مقالي الجديد في مجلة المثقف الجديد
نقد للذات.. ومراجعات من أجل مستقبل أفصل
.......................................
المؤسسة الدينية في سوريا

يعتبر الدين في فقه النظام السوري من مرتبات القطاع العام، وهو مؤمم بالكامل، فلا مكان في سوريا لتوجيه ديني خارج سلطة النظام، ولا يعني ذلك بالطبع اتهام الجميع بالتآمر مع النظام، ولكن يمارس معظم المشايخ في سوريا ثقافة الحكمة والمداراة، وهو أسلوب برع فيه المرحوم الشيخ أحمد كفتارو الذي أسس موقفه على أساس أن العين ما تقاوم مخرز، وأن الحكمة فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي، وأن علينا أن نداري هذا النظام ما استطعنا لحماية العمل الإسلامي الذي نؤسسه، ولا بد من دفع زكاة الثناء والمديح للرئيس حتى تسلم المؤسسة!!
وكمتابع محايد فيمكن القول أن هذا الأسلوب كان بالفعل مقبولاً في فترة الاستقرار التي عاشتها سوريا، وكان يوفر للدعاة فرصة العمل الهادئ، مع قدر أقل من المشاكل والمعاناة.
ولكن من جانب آخر فقد كان لهذا الأسلوب تداعيات جد سلبية وسيئة في إطار بناء ثقافة مزدوجة، وباسم المداراة خلقنا جيلاً بوجهين ولسانين وشخصيتين، وودت لو ان شيخي وعمي الشيخ كفتارو اختار موقفاً أكثر صلابة، وأعتقد أنه كان يملك من التأثير الأدبي على النظام أن يفعل ذلك، ويأتي بنتائج إيجابية، باختصار فقد حدد طريقته ومارسها بذكاء، وقد صار اليوم في رحمة ربه.
ولكن هذا الموقف الذي نادى به الشيخ كفتارو لحقته فيما بعد شروح وحواشي وتذييلات، وأصبح كثير من رجال الدين يتبارون في الولاء للنظام والوفاء لقائد الوطن ومحاربة خصومه الأمر الذي انتهى بالشيخ البوطي إلى مطالبة جيشنا الباسل الذي يشبه في الاستقامة والفداء مرتبة الصحابة الكرام!! أن يضرب بيد من حديد، كل الحثالات والخونة الذين تدعهمهم الوهابية، حتى ندافع عن الإسلام الحقيقي في سوريا بقيادة الأسد الذي يقوم بريادة العالم الإسلامي ومواجهة المتطرفين ودعم الاعتدال والوسطية.
ومن المدهش أن الشيخ البوطي كان في أول أيام الأسد شديد النقد لكفتارو لموقفه المداهن للسلطة، ولا ندري كيف تغيرت الأمور بعد ذلك، على الرغم من تزايد القمع والبطش وتدمير المساجد واعتقال الشيوخ الذي مارسه النظام ضد الثائرين بكل بطش.
والأمر الذي يستعصي على الفهم أن عدداً من أفراد أسرة الشيخ البوطي منهم صهره زوج ابنته قد تعرضوا لاعتقالات تعسفية واضطهاد جماعي ولكنه لم يستطع تأمين الإفراح عنهم ولا عن سواهم.!
كانت الطريقة التي يمارسها النظام للسيطرة التامة على خطاب رجال الدين هي الاستدعاءات الأمنية وكانت بالطبع زيارات غير لطيفة على الإطلاق، وكثيراً ما تنتهي بضيافة في مهاجع قذرة تستمر لأسابيع أو لشهور وبالتالي تقوم وزارة الأوقاف بالواجب وتمارس التسريح التعسفي لهذا الخطيب أو الإمام، دون رقيب ولا حسيب، وكان وزير الأوقاف يقوم في كثير من الأحيان بتركيب تهمة جاهزة لا علاقة لها بموقف سياسي ليقوم بتسريح المسكين إلى غير رجعة.
ويجب أن نقول للتاريخ وللحقيقة أننا كنا شركاء في هذا الخذلان، ولم نكن نرى في كلمة الحق موقفاً شريفاً يتطلب منا التأييد والثناء، بل كان يغلب علينا الخوف والرعب، وحين كان أحد المشايخ يقول كلمة الحق وينال من سلوك النظام في البطش كنا نقول: كثير غلبة!! يلقي بنفسه في التهلكة!! أضر بعمله ومنبره وتلاميذه!! وهي كلمات رددناها مراراً وأرجو الله أن يغفر لنا تقصيرنا وتخاذلنا في نصرة هؤلاء الشرفاء الذين قالوا كلمة الحق وخسروا منابرهم ووظائفهم وربما حريتهم أيضاً، ولست أدري هل سيغفر لنا التاريخ والناس هذا الصمت، على الرغم من أنني بحمد الله ساهمت عبر علاقاتي في الإفراج عن عدد منهم ومن هؤلاء المجاهد الرائع عبد الأكرم السقا وإخوانه الثلاثة والعشرين في داريا الذين اعتقلهم النظام عام 2003 لأنهم طالبوا بدور أكبر للمجتمع المدني في تنظيف شوارع داريا وحرية أكبر للناس في التجمع والتظاهر.
