الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: أعتذر إليكم إخواني مرة أخرى عن التأخر في الرد و الانقطاع عن مواصلة الحديث للإجابة عن الأسئلة التي تكرمتم علي بعرضها، فقد جاء ما شغلني وأتعبني، لكن أملي في تفهمكم و ثقتي في كرمكم أغرياني بأخذ وقتي للتحضير لما سيأتي من حديث إن شاء الله تعالى؛ و قد أحببت التمهيد للحديث عن الصحافة العربية، في حدود إطلاعي، برسم صورة سريعة عن تجربتي مع الصحافة الجزائرية سواء التي تعاملت معها مباشرة، الصحافة المعربة، أو غير مباشرة وهي الأخرى المفرنسة.
كان أول تعامل لي مع الصحافة المعربة الجزائرية ككاتب فيها قُبيل أحداث أكتوبر الأليمة عام 1988 و إن بصورة جزئية ثم توثقت صلتي بها بعد الأحداث حتى صار لي اسم و قرّاء و مراسلون و جاء هذا كله بعفوية أو من تلقاء نفسه (!) إذ لم يكن يخطر على بالي البتة أن أصير و في فترة وجزية "كاتبا" أو "صحافيا" مشهورا و لو نسبيا، فقد كان حلمي الأصلي أن أجد منبرا لنشر كتاباتي المتواضعة، بعض القصص، إن كانت في المستوى أو تستأهل النشر فقط.
لكن ما تلك الأحداث الخطيرة و المؤلمة التي غيرت مسار التاريخ الجزائري المعاصر ؟ بدأت الأحداث يوم 05 أكتوبر/تشرين أول 1988 و دامت إلى العاشر منه، وكانت دامية جدا و مؤلمة لأنها "أكلت" عددا لا يُعرف من الشباب و لاسيما الإسلامي منه، ستة أيام من الفوضى و التدمير و التخريب و المظاهرات و العنف و العنف المضاد و... القتل "الرسمي المقنن" فقد رمي الشباب بالرصاص من قبل الجيش و أجهزة "الأمن" !!! و لا أحد يدري رسميا من كان السبب الحقيقي أو المدبر لتك الأحداث أو الآمر أو المتآمر بها و إن وجد، و يوجد، من يعرف و لو بالتخمين المؤسس أو الاستنتاج المنطقي أن تلك الأحداث لم تكن عفوية أو من اجتهاد الشباب اليائس الذي دفع الثمن غاليا من دمه، لكن تلك الأحداث مهّدت السبيل لتغيير جذري في السياسة وجاءت بالانفتاح الاقتصادي و التخلي عن "الاشتراكية" و الحزب الواحد و الاقتصاد الموجه و جاءت بالديمقراطية و "الحرية" و التعددية السياسية و الصحافية؛ جاء أولا بعد الأحداث مباشرة تغيير الدستور في 29/02/1989 و إن كان عدل جزئيا عام 1986، و قد كان الدستور السائد قبلا هو دستور 1976 الذي وضعه فريق الرئيس الراحل محمد بو خروبة، أو هوّاري بومدين كما يعرفه العرب؛ إن دستور 1976 المشئوم كرس التوجه الاشتراكي للجزائر المتبع منذ 1963 بعيد الاستقلال مباشرة و حدد الحريات و منع تعدد الأحزاب و إن كان بعضها ينشط في السر كالحزب الشيوعي و جبهة القوى الاشتراكية ذات النزعة العنصرية البربرية، كما كان للإسلاميين بمختلف أطيافهم و انتماءاتهم نشاط كبير و واسع لم ينقطع أبدا منذ الاستقلال و كان للحياة السياسية في الجزائر وجهان : ظاهر جلي للعيان و باطن خفي ينشط في الظلام...! و هذا حديث طويل و متشعب لا أملك لا المعلومات الدقيقة الثابتة عنه و لا أملك الوقت للبحث فيه و تفصيله.
توثقت صلتي إذن بالصحافة المعربة مباشرة بعد أحداث أكتوبر و فُتح لي مجالٌ واسع على صفحات جرائد "المساء" و "الشعب" و "أضواء الثقافية" و هذه كلها تصدر عن مؤسسة واحدة هي مؤسسة "الشعب" الحكومية إذ لم تكن الصحف الحرة قد ظهرت بعد و لا كان أحد يتوقع أن تظهر في يوم ما، المهم أن الصحافة الحكومية فتحت صفحاتها للناس جميعا و أنا أحد من المحظوظين منهم،و قد حدث لي، وأنا قريب عهد بالصحافة، حدث طريف حفزني على الكتابة أكثر وهو أن قصة لي بعنوان "القطيع"(*)رفضت قبل أحداث أكتوبر في جريدة "المساء" بسبب أنها "سياسية" و يمكن أن تسبب حرجا للجريدة ثم نشرت كاملة بعد الأحداث في جريدة "الشعب" و هي الجريدة العمومية الرسمية، كنت أنشر كتاباتي في الصحف الثلاث المشار إليها هنا كما نشرت في مجلة "الوحدة" التابعة لاتحاد الشبيبة الجزائرية، و من خلال تعاملي الإعلامي اكتشفت عالما جديدا تماما، كأنني دخلت قارة ما كنت أعرف عنها إلا اسمها و ما يشاع عنها من أخبار... و بدأتْ رحلة السند باد البحري في عالم الصحافة الورقية ككاتب له زاويته الخاصة الثابتة أو كمراسل من مدينتي مع بعض الصحف إلى أن توقفتْ عام 2008 بآخر ما نشر لي في جريدة"البصائر" مقالة صريحة و جارحة بعنوان "جمع المخنث السالم وجمع المسترجل السالم "(**)عن مأساة اللغة العربية في الجزائر؛ عشرون سنة من الكتابة و إن بصفة غير مستمرة لأسباب كثيرة و الاحتكاك المباشر و المعمق بمحيط الصحافة المتموج و المتقلب و المخيف و الخطير و المهلك و لاسيما في العشرية السوداء، أو الحمراء، التي عاشتها الجزائر منذ 1992 إلى 1999، فكم أهلك من أصحابه من ذوي الشأن و الهيئات و الأقلام و أصحاب المواقف الشجاعة، و لا أعرف بلدا عربيا عاش ما عاشته الجزائر في جميع الشئون عامة و في الصحافة خاصة من مآس و مصائب و دماء و لا أتمنى أن يعيشه أي بلد مهما كان مختلفا عنا في الدين أو الغة أو التوجه أو المنافسة أو...العداوة، إن ما عرفته الجزائر من مآس لا يمكن وصفه أو حتى تخيله ناهيك عن تقديره أو حسابه.
و هذا التجربة المرة التي عشتها في عالم الصحافة الجزائرية و من خلال متابعاتي نسبيا للصحافة العربية المكتوبة أو المصورة و من خلال دراستي و اهتمامي الخاص و المتخصص في بعض جوانبه يمكنني أن أغامر ببعض التصريحات عن الصحافة العربية و حرية الإعلام و التعبير و النشر، و من هنا نبدأ الحديث بتوسع عما ورد من أسئلة أو ما قد يرد منها،
و للحديث بقية إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
(*) انظرها في الرابط التالي :
http://www.omferas.com/vb/showthread.php?p=118356#post118356
(**) منشورة في عدد من المواقع العربية بهذا العنوان ذاته أو بغيره.