منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 21
  1. #11
    استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقاتالنص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الرابعةالفصل الثانيترتبك سعاد. لا تحضرها أفكار أو إجابات سريعة. تمط شفتيها وتتأفف بغيظ. لا ينقذها سوى سعيد الذي تدخل بعد صمت طويل, فلفت انتباه جميع الحاضرين عندما قال.."يا عمي الوضع في فلسطين مختلف. مختلف تماما. ليس من الزاوية التي تكلمت عنها سعاد فقط. ليس لأن الفلسطينيين قبلوا التعايش معهم واقتسام الأرض. لا. اختلاف الوضع في فلسطين كما أراه, يمكن في أن أكثر من نصفهم هناك عرب. أقصد من أصل عربي. وبالتالي سواء كانوا في فلسطين أو في مصر أو في اليمن أو في المغرب أو في سوريا, فهم من حيث المبدأ في وطنهم. ولقد كانوا بالفعل هناك قبل أن يذهبوا إلى فلسطين".يلاحظ ملامح اندهاش تفاقم على وجه متولي, فيقرر الإسراع في الوصول إلى لب الموضوع مستبقا تفاقم انفعالات العجوز قبل أوانها.."إذن فالمشكلة كما أراها أنا يا عمي ليست في وجودهم في فلسطين, بل في شكل هذا الوجود. فإذا تغير شكل هذا الوجود ولم يعد عدوانيا ولا ظالما, فلا توجد هناك مشكلة أصلا. والموقف منهم في فلسطين في هذه الحالة هو كالموقف من أيِّ مجموعة عربية في أيِّ بقعة عربية تفعل ما يفعلونه في فلسطين. هل تفهمني يا عمي؟".متولي يقطب جبينه استغرابا.."ما هذا الذي تقوله يا سعيد؟ لم نسمع من قبل أحدا فلسف الموضوع كما تفلسفه أنت الآن. ما تقوله خطير. هل تعني أنهم ليسوا احتلالا؟ ما هذا؟ لا. لا. هذه هلوسة. أكيد أن التعبير هو الذي خانك وأنت تتحدث يا سعيد يا ولدي. أليس كذلك؟".سعيد يهز رأسه نافيا بشدة بعدما أزعجه هذا الأسلوب الوصائي في التعامل مع رأيه.."لا يا عمي. أنا لم يخني التعبير. وفي الوقت نفسه أنا لم أقل أنهم ليسوا احتلالا، ولم أعني ذلك. لست أدري كيف وصل إلى خلدك هذا المعنى. إنهم احتلال واحتلال بغيض, بغيض جدا. لكن الاحتلال هو شكل الوجود وليس الوجود ذاته. هذا ما أرجو أن تفهمه يا عمي".متولي منفعلا، وناظرا إلى فتحي من جديد نظرة كلها عتاب.."ما هذا التخريف؟ أتريد أن تستغل علمك وتتلاعب بالألفاظ معي يا سعيد؟ ما هذا؟ الوجود.. شكل الوجود.. كله شكل لحالة واحدة هي الاحتلال. إنهم احتلال وأنت لم تنكر ذلك, فلماذا هذا التكلف ولي المفاهيم؟".سعيد بشيء من الغيظ بدأ يسيطر عليه.."أنا مُصِرٌّ يا عمي على التفريق بين الوجود وشكل الوجود. هناك في الولايات المتحدة الآن. أقصد يعيش فيها الآن, خمسة ملايين عربي، وستة ملايين هندي، وعشرة ملايين من جنوب شرق آسيا، وأكثر من ثلاثين مليون مكسيكي، وعشرين مليون من أصل إفريقي. فهل هؤلاء يحتلون أمريكا؟ هل هم احتلال لها؟ أجبني يا عمي".متولي.. "طبعا هم ليسوا احتلالا".سعيد.. "لسبب بسيط هو أن شكل وجودهم ليس متطابقا مع معاني الاحتلال. ولو تطابق شكل وجود واحد في المئة منهم فقط مع معاني الاحتلال لكان احتلالا".متولي.. "أنت تهذي وتضرب أمثلة من الشرق والغرب لإثبات فكرة مجنونة لا توجد إلا في دماغك".سعيد متظاهرا بالصبر.. "سأوضح لك المسألة أكثر يا عمي".متولي بتذمر مبطن.. "تفضل وضح. دعنا نرى ما لدى هذا الجيل من تخاريف لم يسبق أن سمعنا بها".سعيد بحذر وتركيز.. "لو افترضنا أن سكان "سوهاج" هاجروا إلى "أسيوط", ومارسوا فيها نفس ما يمارسه هؤلاء في فلسطين. كيف سيكون موقف المصريين من السوهاجيين الذين هم بعض المصريين؟.. هل تفهمني يا عمي؟.. لقد فهمتني بالتأكيد".متولي ينظر بخوف إلى سعيد الذي انشغل لحظةً باستحضار فكرة. يلاحظ سعيد ذهول وتركيز عمه. يتجاهل ذلك محاولا التظاهر بأنه أقوى مما يتوقع الجميع، ويواصل حديثه.."تصور الآن يا عمي لو أن السوهاجيين سيطروا على أسيوط واقتصادها ومرافقها بطرق مشروعة. هل يستطيع أن يمنعهم أحد؟ إنهم مصريون ويحق لهم أن يعيشوا ويمارسوا حياتهم في أيِّ مكان في مصر. وكذلك أكثر من نصف هؤلاء في فلسطين. إنهم كالسوهاجيين في هذا المثال".متولي يحرك رأسه حركات قلقة. تظهر على وجهه قسمات تشي باهتزاز داخلي عميق, يريد التخلص من وطأته ولو بالكذب على نفسه وخداعها. فيلجأ إلى أفكار مريحة كي تخفف عنه عبء المعرفة الجديدة التي صدمه بها جنون سعيد, والتي ليس من السهل أن يطيق مجرد سماعها ذهن تعود على لونين وحيدين في هذه العلاقة.."