منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 20 من 23

الموضوع: شقاء السعادة

العرض المتطور

  1. #1

    رد: شقاء السعادة

    (20)

    لَمَا كان أهل البلدة، يقننون استهلاكهم للغذاء ليتجاوزوا به محنهم، لم يكونوا على علمٍ بأن هذا الأسلوب ستستخدمه شركات النقل الجوي في نقل الأبقار من قارة الى قارة، حيث كانت تحبس الأبقار وتخضعها لنظام غذائي شديد، ينقص من وزنها ما يعادل الربع أو الثلث لتوفير نفقات النقل الجوي.

    ولم يكن علمهم بتلك الأمور ليطلعهم على أن هناك علائق للحفاظ على الحياة، وأن هناك علائق تهتم بصحة الجنين وعلائق لإنتاج الحليب وعلائق لإنتاج البيض. وربما يكون علماء التغذية هم من استفاد من تجارب هؤلاء الذين أخضعتهم الطبيعة لاستنهاض قدراتهم في الصراع من أجل البقاء.

    ففي سنين الخير، لم يكن شبح المحل والقحط ليغيب عن أذهانهم، فإن كان حاصل إنتاج أحدهم يكفيه لعشر سنوات هو ومن يرعاه من حوله من بشر وحيوان، فإنه سيحتاط للاحتفاظ بمئونة سنتين أو ثلاث، مع كميات من البذار تكفي لتلك السنوات القادمة، ويبيع ما سيفيض عن حاجته الفورية أو المستقبلية. وكانت كميات المخزون الاستراتيجي تعتمد على كمية الغلة وحاجة أصحابه.

    وتظهر المشاكل، تبعاً لنقص المواد الاحتياطية. ففي تلك الفترة التي طالت سنوات قحطها، كشفت أحوال أكثر من ثلثي سكان البلدة، فمنهم من كان يقترض من أقاربه قرضاً حسناً، ومنهم من كان يلجأ لإزالة سقوف قسم من سقائف منزله ليطعم الحيوانات التبن الذي كان يُستخدم في السقوف، ومنهم من كان يبيع جزءا من أرضه لتجاوز المحنة، ومنهم من كان يقترض بالفائض من بلدة قريبة، راهناً أرضه أو جزءاً منها، ومنهم من كان يُكابر في الصبر الشديد فلا يشتكي ولا يقترض بل يبقى هو وأهله كأنهم في تمرين بوذي، أو أنهم يفضلون (الاعتفاد*: أي الموت جوعاً بشكل جماعي) على هدر كرامتهم.

    (21)

    تيقن معظم أهل البلدة، أن الموسم يبشر بخير، فكان هذا (المُعْظَم) يتصرف كعطشان قطع شوطا طويلاً في صحراء، ثم شارف على غديرِ ماءٍ علمته خبرته بأنه ماءٌ حقيقي وليس سراباً. فهذا شهر (فبراير/ شباط) قد اقترب على الانتهاء والحقول خضراء بمزروعاتها وأعشابها.

    لكن بهلول لم يشارك هؤلاء الناس استبشارهم بالخير، فكان يحمل عصاه التي كانت أطول من جسمه، ويطوف بين الحارات، مُردداً : ( تغل على جمر وتمحل على نهر: أي أن الله يرزق الناس حتى لو يئسوا و يحرمهم من الغلال حتى لو كانت وفرة الأمطار كماء النهر الجاري).

    لم يكن بهلول وحده، من شكك في الموسم، بل كان يشكك به (أبو مناور) الذي كان يحتفظ بكميات من القمح والشعير والعدس والتبن في مستودعاته التي كانت معظمها على شكل آبار محفورة أسفل قاعات المخازن الظاهرة، ومع ذلك كان ينكر لمن يطلب منه بعض الحبوب أن لديه شيئاً مخزون.

    (22)

    انتشرت النسوة مع الغلمان في الحقول، وكان الجو مشمساً، وكان الأولاد يتابعون حركة سلحفاة هناك، تقترب من حفرة صخرية تجمع بها الماء، وكان أحدهم يريد إطفاء عطشه، فاقترب من الحفرة مُبعداً بعض الخنافس التي سقطت بها ليغب من الماء كأنه خروف. وقد شاهدته أمه (ذيبة أرملة ياسين) وهو يشرب فشاركته بالشرب.

    جمعت (ذيبة) أشكالاً مختلفة من النباتات البرية، وكان لكل نبات اسم واستعمال، فهذه (خبيزة) وذاك (عكوب) وذلك (مُرار) و تلك (بْصِيلة)، ووضعتها ب (معقاد: صرة من القماش العتيق)، وهمت بالرحيل مع أطفالها.

    تعالت أصوات الأولاد، وذهبوا يتراكضون جهة (صياح) القادم من بعيد هو وثلاثة (كلاب سلوقية) يجر وراءه ضبعاً، لا يدري أحدٌ إن كان هو من قتله أو وجده مقتولاً.

    (23)

    انشغلت ذيبة في تحضير الطعام لها ولأولادها، حيث فرمت (الخبيزة) مع (البصيلة) ووضعتها في قدرٍ فوق الموقد، ورشت فوقها الملح، ولم يكن في حوزتها خبزٌ، حيث عليها أن تتمرن هي وأولادها العيش بلا خبز حتى يأتي الخير الجديد، كما عليها أن تستعيض عن البصل بشبيهه البري (البصيلة).

    تأخر أحد أولادها الثلاثة، عن مشاركة أمه وأخويه تناول الطعام، وكان قد لحق صياح، الذي كان يجر الضبع وراءه. وعاد ومعه قطعة من لحم الضبع.

    لم تسأله أمه عن اللحم، رغم أنها سمعته عندما قال: أنها قطعة لحم من الضبع الذي ذبحه صياح.

    كانت فتاوى أهل البلدة في مثل تلك الأيام فضفاضة جداً، فهم إن نصبوا (أفخاخ) للطيور في المساء وعادوا صباحاً، فإنهم لن يناقشوا الحلال من الحرام، ويكتفوا بالقول: (صيد الفخ لَخْ)، وبغض النظر عن معنى الكلمات فهي إشارة على أن أكل هذا الصيد حلال!

    كذلك كان يفعل (صياح) باعتماده على فتوى لم يسأله أحدٌ عن مصدرها، وهي أن الجنب الأيمن من الضبع حلال أكله، فكانوا يأكلون ما يصيده أو يحضره صياح دون تدقيق، ودون أن يتحروا أين ذهب الجانب الأيسر؟






    *ـ الاعتفاد (الانتحار الجماعي) : حالة كان يلجأ إليها سكان مكة المكرمة قبل الإسلام، عندما يقل عندهم الغذاء، خوفاً من كشف فقرهم للآخرين، وقد رافقت تلك الظاهرة ظاهرة وأد الفتيات اللواتي كان أهلهن يخشون أن ينحرفن أو يضطروا لزواجهن من رجالٍ غير كرماء الأصل [ من المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د. جواد علي/ دار العلم للملايين].

  2. #2

    رد: شقاء السعادة

    (24)

    تأثر عكرمة بالتجاوب السريع لوالده، في إعطاءه عشرة قروش ليتبرع بها لثوار الجزائر، وفتحت له تلك المسألة آفاقاً كبيرة للتأمل: لماذا تجاوب والده بهذه السرعة لإعطائه التبرعات وهو الذي يدقق في كل شيء؟ أين تقع الجزائر؟ وما هي العلاقة العضوية بها؟ على ماذا يثور أهلها؟

    لم يستطع رسم صورة دقيقة عما يفكر فيه، خصوصاً وأن ظلمة الغرفة التي ينام فيها وتشويش الظلال التي يشكلها خفوت الضوء المنبعث من مصباح نفطي ضاعف السنا المتراكم على بلورته من هذا التشويش، جعلت الظلال التي تتشكل من حجب الملابس المعلقة على مسامير على جدران الغرفة وكأنها أشباح ذات لون رمادي.

    كان يحاول النوم، لكن عليه أن يطمئن بأن ما قام به من تبرع يشكل عملاً مفيداً، لكن كيف سيتحقق من ذلك، ما قيمة العشرة قروش؟ وكم من متبرعٍ آخر قام بمثل ذلك؟ كم أعداد الطلبة في بلده؟ وكم بلداً عربياً أو مسلماً يقوم طلابه أو غيرهم بالتبرع؟ وكم ثمن البندقية؟

    لقد صنعت تلك التساؤلات لديه قاعدة ليؤسس لديه اهتماماً جديداً لم يكن ليهتم به سابقاً، فحفظ فيما بعد عواصم البلدان العربية وأعداد سكانها ومساحاتها.

    كان في تصرفه البسيط وكأنه يحاول التمعن بأحوال الشركة التي لا يعرف إمكاناتها بشكل جيد وساهم بها بما قيمته عشرة قروش!

    (25)

    قبل أبو صابر طلباً من أبي مناور بأن يرسل أولاده لأخذ كمية من (القُزْمُل)*1 لاستخدامه كوقود للفرن. لم يتوقف أبو صابر عند الدوافع التي جعلت هذا الرجل المتصف بالبخل أو التدبير القاسي ليكون كريماً في هذه المنحة.

    وصل عكرمة بناءً على طلب والده الى دار أبي مناور، ففتح له أبو مناور باباً لمخزن يواجه الجنوب، يعلو فوق الأرض بما يعادل قامتين لرجل متوسط الطول، ويهبط في الأرض ما يزيد عن ارتفاعه، وأخبر عكرمة بما يجب فعله.

    كانت رائحة المخزن القديم مزيجاً من تخمر الدبال وما علق على الأدوات الزراعية من روائح الحيوانات وبولها، فقد ثبتت مجموعة غير منتظمة من الأوتاد على الجدار الغربي المبني من الحجر والطين وكانت الحجارة التي مال لونها الى اللون البني الغامق ظاهرة دون تغطيتها بالطين، فعلق على الأوتاد بعض الحبال، وإطارات الغرابيل والمقاطف و(حواة) توضع على رقبة البغلة ليُثبت عليها أذرع عربة الجر أو عود الحرث أو غيره، وسرج قديم لفرس غير موجودة.

    كانت درجات الهبوط لأرض المخزن مصنوعة من صخور المكان، فكانت مقصوصة بحيث تصبح درجات، وكان جسم المخزن كله محفوراً في الصخر، ولم يكن هناك من مواد للبناء سوى الجدران الخارجية البارزة فوق سطح الأرض، وما نُصِبَ من قناطر ثلاث لتحمل السقف المكون من أخشاب وأعواد قصب وضع فوقها التبن والطين.

    تساءل عكرمة، من بنا هذا الشيء؟ هل هم من عاشوا في عصرنا؟ أم هم من أبناء الجيل الأول أو الثاني ممن نجوا مع نوحٍ عليه السلام؟ اختلطت خطوط الزمن على عكرمة، كما اختلطت خطوط المكان عندما أراد أن يتصور أين تقع الجزائر.

    (26)

    كان عكرمة يحمل أداةً لها أربعة أصابع من الحديد المُقَسى طول الإصبع حوالي قدم، تنحرف قليلاً للداخل وتلتقي في نهايتها بوَصلةٍ مثقوبة يثبت بها ذراع خشبي، تستخدم لقلب القش وتحريكه، كانوا يطلقون عليها (شاعوب)، وقد يكون اسمها مأخوذاً من تشعب أصابعها.

    غرز عكرمة أطراف الأداة في كومة (القُزْمُل) وأزاحها من مكانها، فلاحظ وجود جسمٍ أملسٍ لم يتعرف عليه على الفور لخفوت الضوء وسط ذلك المكان، فاحترز بفطرته المقترنة بالبيئة، وعاد الى الخلف ليعود ويحرك الأداة بحذر، فإذا بأفعى يزيد طولها عن طوله، ولكنها في طور سُباتٍ لم تتحرك بطريقة عدوانية بل بحركة تُشبه حركة من أكل وجبة دسمة وغفل للتو، وحاول أحدهم إيقاظه، أحضر أداة معلقة لها في رأسها سلاح مبسط حاد تُسمى (مِنساس) يستخدمها الحراثون لإزالة الطين عن أعواد الحراثة، وقطع الأفعى، ولا يدري من أين جاءت بعض القطط لتنقل أجزاء الأفعى لتأكلها. وقد لامه بعض أترابه عندما تحدث لهم عن تلك القصة، حيث قالوا أنه لو أخذها وطبخها بعد إزالة شبرٍ من جهة الرأس وشبرٍ من جهة الذيل!

    بعد أن ملأ عكرمة الأوعية المصنوعة من (الليف) من المادة التي جاء لأخذها من دار أبي مناور، وصل بعض التجار مع أبي مناور ليفتحوا بوابة لبئرٍ محفور أسفل المكان ومموه بالتبن تجنباً لوصول الرطوبة وتحسباً من اللصوص، فاستخرجوا القمح من البئر.

    (27)

    كان أستاذ التاريخ في زيارة لصابر، عندما استمع لقصة عكرمة، فابتسم وقدم شرحاً مُبسطاً لموضوع الآبار المستخدمة في خزن الحبوب، فهي لم تكن من باب الحرص من الرطوبة واللصوص فحسب، بل لها غايات أخرى، وصَمَت، حتى يجعل من إجابته المستقبلية مادة مشوقة.

    سأله عكرمة على الفور: وما هي تلك الغايات الأخرى؟

    أخذ أستاذ التاريخ نَفَساً من الهواء، ثم تناول موضوع حروب العثمانيين (الأتراك) وكيف كان وقودها من شباب وأبناء تلك البلاد، ولم يكتفوا بذلك، بل كانوا يأخذون حاصل الفلاحين من القمح لإطعام الجيوش، ويأخذون الشعير لإطعام خيولهم وبغالهم.

    من هنا، لجأ أهالي تلك البلاد للتحايل في إخفاء محاصيلهم.





    هوامش:

    *1ـ القزمل: هو ناتج تنقية التبن من العيدان الغليظة التي لا تأكلها الحيوانات، حيث يُستخدم غربال (كربال) فتحاته واسعة لينزل التبن الصالح لإطعام الحيوانات من فتحاته ويبقى في الأعلى ما كان غليظاً، تستخدمه النساء في الأفران لإحمائها.

  3. #3

    رد: شقاء السعادة

    اليوم عدت من المغرب بعد إجازة أسبوع

    ولو عرفت عنوانكم لشكرتكم عن قرب

    احترامي و تقديري

  4. #4

    رد: شقاء السعادة

    ماشاء الله عليك استاذنا ونفسك الطويل في التفاصيل , وتصويرك للبيئة بصدق وتفاصيل كبيرة.

    ونتابع
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #5

    رد: شقاء السعادة

    (36)

    لم يشأ أستاذ التاريخ، أن يسأل صابر عن وجهة ذهابهما، فمثل تلك الأسئلة لا لزوم لها، في أماكن لا يكون للوقت قيمة كبيرة.


    صعدا في طريقهما الى (تل) يتوسط البلدة، كان الناس في العهود القديمة يقبرون موتاهم فيه، وكان بعض سكان الأجيال القديمة، يسكنون في كهوفٍ صنعوها بحفرهم آباط التل، ليستخرجوا الحجارة منها ليستخدمونها في بناء واجهات لتلك الكهوف أو (المساكن)، ويبدو أنهما اختاروا تلك المنطقة لسكنهم تجنباً للفيضانات، واحترازاً من أخطارٍ يعيقها مثل ذلك الارتفاع.

    لم يتمسك أهل البلدة في ملازمة هذا المكان وفاءً لأجدادهم، وربما لم يكونوا من أجدادهم، وهذا ما يفسره سلوكهم في البحث عن الذهب أو اقتلاع الحجارة من ذلك المكان ليكملوا به أبنيتهم في مناطق تبعد عنه. وكثيراً ما كان يصادفهم أن يعثروا على عظامٍ أو جماجم، يرمونها كما يرمي آكل (كوز) الذرة ما تبقى منه. فهم لا يعرفوا على وجه الدقة إن كان من سكن تلك المنطقة أغنياء أم فقراء، ولم يعرفوا ولا أظنهم يريدون أن يعرفوا إن كانت تلك العظام والجماجم لقائدٍ يوناني أو مملوكي.

    وربما يكون احتقارهم لذلك المكان هو ما جعلهم يستخدمونه ك (مزبلة) يرمون فيها فضلاتهم التي جل مكوناتها الرماد فقط. فزادت مخلفاتهم المكان ارتفاعاً فوق ارتفاعه.

    كان الناس وقت فراغهم ـ وما أكثره ـ أن يرتادوا ذلك المكان ليتربعوا فوق ترابه المسود من أثر الرماد والمتماسك من كثرة ما يجلس فوقه هؤلاء. كانوا يمارسوا فوقه رياضة الصمت والهدوء والنظر الى ما سيصل له بصرهم. ويركز كل واحدٍ منهم على نقطة بعيدة، وكأنه في وضع مراهنة مع آخرين لإطالة وقت التحديق بنفس النقطة دون كلام. ولو مر من أمامه (فيل) ـ وهو مستحيل في تلك البقعة ـ لاخترق بصره حجم الفيل دون أن يلفت انتباهه.

    في جو مثل ذلك، يتساوى من يلقي التحية مع من لم يُلقها، انزوى صابر في مكان يبعد عدة أمتار عن مجلس الرجال، وأومأ لأستاذ التاريخ أن يجلس أو يتربع كما فعل.

    حاول أستاذ التاريخ أن يلحق ببصره المجال الذي يركز فيه الرجال، عله يعثر على ما يشد انتباههم، لكنه أخفق، فلم يكن أمامه من على التل المرتفع، إلا مروج خضراء تتموج بفعل النسيم الدافئ وتبدو من على بعد وكأن اصفراراً اختلط مع خضارها.

    كان يحاول أن يلتقط بعض العبارات التي تخرج من أفواه هؤلاء الرجال، لكن دون فائدة، فالصمت طاغٍ على عباراتهم، وقد يختتم أحدهم نوبة تحديقه في الأفق بلفظ الجلالة موحداً أو داعياً.

    اقترح أستاذ التاريخ على صابر أن ينزلا من على التل ويتوجها الى الحقول المترامية شرق البلدة، فوافقه ونهضا.

    (37)

    لفت انتباههما صياح رجلٍ يركب فرساً ويتدلى من تحته (خُرْج) مصنوع من صوف الأغنام الملون بالأحمر والأصفر والأسود، فتوجها نحوه، إذ كان يجري بينه وبين مجموعة من الفتية جدالٌ صاخب.

    كان (السندياني) وهو من غير أهل البلدة أصلاً، ولكنه سكن فيها على إثر رحيل له من بلدته الأصلية بعد نزاعٍ وإراقة دماء ونحو ذلك. كان قد اختار لنفسه مهمة حارس الحقول (المْخَضِر)، لقاء أجرٍ يأخذه على شكل حبوب في نهاية الموسم (بعد الحصاد)، ولم يكن أحدٌ ليعترض على تطوعه هذا، ولم يكن هناك من وقع معه عقد عمل، وكان يفعل نفس الشيء في رمضان، إذ يحمل طبلاً ويوقظ النيام ليتناولوا طعام السحور (مسحراتي)، ليأخذ في نهاية الشهر الكريم ما تجود به الأنفس.

    سأله أستاذ التاريخ: ما بال الفتية يا عم؟
    ـ وجوههم باردة، يتراكضون بين أعواد القمح، ويكسرونها..
    صاح أحد الفتية: لا تقل وجوهنا باردة، احترم نفسك، نحن أحرص على عيدان القمح منك، هذا الحقل لوالدي ونحن نبحث عن نبات (الكزبرة البرية).
    ـ حتى لو كان لوالدك، فالأمانة تقتضي أن أحرس الحقول حتى من أصحابها!
    ـ يا سلام، لا يكون أنك تفتكر نفسك أستاذاً.
    تدخل صابر ونهر الفتى وأمره بالمغادرة.
    أراد أستاذ التاريخ أن يطيب خاطر السندياني: بارك الله بك يا عم، هل تعلم يا صابر كم عمر تلك المهنة؟
    ـ لا والله .. ليس عندي علم بذلك، لكني وعيت على الدنيا وأنا أرى السندياني يقوم بها، ولم أسمع أن هناك من أبناء البلدة من يعترض عليه. بالعكس فقد سمعت شيوخ البلد يأمرونه بضرب من يخالف التعليمات حتى لو كانوا من أبنائهم.
    ـ يُقال أن تلك المهنة من أيام السومريين، وأهميتها تكمن ليس في حراسة الحقول من الأغنام والرعاة، وإنما حراسة حتى الأراضي (البور ) من الرعي فيها.
    ـ ولماذا حراسة البور؟
    ـ إنه لا يحرس الأرض البور، بل يحرس النباتات الرعوية فيها، ولو تُركت الأغنام ترعى في الأراضي البور قبل تكوين الأزهار والبذور لنباتات الرعي، لاختفت النباتات المستساغة وانقرضت، وعندها لن يبقى في الأرض إلا النباتات الرعوية سيئة المذاق وقليلة الفائدة.

    ابتهج السندياني من كلام أستاذ التاريخ، وقال: ما أحلى العلم وما أسوأ الجهل، هاتِ فهم هؤلاء الجهلة ـ يقصد الفتيان ـ الله يكمل هذه السنة على خير، المطر انقطع منذ أكثر من أسبوعين .. اللهم أسقنا الغيث.

    (38)

    عندما دخل صابر الى ديوان والده، وجد زوج عمته جالساً، فانحنى نحوه وقبله، كان زوج عمته رجلاً بديناً قصير القامة، وجهه مليء باللحم، وشعر لحيته قصيراً أبيضاً ومتباعداً، ليس به غزارة، ولم يكن ممن يحلقون ذقونهم بشكلٍ دءوب ولا هو ممن يربون لحاهم، وكانت شفته السفلى غليظة، لا تطبق على أختها العليا، فيبدو من خلالها صف أسنانه الأسفل ظاهراً ومصفراً، ليتناغم مع تهدل لحم خديه للأسفل، وأنفه المكور الضخم.

    كان قليل الكلام، ونادراً ما يزور بيت أبي صابر، كما أنه على خلافٍ دائمٍ مع شقيقيه اللذين يشبهانه لحد كبير.

    أزاح برأسه متوجهاً نحو صابر، وثبت عيناه على وجهه، ثم سأله: ألن تعود الى جامعتك قريباً؟

    انتبه أبو صابر، فأرسل نظرته الى صابر، ليتحالف استغرابهما حول هذا الاهتمام المفاجئ. فهما يعرفان الرجل جيداً، لم يُسعف محتاجاً في يوم من الأيام، ولم يستدن حتى من شقيقيه إذا ما اضطرته الحاجة، بل يذهب الى (نصراني) في بلدة قريبة يرهن عنده قطعة أرض ويستلف بعض المال، وقد تنازل له عن الكثير من أرضه، وعمل له كجالبٍ للزبائن.

    عندما يريد الله أعود للجامعة، أجابه صابر.
    توجه الآن بنظرته الى أبي صابر، بع له قطعة أرض (العوصلانة الفوقا) ودعه يكمل دراسته.

    توقف الحديث بعدما دخل برهان العقر بطوله وهيبته ولهجته المحببة، بعد أن حياهم بصوت عالٍ، قال: هات البشارة يا أبا صابر لقد عثرت على أحد أرسان أبقار أبي نجم الشركسي.

  6. #6

    رد: شقاء السعادة

    (39)

    كعادته، تطوع (إعْوَيِد) لمرافقة (عكرمة) في رحلته لجمع الحشائش، ورغم أنه يكبره بسنتين ولا يجمعه به صلة قربى، فكان من أكثر أصدقائه الملازمين له في لهوه وجده.


    امتطى الفتيان حماراً أسود اللون ضئيل الحجم، يتناسب حجمه وطاعته مع عمريهما، وكان تحتهما (بردعة) يعلوها كيسٌ ضخم من الخيش أخذاه ليملأنه بالعشب بعد أن سمح (السندياني) للناس بذلك.

    لم تستطع الشمس التغلب على الغيوم المتكاثرة، فكانت تبدو بينها كشيخ عنين يراود امرأته دون جدوى. ومع ذلك كان الطقس دافئاً في مظهره الخارجي، بارداً في حقيقته، دون أن يحس الفتيان ببرودته.

    لم تكن مشية الحمار توحي بأنهما سينجزان مهمتهما بسهولة، فكان يضع رقبته على امتداد ظهره، وعيناه بين المغمضتين والمفتوحتين، والوقت الذي استغرقه للوصول الى الحقل لجمع الحشائش، زاد عن ساعتين.

    استغل (إعويد) ذلك الوقت في سرد قصصٍ خيالية، منها ما نسبها لنفسه ومنها ما نسبها لوالده، وكانت معظم قصصه تأتي على إثر رؤية مشهدٍ أمامهما في الطريق، فكان يركب القصة، وهو مطمئن أن (عكرمة) لن يعترض عليها، فقد كان يجلس خلفه على ظهر الحمار، متشبثاً في أطراف البردعة أحياناً، أو ممسكاً بأحد يديه برفق بخاصرة (إعويد).

    عندما أقبلا على وادٍ ليس بالسحيق كثيراً، كانت الجهة المقابلة لهما يزيد ارتفاعها عن بناية من أربعة طوابق. اخترع (إعويد) قصة: أنه ذات يوم، عندما وصل لتلك المنطقة برفقة آخرين لم يذكر أسمائهم، كان هناك رجلٌ أشعث الشعر طويل القامة، رشيق الحركة، شبه عارٍ، يصعد ذلك السفح للوادي ووجهه باتجاه الوادي بسرعة تفوق سرعة السحلية، ثم يعود راكضاً للأسفل ويكرر صعوده ونزوله، لم يهتم عكرمة بتلك القصة ولم يسأله أي سؤالٍ حولها يبدي اندهاشه أو تكذيبه.

    كانت عينا عكرمة تراقب حشرة (الجعران) السوداء التي بحجم حبة الزيتون، تدفع كرة من روث المواشي يفوق حجمها حجم الجعران بعشرة أضعاف، وكان الجعران يسير باتجاه الخلف، ورأسه باتجاه آخر، فابتسم عكرمة وقال في نفسه لعل الجعران هذا هو من جنود الرجل الأشعث الذي تحدث عنه (إعويد).

    (40)

    أكمل الفتيان جمع الحشائش ووضعاها داخل الكيس الضخم، ولم يخطر ببالهما أنهما لن يستطيعا رفع ذلك الكيس فوق ظهر الحمار.

    وبعد أن أكملا تشبيك فوهته بالخيوط الثخينة، أبرقت السماء وتلا برقها صوت رعد مخيف وكأنه انفجار مدوي. سحبا حمارهما الى (قحفٍ) بجانب التل، ليحتميا من الأمطار التي انهمرت بغزارة مبالغ فيها، عل أن تلك السحابة هي من سحابات الربيع المتأخر التي سيتوقف مطرها قريباً.

    لم يسأل عكرمة صاحبه عن سبب حمل علبة ثقاب في جيبه، خصوصاً أنه استعملها في إشعال كومة من الأشواك والحشائش الجافة التي تركها أناس كانوا يشعلون النار لسبب ما.

    كان الدخان المتصاعد من الأشواك الرطبة، قد تحالف مع ظلمة الجو الخارجي الممتلئ بالغيوم السوداء، ليشكل خلفية للهب المتصاعد بشُعَبٍ تتراقص وكأنها جنيات، وهذا ما استفز (إعويد) لابتكار قصص جديدة تتناسب مع المشهد.

    فقال: ذات يوم ونحن نلعب (الاستغماية) في الحارات القديمة، وجدنا رجلاً طويلاً يضع على كتفيه عباءة سوداء، ويعتمر (كوفية) بيضاء فوقها (عقال) أسود، سألناه عما إذا رأى فتية مروا من هنا، وما أن انتهينا من تكملة السؤال لم يكن هناك رجل.

    نظر عكرمة الى وجه صاحبه الذي لا يتوقف عن الكلام، ثم تناول عوداً من الحطب الرفيع، وأخذ يقلب به النار، ثم لمح أن السماء انقشعت وتوقف المطر.

    (41)

    حاول الفتيان حمل الكيس ليرفعانه على ظهر الحمار، لكن دون جدوى. ولم يقتربا من فكرة أن يتخلصا من قسمٍ من الحشائش التي في داخله، فابتكر (إعويد) طريقة لحمل الكيس على ظهر الحمار.

    عكرمة، سأضع رجلي بجانب ساق الحمار الخلفي، وقم أنت بدفعه بكل قوتك مرة واحدة، دون أن ينتبه الحمار.

    وافق عكرمة على ذلك، بعد أن أجبرا الحمار على الاقتراب من الكيس الممتلئ، فدفع الحمار فإذا به يسقط على الأرض. قرصا الكيس بواسطة عصا القيادة التي كانت بيد إعويد، فإذا بالكيس الضخم يستقر فوق ظهر الحمار. لكز الحمار لكي ينهض لكنه لم يستطع النهوض، عاوناه بوضع كتف كل واحدٍ منهما تحت طرفي الكيس، مع نهر الحمار وتشجيعه على النهوض، فنهض.

    سار الحمار، ببطءٍ شديد، والبخار يخرج من فتحتي أنفه، ولهاثه بات مسموعاً، في حين باراه الفتيان كلٌ من أحد الجانبين، وهما يحسان بإنجازٍ عظيم.

    كف (إعويد) عن سرد القصص، وركز اهتمامه في منع الكيس من السقوط، خصوصاً عندما اقتربا من وادي الرجل الأشعث.

    لم يكن يخطر ببالهما أن الأمطار التي انهمرت ستجعل السيول تندفع الى بطن الوادي لتجعل مهمتهما أصعب في اجتيازه، خصوصاً وهذا الحمل الثقيل الذي فوق ظهر الحمار. غاصت أرجلهما في ماء الوادي ولم يكن يباليا في أن الماء علا سيقانهما لفوق ركبهما، المهم أن يبقى الحمل فوق ظهر الحمار.

    (42)

    تجمعت النسوة من الجيران وأهل الدار، لتنبش محتويات الكيس، وتتناول تلك النباتات التي لكل واحد منها اسم تعرفه النسوة، فهذه (حويرة) وهذا (مرار) وهذه (دريهمة) وهذه (كريشة) وكل نبات يجد طريقه الى أفواه النسوة.

    التفت عكرمة الى النسوة ولم يقل شيئاً، بل مضى الى داخل الغرفة لتبديل ملابسه المبللة.

  7. #7

    رد: شقاء السعادة


    (43)

    عندما شرع البناءون بتشييد مخازن (أبي مناور)، تساءل بعضهم: لماذا يبني أبو مناور خمسة مخازن بطول عشرة أذرع للواحد وعرض سبعة أذرع؟ والكل يعرف أن الحركة التجارية البسيطة في بلدتهم لا تحتاج مثل تلك المخازن. وتساءل آخرون: من أين أتى (أبو مناور) بالأموال اللازمة للبناء؟ وبعضهم قال: إنه عثر على كنز .. وآخر قال: إنه رهن أرضه عند (النصراني) ليمده بالمال. نادراً، ما يعتذر أحدهم عن تفسير أي شيء، حتى لو كان ذلك الشيء يخص علوم الفضاء.

    كان بعض الرجال، يجلسون منذ الصباح يراقبون كيفية تثبيت ألواح الخشب، وكيفية تثبيت قضبان الحديد، ويدققون النظر بحجم الطوب، ويسألون البنائين عن كل صغيرة وكبيرة، وكأن أحدهم مُكلفٌ في وضع تقرير أو دراسة عن هذا النمط الجديد من طرق البناء، والمغاير لطريقة الحجر والطين القديمة.

    كان بعض الفتية، يستغلون غفلة البنائين، ليلتقطوا بعض المسامير الملتوية أو قطعٍ من أسلاك رفيعة، ويذهبون بها بعيداً ليستحدثوا أداة يلعبون بها، كمصيدة للعصافير أو لعمل مركبات من الأسلاك يدفعها الأولاد أمامهم متخيلين أنهم يقودوا سيارات حقيقية.

    لم يكمل أبو مناور (تشطيب) مخازنه، بل تركها مسقوفة ووضع لها أبواباً، ووضع على الأبواب أقفالاً متينة، ولكنه لم يترك أي نافذة، ولم يغطِ الطوب بما يصقل الجدران، ولكنه صب أرضيات المخازن بصبة إسمنتية ناعمة.

    برر أحدهم أن أبا مناور لم يكمل البناء، لأنه يريد أن يوهم الآخرين بأن المال الذي وجده بالكنز قد نفذ! وقال آخر: ربما اكتشف خطأه بأنه لا نفع من ذلك المشروع.

    (44)

    حضر قائد الدرك مع مدير الناحية، واتفقا مع أبي مناور لاستئجار مخازنه على الحال التي هي فيه، ليتم تخزين المساعدات الأمريكية من القمح على المواطنين.

    وصلت عشر شاحنات محملة بالقمح الأحمر الداكن والأرفع من القمح المحلي، وضع في كل كيس خمسون كيلوغراماً من القمح. وكُتب على الكيس (هدية من شعب الولايات المتحدة الأمريكية) ثم وضعت (صورة) ليدين متصافحتين، وكتب أسفل الصورة (ليس للبيع أو المبادلة).

    تجمهر الناس حول السيارات التي بُدء بتفريغها في مخازن أبي مناور، ووقف بعض رجال الدرك محيطين بقائدهم ومدير الناحية، وكان هناك من يسجل بعض المعلومات (عدد الأكياس في كل مخزن) (اسم السائق) (حالة العبوات الخ).

    كان بعض الفتية يتهيئون للصعود الى السيارات الفارغة، بعد أن تفرغ حمولتها لجمع ما تساقط منها من حبات القمح. ولكن كان هناك أكثر من صوت يزجرهم، سواق الشاحنات، وبعض رجال الدرك، فأفشلوا أحلام أولئك الفتية.

    لم يُعين من يحرس المخازن أو قمحها، بل اكتفى مدير الناحية بأخذ مفاتيح الأقفال، بعد أن وضع شمعاً أحمراً على كل قفل.

    (45)

    استمرت دعوات مدير الناحية لوجهاء البلدة أكثر من ثلاثة أسابيع قبل أن يشرعوا بتوزيع القمح على المواطنين. فكان كل وجيه أو (مُختار) يحضر قائمة بأسماء العائلات وأعدادهم.

    كثر اللغط بين الناس، عن نزاهة التوزيع المقبلة، وكانوا يتناولون الحديث عن ذلك أمام دكان (أحمد الرشيد) والذي لم يخفِ قلقه، فقد استورد من العراق سيارة كاملة من تمر (العجوة) الذي كان يستخدمه الناس غذاءً بديلاً عن غذائهم الرئيسي والمكون غالبه من القمح، فخشي أن يقل الطلب على تلك المادة.

    كان أستاذ التاريخ وصابر من بين الذين يتناولون ذلك الموضوع، فكانا يسميان تلك الهدية بأنها (رشوة سياسية) لربط القرار السياسي الوطني بالإرادة الأمريكية. لكن لم ينتبه أحدٌ لما كانا يتحدثان به.

    (46)

    حضرت خيول الدرك مع سيارة شرطة من العاصمة، فقد اكتشف مدير الناحية أن أكثر من نصف القمح المخزون قد سُرق. ولم يكتشف الخبراء من سرقه، فالأقفال لا زالت في مكانها ولا يوجد ما يدل على أن أحداً قد اقتحم المكان.

    جُمع سبعة (زُعران) من البلدة، وتم ضربهم ضرباً مبرحاً، وحجزهم في (نظارة) الدرك، والتناوب على ضربهم، دون فائدة.

    ولم ينتبه أولئك الخبراء لركض طفلٍ من أمامهم كان يرتدي (دشداشة) مكتوبٌ على مؤخرتها ( ليس للبيع أو المبادلة).

    لقد اختار (الزعران) السبعة من بينهم واحداً رقيق البنية، أزالوا واحدة من الطوب فيدخل من خلال الفتحة ويرفع الكيس حتى تبقى فتحته العليا فارغة، فيوجهها نحو مكان الطوبة المُزالة، ثم يلاعب محتويات الكيس حتى تصبح خارج المخزن، ورفاقه يأخذون الكيس ويذهبوا به بعيداً الى مكانٍ لا يشك به أحد، ثم يحملون القمح ويبيعونه بسعر زهيد في قرى مجاورة.

    سُجلت القضية ضد مجهول. وتم الإفراج عن الزعران الذين برروا عملهم بأنهم أولى بسرقته من القائمين على توزيعه!

  8. #8

    رد: شقاء السعادة

    (47)

    تساءل صابر: هل النظر من الأعلى يعطي تفصيلاً أحسن للصورة، أم النظر من الأسفل يكون أكثر قرباً من المناظر وتدرجها، وهل لو جلسنا في قعر الوادي نستطيع بنظرنا أن نخترق سفوحه المحيطة به، أم أن نجلس فوق التل؟ وهل الصور التي تلتقطها صور من في الفضاء أفضل أم أن نلتقطها ونحن نمشي دون اعتلاء قمة تكون أقرب للواقع؟


    تساؤلات كثيرة، كانت تراوده وهو راجع من صلاة الفجر في مسجد البلدة. لم يشأ أن يذهب لإكمال نومه، فقد نام بما يكفي لمثل سنه، ولمثل ما يقوم به من جهد عضلي بسيط.

    كان النسيم الآتي من أنفاس الصباح يخلط عبق القش الجاف مع ما تبقى من خضرة ربيعٍ تَعَوّد أن يرحل مبكراً في أواخر نيسان/أبريل، ألم يقل أجداده عن هذا الشهر الذي أسموه (الخميس) بأنه (في الخميس كل أخضر يَبِّيس)؟. كان الندى يمزج نسب العطر الطبيعي بطريقة لا يتقنها أفضل منتجي العطور في العالم.

    قرر أن يصعد التل، ويراقب الشروق من هناك. يُخرج يديه من جيبيه، فقد كان منشغلاً بالتركيز في استقبال أول شعاعٍ من الشرق. فكل الأشعة تبدأ من الشرق، تساءل عندما لمح أول شعاعٍ في ذلك النهار: كيف يقيسون بُعد الأرض عن الشمس بواسطة حساب سرعة الضوء؟ وكيف حسبوا أنها ثمان دقائق؟ ومن يقول أن ذلك الشعاع الذي استقبله احتاج الى ثمان دقائق منذ أن غادر الشمس حتى وصله؟ ألم يكن نفس الشعاع مختبئاً شرق الأفق المرئي قبل أن تميل الكرة الأرضية بدورانها؟ وإن كان كذلك فالثمان دقائق لم تكن هي الزمن الذي استغرقه الشعاع من الشمس الى الأرض، بل هو الزمن الذي احتاجه من وراء مدى الروية فقط، فقد تكون نقطة بداية هذا الشعاع من العراق.

    هاله ما لاحظ من اصفرار حقول العدس والشعير، المزروعة في أراضٍ خفيفة وليست عميقة، فالعمق يؤخر وقت الاصفرار، والغنى يطيل العمر، والفقر والمرض يقصران العمر.

    كانت ذوائب بعض الحقول قد اصفرت بالكامل، هي لم تمت، بل دخلت في طور جديد، طور تكوين البذور، ليعاد زراعتها من جديد، وقد لا تزرع، بل سيأكل معظمها الناس والحيوانات، فتتدخل في تكوين دورة حياة لكائنات حية أخرى غيرها.

    (48)

    أكمل المزارعون الذين يملكون حقولاً واسعة من العدس والشعير والقمح، والتي لا يستطيعون حصادها بأنفسهم، أكملوا إحضار الحصادين من مخيمات في فلسطين رحلوا من يافا وحيفا وحطوا قرب نابلس وجنين، وطوباس، كانت العلاقة بين هؤلاء الحصادين والمزارعين علاقات ود ومحبة وتعاون وألفة، فقد يكون من يخدم يتفوق على من يخدمه بالحضارة والمعرفة والزراعة، ولكن الظروف هي التي كونت تلك العلاقة فيما بينهم.

    كان هؤلاء الناس، يأتون بأطفالهم، وشيوخهم، ودجاجهم، وخيامهم؛ وكانوا ينصبون خيامهم أولاً في حقول العدس، كونه لا مجال للمناورة في تأخير حصاده، فما أن تصفر بقعة من الحقل، حتى يقوم هؤلاء بتقديمها على غيرها مما لم يصفر بعد.

    لم يستطع (أبو مناور) من الاحتفاظ بعلاقة طيبة بمن سبق وحصد في حقوله سابقاً، فكان غالباً ما يختلف معهم على قياس المساحة أو الأجور أو أنه كان لا يزودهم بالطعام وماء الشرب، فكانوا يوصون بعضهم أن يتجنبوا التعاقد معه.

    لا أحد يعلم، كيف أقنع أبو مناور، ثلاث عائلات من (النَوَر: الغجر: الزط) في القيام بالعمل لديه، فقد شاهدهم أحد الطلبة الذين كانوا يدرسون وهم يمشون بين الحقول، عندما أنزلهم في حقل عدس يزيد عن أربعة هكتارات. فأغلق كتابه وغامر بالتمتع بهذا المنظر الغريب فرواه:

    تركهم أبو مناور بعد أن بين لهم حدود قطعة أرضه المراد حصادها، فتجمعوا بعد أن نصبوا خيامهم الثلاثة، في وسط القطعة، ثم أخذ كل منهم اتجاها يختلف عمن يجاوره وأخذ يحصد ما يعادل عرض جسمه (حوالي ذراع) وانطلق في اتجاه غير سوي، فمنهم من أخذ اتجاه الغرب الشمالي ومنهم من اتخذ الاتجاه الجنوب الشرقي، وكانت نقطة انطلاقهم من مكان تجمعهم ولكن نهايات مشوار كل منهم كانت في نهاية حدود الحقل، ومن يلتقط لعملهم صورة، سيجدها أشبه بصورة بيت عنكبوت رسمه تلميذ في الابتدائية!

    كان الطالب وهو يروي طريقة حصاد النور، والمستمعون له، لا يتوقفون عن الضحك، فهم يعلمون تقنيات الحصاد المتعارف عليها، والتي يصطف فيها الحصادون صفاً محاذين بعضهم، ليستمدوا الشجاعة ويتواصلوا في العمل دون كسل، أما تلك الطريقة فجديدة عليهم!

    (49)

    انشغل المزارعون في تحضير مستلزمات (البيادر) من أدوات لا أظن الكثير في هذه الأيام من يعرفون أسمائها، فهذه (رِكنة: أو شبكة) وهي عبارة عن عصا ربط بها بعض الحبال لتلتقي مع عصا أخرى تفرش في الأرض ليكوم فوقها القش ويجمع طرفاها لتضم القش في داخلها، وكانت قبل اختراع السيارة توضع على جانبي البعير من كل طرف، وأحياناً توضع ثالثة فوقهما، إذا كان البعير قوياً ليحمل ما وزنه ربع طن متري أو يزيد. وقد بقي استعمالها بعد السيارة لتوضع اثنتان في الباب الخلفي لسيارة الشحن وتوضع بين ستة وعشرة منها فوق السيارة حتى لا يقع القش أثناء النقل.

    وذلك (شاعوب) وهو أداة لها أربع أصابع من حديد مصقول معامل ليكون غير قابلٍ للثني، ويثبت به ذراع خشبي لقلب القش أثناء (درسه: سحقه).

    وتلك (مذراة) وهي أداة مكونة من سبعة أصابع من خشب مصقول ومدبب تجمع بواسطة غشاء جلدي يثبت بذراع خشبي، تستخدم للتذرية، أي رفع القش المسحوق (المدروس) والمخلوط بالحبوب، ليطير التبن بعيداً وينزل الحب ليدخل مرحلة تنقية جديدة.

    وذلك (رَحِتْ) وهو قطعة منبسطة من الخشب، يثبت بها ذراع، تستخدم لتجميع القش المدروس، أو التبن أو غيره.

    وتلك (حواة) وهي قطعة محشوة بالقش تحيط برقبة البغل أو الحصان، ويثبت بها قطعة خشب بها بعض الحلقات لتسهيل ربط أدوات العمل بحيوان العمل دون إلحاق الأذى برقبته.

    والأدوات كثيرة، منها: المقطف والكربال والغربال والصاع والثمنية والخيشة والمخرز والمخلة والمنساس والرياح والمدار ولوح الدراس ومنها من الحبال ومنها ما تصنع من الجلد أو الخشب أو الحديد.

  9. #9

    رد: شقاء السعادة

    أشكركم أستاذتنا الفاضلة

    أخشى أن أكون قد تورطت في هذه المحاولة

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. السعادة
    بواسطة الدكتور ضياء الدين الجماس في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-01-2015, 06:27 PM
  2. سر السعادة
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان الأم والطفل.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-26-2013, 01:26 AM
  3. من طرق السعادة
    بواسطة مازن الحكيم في المنتدى فرسان العام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 08-04-2013, 07:38 AM
  4. السعادة
    بواسطة ميسم الحكيم في المنتدى فرسان البرمجة اللغوية العصبية.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-07-2012, 03:07 PM
  5. نتمنى وفي التمني شقاء
    بواسطة مصطفى الطنطاوى في المنتدى من روائع الشعر
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 09-05-2009, 11:36 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •