منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 12 من 12
  1. #11
    قصة من المجموعة:
    .................

    صورة عمتي

    بقلم: حسني سيد لبيب
    ......................

    كلما زرت عمتي، شدني البذخ الذي تعيش فيه، قياسا إلى المعيشة المتواضعة التي يحياها أبي. اضطره دخله الضئيل إلى حياة الشظف والتقشف. كلما اشتد ضيقي وتبرمي أهرع إليها فآكل أكلة هنيئة، طبق المرق الساخن، وسَلَطة الخضار، واللحم المشوي، والفاكهة. لا تنسى أن تنفحني مبلغا "محترما" أستطيع تدبر شئوني به، حتى تحين زيارتي التالية، بعد أسبوع أو أكثر. كلما نفد ما معي من نقود، أهرع إليها..
    يعجبني وفاءها لأبيها وأخيها، اللذين توفيا في سنوات خلت. لا أعرف متى بالتحديد. يتمثل الوفاء في وضع صورة لجدي على الجدار داخل إطار مذهب، وثانية في إطار مماثل لعمي، رحمهما الله. لم يهتم والدي بوضع مثل هذه الصور في بيتنا المتواضع، ربما لا يملك ما يدفعه ثمنا للإطار المذهب.
    عشت سني الشباب مترددا على عمتي، واعتمدت عليها فيما لا يستطيع والدي توفيره لي. أحببت بنت عمتي، إلا أنه حب في السر لم أكاشف به أسرتي، التي لا تبارك مثل هذه الزيجة، ولا أملك البوح بمشاعري لبنت عمتي، لفقري وغناها! عانيت الإحباط من الفارق الاجتماعي الذي يقف حائلا بيني وبينها. تراود مخيلتي أفكار ضبابية عن اقتراني بها، مالكا لثروتها. أصبحت حالي تصعب على الكافر، أفكر فيها وأتجاهلها، وأضع بيني وبينها حاجزا وهميا.
    كنت قريبا من عمتي.. التي تحكي لي مشاكلها، وكيف تتصرف في تربية الأولاد. هذا القرب شجعني على زيارتها في فترات متقاربة، وألبي طلباتها، وأشتري لها كل ما تحتاجه. إلا أني أواجه متاعب في الاقتراب من ابنة عمتي "الدلوعة"، وأصطدم بالفارق الطبقي بيننا.. كلما اقتربت منها، أحسست بنار تلسعني..
    أنهيتُ دراستي الجامعية، والتحقت بعمل.. شغلت بالأعباء الجديدة، فما عدت أزور عمتي إلا كل شهر أو شهرين.. خطبت "الدلوعة" لشاب غريب عن العائلة، فقررت تمزيق صورة "الدلوعة" التي تعيش في خيالي..
    شغلتني الحياة.. العمل ومواعيده الصارمة، ومشروع الزواج الذي تخايلني صورته من حين لآخر، إلى أن وفقني الله وعقدت قراني على زميلتي في العمل.. ما عدت أزور عمتي إلا كل عام، مرة أو مرتين. توفي زوجها، فزادت أعباؤها في تربية البنات الخمس والابن الوحيد. من سنة لأخرى تأتيني دعوتها لحضور عقد قران إحدى بناتها.. انشغل أبي أيضا بتزويج أخواتي ـ خمس بنات أيضا ـ ولكن شتان الفرق بين الأفراح التي نقيمها لأخواتي، وتلك التي تقام لبنات عمتي..
    أدبر شئون زواجي بنفسي، وأساعد والدي بمساهمات قليلة. وبعد الزواج، زادت الأعباء. لم يعد أبي في حاجة لمساعدتي، فقد زوّج كل البنات، ويتقاضى معاشا يكفيه هو وأمي.. كان أبي يحتاج إلى من يسأل عنه ويزوره. يفرح لزيارتي. في جعبته حكايات كثيرة عما يصادفه في معيشته، وعن أحوال أخواتي في بيوت أزواجهن. بدأ وضعنا الاجتماعي يتحسن تدريجيا.. أما عمتي، فقد قل دخلها بعد وفاة زوجها التاجر الكبير. لم يحرص ابنها الوحيد على مواصلة أعمال التجارة الواسعة التي تركها أبوه.
