( 12 )
*امرأة وعصافير*
.........................
1-أحمد راسم كمال:
الصمتُ خليلك .. تقدّم أيها الرسام الشاعر المولع بالسكون خطوةً إلى الأمام .. أو خطوتين إلى الخلف.
سيان.
فالليل الصامت صديقك .. وأنت تُقلِّب صورتها الملونة بين يديك (رغم أنك تزوّجتها في زمن الأبيض والأسود) .. نظرتُها تؤرقك .. بسمتُها تؤرقك .. فتحة صدرها تؤرقك .. وضحكةُ سعيد نعمان صاخبةٌ في أذنيْك! .. تقتلك .. تُذكِّرُكَ بخيانتها .. ووجوبِ قتلِها .. وبسمتها المُراوغة التي تُشبه الرصاصة تخترقُ تجاويف عظامك!
تُحاول أن تدفنها برفق .. لا .. اقتلْها برفق في ذروة مجد حبك لها!
هل كانت أختها العانس سعاد وراء زواجها من سعيد، حيثُ تقطن في شقة واسعة من بيته الكبير؟!!
هل تزوّجته برضاها أم أن الأمر كان مؤامرة؟
لماذا عدتَ إليها إذنْ؟
لكن هل يُعطيك حبُّها المجنون لك حق التساؤل؟
طلقتَها عشرةَ أعوام .. تلك التي أمضيتها في الجزائر!
وعندما عدت .. وجدتها في انتظارك .. بعد أن تزوجت من التاجر سعيد نعمان، وأنجبت منه ابنتيْن!
طلقتها بإرادتك .. فتزوّجها سعيد، ثم طلقها .. وتزوّجتها ثانية!
لماذا تشك في عاطفتها تجاهك الآن .. يكفيها أنها تخلص في تربية ولدك وابنتيْه!
أصيب طليقها سعيد بجلطةٍ مساء أمس!
هلْ تقتلُها لأنك ظننتَ أنها تبكي حينما سمعت خبر إصابتِه؟!
حينما اقتربتَ منها لم تجد دموعاً، وإنما كان وجهها عابقاً بالسكينة!
قالتْ:
ـ طلبتُ الطلاق منه رغم أنه كان ودوداً معي .. لم يؤذ سمعي بكلمة واحدة طوال زواجنا سبعة أعوام!
ـ إذن .. لماذا تزوّجته في البداية؟
ـ لأنك طلقتني وذهبت إلى الجزائر وأنا ابنة خمس وعشرين سنة .. وأصررتَ على ألا تعود من الجزائر إلا بعد عشرة أعوام، فتزوّجتهُ خوفاً من الفتنة!
ـ ولماذا عدتِ لي بعد عودتي؟
قالت وهي تتنهّد:
ـ لأني للأسف أحبك!
تنهّدتَ:
ـ لا أتصوَّرُ ذلك!
أضافت وهي تنظر إلى الناحية الأخرى .. حيثُ صورتها التي رسمتُها بريشتي وفازت بجوائز في عدة معارض:
ـ هل تنسى حبنا القديم وزواجنا ثلاثة أعوام .. هل تنسى أنك أبو محمود؟
...
ليلة الأمس قلتَ لها وأنتَ تحملُ في يدك تذكرة السفر:
ـ سأرسمك بعد عودتي من بيروت في لوحة جميلة أسميها "حوار العصافير".
تأملتَ في الضوء الشاحب صور العصافير التي رسمتَها في لوحاتك الأخيرة، أبصرتْكَ وأنت تتأملُ قالتْ إنها وجدتها عصافير بائسة تبعث الحزن .. وتستدر الشفقة في القلب!
بكيْتَ.
...
لماذا تُصر في لوحتيْك الأخيرتين على أن ترسم وجهاً يُشبه وجهها في حديقةٍ .. والعصافيرَ ترسمها حزينةً مؤرَّقَةً .. لماذا تصرُّ على أن تذبح عصفورتك دون ذنب جنته؟!
سأُشارك في معرض فني في بيروت هذه المرة!
لا يتطلّب ذلك تطليقة جديدة مني!
فليتأجل مشروع القتل بعد عودتي.
لأُفكرْ في روية هناك، فربما أصلُ إلى حل!
ربما بزغت فكرة جديدة في مخيلتي عن سبب بكائها على إصابة زوجها السابق!
....
قال لي الناقد التشكيلي صابر جودة أمسِ إن لوحاتك معتمة، وصورة زوجتك تحتل خلفية لوحاتك .. خطوطك تكشف عن حزن كبير يجتاحك! .. وفي لوحاتك الأخيرة تتجبر ريشتك على المخلوقات الضعيفة! كأنك تُبارك الجبروت والقوة، وتحتفي بالغربان والخفافيش!!
حملتُ حقيبتي متوسطة الحجم، نظرتُ في المرآة، عبستُ، ابتسمتُ راضياً عن فكرتي الجديدة .. تأجيل القتل عشرة أيام! ..
أصبحتُ أرسم كثيراً .. رسمتُ في السنتين الأخيرتين نحو خمس وستين لوحة! أبدعتُ عددا كبيراً من اللوحات يماثل ما رسمتُه في عشرين عاماً من حياتي السالفة .. التي كانت بلا أحلام أو مُفاجآت تقريباً!
قلتُ في صوتٍ جاف، حاولْتُ أن يكون حنوناً:
ـ سأعود لك يا مريم .. ونفكر في الأمر بهدوء.
ـ أي أمر؟!!
ـ مستقبلنا.
قالتْ كأنها تقذفني بحجر، دون أن تغيِّر نبرتها الحنون:
ـ هل أنت مجنون؟!
قلتُ في آلية:
ـ مقبولة منك!
قالتْ وكأنها غيرُ متأثرةٍ بما أفكرُ فيه:
ـ باق ثلاث ساعات على السفر!
نظرتُ في الساعة لأتأكّد مما تقول.
قالت في صوت يمتلئ بالحزن:
ـ متى تعود؟
ـ بعد أسبوع .. أو عشرة أيام على الأكثر.
بلعتُ ريقي:
ـ أين الولد والبنتان؟
ـ لم يعودوا من المدارس بعد ..
ـ لأغير ملابسي .. إذن!
اتجهتُ إلى حجرة النوم، وأشرتُ بيدي لتلحقني .. وجدت كلماتي مبعثرةً على الأرض .. حاولتُ أن أجمع شتاتها .. أضمها بحنان .. لكني لم أستطع!
حجم التعاسة الذي تُفجره الكلمات كان كالفخاخ المنصوبة التي جعلتها تقع على وجهها وهي تتذكر أوقات التعاسة المتكررة معي .. جرعات الألم التي فجرتُها كان من الصعب أن تتقبلها!
أُخفت وجهها بين يديْها .. وانخرطت في البكاء!
2-سعيد نعمان:
لم أكن قد رأيْتُها منذ خمسة عشر عاماً .. رفضتني أمها حينذاك دون مبرر .. هي حاصلة على بكالوريوس التجارة، وتعمل في مجلس المدينة، وراتبُها عشرون جنيهاً .. وأنا من كبار تُجار طنطا .. وأكسب في اليوم الواحد عشرة أضعاف راتبها.
لعلَّ أمها ظنت أنني غير متعلم!
قلتُ لأمها مائة مرة، إنني متخرج من كلية الحقوق بجامعة القاهرة التي تخرج فيها الكثير من الوزراء قبل الثورة وبعدها!
حينما رأيتُها منذ ثمانية أعوام أبعدتُ الصحيفة القريبة من أرنبة أنفي وتنبّهتُ! .. هذا صوتُ مريم .. وهذه رائحة عطرها!
لم تكن تضع عطراً معتاداً أو رخيصاً مثل غيرها من القرويات؛ فأبوها شيخ القرية وأول متعلم في هذه القرية التي أخرجت بعد ذلك ـ بفعل الثورة ومجانية التعليم ـ المئات من الموظفين المرموقين والصغار!
حينما مرت عليَّ أختها سعاد بعد يوميْن تدفعُ إيجار الشقة ـ التي تسكنُها في عمارتي الأولى ـ سألتُها عن مريم، فقالت: إنها مطلقة، ومعها ولد عمره ثلاثة أعوام!
بُعث الحبُّ القديم في صدري، فقلت سأحاول من جديد!
أذكر أنني رأيْتُ طليقها ذات مرة يسير معها، فتعجّبت!
مريم .. لا أحلى ولا أجمل!
وطليقها .. رأس صغيرُ حليق، كأنه رأس هدهد .. وساقان عجفاوان كأنهما ساقا ماعز .. وعينان غائرتان كأنهما كهف قديم يوشك أن يتوارى بفعل الزمن وعوامل التعرية.
أهذا يا مريم من فضِّلْتِهِ عليَّ؟!
طلبتُ من أختها سعاد أن تكلمها بشأني، فأنا لم أتزوّج بعد .. وبعد أخذٍ وردٍّ تزوّجتني، وعشنا معاً أحلى أيامنا!
...
لا أدري كيف دخل الشيطانُ بيننا، فطلقتُها ليعيدها أحمد راسم لعصمتِه من جديد؟
الحمدُ لله أن اجتزتَ الجلطة التي فاجأتني من يوميْن.
أحياناً أسألُ نفسي .. هل أسأتُ إلى مريم؟
أردُّ على نفسي:
ـ لم أسئ إليها .. وحاشاي أن أفعل ذلك .. فالذي يحب شخصاً لا يقدر على الإساءة إليه!
قال لي أحد أصدقائي: إن زوجها يُعاني من اضطرابات نفسية نشأت في الفترة التي أمضاها في الجزائر بعد إقصاء الإسلاميين ومطاردتهم؛ فقد كان يعملُ في إحدى الصحف التابعة للعسكر، وعاش سبع سنوات يخشى الاغتيال والتصفية.
وأضاف وهو يذبحُني:
ـ وأنه في ذات نوبة جنون قد يقتل مريم!
3-سعاد جبر:
مازال بأذنيكِ يا مريمُ نقيق الضفدع الذي رحل ذات صباحٍ باكر إلى أرضٍ بعيدةٍ، تمتلئ بالطحالب .. ولم يعدْ أبداً! .. عاد جسماً دونَ روح .. ثم اختطفك منا!
أمام بابك البحري بعضُ الأصداف تتناثر في الرمالِ المحاذيةِ لأشجار التوت الصغيرة التي غرستُها أمام بيتِك قبل أن أبتعد عن حياتك وأراقبكِ من بعيد.
هاهي اشتدّ عودها، وتصل إلى أسفل شرفتك العالية!
تتدثّرين بالريح وبأردية غبار.
تسعلينَ .. ألمك يخرجُ من أحشائك!
ثمة كلب عمره عامان .. يرقدُ تحت شرفتك، يؤلمه استيقاظك الدائم!
يطلُّ وجهُ الأب من السطحِ إلى غرفتك ـ التي كانت دافئة ـ فتختفي ملامحك، وتتشنج كحتك، وترتفعُ حرارةُ صغيرتك .. فتنضحين رأسها بقطرات ماء!
ها أنتِ ـ يا مريمُ ـ تحملين في يديْك أغصانَ شتاء لا يُنبئ بربيعٍ قادم!
كم كنتِ تولعين بالليلِ المحموم، وبالأرديةِ القصيرةِ الملونة التي تكشفُ للمواسمِ عن خصوبةٍ جميلة.
كلما رأيتُك كنتُ أتذكر وصف تشيكوف لبطلته «ماشا»: «كانت بالضبط تملك هذا الجمال الذي يُدخل تمليه في قلبك، من حيث لا تعلم، الثقة بأنك ترى ملامح سوية، وأن الشعر، والأنف، والعينين، والفم، والعنق، والصدر .. وكل حركات هذا الجسد الشاب قد اتحدت كلها في نغمة هارمونية متكاملة، لم تُخطئ الطبيعة فيها خطأ صغيراً واحداً».
كأنه كان يرسمك أنت!
ها هو طليقك السابق «أحمد راسم» يعودُ مستبقاً خفافيش الليل، وفي يده زنبقة مسمومة، وأنت تحلمين بالطيور الخضر، وبالزنابقِ المائيةِ الملونة.
إنني أرى في يديه كأس السم .. ألا ترينه؟!
إنه يتقطرُ في دمع عينيكِ .. المنهمرِ دائماً.
تغوصين في شقتك الأنيقة الواسعة في نهر رمادٍ يتضمّخُ بالقهر، فتختفي صورتُك في نهْرِ بكاء، خلف صوره البراقةِ اللامعة .. تتمنين أن تجتازيه ذات ضحي .. مازالت ملامحُه لا تبين!!
4-مريم جبر:
سافر أحمد راسم إلى بيروت أمس.
تأكدتْ أن الساعة تقترب من العاشرة صباحاً.
هذا هو موعد استيقاظي اليومي.
حجرة نوم فاخرة .. عدة مناظر لعصافير في مناقيرها أغصان زيتون.
قميص نوم شفاف يُظهر مفاتن جسدي الذي يبدو أنه سيشيخ قبل الأوان!
على المنضدة المجاورة للمرآة الكبيرة صورتي وأنا واضعة وجهي بين كفيَّ.
يدخل عصفور صغير من النافذة الزجاجية نصف المفتوحة التي تُغطيها الستائر السميكة.
تتبعه أسراب من العصافير ذات الأجنحة الصغيرة الملونة .. تطير في سماء الحجرة.
أعقدُ يديَّ على صدري، وأُغمض عينيَّ.
حينما رأيتُ الغراب يعودُ ثانيةً، ويفرد جناحيه الكبيرين على حافة الشباك الزجاجي أحسسْتُ بدوارٍ مُباغت!.
تعبث يداي في مفاتيح المسجل وأنا أدير شريط أغنية فايزة أحمد، التي يُحبُّ راسم سماعها:
«يا أمه القمر ع الباب»!
أصابعي مرتبكة .. والمسجل صامت!
ـ لماذا لا يُغني؟!!
أُفلح أخيراً في تشغيل المسجل!
يضحك الغراب الواقف على حديد النافذة في الخارج ممّا يرى ويسمع.
تُفاجئني برودة مباغتة!
أتمدد تحت اللحاف، ... والعصافير لا تكف عن التحليق في سماء الحجرة التي يفترسها ظلُّ جناحيْ الغراب.
أزمُّ شفتيَّ.
أغلقُ المسجل .. وأغمضُ عينيَّ .. أُغطِّي وجهي باللحاف الوردي..
هل اختفى ظلُّ جناحي الغرابِ مؤقتاً؟! ..
العصافيرُ مدَّتْ مناقيرها .. أخذت تنقر وجهي .. تُغلقُ المسجِّلَ لأستكملَ سماع أغنيتها!
ديرب نجم 26/8/2005م