الفصل الخامس: الآخر أو الجانب الملعون
قدمته: أسماء العريف بياتريكس : باحثة تونسية ـ باريس
بعض الصور النمطية الأصلية:
معلوم أن الصور والرموز سابقة عند الكائن البشري على كل تشريط تاريخي، وعلى كل ملكة عاقلة، ولكن هل نحتاج الى أعلام التحليل النفسي والأنثروبولوجيا*1 لنكتسب هذه المعرفة؟
ما انفكت الفرضية التي صاغها (يونغ) حول وجود ( لا وعي) جمعي تلقى مزيد التقصي والتوكيد لدى علماء النفس الذين يعالجون الأعماق البشرية ولدى مؤرخي الأديان. وهذه الفرضية لها الفضل في تبيان خلود (الأصول القديمة) التي لا تعني شيئا آخر سوى الجوهر المقوم للإنسانية الأم، رغم تنوع المسارات التاريخية والتناقضات الأيديولوجية المؤثرة في منابع الثقافة.
الكوسموغونيا*2 الدينية وصورة الآخر
صحيح أن صورة الآخر تُشَيَد دائما على ميدان التاريخ، ولكنها تشيد انطلاقا من أنماط أصلية عابرة للتاريخ هي التي تؤسس مخيالنا الإنساني.
ينزع الإنسان حيثما وُجِد الى إدراك العالم وتصوره انطلاقا من خطي بداية، الأول يعني بتصوره عن بدء خلق البشرية (الكوسموس) والتوق الى التقرب من الله والصعود الى السماء والابتعاد عن الظلام والسديم. والثاني، الشعور بالتعالي والإحساس بتفوق نوعه أو قبيلته أو عرقه.
وإن كل المجتمعات تنتهي طوعا أو كرها الى قبول الغزاة الأجانب أو الى استيعابهم داخلها. وسيرى المجتمع المغلوب تفسيرا يرجع فيه انقطاعه المأساوي في صلب النظام الاجتماعي، وسقوطه في الظلام من جديد، وأن هذا الغازي الدخيل قد بعثته السماء رسولا ليعيد المجتمع المغلوب الى رشده.
إن الإنسانية لم تعش فقط تجربة الخوف من الكوارث الكونية أو نبذ البربري المعكر للنظام، وإنما عاشت أيضا الحلم باستعادة الفردوس المفقود. وهذه الثنائية تحددها النمطية التي يتصور بها الشعب الشكل الأولي للخلق (الكوسموغونية)، فهي عند الهنود تختلف عند أصحاب الديانات السماوية.
الكوسموغونية السياسية وإدراك الآخر
لقد طغت التطورات الصناعية والرأسمالية على مشاعر الناس، فتحول الآخر الديني الى آخر سياسي، وكان الانزياح من المجال الديني الى المجال السياسي مصحوبا بترسيخ بعض الصور ودحر صور أخرى. وأن انتقاء صور دون أخرى يبدو أحيانا أنه اعتباطي، لكن التوفيق بين الحالتين المقبولة والمنبوذة هو الكفيل بتأمين توازن النفس البشرية. فعندما نجبر أنفسنا على قبول صورة كنا قد كرهناها عند الآخر فإننا نقرر التنازل عن جزء من ذاتنا.
وفي هذا المجال تشير مقدمة البحث (أسماء العريف) الى رؤية (جيلبار دوران) أنه بإمكاننا أن نتبين عبر مجموعة الصور المتجاورة التي تنظم مخيالنا نظامين اثنين من الصور: نظام نهاري يجمع كل الصور الرامزة الى القوة والسلطان مثل الصولجان والسيف ويطمح للتفوق والانتصار على الموت والتمرد على القدر. ونظام ليلي يشمل الصور المعبرة عن الألفة الحميمة، بين أحضان الأم واستعادة الأنوثة لاعتبارها.
يلاحظ القارئ، أن النظام الليلي الذي اقترحه (جيلبار دوران) يريد أن يبين فيه أن الليل الذي هو عكس النهار، والظلام والذي هو عكس النور بالقدر الذي تكون فيه الصورة مكروهة، بالقدر الذي ممكن أن نستخلص منه الجزء الحميمي الذي لا غنى لنا عنه. وهي نفس الصورة التي تريد الكاتبة أن توصلنا بها لنظرتنا الى الآخر أو نظرته لنا، أنه لا يكون لكلينا مناصا من اعتبار جزء من الصورة مقبول بل وضروري.
الآخر في المخيال
تنتقل الكاتبة الى نقطة في غاية الأهمية، وقد تناولت فيها نظرة (تياري هانتش) في كتابه (الشرق الخيالي)، الذي يقول فيه أن الانشطار (شرق/غرب) هو من صنع الغرب أنفسهم في القرن الخامس عشر، حيث بدأ الغرب يحس بقوته، في حين أن بداخله أثر (روحي) كبير من الشرق الذي قدم له (ديانته المسيحية) وقدم له فلسفته ومعارفه القديمة بثوب شرقي شارح لها. فقد استكثر الغرب على الشرق تلك الخدمة فأراد أن ينسفها، ويخلعها عن الشرق، فقام بإسقاط وضعه الجديد (القوي السياسي) على الماضي فحاول في شرحه تقليل أهمية الشرق وهمجيته.
في حين لم يكن الشرق (الإسلامي) قد تعامل مع الغرب قبل القرن الخامس عشر إلا في شكل متوازن، يقرأ له (علومه القديمة) ويقدم له وجهة نظره حسب فهمه الإسلامي دون إبداء روح التعالي بل بحكم ووجوب التلاقح الفكري ، وتضرب الكاتبة مثال (عمر الخيام الشاعر والصوفي والفيلسوف والرياضي).
وعندما أراد الشرق أن ينهض في القرن التاسع عشر، لم يستنكف عن الاهتمام بالغرب (محمد عبده، محمد إقبال).
وبعد أن تكلست نظرة الغرب في عليائه وكبرياءه تجاه الشرق، برزت ضرورة استنهاض قوة مضادة له من بين مغالين من الشرق، ليقابلوا تلك النظرة النابذة للآخر الشرقي، فكان التسابق لاستنبات مفكرين ومنظمات متطرفة بين الفريقين الشرق والغرب.
نحو تواصل علماني وديني بين الأنماط الأصلية
رغم النزعة المغالية في التشبث بالهوية الذاتية، فإنه يوجد تواصل إنساني في كل المستويات، دينية أو سياسية علمانية أو رافضة للعلمانية. دعنا ننظر الى ما كتبه (مرسيا إلياد) : (إن حضور الصور والرموز هو الذي يحفظ بقاء الثقافات ((المنفتحة)) : ففي كل ثقافة سواء كانت ثقافة أسترالية أو أثينية، تكشف أوضاع الإنسان عن حدودها القصوى ... تمثل الصور انفتاحات على عالم عابر للتاريخ ... وبفضلها يمكن للتواصل بين المؤرخين أن يتحقق)
وهذا مثال آخر على ما كتبه (لويس ماسينيون) : (( تكفي إيماءة سريعة الى الحلاج، جاءت في حواشي رباعيات الخيام تمدها يد ملتبسة، وتكفي حكمة عربية بسيطة على لسانه تراءت عِبر فارسية العطار (الغابرة ذكراها)، ليرتد صوبي معنى الخطيئة، ثم الرغبة تنهشني ... إني أحيي من بعيد وعيناي صاغرتان هذا الوجه السامي [وجه الحلاج] المحتجب دوما عني حتى في عرائه في محنة صلبه وقد اجتثت هامته من الأرض ورفعت وأغرقت في الدماء برمتها تمزقها جراح الموت التي غرستها فيها أظفار الغيرة من حب يفوق كل وصف ممكن).
من هذا النص يظهر تكريس الصور الدينية بغض النظر ـ لأي دين تعود ـ فصورة صلب المسيح وناقة صالح ومحنة أي عابد تتجول في كل الثقافات برمزيتها وتتناقل قدسيتها أقلام متدينة وعلمانية. وكلها تدعو للخروج من الإقليمية الضيقة (حسب اقتراح جاك بارك في كتابه الشرق الثاني) .
هوامش
*1ـ ، الأنثروبولوجيا بشطريها، "Anthropos " "Logos"؛ تعني علم الإنسان؛ أي العلم الذي يدرس الإنسان في أبعاده المختلفة، البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، فهي علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات متباينة ومختلفة بعضها عن بعض، اختلاف علم التشريح عن تاريخ تطوّر الجنس البشري والجماعات العرقية، وعن دراسة النظم الاجتماعية من سياسيّة واقتصادية وقرابية ودينية وقانونية، وما إليها .. وكذلك عن الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة التي تشمل: التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني، بل والعادات والتقاليد ومظاهر السلوك في المجتمعات الإنسانية المختلفة. عن الملتقى الدولي الأول حول وضعية البحث الأنثروبولوجي في العالم العربي في 9/12/2007 الجزائر/تبسة
*2ـ الكوسمولوجيا" هي علم وصف الكون على ما هو عليه في حالته الحاضرة، ويبحث فيه عن القوانين التي تحكمه، بينما تعنى كونيات النشأة أو ببداية الخليقة