    كلما زرتها، أرنو إلى صورة جدي وعمي، رحمهما الله. وفاء العمة للراحليْن من أرق ما عرفت. لم يتزحزح البروازان عن مكانهما في الصالة الواسعة. تتوسطهما آيات من سورة يس. كلما رنوت إليهما، أتطهر من آفات كثيرة، وأكبر صورة عمتي في فؤادي. يا لها من سيدة عظيمة. تحاول أن تسأل عن والدي وصحته وأحواله. دائما تزور مقابر العائلة، تتصدق وتتلو القرآن، وتنفح اللحاد ما تجود به من مال وفطائر وفاكهة وبلح.. وحين قلت مواردها ظلت تدخر مبلغا للصدقة ومقررات الزيارة. وإن اقتطعت من قوت يومها. شجعتني على زيارة المقابر معها. أما أولادها فلم يطاوعها أحد في تلك الزيارات. في عنقي دين كبير لعمتي، أسدده بلمسة وفاء تسعدها. ولا مانع من تخفيف العبء المالي لهذه الزيارات عن كاهلها. لكنها ما زالت تعطي وتتصدق من حر مالها، وإن حرمت نفسها من طعام وعلاج.
    إني أكبر عمتي إكبارا لا يعادله شئ في الدنيا. أنا أعلم بحالها ومروءتها. نلت في الصغر الكثير من برها وعطفها، في وقت كنت في أمس الحاجة إلى من يمد لي يد العون.
    زيجة آخر بناتها كلفتها الكثير، إن لم يكن كل ما ادخرته في الزمان الخئون. اتفق عريس ابنتها على السكن معها في الشقة الكبيرة. صرفت المال الكثير من لحم الحي ـ كما تقول ـ لتؤثث البيت الجديد. لم يدفع العريس إلا القليل. انزوت في حجرة صغيرة من الحجرات الخمس الواسعة، راضية بما قسم الله لها. ولما دهس زوج ابنتها الشقة، حرصت أن ترفع البروازين وتضعهما في حجرتها الصغيرة. حزنت لحالها.. النظرة الكابية لعينيها تعكس عمق القهر الذي أحسته، رغم أنها تقيم في بيتها، إلا أن إحساسا تولد لديها بأن البيت انتزع منها، وعاشت فيه كالغريبة. ليست صاحبة بيت كما تعودت، انتزع منها الملْك والعالَم والذكريات الجميلة. لا يُطلب رأيها في شئ. تعمل على توفير الراحة للسكان الجدد. مالت ابنتها إلى زوجها، تعطيه حقا لا يملكه، ربما من قبيل الإبقاء عليه. في بداية الوضع الجديد، كانت الصالة قاسما مشتركا لهم.. إلا أن زوج ابنتها لا يحلو له مقام إلا في الصالة.. ليل نهار.. فأحست عمتي بالحرج حين تخرج من غرفتها لتعبر الصالة إلى المطبخ أو الحمام، فحرصت على تقليل نوبات خروجها. تتنهد وهي تبوح لي بأنها تتنصت على هذا الغريب ـ المسمى زوج ابنتها ـ حتى تعرف متى يترك الصالة لشأن من شئونه، فتهرع تعبرها إلى المطبخ أو الحمام، وتقضي حاجتها وتنهي شئونها في عجالة.. كثيرا ما تقع في المحظور، حين تعود فتجده اضطجع من جديد على كنبة الأنتريه، يشاهد التلفاز.. فتلقي عليه التحية وهي مرتبكة، وتدخل غرفتها! كم تتعذب، في وقت هي في حاجة إلى الراحة. لو بيدي الأمر لصنعت لها تمثالا.. لو بيدي، لطوقت عنقها وجيدها بوسام عظيم..
    مضت أيام العز.. مضت تلك الأيام الهنيئة التي كانت تنفق فيها عن سعة، وتغدق العطاء لكل من يقصد بابها من الفقراء والمحتاجين. ما قصدها امرئ وردته خائبا..
    اليوم، تدهور حالها والكل لاه عنها. انفض السامر من حولها، وانطوت في غرفة ضيقة، لا يسأل عنها أحد، حتى أبناءها وزوج ابنتها الذي احتل الشقة الفخمة. اعتبر سكنها في الغرفة تفضلا وتكرما منه! ابنتها لا تلوم زوجها ولا تلطف من العنت الذي تشعر به أمها، خوفا من بطشه وسلاطة لسانه.
    في أيامها الأخيرة، صارحتني بأنها ادخرت مبلغا من المال لدي ابنها، في إشارة منها إلى أنها ستموت مستورة ولن تكلف أحدا قرشا واحدا! وأعطتني وثائق ومستندات تخص العائلة، أوصتني ـ بعد موت أبي ـ أن أحتفظ بها.. شهادات ميلاد ووفاة، قسائم زواج وطلاق، قوائم أثاث تخص بناتها، وأخريات من العائلة لا أعرفهن جيدا.. وصور تذكارية لناس أعرفهم وآخرين لا أعرفهم. اقتربت من عمتي أكثر. تعمدت أن أذهب إليها، وأطيل الجلوس.. كانت تفرح بي كثيرا. متعتها الوحيدة أن تحكي لي حكايات عن أحوال عائلتنا التي تشتت شملها، وجهودها كي تلم الشمل وتوصل ما انقطع.
