ألا ترى معي أن ذلك قمة التخلف والانحطاط, بينما الأمم الأخرى والتي ندمغها بالكفر, تعمل وتخطط لرفاه بني الإنسان في بلادها على الوجه الأمثل والمستطاع؟.
نحن نملك التاريخ.. ونفتقد الإنسانية التي تجردنا منها لطغيان الأنانية, والأنا المتورّمة بنرجسية عجيبة تنظر من برجها العاجي للآخرين.
نحن نملك التاريخ .. ونفتقد لدواة واحدة تجمعنا, نتجول في القطار بأرجائها, ننتقل من البصرة إلى طنجة, عوداً على بدء على خطى الرحالة ابن بطوطة, بلا جواز سفر, وبلا تأشيرة مسبقة و ممهورة بموافقة الجهات الأمنية, أو كفيل..
نحن نملك التاريخ .. وخطوط الحدود المستقيمة والملتوية, قسمت الشعوب والنفوس وأصبح لكل منهم انتماء للقطر الذي أحاطته الحدود المصطنعة, مختلفاً عن انتماء أبناء عمومته وملته على الضفة الأخرى, يلعقون جراحاتهم ويكبسون الملح عليها ويكظمون غيضهم من إخوتهم في العروبة والإسلام وقد أغلقوا الحدود إرضاء لليهود,هذا ما حصل لغزة وأهلها في حرب 2009, هذه الحدود التي منعت تدفق العمالة والثقافة والتواصل الاجتماعي و كل أشكال الأخوة, العدو من أمامهم وعن يمينهم وشمالهم وحصار الأخوة من خلفهم.
نحن نملك التاريخ .. ونفتقد القوت الذي نأكله لنستورده من أعدائنا, ونفتقد الخطط التنموية التي خلفت جيوشاً من الشباب العاطلين عن العمل, ومنهم خريجي الجامعات والمعاهد العلمية, ينتظرون في الأمل الموهوم, واللاشيء في طريق مستقبل ضائع.
استفاقت الحكومات على صراخ التقارير التي أُعدّتْ عنا في مراكز الأبحاث في أوربا وأمريكا, تقول: إن التطرف قد نما ووجد البيئة المختلفة والبطالة عن العمل والإدمان على المخدرات والإجرام, و كما يقال:" أصبحت الفأس في الرأس". تراكضت حكوماتنا الرشيدة النائمة والمنوّمة في محاولة لإنقاذ نفسها, ولكن يبدو أنه بعد فوات الأوان, ولا ينفع الترقيع لثقوب المشاكل التي توسعت فاستعصت, إذا لم يكن حلّها جذرياً.
ولكن مَنْ لهذه الحلول الجذرية ؟.
نملك التاريخ .. ونفتقد للحرية والديمقراطية في بلداننا التي حاق بها الخراب والدمار, غاصت الأقدام بالدم حتى الرُّكَبْ, و ذلك عندما رفعت صوتها في وجوه جلاّديها مطالبة بحريتها وديمقراطيتها, والتي أصبحت شعارات جوفاء كلٌّ ينادي بهاو الحاكم والمحكوم, فالحاكم يريد تطبيقها بطريقته التي تضمن له بقائه جالساً على الكرسي, إطالة أمد الجلوس إن أمكن حتى وفاته فهذا جميل, ولكن الأجمل والأفضل حينما ينتقل إرثه لابنه من بعده, وهكذا دواليك.
نحن نملك التاريخ .. ونوهم أنفسنا بقداسته, و لا يحوز لنا المساس بمقدساته.
ونحن كل يوم نلعنه ألف مرة..
ونذبحه كل يوم مائة مرة..
نلعن الله..
نلعن رسله..
نلعن كتبه..
حرقنا قرآنه..
وشربنا دم رسوله..
ونهشنا عرضه في الصباح على الريق..
وعلى مائدة الغداء أكلنا لحم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ..
أما ما تبقى من عظامهم صنعنا منها السيوف والخناجر لاستئناف عراكنا, ونصنع تاريخاً مشوهاً معوقاً جديداً سنلحقه بالقديم, وبكل تأكيد أن الخسارة للجميع, ولكن هناك الفئة التي ملأت جيوبها من دنانير أعداء الأمة, مدّوا أيديهم لمصافحتك, والأخرى تمسك بالخنجر الذي سيغرسه في خاصرتك.
نملك التاريخ .. الذي كتب على أبواب الملوك والسلاطين والأمراء والقادة,ورضينا به, ومع ذلك عبثت به يد الدسّ والكذب والدجل والتدليس فحرّفت الحقائق واختلقت حوادث لا وجود لها أساساً.
فكيف لمثلي, ومنْ هم على شاكلتي أن يفهم الحقيقة؟.
وهل أُلامُ إذا كفرت بمثل هذا التاريخ؟.
وهل سأصبح مثل لوركا الذي قضى حياته باحثاً عن الحقيقة؟.
وهل سيكون لي مكان مقدس في التاريخ, إذا أجرمت ولطخت يدي بدماء الأبرياء؟.
هل سأجد من يدافع عني..؟.
الناس جميعاً اختلفوا على التاريخ, بمعنى أنهم اختلفوا على الماضي, وهم الذين ينتظرون القادم أي المستقبل, وهو لم يأت بالفعل بأفعال وصفات حتى يُكتب عنه, ولكن هناك قلة من المثقفين استطاعوا أن يمشطوا الماضي و الإمساك بالخيوط التي تقود العبرة, عابرين به الحاضر استشرافاً لأفق المستقبل القادم, ورسموا له شكلاً زاهياً ضمن مشروع فكري متكامل لا يمكن التغاضي أو ترك أي جانب منه لأنه سيؤثر على بقية المسارب الأخرى.
كذلك شلل الإرادات الجادة و الجريئة الطامحة للتغيير و تحسين أوضاع مجتمعاتهم من خلال مشاريع الدراسات المستقبلية, والتي بقيت حبيسة الأدراج أو صدور أصحابها, وهي بكل تأكيد دراسات جادة وهادفة للإتيان بمشروع جديد الأفكار المبتكرة, لا عملية نقل الماضي للحاضر, أو استنساخ تجارب الأمم الأخرى في محاولة تطبيقها على مجتمعات تختلف بثقافتها وكافة معطيات حياتها عن المجتمعات التي صممت من أجلها, وكثير من التجارب المجتزأه التي جربوها علينا ففشلت, كالتجربة الاشتراكية, التي استغرقت في حياتنا لأكثر من خمسين عاماً, حيث طبقوها بشكل انتقائي, وبإدارة سيئة أساءت للتجربة الاشتراكية والتي تهدف حسب أدبياتها تحقيق العدالة الاجتماعية, رغم المآزق الفكرية والتطبيقية على ارض الواقع في بلاد المنشأ, والتي لم تدخر جهداً في لملمتها ورميها كنفايات في مزبلة التاريخ. وأصبحنا حقل تجارب للأفكار المستوردة والساسة المغامرين, كالرئيس السوري حسني الزعيم, صاحب أول انقلاب في سوريا والعالم العربي عام 1949 والذي انقلب على الرئيس شكري القوتلي أبو الاستقلال, وقد حكم الزعيم سوريا 137 يوماً فقط هزّت سوريا, ومن العجيب أن يطلب من صاحب له من أن يستورد البرنيطات ( القبعات الإفرنجية), وكان ينوي فرضها على الشعب من خلال إصدار قرارات ومراسيم, إلزامهم باعتمارها بالقوة القانونية للدولة..!!..
الكثير من الجغرافيا .. المجزّأة ..
الكثير من التاريخ .. المنتهك والمهتوك..
الكثير من التاريخ .. الذي أثقل كواهلنا, وأدخلنا في دهاليز متاهاته التي أربكت مسيرة الانطلاق للأمام.
فما هو الفرق بين هامش ومزبلة التاريخ ؟.
فالولايات المتحدة الأميركية, لديها الكثير من الجغرافيا, قليل من التاريخ, ولديها غنى بالموارد و بلا حدود, وخفّة أثقال التاريخ وحمولاته, وهي صفة لم يتمتع بها غيرها, كل ذلك كان لها منحة مطمئنة إلى وفرة مادية, وإعفاء من وساوس تاريخية ينوء بها العديد من البلدان.
يبدو أن الأمريكان يجرون ويهرولون محاولين الهرب خوفاً من ماض أن يلحقهم و بعضهم الآخر يحاول الإمساك بفرصة يخاف أن لا يلحقها..
والقانون يكتبه الأقوياء..
والعدل حلم الضعفاء..
ورحم الله الصديق الخرافي المتخيل, حين قال:" قوة الأقوياء من ضعف الضعفاء".
وكثيرُ هم من ولجوا باب التاريخ..
وتمسحوا بأعتابه ..
محاولاً أن يُلقم التاريخ باسمه وسطوته مائلة من خلال سلطته, صاحبة اليد والعصا.
فما اطمأن لفعلته.
وودع..
فسارع التاريخ مهرعاً إلى مزبلته, و قاء النتانة التي لم يحتملها.
فضلاً عن مزبلته التي ضاقت ذرعاً بها.
فلو جلست كمراقب في جلسة, وأردت أن تحصي توجهات وألفاظ الحديث, فإن الفعل الماضي سيكون له النصيب الأكبر .. كان.. و كان.. و كان..
نملك الجغرافيا.. ونتقد كل شيء..
نملك التاريخ.. ونفتقد كل شيء..
نملك التاريخ .. ونفتقد لمهابته..


مقاطع من روايتي تيراجانا

بقلمي (محمد فتحي المقداد)
سوريا \ بصرى الشام