حتى لو افترضنا أن كلامك صحيح, مع أن هذا بحاجة إلى نقاش طويل، وأنا لم أسلم به بعد. فهناك النصف الآخر الذي ليس عربيا. هذا النصف على الأقل عبارة عن محتل, ويجب أن يغادر الأرض أولا قبل أن تطالبني بتغيير موقفي منه, أو بجعل علاقتي معه كعلاقتي مع الإنجليز والفرنسيين".سعيد بعد أن لمس أن الاهتزاز الداخلي لدى حماه قد بدأ يقلص مساحات الرفض في أعماقه, يواصل بحذر دعاه إليه علمه باستحالة القفز على مخزون متوارث, بذرته في النفوس عقود مريرة من النظر أحاديه الزاويه إلى هذا الصراع.."إذا كانت مشكلتنا النفسية مع نصفهم العربي قد حُلَّت بمطالبتهم بتغيير شكل تواجدهم وذلك بأن يصبحوا كالسوهاجيين في أسيوط. فلماذا لا يكون حلُّ مشكلتنا مع نصفهم غير العربي قائما على المنطق نفسه؟".متولي بانفعال شديد كمن لا يريد أن يفقدَ آخر ما لديه من أسلحة.. "لا يا سعيد يا ولدي. لا وألف لا. إذا كنت مطالبا بأن أعتبر العربي منهم في وطنه وأقبله على هذا الأساس تجاوزا. فلست مضطرا تحت أيِّ ظرف لقبول غير العربي. هذا الوافد الغازي له وطنه فليذهب إليه".سعيد.. "لا يا عمي. أن هناك نقطة هامة أنت لم تنتبه إليها".متولي خائفا حذرا, محاولا الدفاع عن آخر حصونه النفسية التي راحت تتداعى وتتهاوى أمام قذائف منطق جيل لم يعد يحلم أحلامه.. "ما هي يا سعيد؟".سعيد بهدوء مغلَّف بالخوف الذي ما يزال يسيطر عليه جراء توقعه انفجارا مفاجئا.."إن نصفهم غير العربي ينطبق على معظمه طابع المواطنة لفلسطين. يعني أن معظم هذا النصف ولد في فلسطين. ولا يعرف سوى فلسطين أرضا ووطنا. وبالتالي فليس من حق أحد حرمانه من أن يكون ابنا شرعيا لتلك الأرض. ليس من العدل تحميلهم أوزار آبائهم وأجدادهم.. تماما كالإغريق والإيطاليين في مصر. هم أبناء بلد. ولا يحق لنا طردهم حتى لو كان آباؤهم قد جاءوا غزاة محتلين".تعتري متولي نوبة نزق مفاجئة, حاول أن يغطي بها على الخوف الذي راح يسري في أوصاله جراء شعوره بأن مخزون أحاسيسه الذي أنعش حياته عقودا، يتفلت من أعماقه هاربا إلى البعيد, يقول هازئا.."معنى كلامك يا سيد سعيد, أنه لا توجد هناك مشكلة, وأن صراعنا معهم كل هذه العقود كان كلاما فارغا بلا معنى. وأن كل شهدائنا ذهبوا هدرا وبلا ثمن. ولا يتحملون هم مسؤولية دمائهم بقدر ما يتحملها الحالمون الخرفون أمثالي؟ هاه. هل هذا ما تعنيه يا سيد سعيد؟ هل هذا ما يرضيك؟ هل هذه هي قناعات جيلكم؟ هل هذه هي قواعد أحلامكم العتيدة التي ستبحثون لأنفسكم من خلالها على مواقع راسخة في غد البشرية؟".سعيد يقول بغضب بعد شعوره بأن حماه يحاول إغراقه بسيل من الاستنتاجات الخاطئة.."لا. هذا ليس صحيحا. أنت مخطىء يا عمي في كل استنتاجاتك. أنا لم أقل ذلك وما كان لك أن تفهم من كلامي ما تقوله الآن. نحن قاتلناهم وكنا أصحاب حق ونحن نقاتلهم. لكننا قاتلنا فيهم شكل تواجدهم. قاتلنا فيهم العدوان. نحن لم نقاتلهم لأنهم سكنوا جزءا من أرضنا. بل قاتلناهم كمعتدين, غزاة, ظلمة, مستغلين. إن هذا البعد فيهم هو الذي نحاول أزالته منهم بمقاتلتهم. وإذا زال هذا البعد عن شكل تواجدهم, زال عنهم ما يجعلنا نقاتلهم أو نعاملهم بالصورة التي تصر يا عمي على البقاء متمسكا بها".يزداد انفعالا ويسترسل في تدفقه، ومتولي والباقون يتابعونه باهتمام.."إننا في زمن تكاد الأرض تفقد قيمتها في التعبير عن الهوية. إننا في زمن تتسابق فيه الدول المتحضرة الواثقة بنفسها وبقيمها على منح جنسيتها لمن يولدون على طائرتها وفي سفنها. ناهيك عمن يولدون أو يقيمون فوق أراضها. ونحن الثلاث مائة مليون إنسان ذوي الحضارة التي نتشدق ليل نهار بأنها خالدة وعريقة، لم نستطع أن نقنع أنفسنا بالتعايش مع خمسة ملايين معوَّق. ونخشى على تاريخنا من أن تغزوه هذه الإعاقات. إن هذا الرفض يا عمي ليس قوة تمسك بالحقوق, بل هو ضعف عن مواجهتهم في مجال غير مجال القتال، مع أنهم لا يملكون غيره, وإذا واجهونا في أيِّ ساحة غير ساحات القتال يفترض أن يُهزموا. أنتم يا عمي لا تتمسكون بحلم, بل تختبئون وراءه لتداروا ضعفا من نوع آخر بعد أن أثبت صراع العقود السابقة أنكم ضعاف في ساحات القتال أيضا".متولي وقد بدأ جسده يرتجف.."يا بني, لا تحرق أعصابي ولا ترهق عقلي, ولا تعتدي بدون رحمة على تاريخ طويل من مشاعري وأحاسيسي. إنني لا أفهمك. كيف تريد مني أن أفصل بين وجودهم في أرضي وبين عدوانيتهم. إن مجرد وجودهم في هذه الأرض هو أعتى أنواع العدوان. كيف يكونون في الأرض التي أخذوها مني عنوة وبقتل الآلاف بأخس أنواع الغدر والهمجية, ويمكنهم أن يكونوا مع ذلك غير معتدين؟ كيف؟ أينا المجنون. أنا أم أنت؟ إذا كان هؤلاء الأبناء, أبرياء من جريمة آبائهم كما تقول، فلماذا لا يتخلون عن الحلم المجرم لهؤلاء الآباء؟ لماذا لا يسارعون إلى حل المشكلات العالقة تكفيرا عن جرائم الغزاة الذين منحوهم بالغزو حق المواطنة في أرضنا؟".... يتبع في الحلقة الخامسة

    استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات

    النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الخامسةالفصل الثانيسعيد يحاول التخفيف من انفعالات متولي بشيء من الضحك دون أن يسمح للموضوع بأن يبقى عالقا عند هذا الحد. لذلك فهو يواصل حديثه باهتمام, وبحرص شديد على الشرح الدقيق, مستخدما يديه أثناء التعبير استخدامات معبرة جدا عما يريده.."أريد أن أفترض معك يا عمي افتراضا خياليا. وأريدك أن تجيبني على سؤالي المتضمن في هذا الافتراض, كي تعرف ما الذي أعنيه بالضبط بضرورة الفصل بين الوجود في حد ذاته وبين شكل الوجود. بين الوجود العدواني والوجود غير العدواني. هل أنت معي على الخط يا عمي؟".متولي.. "نعم أنا معك, لكن إياك أن توصلني إلى حافة الجنون مثلك".سعيد يضحك وسط ابتسام الحاضرين وصمتهم ومتابعتهم للحديث الذي ظهر وقد سيطر على كامل اهتمامهم وأحاسيسهم.."لا تقلق يا عمي. لن يجنَّ أيٌّ منا, نحن فقط نتناقش. افترض يا عمي أننا خضنا ضدهم حربا ضروسا، وهزمناهم فيها وأصبحوا جميعا أسرى في أيدينا".يصمت. ينظر إلى متولي الذي بدت عليه علامات اندهاش مُوَشًّى بالخوف من الاستدراج مجهول النتائج الذي يمارسه معه سعيد الذي واصل سائلا.."ماذا ترانا سنفعل بهم؟ هاه يا عمي, ماذا سنفعل بهم؟".متولي لا يجيب بسرعة. يفكر. يقتنص إجاية عابرة مرتجفة.. "نرحلهم إلى بلدانهم".سعيد.. "أنت تقصد غير العرب منهم, أليس كذلك؟".متولي يمط شفتيه قبل أن يتحدث كي لا يقع في الخطأ.. "نعم, غير العرب فقط".سعيد.. "وغير المولودين منهم في فلسطين أيضا, أليس كذلك؟".متولي يشعر بالقلق من مغبة هذه النغمة المخيفة التي راح يعزف بها سعيد ألحان تكسير الحلم. يفكر بعمق وسط صمت سعيد منتظرا إجابته التي تأخرت قليلا, فجاءت خجولة حذرة.."وغير المولودين منهم في فلسطين فقط وبالتحديد. سأوافقك".سعيد بلهجة ظفر قلقة حذرة.."من المؤكد أننا سنستثني من الترحيل منهم أيضا، والِدَيْ كلِّ طفل مولود في فلسطين إذا لم يكن قد بلغ سن الرشد, كي نحقق أعدل القيم, عدم حرمان الابن من أمه وأبيه. أليس كذلك؟".متولي يضجر ويقول بضعف.. "إلى أين تقودني يا سعيد؟ بهذه الطريقة سيبقون جميعا في فلسطين. لماذا حاربناهم إذن؟".سعيد شاعرا بالظفر والرعب.. "كي نغير شكل وجودهم, وليس كي نلغي وجودهم".في هذه اللحظات تتدخل سعاد في الحوار مجددا بعد أن أحست بأن لديها شيئا تود قوله، وكي تخفف عن سعيد العبء الذي انتبهت إليه جراء هذا التوجُّس الذي لم ينقطع.."هذا صحيح مائة في المائة يا بابا. نحن في زمن من حق الإنسان الذي يعيش في دولة متحضرة عددا من السنوات أن يحصل على حق المواطنة، فيها إذا وافق على أن يعيش في قوانينها وفي مشروعيتها".متولي.. "ولكن هؤلاء يرفضون ذلك يا سعاد".سعاد.. "وهذا ما نحاوله في صراعنا معهم. نحاول جعلهم يقبلون ذلك".متولي يبحث عن مخرج فلا يجد.. يصمت ثم ينفجر فجأة.."إذن ماداموا يماطلون في حقوق الفلسطينيين وفي حل مشكلتهم معهم, فهم مازالوا عدوانيين. مازالوا احتلالا".سعيد مقاطعا.."هذا صحيح يا عمي. أنا أوافقك عليه. لكنني موقن أن القطار, أقصد قطار حل المشكلة قد انطلق من محطته الأولى, وسوف يصل حتما إلى المحطة الأخيرة وقريبا جدا. إذن لم يعد هناك ما يجبرني على تحمُّل عبء أحقاد وكراهية جديدتين. يكفي ما حملتموه أنتم".سعاد.. "أرأيت يا بابا. أرأيت؟ الموضوع المهم هنا هو السلام. وها هو بدأ يتحقق. قد لا تكون الأحقاد المترسبة قادرة على تحقيقه بالكامل وبسرعة وبدون مضاعفات سلبية. لكنه بدأ يتحقق, ولابد من قبول تبعاته. بابا هل تعرف بماذا أشبه ذلك؟".متولي باهتمام.. "بماذا؟".سعاد.. "بقانون التمييز العنصري في أمريكا. الأميركيون ألغوا التمييز العنصري بالقانون وبقوة القانون. لكن التمييز في نفوس الكثيرين ما يزال موجودا. إن وجوده وممارسته نفسيا من قبل الكثيرين, لا يلغي حقيقة أن أعداء التمييز عليهم أن يتمسكوا بالقانون الذي يلغيه ويحرمه. كذلك السلام وتوابعه، بدأ وسيستمر بقوة التاريخ والظروف والشرعية. وسيستمر، مع أن العديدين لدينا ولديهم يرفضونه. إن هذا لن يؤثر على حقيقة أنه أصبح واقعا وأن رافضيه سيزولون مع الزمن".متولي وقد بدأت بوادر الإرهاق الذهني تسيطر عليه، والعرق يلمع على جبهته ويقطر من أكثر من مكان في وجهه.."أرجوكم لا تحاولوا تغيير قناعتي في أخر عمري. لقد قاربت على إنهاء العقد السابع وأنا أعيش في ظلال أحلام يصعب على جيلكم أن يفهمَها. لست أدري كيف يمكنني أن أصدق ما تقولونه, وأنا أراهم كل يوم يرفضون التعايش, ويعرقلون كل شيء إيجابي. هذا طبعهم ولن يتغير. وهذا الطبع يا أولاد هو الذي صنع مشاعر مثل مشاعري وقناعات مثل قناعاتي".سعيد.. "هذا صحيح. ما تقوله صحيح يا عمي. هم أيضا لديهم جيل عاش أحلام إمبراطورية "من النيل إلى الفرات". لكنها أحلام تبخرت. هؤلاء يا عمي يحلمون بالوصول إليك هنا. وأنت تحلم بالوصول إليهم هناك. لكن لا أحلامهم تحققت ولا أحلامك ستتحقق. النقطة التي نحن فيها أصبحت أمرا واقعا. حقيقة تاريخية تعيشها أجيال هنا وأجيال هناك ترفض الحلمين, أو على الأقل لا تجد نفسها معنية بالحلمين معا. عمي, لا تفرضوا أحلامكم علينا. ليس بالضرورة أن نرث أحلامكم. خففوا عنا وزر هذا العبء الثقيل".متولي صامت لا يدري ماذا يقول. سلوى تتدخل بعد صمت طويل, راقبت خلاله دون اشتراك المعركة الساخنة التي نشبت بين حلمين, أحدهما يتلاشى والآخر على أنقاضه يولد. تتشبث بكلام سعيد وسعاد في موقف غير متماسك, كان من السهل على متولي أن يرى فيه أمل الغريق الذي يتعلق بقشة. فهو لم ينس أن ابنته سلوى المتدفقة حنانا ورهافة حس, ناضلت لآخر لحظة كي تجري العملية في مصر ولكن دون جدوى. لقد اعتبر هذا الموقف منها بقية احترام لحلمه الذي سحقه اندفاع سعيد وحماس سعاد. سلوى تقول.."يا بابا القضايا الإنسانية ومهما كانت الخلافات السياسية يجب أن تكون معزولة لوحدها. المسلمون داووا ريتشارد قلب الأسد وأنقذوه من الموت وهو على أبواب القدس يريد احتلالها. يجب أن نتعلم كيف نسخِّرَ سلاحنا كي ننقذ به عدونا إذا احتاج إلى مساعدتنا الإنسانية، حتى لو كنا في حرب معه. فكيف إذا لم نكن معه في حرب, وأن هذه الحرب قد انتهت؟ بابا ألم يعش بقايا الصليبيين في فلسطين لغاية الآن بعد أن غيروا شكل وجودهم وتخلوا عن أحلامهم العدوانية؟ إن الدكتور جولدي يا بابا طبيب معروف عالميا. وها هو قد حضر إلى مصر, واستضافته وزارة الصحة, وأجرى العديد من العمليات الناجحة لنساء مصريات سيصبحن أمهات عما قريب".متولي بلهجة مستسلمة وهو يتنهد.. "لو سلمت بكل ما تقولونه, فإن هناك خللا في الميزان لا يزال قائما".سعيد ينتبه إلى عمق وغموض ما يقوله حماه. فيسأل بشغف.. "ماذا تقصد يا عمي"؟".متولي بذهن بدأ يشرد شيئا فشيئا.. "يا سعيد يا بني. إذا لم يحصل التغيير في الجانبين في ذات الوقت وبنفس الوتيرة, فالخطر يبقى قائما, ويصعب التفاؤل".سعاد.. "بابا أنا لم أفهم ماذا تقصد". تنظر إلى سعيد و سلوى. الجميع يتبادلون النظرات وهم ينتظرون منه أن يواصل شرح ما بدأه بالغموض.متولي.. "إن تغير الحلم هنا أسرع بكثير من تغيُّر الحلم هناك. إننا نتراجع عن حلمنا بأسرع مما يتراجعون. وهذا مكمن الخطر".يصمت قليلا. يتبادلون النظرات المليئة بالاستسلام أمام هذه الحكمة البالغة التي فاض يها هذا العجوز فجأة. ينصتون بإجلال. وهو يواصل.."يا أولاد لا تتفاءلوا كثيرا. مهما كانت الأحلام قاسية, فإنها عندما تكون متكافئة تحفظ التوازن. عندما أفكر في قتلك يا سعيد, وتفكر أنت في قتلي أيضا, قد نحيا معا ولا يقتل أي منا الآخر. إنه توازن تحققه الأحلام المتكافئة. إن الأحلام المتكافئة تحقق الردع كالسلاح النووي, إذا امتلكه الخصمان فلن يستخدماه, أما إذا امتلكه أحدهما فاستخدامه ممكن جدا في الصراع. نعم يا سعيد يا ولدي عندما أحلم بقتلك بنفس القدر الذي تحلم فيه بقتلي, سنعيش معا. لكن عندما أتخلى عن حلمي بقتلك, فيما حلمك بقتلي ما يزال يناغش جزءا من أحاسيسك، ويحكم جزاء من تصرفاتك، فأنت في مأمن مني وأنا في خطر منك. أنت في مأمن لأنني تخليت عن رغبتي في قتلك. وأنا في خطر لأنك مازلت تفكر في قتلي".يصمت مرة أخرى. ينظر إليهم وهو يهز رأسه بأسى وسط انشدادهم إلى كلماته.."إن التعثر الذي نشاهده في المسيرة التي ترقصون لها, هو بسبب هذا الاختلال. هو بسبب أننا نتخلى عن حلمنا بأسرع مما يفعلون. إذا كنا قد تخلينا عن حلمنا بأن نلقيهم في البحر وبأن نطردهم من الأرض التي أخذوها عنوة. فإنهم لم يتخلوا بعد عن حلمهم بالوصول إلينا. أو على الأقل إن نسبة تراجعهم عن حلمهم إلى تراجعنا عن حلمنا صغيرة جدا. إنني خائف خوفا شديدا بعد اختلال هذا التوازن. لقد كنا أقوى عندما كان حلمنا مثل حلمهم. وكنا سنبقى أقوى لو أننا تخلينا عن حلمنا بنفس وتيرة تخليهم هم عن حلمهم. إن من يفكرون مثلكم هنا أكثر بكثير ممن يفكرون مثلكم هناك عندهم. وهذه هي الكارثة".يصمت. يصمتون. ينطوون على أنفسهم. ينحدرون نحو وديان سحيقة في أعماقهم. يبحثون عن أمان نبهتهم إلى الافتقار إليه كلمات عجوز رفض أن يستيقظ من نومه قبل أن يستيقظ أعداؤه من نومهم, كي لا يفقد حلمه قبلهم. يتجه بنظره إلى سلوى وسعيد, ويقول بملامح وجه تشي بتذمر مقنع.. "عموما يا ابنتي الرأي في النهاية لك ولزوجك. على كلِّ حال أنت قد حددت موعدا لزيارة هذا الطبيب في بلاده عند حضورك في إجازة الصيف المقبل. يعني أن الأمر محسوم والقرار قد اتُّخِذ. كل ما أتمناه أن يحقق الله لك أمنياتك كي تصبحي أما في أقرب وقت".سعيد محاولا طمأنة الجميع.. "يا عمي في كلِّ الأحوال هذه مسألة إنسانية. والطبيب جولدي طبيب مشهور وله تاريخه وأبحاثه. لا يمكن لطبيب في مكانته أن يشوِّه صورته العلمية بأيِّ طريقة ولأيِّ سبب. لا يمكنه أن يقبل القيام بأيِّ عمل يمس شرفه المهني كطبيب أدى قسم أبوقراط".متولي شارد الذهن في المجهول. متنهدا تنهيدة ألم.. "أتمنى أن يكون قد استيقظ من نومه مثلكم. وأخشى ما أخشاه أن يكون مثلي عجوزا خرفا ما يزال يحلم".بفرح وبوجه يفيض بالأمل, سلوى.. "يا رب يا بابا أنا أريد أن أصبح أما. من يدري؟ قد يجعل الله الفرج على يدي هذا الطبيب العبقري". ترفع يديها نحو السماء, وتغالب البكاء.. "يا رب لا تحرمني من هذه النعمة".ينظر إليها الجميع متعاطفين متأثرين. سكينة تنظر إلى أعلى رافعة يديها ضارعة بالدعاء. الدكتور جولدي يظهر على الشاشة يضحك بصوت مرتفع. سعاد تفزع لا تدري لماذا. سعيد يحس فجأة بألم عابر في ظهره. الدموع تغالب سلوى. زرقاء اليمامة ما تزال تنظر في الأفق المضطرب بلا جدوى. القسم يواصل النزف بغزارة. الغربان تنعق فوق جثة أبوقراط الذي انتحر. وهناك ذئب ينتظر الفريسة. يشحذ أنيابه السوداء. متولي يستسلم للنوم, ويحلم. يسمعونه يهذي وهو نائم.. "جولدي ما يزال يحلم.. ما يزال يحلم.. ما يزال يحلم". لكنهم لا يفهمون.... يتبع في الحلقة السادسة
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  2. #12
    الحلقة الحادية عشرة من النص الكامل لرواية "الحليب والدم"
    December 9, 2013 at 9:11pm
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة

    الحلقة الحادية عشرة
    الفصل الرابع

    حجرة واسعة في شقة فاخرة مُطِلَّة على النيل. طاولات مختلفة الأحجام تناثرت في الحجرة بغير انتظام. الكراسي متشابهة. عبق الحياة وعطر الحب يخترقان النوافذ, يرسلهما ضجيج الحركة من كوبري عباس. حجرة أخرى تزَمَّلَت بالعتمة. تحتضن صفائح الموت. أسلاك وساعات توقيت وعتاد كهربائي وأجهزة ريموت خاصة كانت هناك أيضا. والتابوت الأسود مفتوح ينتظر الفريسة. "طوني" و"توماس" و"ليفانوف" منشغلون بالمتفجرات. أبراهام يراقب ويتابع ويتنقل بينهم.
    أبراهام يقف بجانب "طوني", يراقبه بتفحُّص وهو منهمك في تفريغ الصفائح من (التي. إن. تي) وترتيبها وربطها بالأسلاك وساعات التوقيت.. "كيف تسير معك الأمور يا طوني؟".
    طوني.. "سلسة لغاية الآن, لكن الكمية كبيرة جدا ويجب أن يتم تجهيزها بطريقة مختلفة عن الحالات العادية. لذلك فإنها تحتاج إلى وقت".
    يربت على كتفه وهو يتحرك نحو توماس.. "لا بأس طوني. معنا وقت كاف لإعداد كلِّ شيء قبل حضور الإمبراطورة". يصل في هذه اللحظة إلى حيث يجلس توماس, وينظر إليه مبتسما.. "لا أظن أن عملك يحتاج إلى وقت أيضا؟".
    توماس هازا رأسه باستهزاء.. "أتظنني ألعب يا أبراهام؟ إن ما أقوم به لا يقل أهمية وصعوبة عما يقوم به طوني. وربما يحتاج إلى وقت أكثر مما يحتاجه". يلتفت إلى طوني ويبادله النظرات ويشير إليه بإبهامه دون كلام. التزم أبراهام الصمت بعد أن لمس توافقا في الرأي غير معلن بين طوني وتوماس. يتجه نحو التابوت بعد أن مرَّ بليفانوف دون أن يحدثَه.
    وقف على رأس التابوت, ونظر إليه بعينين جاحظتين مخيفتين.. "وهنا ستنام الإمبراطورة. أليس كذلك؟". يلتفت إلى ليفانوف الذي كان أقرب الثلاثة إليه. ليفانوف ينظر إليه ولا يجيب. يشيح أبراهام بوجهه عنه ويعود ليركِّزَ نظرَه إلى التابوت. ثم يقول بلهجة مستهزئة ونظرات فاحت بالحقد.. "نوم هانىء يا سيدتي. نوم هانىء".
    ينظر إلى ساعته. يعبث بكبسة التاريخ. يهز رأسه.. "بقي لها يومان وتصل إلى القاهرة".
    طوني من بعيد.. "هل جهزوا من يراقبها عندما تصل؟".
    أبراهام.. "هه. من يراقبها! ومن يقتلها! ومن.. يخرج الكنز الذي في بطنها أيضا!". يصمت لحظة وهو يمعن النظر إلى التابوت, ويمرِّر يديه على خشبه الأملس.. "هذه السيدة حكاية مهمة. قصة مثيرة. لا تقلق يا طوني. كل شيء معد وجاهز". يضحكون ويستمرون في عملهم.
    سلوى وسعيد ينتظران قيام الرحلة إلى القاهرة. وجه سلوى شحوب وإعياء منذ أفاقت من البنج. ساعات وأيام قضاها سعيد وهو يحاول إعادة التوازن إلى نفسها المشروخة, وتحريرها من إحساسٍ بالقرف والاشمئزاز سيطر على كل مشاعرها بعد أن عادت إلى الوعي, بلا جدوى. في المستشفى كما في غرفتها في الفندق, ناضلت سلوى بألم كي تنسى أن يهودا وراحيل قد استوطناها واحتلا أحشاءها. لم تتمكن من التحرر من هذا الإحساس رغم أنها حاولت. وبالدموع وبالبكاء كانت ترجو سعيد وتتوسل إليه ليغرقها في النوم كي تنسى. كوابيس ليلية لم تعهدها من قبل, كانت تمزق سكينتَها وهدوءَها وتضِنُّ عليها بالراحة. سلوى عادت تحلم. لكن الحلم كان وخزا يُضْعِف. لا وقت الآن لأحلام متولي. لقد تأخرَت في العودة. تأخرَت كثيرا.
    تبعثرت قدرات سعيد بين جهدٍ مضنٍ بذله لتوجيه انفعالات سلوى والسيطرة عليها ودفعها نحو الهدوء والاستقرار والتحرُّر من أحاسيسها الجديدة, وبين مقاومةٍ خاضها وهو يئن متعبا تحت وطأة خوفه عليها, بعد الذي اعتراها من تحوُّلٍ لم يكن متوقعا ولا مفهوما, في ضوء لهفتها السابقة على إجراء العملية. أدرك سعيد أن مأساة زوجته أكبر من كلِّ محاولاته. عرف أن إحساسَها الغريب الذي يجعلها ترغب في التقيؤ, وتبدأ معه بالصراخ ومحاولة الهروب من وعيها, والذي يجعلها تنهار تحت ثقل وخزٍ مؤلم يجتاح جسدها, ليس نابعا من قرف واشمئزاز بسبب رؤيةِ منظر مقرف تشمئز منه النفس. لأن من كان هذا حاله يزول إحساسه بزوال مُسَبِّبِه من أمامه. أما سلوى فأمرها كان مختلفا, دفعها إلى المستحيل كي تبقى تحت تأثير النسيان.
    إن التذكر عند سلوى, لم يكن من النوع الذي يجعلها تعيش حالة تصورية لحدث ما, مر بها وانتهى وجوده كواقع, بحيث يمكن احتمال وطأة تذكُّرِه, ما دام هذا التذكُّر سيتحول مع الأيام إلى أداة لاستحضار حادثة سينعدم تأثيرها السلبي على النفس في العادة. نعم إن تذكُّر سلوى لم يكن من هذا النوع, بل كان استحضارا لواقع تخللها وسكنها, كما يتخلل الماء قطعة من الإسفنج ويسكنها ليصبح جزءا مها. هي كانت تريد النسيان الدائم, لأن التذكُّر أيا كان يعيدها إلى الواقع الدائم الذي أحدث في أعماقها انقلابا خطيرا لم تعد تقدر على تحمُّلِه.
    عندما كانت سلوى تتذكر, فإنها كانت تعيش حالةَ من يحسُّ ويرى مرة أن دودا أسود ومرة أخرى أن دودا أزرق يسري في عروقه ويسكن في بطنه, ولا يستطيع التخلُّص منه. فترتجف وترتعب وترتعش وتشمئز, وتصاب بالهستيريا هاربة بكل ذلك من دائرة التذكر الخانقة المُقَشْعِرَة للبدن والأحاسيس, إلى فضاءات النسيان الواسعة.
    أحيانا كانت تلفها حالات من الهدوء والسكينة حتى وهي تتذكر وكأنها استطاعت وبطريقة غير مفهومة أيضا, أن تفصل بين سلوى التي تتذكر وبين سلوى الواقع الذي تتذكره. فلا ترى الدود الأسود والأزرق في داخلها, بل تراه في مكان آخر اسمه أيضا سلوى, لكنها كانت تتحدث عنه بصيغة الغائب. وقعُ التذكر عليها في هذه الحالات القليلة كان محتملا. وسعيد عندما أدرك هذه المعادلة وانتبه إليها في حالة زوجته، عمل على تثبيتها كلما هلَّت, وعلى جعل سلوى تعيشها كعلاج مؤقت ومتاح, ريثما تشفى من هذا الإحساس الغريب كلِّه.
    لقد أصبح الهدوء عند سلوى يعني تمكنُّها من الفصل بين سلوى متولي، وبين كلٍّ من دم ورحم سلوى متولي. ومع أن هذا أمر صعب للغاية, ولا يحدث في العادة إلا لإنسان قوي جدا شديد السيطرة على نفسه, أو لإنسان غير سوي نفسيا. وهو ما لم تكن قد وصلت إليه سلوى بعد, فقد كان القدر يساعدها ويخفف عنها أوجاعها بأن يجعلها تعيش هذه الحالة من حين لآخر.
    وفي هذه اللحظات العابرة التي لم تكن تدوم طويلا. كانت سلوى تتحاور مع سعيد حول المستقبل, وحول مولودهما القادم. كيف ستتعايش معه؟ هل ستتقبله؟ وسعيد يقود هذا الحوار الحساس بصعوبة قوامُها الحذر الشديد والخوف من أيِّ انتكاسة مفاجئة, كي يحافظ قدر ما يستطيعه على هذه اللحظات الهادئة التي أصبحت عابرة في حياة سلوى منذ أفاقت من بنج جولدي ومنذ أن انتكست على عقبيها إلى أحلام متولي, لكن بعد أن كانت أحلام جولدي قد أحرقت كلَّ الأرض الخصبة الصالحة لنموها, فلم تعد تقوى على العيش في مخيلة أحرقت خصوبتها.
    خلف سلوى وسعيد في قاعة الانتظار, جلس ثلاثة رجال كانوا يلبسون نظارات سوداء, ويتظاهرون بقراءة جرائد يحملونها. كانوا متباعدين. بعد قليل.. "على السادة المسافرين المتوجهين إلى القاهرة على متن خطوط شركة سيناء للطيران على الرحلة رقم 312 التوجه إلى بوابة الخروج رقم 11". يبدأ الركاب بالتوجه إلى بوابة الخروج. سعيد يعانق سلوى بحنان دافق, وخلفهما المراقبون الثلاثة. الركاب يأخذون أماكنهم بمساعدة المضيفات ويستعدون لإجراءات الإقلاع. سلوى قرب النافذة وبجانبها سعيد.
    الركاب منشغلون بتناول وجبة الطعام. والمضيفون يقومون على خدمتهم. سعيد يداعب سلوى التي توشَّحت بابتسامة مرهقة, وينظران عبر زجاج النافذة. يظهر البحر وجزر متناثرة. سلوى هدوء ونسيان. المراقبون خلعوا نظاراتهم, انكبوا يأكلون بشراهة كما الثيران. يختلسون النظرات من حين لآخر إلى حيث يجلسان. يتخاطبون بحركات العيون وإشارات الرؤوس وإيماءات الوجوه. موسيقى وضحك أطفال وطنين أحاديث. هدير المحركات إحساس بالألفة والأمان. أم تطلب ماء لطفلها, والمضيفة ترشد عجوزا إلى المرحاض. عربات نقل بقايا الطعام هنا وهناك. رجل طويل القامة أرهقه الجلوس فوقف . لفت انتباهَه شاب يلتهم شفتي فتاة استسلمت في حضنه. يبتسم ويتذكر. سلوى تداعب النسيان وتناغش الجزر بعينيها, وسعيد يفيض بالحنان. الطائرة تشق الفضاء نحو مصر.. ماذا بعد يا زرقاء؟
    الضحك والألفة والأمان والهدوء. بكاء. غربة. رعب وصراخ.. فجأة, ميلان في الطائرة وحركة عنيفة نحو اليمين ثم نحو الأسفل. مقدمة الطائرة تهوي بأكملها ثم ترتفع. الطائرة تهتز. المضيفون والمضيفات يتدافعون ويتساقطون على الجانبين وعلى أرضية الطائرة بسبب شدة الاهتزاز. عربات الطعام تضيِّق الخناق على الحركة, وتصيب رؤوس وأجساد الكثيرين ممن تهاووا فوقها. بعض المضيفين يمسكون بالمقاعد وآخرون فوق الركاب. مضيفات يصرخن, والخوف والذهول باد على وجوههن.
    الركاب يهتزون يمينا وشمالا في مقاعدهم. هلع وصراخ. الأطفال يبكون. بعض الركاب يمسك بالبعض الآخر عن غير وعي. انفعالات خوف تلقائية تتفاقم. الطعام يتساقط في كلِّ مكان. محاولات الوقوف رغبة في هرب متوهَّم تحرُّرا من إحساسٍ بالتكبيل, ديدن الكثيرين. أمهات يحتضن أطفالهن ويتشبثن بالمقاعد. أفراد الطاقم لم يعودوا قادرين على الانشغال بالركاب. المراقبون الثلاثة شأنهم شأن الجميع سيطرت عليهم حالة من الرعب والهلع, وسقطت نظاراتهم على الأرض وتهشمت تحت الأقدام. سلوى تلقي برأسها في حضن زوجها المرعوب, تبكي وتصرخ. الطائرة ما تزال تهتز وتترنح وتهوي. حالات إغماء.
    قائد الطائرة يحاول الحديث مع الركاب عبر الإذاعة بصوت ظهرت عليه علامات الجفاف والخوف, محاولا التماسك المصطنع أمام أسماعهم.. "حضرات السادة.. حضرات السادة المسافرين الرجاء الهدوء". عيون جاحظة. أجساد ترتجف. خوف يتفاقم. هلعُ الموت يخيم في أرجاء التابوت الطائر. كلمات الطيار المتقطعة المخنوقة زادتهم ذعرا وأشعرتهم بأن الموت محقَّق. وإنه يقوم فقط بواجب تخفيف وقع النهاية عليهم.