    وفي إحدى الزيارات، رفعت البروازين من مكانهما، وأعطتني إياهما، وأوصتني أن أضعهما في شقتي.. برواز لصورة جدي، وآخر لصورة عمي، رحمهما الله..
    وكانت آخر زيارة لي، إذ ماتت بعدها بأيام قلائل. كأنها أحست بدنو الأجل. ذرفت عيناي دموعا حارة، تأثرا لحالها وإجلالا لشموخها. بذلت جهدا غير عادي مع ابن عمتي، حتى تشييعها إلى مثواها الأخير، وتقبل العزاء. إلا أن زوج صغرى بنات عمتي، فال لأخيها على مسمع مني، ونحن عائدين من المقابر:
    ـ اجمع عفش وكراكيب أمك عندك.. حتى أدهن الغرفة وأستعملها..
    قالت زوجته:
    ـ أصل الشقة ضيقة علينا..
    عملا بوصيتها، علقت البروازين في شقتي. نظر ولدي إليهما وهو يرنو إليهما. كان يضع اللمسات لشقته التي سيتزوج فيها بعد مرور أربعين يوما على وفاتها، طبقا للتقاليد.. قبل الموعد المحدد بأسبوع، ذهبت معه لأرى ما ينقص الشقة. أبديت بعض الملاحظات في أماكن وضع الأثاث، وما ينقصه من أدوات وأجهزة. طلبت منه الحرص على تركيب كالون متين للباب الخارجي. لفت نظري في الصالة حيث ثبّت على الجدار بروازين مذهبين، أحدهما لصورتي، والثاني لصورة جده، يتوسطهما برواز لآيات من سورة يس. بالله عليك يا ولدي.. كيف حصلت على هذه الصورة النادرة مكبَّرة ؟ نفدت هذه الصور من عندي. ابتسم ابني الذي فهمت منه أنه عرف اسم محل التصوير، المطبوع خلف الصورة.. وكانت مفاجأة أسعدتني. ربتّ على ظهره، شاكرا صنيعه. قلت وأنا أوسع ذراعي لأضمه إلى صدري:
    ـ الله يرحم عمتك..
    كان البروازان في مكانهما الصحيح..

  2. #12
    قصة من المجموعة:
    .................

    بيت خلف الأسوار

    بقلم: حسني سيد لبيب
    ......................

    تحلم ببيت لم تره، خلف الأسوار الشائكة، والأرض الملغومة. يشير أبوها إلى الناحية التي تشرق منها الشمس، يقول للصغيرة :
    - هناك، لنا بيت كنا نعيش فيه منذ سنوات بعيدة..
    يحكي لحنان عن أسلافها، عن جده وأبيه، عن البيت الواسع الذي تحوطه أشجار البرتقال، وكروم العنب تزدهي عند ركن أثير لديه، بجوار الدرج المفضي للدار. وبوابة حديدية تحكم غلق السور الحجري المنخفض. تستزيده الحديث عن أيام زمان. ينبش جعبة الذكريات، تتتابع الذكريات، تتراكم.. تتزاحم في زخم لا يعرف بدايته ولا نهايته.
    تسأل ابنة العاشرة :
    - لماذا تركنا بيتنا ؟
    نكأت الجرح القديم، النازف. يصمت قليلا. يحار في الإجابة. يطول الصمت..
    يتكلم وفي حلقه غصة :
    - غدا نعود..
    تبيت الصغيرة في فراشها. تحلم بالغد القادم. تحلم بالبيت الواسع، والأزهار، والأشجار الظليلة، تحلم بالبيت الآمن.. تتثاءب في فراشها الناعم، تقبل الأم من وراء حجب الغيب، تهدهدها، تصفف شعرها وتجدله ضفيرة تزين ظهرها. تضع في شعرها حلية ذهبية مرصعة بفصوص اللآلئ، أشبه بتاج الملكة. في الصالة الفسيحة تجلس إلى كرسي وأمامها أطايب الطعام. تتدلى ثريا كبيرة من السقف، تسقط أضواؤها على الأطباق، فتحولها إلى قطع ماسية ذات بريق أخاذ. دائرة الحلم تطوف بها في أرجاء البيت الواسع. وصيفتها.. آه.. من المفروض أن تكون لها وصيفة تعتني بشئونها وتهدهد أحلامها.. تحرص على نظافة الغرفة.. ترتب ملاءة السرير والوسادة والأغطية، تنظف الأثاث.. الدولاب والسرير والمكتب والكرسي.. ترتب لعبها وعرائسها وحاجياتها.. تسقي الزهرية التي تتدلى أزهارها في نسق بديع الشكل واللون.. ثم تجلس بالقرب منها، تحضنها كأمها التي ماتت ولم ترها.. تحكي لها حكايات عن الأميرة والفارس، عن مغامرات علاء الدين والفانوس السحري، عن سندريللا الفقيرة التي أحبها الأمير..
