ليلة تسليم جلجامش لليهود (٨)
الأربعاء ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦، بقلم حسين سرمك حسن
كارثة تأويلية :
ثم نعود للنقاش الذي قدّمه ناجح لتخطئة وجهة نظر شكري محمد عياد حيث يقول في نهاية هذا القسم:
(وقد استل الأستاذ شكري محمد عياد اراء فرويد كاملة وأجرى عليها تطبيقا متناظرا مع حكاية الأخوين، واعتبر فعل "بايتي" بقطع ذكورته بديلا رمزيا عن الخصي الذي كان الأب كلي القدرة يعاقب به ابناءه فيما غبر من الزمن -ص 91 و92) (56).
لكن هنا نلاقي كارثة تأويلية وقرائية أخرى يقع ضحيتها الآن الدكتور شكري محمد عياد. فناجح يقول نصّاً إن شكري (استل آراء فرويد كاملة وأجرى عليها تطبيقا متناظرا مع حكاية الأخوين).
لكن شكري محمد عياد - أيها الأخوة - خطّأ نظرية فرويد في دور عقدة أوديب في تفسير صراع الإله الشاب ضد الوحش في الأساطير كأنموذج عن طقوس العبور والولادة الجديدة.
يقول د. شكري:
(إن فرويد يفسّر الوحش في العقائد الطوطمية عامة بأنه صورة الأب المقتول، ويجعل الخوف من الوحش راجعا إلى خلع صورة الأب عليه. ويترجم قتل الوحش في الأساطير بأنه حلم الشاعر الأول، خالق الأسطورة (في رأي فرويد)، بأن يخلف الأب - ص 98 و99) (57).
هذا ملخّص رأي فرويد كما قدّمه شكري محمد عياد ليردّ عليه الآن معترضا ومصحّحاً بقوله:
(والواقع أن الطقوس التي وصفناها – ونظائرها كثيرة – لا تصوّر الشاب قاتلا الوحش، بل داخلا في جوفه، ثم خارجا منه بفضل رحمته، وقد اكتسب علماً جديداً، وأصبح صالحا للحياة. ومن هنا يبدو لنا أن "عقدة أوديب" تُعالج في الطقوس معالجة صريحة مركزة منطوية على الشعور بمعناها الحقيقي كعائق للنمو الجنسي، وأن الدخول في جوف الوحش معناه اختبار الناشيء لحقيقة مخاوفه الصبيانية التي تتعلق بالخروج من حضن الأم ومواجهة العالم الخارجي، أو بعبارة أقرب إلى تصورات البدائيين – ذهاب روح الطفل وحلول روح جديدة فيه، تنتمي إلى الروح العامة للجماعة – ماضيها ومستقبلها – تلك الروح التي يمثلها الطوطم - ص 99) (58)
وانتبه سيّدي القارىء - الآن - إلى ما يقوله الراحل شكري محمّد عياد:
(وهذا عكس ما يقوله فرويد من أن قتل الوحش في الأساطير هو تصوير لأمنية مرتبطة بأحلام الطفولة وهي قتل الأب للإستئثار بالأم - ص 99) (59).
وقد يقول قائل لكنك سوف تأخذنا بعيدا عن موضوعة الختان والإخصاء فأقول: كلا، نحن في لب المسألة هذه، لأن شكري عياد يعتبر الختان طقسا للعبور والإستقلالية، ويعدّ ما قام به باتا ختانا في حين يراه ناجح إخصاءً . يواصل شكري القول:
(وكما نجد هذا الموقف من عقدة أوديب في طقوس العبور، نجده بنفس الوضوح والتركيز في الأساطير والقصص الشعبية . ونكتفي بمثالين يغنيان عن كثير. نأخذ أحد هذين المثالين من قصة مصرية قديمة هي "قصة الأخوين" - ص 99) (60)
ثم يقدّم شكري موجزا للقصة يتوقف فيه عند إخصاء باتا لنفسه، وبكاء أخيه ثم رحيله إلى وادي الأرز، ليبدأ حياة جديدة (ص 101) .. ويقول صراحة:
(وهذا هو الجزء الذي يعنينا من قصته هنا، ومنه يظهر إخلال التحليل النفسي بالمعنى العام للأسطورة (اي أن شكري ضد فرويد وخلاف ما قاله ناجح)، وإن ساعدنا كثيرا في فهم تفصيلاتها، فالمعنى العام ليس قتل الأب (الذي تصوّره الأسطورة هنا أخاً أكبر) وزواج الأم (زوجة الأخ) بل التغلّب على هذا الخيال الصبياني واقتحام حياة جديدة فيها المسؤولية الحقيقية والحب الحقيقي. وهذا المعنى العام توضحه الطقوس الجماعية لا علم النفس الفردي - ص 101) (61) .
ثم يعطي شكري بعض تأويلات التحليل النفسي المفيدة حقّها بالقول:
(ولكن التحليل النفسي يفسر لنا دور الإغراء الذي تقوم به زوجة الأخ في هذه الأسطورة (وله أشباه كثيرة في الأساطير)، فليس هذا الدور إلّا اسقاطا للوهم الذي يعاني منه البطل نفسه. كما يفسر لنا التحليل النفسي جانبا من معنى الختان (الذي تعبّر عنه الأسطورة تعبيراً مخيفاً باقتطاع العضو الذكري) وهو ارتباطه بالخوف من الأب - ص 101 و102) (62).
ثم يقدّم اعتراضه على التأويل الفرويدي بالقول:
(ولكن هذا ليس جانبا واحدا من معنى الختان، وهو الذي تكشفه سيكولوجية فرويد مقارنا بعقدة الخصاء عند المرضى النفسيين. أمّا الجانب الأهم لهذا المعنى فهو إخراج الذكر من طور الطفولة، أو انطلاق الدافع الجنسي الحقيقي، نحو القوة ومنبع الرجولة - ص 102) (63).
ثم يختم وجهة نظره بتأويل في غاية العمق والثورية يجعل الأسطورة المصرية أكثر جرأة وتماسكا من أسطورة أوديب الأصلية نفسها:
(وأهم من هذا كلّه طريقة الأسطورة المصرية القديمة في معالجة عقدة أوديب. فهي طريقة توشك أن تكون صريحة (فيما عدا ما لاحظناه من إسقاط وإحلال). بل هي أصرح بكثير من قصة أوديب نفسه الذي تزوّج أمّه وهو لا يعرف حقيقة ما عمل. فأسطورة أوديب تجعل البطل مسيّرا بقوّة القدر. أما الأسطورة المصرية فتعترف صراحة بوجود الرغبة وإن أسقطتها على زوجة الأخ التي أحلّتها محل الأم . ولكن الأسطورة المصرية، على عكس الأسطورة اليونانية، لا تصوّر انهزام البطل أمام هذه الرغبة بل تصوّر انتصاره عليها بتضحية الجزء الطفولي منه؛ ولا تجعل الأب وحشاً، بل تكتفي بجعله أخاً أكبر، وتجعل العمل الحاسم الذي يقوم به البطل عبور نهر، أي الإنتقال من أرض إلى أرض، من حياة إلى حياة - ص 102) (64).
فكيف يؤيّد شكري محمد عياد رأي فرويد في تفسير هذه الأسطورة حسب قول ناجح وهو يعارضه في كل المواقف السابقة خصوصاً فيما يتعلق بتحليل حكاية الأخوين؟
إن وجهة نظر شكري محمد عياد في هذه الأسطورة تشتمل على رؤى وتحليلات صائبة جدا بالرغم من أنها غير كافية. ما يميّز وجهة النظر هذه هو أنه اعتبر الدرس الأساسي من الأسطورة هو تحقيق العبور والتغلب على حاجز العقدة الأوديبية، ولم يضع فارقا بين الختان والإخصاء برغم فداحة الأخير. وهنا – واتساقا مع تأويل شكري – نستطيع استعادة المعلومة التي أجّلناها في بداية هذه الدراسة والتي تتعلّق بمجيء باتا إلى البيت وطلبه من زوجة أخيه أن تعطيه حبوب الذرة في حين أن من المفروض به والمنطقي أن يذهب بنفسه إلى المكان المخصص لها والذي يعرفه، وهو الزريبة أو المخزن المخصص لها. هل كان هذا نمط من فعل لاشعوري يعبّر عن الرغبة المكبوتة اللائبة في الإعماق في زوجة أخيه؟ يمكن للمحلل النفسي أن يقول ذلك.
لكن هناك ما هو أخطر من هذا تقوله لنا الأسطورة؟ فما هو؟
لم يكن ناجح مثل شكري عياد حيث كان يرى أنّ باتا – وهو محق في ذلك كما سنرى – قد خصى نفسه بقطع أعضائه الجنسية كاملة، ولم يمارس عملية ختان تقتصر على قطع "الغرلة" (قلفة القضيب الذكري). ناجح يرى أن الختان يعني قطع القلفة، وشكري يرى أنه يعني أيضا – وعلى المستوى النفسي لتحقيق غاية العبور والاستقلالية - قطع الأعضاء التناسلية كاملة. ولكن ناجح الغير متأكّد من أن باتا قطع قضيبه كاملا أو قلفته فقط، كان يمكنه حسم الأمر ببساطة لو راجع النص الأصلي للاسطورة، ولم يكتف بالنص الأدبي لسليمان مظهر. يقول النص الأصلي أنّ باتي قال لامرأته:
(لا تخرجي لئلا يمسك بك البحر، لأنني لا أستطيع إنقاذك منه، لأنني امرأة مثلك، وقلبي موضوع على قمة زهرة الأكاسيا، وإذا عثر عليها شخص آخر، وجبت عليّ مقاتلته)
وحسب شارح الأسطورة فإن عبارة (أنا امرأة مثلك) التي قالها باتا لامرأته غريبة، لأن إخصاء رجل راشد وبالغ لا يؤثر في قواه الجسدية إلّا قليلا، وكما أنه من المؤكّد أنه لا يحوّل الرجل إلى امرأة!
ونستنتج من ذلك أيضاً أن كلام ناجح عن أن الآلهة التسعة قد عوّضت باتا عن أعضائه التناسلية ليس صحيحا، لأن باتا يعترف للمرأة التي خلقتها له الآلهة بأنه مثلها، أي أنه مازال يفتقد للأعضاء التناسلية الذكورية.
لقد كان باتا – وحسب ما تذكره الحكاية – يصطاد الوحوش في البريّة في وادي الصنوبر، وعليه فإن قوّته الجسمانية ممتازة ورجولته واضحة، فلا تعني هذه العبارة (أنا امرأة مثلك) سوى أنه ما زال يفتقد أعضاءه التناسلية.
ليلة تسليم جلجامش لليهود (٨)