وفي الواقع فقد مارست برنامجي في الدعوة على غرار مذهب الشيخ كفتارو رحمه الله، وبالفعل نجحت في بناء صداقة وعلاقات جيدة مع شخصيات قيادية في السلطة، وحصلت على هامش غير عادي من العمل والحركة، فقمت بتأسيس مركز الدراسات الإسلامية، وشاركت في انتخابات مجلس الشعب وحصلت على كرسي المجلس مرتين متتاليتين كنائب مستقل، وتمكنت من تخصيص صفحة أسبوعية في صحف النظام للكتابة في الشأن الديني والسياسي، كما قمت بتقديم سلسلة برامج يومية وأسبوعية في الإعلام السوري، الأمر الذي أعطى رسالتي في التجديد الديني بعداً كبيراً عبر وسائل الإعلام، ومنحني القدرة على التواصل واستقبال زوار سوريا الوافدين بشكل خاص من الجامعات الأوروبية.
ولكن ذلك كله بدأ يتغير مع التصريحات التي أطلقتها باتجاه رفع قانون الطوارئ وإلغاء المادة الثامنة وإلغاء قانون إعدام الإخوان المسلمين، ووجوب الرقابة على أجهزة الأمن والمخابرات عبر المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، وقام وزراء الأوقاف المتتابعون بمنعي من وظائفي الدينية وكنت أعود إليها عادة عن طريق الاعتذار والمداراة والحكمة، وبالاستعانة بجهات عليا كانت تريد أن يبقى في البلد هامش من الحرية والديمقراطية، كما قام الشيوخ الأجلاء في جمعية أرباب الشعائر الدينية في الشام باختياري رئيساً للجمعية المذكورة الأمر الذي أغضب وزيري الأوقاف الأيوبي والسيد واعتبار ذلك اختراقاً يقوم به الإسلام السياسي لحكم البعث في سوريا.
قبل رحيل الشيخ كفتارو بدأ بشار الأسد يبحث عن بديل محتمل، والتقى بعدد من المشايخ، وتنافس بشكل كبير آنذاك كل من الشيخ عبد اللطيف فرفور وحسام فرفور وعبد الفتاح البزم ومصطفى البغا وبشير عيد الباري وأحمد حسون، وعلى قول بهجت سليمان كان من أشد المسابقين إلى هذا المنصب الشيخ سعيد رمضان البوطي.
بعد رحيل كفتارو قام النظام بتسمية زياد الأيوبي وزيرا للأوقاف وهو تلميذ كفتارو وبدا واضحاً أن الفتوى ستذهب لمكان آخر، بعد أن كان عدد من أبناء الشيخ كفتارو يتوقعون أن تكون الفتوى فيهم تماماً كما هو الحكم في آل الأسد.
مرت سبعة أشهر تقريباً على رحيل الشيخ كفتارو بدون مفتي عام، وقال لي الأيوبي لقد قررنا مع الرئيس أنه لا حاجة لمنصب مفتي عام في المرحلة الحالية!! ولكن بعد ثلاثة أيام فقط صدر مرسوم بتسمية الشيخ أحمد حسون مفتياً عاماً لسوريا.
مع وصوله للفتوى عانى المسكين من حملة شعواء ضده من زملائه المشايخ ففي الشام نظر إليه على أنه غريب على الشام ولم يحصل في تاريخ الفتوى أن كان المفتي من خارج دمشق وهذه بالتأكيد نظرة إقليمية غير مقبولة، ولكن الحملة الأكبر ضده كانت من زملائه في حلب وخاصة خصمه القديم الشيخ صهيب الشامي الذي فقد منصبه كمدير للأوقاف بعد وصول حسون بفترة قصيرة على الرغم مما عرف به من شخصية قوية أدار بها أوقاف حلب خلال خمسة وعشرين عاماً متتالية.