    تفيق من الحلم على صوت رعد مخيف. يكاد سقف الغرفة الواطئ يسقط عليها.. تبكي.. تهرع إليها أختها الكبيرة عائشة.. تحضنها.. لم يكن رعدا يبشر بزخات مطر، إنما هي طلقات مدفعية مصوبة إلى مخيم (الشاطئ) الذي يعيشون فيه.. تعرف الأختان مكان اختبائهما، أسفل السرير‍.. أما الأب فيهرع إلى سلاحه البدائي، ويتوجه مع الرجال إلى مواقع يعرفونها جيدا.. يقاومون.. يدافعون عن حق البقاء.. إن حرب إبادة منظمة تشن من حين لآخر.. لا يهنأ لهم عيش. ترتجف حنان. تتصلب عروقها. تحضنها عائشة وتربت على ظهرها. تتشبث بها في قوة.. كانت تحلم.. أي وحش كاسر أيقظها ؟ أفاقت لواقع أليم تعيشه بكل جوارحها.
    تسأل أختها :
    - متى ينتهي الضرب ؟
    - حالا..
    - كنت أحلم..
    - بم حلمتِ ؟
    حكت لها ما علق بذاكرتها من الحلم الجميل. كانت ترتدي ثوبا أبيض مرصعا باللؤلؤ والماس..
    خفت حدة الضرب.. سمعت صوت سيارات الإنقاذ وتصايح الرجال وهرولتهم. هرع الشبان لإطفاء الحرائق المشتعلة..
    خرجا من مخبئهما..
    - يمكنك الآن أن تحلمي..
    لكن الصغيرة أصابها رعب، نست حلمها الجميل. أطلت بعينين مندهشتين، تتلفت حولها خائفة. خرجت عائشة إلى باب الدار تنتظر عودة أبيها، الذي أتى في تؤدة ورأسه مطأطئ.. قال لها :
    - قتلوا زيادا..
    - زياد ؟.. ابن عمي ؟
    - أصابته طلقة طائشة.. إنهم يطلقون النار في جنون.. يأتون على الأخضر واليابس.
    قال في أسى :
    - الله يرحمك يا زياد..
    استغرق يقرأ الفاتحة على روح الشهيد. وجمت عائشة. كان زياد قد تقدم لخطبتها. ارتجفت. ما هي إلا لحظات صمت موحش انطلقت بعدها دموع غزيرة، وتشنجات. احتضنت أباها، الذي همّ بمواساتها، فاحتبست حروف الكلام في حلقه، وتجمدت في عينيه دمعتان..
    - خذي بالك من حنان.. سأكون مع أخي حتى نشيع الجثمان الطاهر في الصباح..
    كان زياد بطلا ثائرا. دافع هو وزملاؤه عن المخيم. احتل موقعا متقدما، يواجه منه آليات المحتل الكاسحة..
    خرج أهل المخيم عن بكرة أبيهم. شيعوه إلى مثواه الأخير. زفت عرسه الملائكة وأرواح الشهداء الذين سبقوه. شيعته الأشجار والنخيل والجبال والوديان والحقول وينابيع المياه والبيوت. شيعته مزارع الفاكهة، وبسلتين الورد وأغصان الزيتون. شيعه الناس الذين أتوا من كل حدب وصوب.. وانطلقت مظاهرة تندد بالقتل والظلم..
    " إلى جنة الخلد يا زياد.. ".
    مرت الجنازة أمام بيتها. خرجت حنان تقف إلى جانب عائشة، التي صرخت طويلا.. تصاعد عويلها إلى عنان السماء. هرعت النسوة يمسكن بها. كلمات عزاء تقال، لكن عائشة انفكت من بين أيديهم وتمرغت في التراب.. ارتجفت حنان.. بكت مرعوبة.. صرخت على صراخ أختها.. تعالى صراخ الصغيرة.. اتشحت السماء بسواد وتلبدت بغيوم، تشارك في الحزن الشامل على فراق الشهيد..
    علا صوت شيخ :
    - لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..
    وردد خطيب المسجد :
    - كل نفس ذائقة الموت..
    تعالت أصوات المشيعين :
    - إلى جنة الخلد يا شهيد..
    اقتربت حنان من أختها الممددة على الأرض. اخترقت السياج الملتف حولها من النسوة المتشحات بالسواد.. مدت يدها الرخصة تمسح خد أختها الملتهب حمرة. اقتربت أكثر، طبعت عليه قبلة.. ابتعد موكب الشهيد عنهما.. منعتها السيدات من تشييع الجنازة حتى تبقى مع حنان.. امتثلت لهم، لكنها أكملت حزنها في البيت.. الصغيرة انكسر حلمها الذي كانت تحلم به كل مساء.. توقعت أن يحكي لها أبوها عن البيت الجميل الذي تركوه في بلدهم الحبيب، ذات يوم حزين.. اصطكت أسنانها. لسعة برد مفاجئة أصابت جسمها برجفة.. احتضنتها عائشة وآوت بها إلى الفراش..
    أصابتها حمى.. وضعت عائشة "كمادات الثلج" على رأسها. راحت في إغفاءة، وطفقت تهذي بكلام كثير عن الموت والبيت، عن المخيم والوطن، عن أطفال مثلها يعيشون آمنين.. نطقت "زياد".. كررت الاسم مرات ومرات..
    بكت عائشة..
    - أوجعتِ قلب أختك.. أتحبينه مثلي ؟
    نظرت إليها بعينين حمراوين.. أعادت عائشة وضع "الكمادات".. هرعت إلى جارتها أم ياسر، لعلها تستطيع عمل شئ..
    أحضرت أقراصا مسكنة، وأخرى خافضة للحرارة..
    تحلقا حول الصغيرة الراقدة.. التي ما زالت تحلم بالجنة الموعودة. أهي البيت الواسع الذي تركه الأسلاف قسرا ؟ أم هي جنة الشهيد تراها في الحلم الزاهي ؟
    رجع الأب قرب الغروب، فوجد ابنته تفتك بها الحمى. طبع على خدها قبلة، وحملها في عجل إلى طبيب المخيم، الذي قال منزعجا :
    - الحالة متأخرة.. نسأل الله الشفاء..
    أسرع الأب يحضر العلاج. لم يجده في صيدليات المخيم. حاول الخروج من المعبر ليذهب بها إلى مستشفى، فمنعوه من الخروج.. أفهم الجنود الإسرائيليين أن حالة الصغيرة لا تطمئن. لابد من إنقاذها. لكنهم أصموا آذانهم، وأجابوه بأن المخيم محاصر، بسبب اشتباه في عناصر مسلحة. هذه هي التعليمات. رجع إلى الطبيب، فحملها في عربته وحاول من جديد اجتياز نقطة التفتيش بصفته طبيبا. هذا واجب إنساني. تبددت محاولاته هباء، فقفر عائدا، وقرر لها علاجا بديلا..
    - لعلك تجده..
    أعطاها جرعة العلاج في محاولة مستميتة لإنقاذها. باتت حنان تهذي من أثر ارتفاع الحرارة. التف الأب وعائشة ووالدا الشهيد حول فراشها حتى طلع الصباح. ماتت حنان مع خيوط ذهبية نسجتها الشمس عند طلوعها. صعدت روحها البريئة إلى بارئها. صعدت إلى الجنة التي ظلت تحلم بها. ماتت حنان وعيناها تنظران جهة النافذة المفتوحة، جهة الشرق، لعلهما ترنوان إلى بيت خلف الأسوار، أرغمت العائلة على تركه منذ سنوات بعيدة..
    انتهت القصص المختارة

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. فهرس الكتاب: - سلسلة أعلام المسلمين 35
    بواسطة راما في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-17-2014, 03:05 AM
  2. السفر الى رابعة العدوية
    بواسطة عبدالوهاب محمد الجبوري في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-24-2010, 02:18 PM
  3. ذكاء البنات ايام الاختبارات ミ★ミ ممنوع دخول البنات !!
    بواسطة أبو يحيى في المنتدى استراحة الفرسان
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 04-28-2010, 06:22 AM
  4. معرض الكتاب بدمشق يحتفي بيوبيله الفضي اليوم
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-10-2009, 08:09 AM
  5. البنات البنات نشيدة تفرررح والله اول مره حد ينشد لنا ...
    بواسطة كرم المصرى في المنتدى فرسان الفلاشات والصوتيات
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 02-14-2007, 09:01 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •