشكلة الكبرى للجنس البشري، الذي تجبره الطبيعة على البحث عن حلٍ لها، هي مشكلة إيجاد مجتمع مدني قادر على تطبيق العدالة بشكل كلي. وهذا لن يتحقق إلا في مجتمع يتمتع بأعظم حرية ويتناحر فيما بين أفراده ومؤسساته.
ودولة القانون (Rechtsstaat) هي وحدها التي تستطيع أن توفق بين استقلالية الفرد الأخلاقية ومتطلبات النظام العام؛ حيث يقتضي العقل أن تتحكم المعايير بالعلاقات الإنسانية وتحل النزاعات العامة الكلية ل (الفريضة المنطقية). ويتشكل المجتمع المدني من خلال (علاقة تقوم بين أناسٍ أحرار يخضعون للقانون القسري، بينما يحتفظون بحريتهم ضمن وحدة عامة مع أقرانهم).