خلال سنوات تلطخت سمعة حسون عن قصد وعمد، وتحول إلى رمز للمراوغة والمداهنة ولم ينجح أبداً في تغيير صورته النمطية، وفي تقديري فإنه يتحمل المسؤولية الأكبر لأنه كان يندفع دون أن يشعر إلى معارك هامشية كان يكفيه أن يعرض عنها لتنتهي من حيث بدأت.
مع بداية الأحداث وجد الرجل نفسه في أتون المعركة، وكان يواجه اتهامات متزايدة وعزلة حقيقية من قبل عدد من أركان النظام، وسربت وثيقة سرية عن اتصاله بوزير الخارجية الفرنسي وعتابه عليه أنه لم يقم بزيارته حين كان في الشام، وفي الرسالة ما يوحي بأن لا معنى لهذه الزيارة إذا لم تلتق بالمفتي، وقد أغضبت هذه الوثيقة بشار الأسد الذي رأى فيها التفافاً عليه، ورفض مقابلته والحديث إليه عدة أشهر.
ومن الورطات التي وقع فيها حسون قوله: لو أمرني محمد أن أكفر بالمسيح لكفرت بمحمد؟؟؟ وهي تصريحات كان يقولها بنية طيبة ومع ضيوف غير عرب ولكنها كانت تصل بسرعة إلى خصومه ليجاهروا باتهامات له في دينه ووطنيته وولائه للرئيس!!!
ومن هذه الورطات أيضاً خطبة تم تسريبها كان يتحدث فيها بأشد الغضب بصيغة بالغة الاستفزاز ضد شيوخه من السنة الذين لم يدرسونا جرائم يزيد ومعاوية وفضائل الحسين ويوم كربلاء، وقد اعتبر هذا الموقف تأييداً كاملاً لتوجه الدولة في دعم المشروع الإيراني في سوريا، بل لقد بدا موقفاً ملكياً أكثر من موقف الملك نفسه!!
وساءت الأمور مع الرجل أكثر بوصول وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد إلى الوزارة وهو رجل معروف بحقده وكيده ووسائله المخابراتية الوخمة، واختار الرجل أن يحاصر حسون حصاراً شديداً، وأن يتعمد إهانته وإذلاله, وجعل منه بشكل تلقائي دائم الشكوى على سلوكيات الوزير في دوائر الدولة، وكانت الشكاوى دوماً تنتهي عندما يكتشف المسؤولون أن القانون السوري لم يترك للمفتي اي صلاحيات، وأن وزير الأوقاف يمكنه أن يحكم سلوك المفتي كأي موظف صغير في الدولة.
بدأت الأحداث وصورة حسون مهزوزة تماماً في نظر المؤسسة، وصارحني عادل سفر رئيس الوزراء مرة بأن القيادة غاضبة جداً من تصريحات حسون، وقال لي المفتي كلماته فتوى ويجب أن يكون قليل الكلام، لأنه يورط البلد ويورطنا بمشاكل لا معنى لها.
ولم يستطع حسون أن يفيد بشيء من انخراط الشيخ البوطي معه في الدفاع عن النظام فقد كان البوطي رأس حربة في اتهامه بالمروق من الدين، لدى التصريحات الطائشة التي صدرت عن حسون، وكان صعود نجم البوطي عند النظام نذير شؤم على حسون، وقد أسهم في اندفاعه بشكل أكبر في تأييد النظام وتبرير مواقف الأسد لاسترداد دوره القديم.
ومن المدهش أن النظام لم يقم بأي شيء لمساعدة البوطي وحسون على الحفاظ على الجمهور المتدين الذي انصرف عنهما بشكل مريع، فقد كنت أتوقع أن يقوم الرجلان بإطلاق سراح مساجين اعتقلهم النظام، ولو كان عبر طقس من التوبة والمراجعات، وأن يشاهد الناس ذلك على الإعلام، أو في لقاءات جماهيرية، تخفف غلواء الأحقاد، وتمنح الرجلين شيئاً من العذر، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل، واستمر النظام في قمعه واستمر الرجلان في تأييد النظام، وفي جامع الأموي حيث كان يخطب الشيخ البوطي انحسر عدد المصلين إلى أقل من العشر، وقد صليت مرة في الأموي وفوجئت بأنه في صلاة الجمعة لم يكن يكتمل أكثر من صف واحد إلى آخر المسجد عند قبر النبي يحيى، وهذا مشهد لم يحصل أبداً في الجامع الأموي منذ ايام الوليد بن عبد الملك!!
وأمام هذه الصورة المهتزة كان الرجل مطالباَ بتأييد مواقف النظام، وبدا أنه يفتقر للحكمة الكافية في منع تصعيد الأمور ولكنه اشتهر بمواقفه النارية التي كان يريد منها الدفاع عن النظام بإلقاء التهديد ضد أوروبا وأمريكا بإرسال انتحاريين سوريين ولبنانيين ليردوا على الغرب في عقر داره، وهي تصريحات هائجة لا يوجد فيها أدنى قدر من الحكمة أو التعقل، وهي أصلاً لا تطلب من مفتي الجمهورية، وكان ينتطر أن يعلنها وزير دفاع أو قائد فرقة عسكرية، وليس رجل دين وفتوى واجبه أن يلتزم الكلام عن المصالحة والرحمة.
في تقديري وأنا أكن الاحترام للشيخ حسون، خاصة أن صداقتنا بدأت قبل المناصب، وأعرفه في مزرعة عمي الشيخ أحمد منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، ولكنني مقتنع بأنه أخطأ الدور الذي كان ينتطره منه السوريون، وهو دور المصالحة والحوار، وبناء جسور المودة.
دفع الرجل ثمناً غالياً في مقتل ولده سارية، ولست أبداً مع الذين يحملون النظام وزر مقتل ساريه، فالمعارضة بكل تلوناتها لا تخفي تهديدها للشيخ حسون بالتعرض له والأذية في أي شكل كان، ولا أشك أن قاتل ساريه مجرم يفتري على الله وعلى عباده، ولن يفلح في تبرير جريمته أمام الله بذرائع العمل الثوري.
خلال سنتين ونصف لم يكن حسون مقنعاً في مواقفه المتتالية التي كانت ترديداً لما يقوله النظام، ومراراً خلط الرجل بين دوره الديني وبين دوره الأمني، وهدد مرة بأن التحقيقات مع مدبري التفجيرات ستثبت انتماءهم للخارج، وأنهم خلال ساعات سيخرجون ويعترفون، كما لو كان حاضراً في غرفة التحقيق، وهذه تصريحات تنتظر من الأمنيين وليس من رجال الدين.
وفي حوارات متعددة جرت بيننا كنت أقول له الأمور خطيرة جداً، والرئيس يجب أن يضع حداً لتغول المخابرات والأمن والجيش، ولكنه كان يردد ما يقوله الرئيس بأن كل شيء سينتهي آخر الشهر، وستعود البلد كما كانت!!! إنها كذبة تتكرر منذ ثلاثين شهراً على كل مستويات النظام ولكن لا أحد يريد تصديق الحقيقة.
فقد حسون تأثيره المباشر على جمهور كبير من السوريين كانوا يحبون خطبه العاطفية المؤثرة، وفقد تأثيره على أهل حلب الذي يشعرون اليوم بأشد الغضب ضد رجال الدين المقربين من السلطة الذين لم يتمكنوا من فعل شيء لوقف إطلاق صواريخ سكود التي اختص بها النظام المدنيين في حلب، ولم يتمكن المشايخ ولم يجرؤوا حتى على انتقاد هذه الصواريخ المجرمة ولو بمحض القول.
ومن جانب آخر فإن حسون يحظى بشعبية كبيرة لدى المسيحيين والطوائف المختلفة في سوريا، حيث انسجمت تصريحاته مع مخاوف هذه الأقليات، ولكن من الواقعي تماماً أن نعترف بأن لا فائدة على الإطلاق من أي زعيم ديني مهما كان فصيحاً ومؤثراً إذا كان قد فقد هذا التأثير في محيطه.
كصديق للشيخ أحمد حسون، فإنني أتمنى له أن يقوم بدور في المصالحة بين السوريين، ولو كلفه ذلك منصبه، ولكنه مدعو أن يسجل أمام الله والتاريخ كلمة حق، يسهم فيها في حقن الدماء ورفع المعاناة عن كواهل السوريين.
إنها ليست محض أمنية، ولكن الإعداد لها يتطلب حكمة وعقلاً، ولن يستطيع أن يفعل شيئاً وهو منفرد، ولكنني أعتقد أنه لو استطاع حشد عشر شخصيات قيادية في الوسط الديني في سوريا والحصول على تفويض من الرئيس لبدء حوارات مع الثائرين المتدينين، تترافق مع حملة إغاثية يقوم برعايتها رجال الدين في الداخل مع خطوات عملية تقوم بها السلطة لجهة الإفراح عن المعتقلين وسحب الجيش من بعض المدن وفض الاشتباك في مناطق محدودة، فإن ذلك سيكون مفيداً لمساعدة السوريين، ورفع الأذى عنهم.
من يدري ربما كان النظام المنهك ينتظر مبادرة من هكذا نوع، وقناعتي أننا نكفر بعقولنا حين نتصور الطرف الآخر خالياً من الضمير.