    "الرجاء الهدوء. أريد أن أوضح لكم ما الذي حصل. الرجاء البقاء في أماكنكم". يسكت بسبب الفوضى والضجيج الذي راح يزيد وينقص على إيقاع اهتزاز الطائرة. لا أحد بدا مقتنعا بأن كلمات الطيار كافيه لأن تدفعه إلى التماسك والاطمئنان إلى أن البقاء على قيد الحياة أمر ممكن. بعض المضيفات وبحركات غير مقنعة يحاولن إجلاس الركاب وربط أحزمتهم. وجوه تقطر رعبا, تبحث عمن يطمئنها وينتشلها من وساوس الموت الشنيع الذي كانت تسمع عنه في حوادث تحطم الطائرات. قائد الطائرة يعود إلى مخاطبتهم بعد أن انتصر على الخوف وتماسك في حديثه.. "حضرات السادة المسافرين. الموضوع ليس خطيرا. الرجاء إعطائي فرصة كي أشرح لكم ما الذي يحدث حتى تتصرفوا حسب قواعد السلامة. ونصل بالسلامة أن شاء الله".
    كلمة "السلامة" أنعشت شعورا باردا في النفوس بأن البقاء على قيد الحياة أمر ممكن وإن كان صعبَ التصديق. محاولات التزام هدوء مقنَّعَة برعبٍ وبكاءٍ وارتجافٍ مكبوتٍ لسماع ما قد يُطَمْئِن. الطائرة تستمر في الاهتزاز والترنح في الجو. البكاء والصراخ لا ينقطعان. قائد الطائرة يواصل حديثه.. "أرجوكم يا جماعة إن الذي حصل لا يستدعي كلَّ هذا الخوف والهلع. أرجوكم. أجلسوا في أماكنكم. اسندوا ظهوركم واربطوا أحزمة المقاعد لتفادي الاهتزازات والارتطامات المتوقعة". الطائرة تهتز بعنف. صراخ هنا وهناك.. "أود أن أوضح لكم أن الأمر بسيط. كلُّ الذي حصل أن محركا من محركات الطائرة تعطل فجأة عن العمل. وحصل هذا عندما كنا نعبر بمحض المصادفة منطقة مطبات هوائية عميقة. هذا هو سبب كلِّ هذه الاهتزازات في الطائرة. لا توجد هناك خطورة حقيقية. أرجوكم لا تقلقوا. سنصل بالسلامة بإذن الله".


    الطائرة تهتز. المضيفون يترنحون. بكاء أطفال وصرخات متفرقة. أصوات نحيب مكبوت.. "أرجو الاطمئنان. لكن الطائرة ستستمر في الاهتزاز والارتجاج. وهذا أمر طبيعي لأنها تحلق بمحرك واحد, وتعبر مناطق مطبات. إن ما يجب أن تعرفوه أننا لن نستطيع الوصول إلى القاهرة بمحرك واحد". صراخ وبكاء وعويل واهتزازات.. "أرجوكم. أرجوكم. هذا لا يخيف. لا يستدعي كلَّ هذا القلق. لقد اتصلت بأقرب مطار وهو مطار لارنكا القبرصي. وأخذنا الإذن بالهبوط الاضطراري, ولقد بدأنا بالفعل نهبط. وسوف نكون على أرض المطار خلال ربع ساعة فقط. اطمئنوا وتحملوا هذه الدقائق. وسوف نصل بالسلامة إن شاء الله". اهتزازات عنيفة. صراخ وعويل.. "أرجو الهدوء والبقاء في أماكنكم وعدم التحرك إطلاقا حتى تهبط الطائرة على الأرض وتتوقف تماما. أرجوكم نفذوا التعليمات وشكرا".
    حالة الرعب الأصفر الشاحب كانت ما تزال بادية على وجوه الركاب والمضيفين. رغم أن كلمات قائد الطائرة بثت نوعا من الطمأنينة المشوبة بحذر عدم الاستسلام للأمل في نفوسهم. الطائرة تهتز من حين لآخر وسط بكاء الأطفال وبعض النساء وصراخ آخرين وأخريات. نحيبٌ مخنوقٌ تغرقه دموع من كانوا أكثر سيطرة على أعصابهم. الكل كان يتمتم وربما كان يدعو بكلمات غير مفهومة. لا أحد كان مهيئا لتخيِّل نهايته مهروسا تحت حطام طائرة تهوي لتحترق.
    آفاق التفكير أختزلها المشهد المرعب عند الجميع, لتغدو محصورة في كلمتين.. "أريد أن أعيش.. لا أريد أن أموت". نطقتها بكلمات ليست من اللغات وبحروف لا تُكْتَب وجوهٌ تحولت إلى خرائط بلا معالم, رسمت حدودَها الدموعُ وأخاديدُ الخوف. وأجسادٌ ترتعش على إيقاع رنين أسنانٍ تصطك, ونبضِ موتٍ تنتفض به قلوبٌ غيرت أماكنَها فلم تعد في الصدور. لا الخوف بقي هو الخوف. ولا الموت كما عرفته القواميس. والحياة شبحٌ يتلفت, يكافىء عند كلِّ حطامٍ أدمي ينتظر النهاية في جوف حريق مهول, العالم, كلَّ العالم.
    سلوى ما تزال تبكي. تخفي وجهها في حضن سعيد. تنتظر لحظة موت لا تريد أن تراها. سعيد يضمها متصنعا الهدوء كي يوهمَها بأن الأمر عادي. بعد قليل, الطائرة تبدو قريبة من الأرض. هبوط نحو المدرج. اهتزاز وانخفاض وارتفاع. مدرجات مطار لارنكا أصبحت على مرمى البصر.
    إحساس الركاب بهبوط الطائرة على هذا النحو من الاهتزاز والتراقص كأنها تهوي في واد سحيق, خلق لديهم حالة خوف من نوع آخر, ظهر على شكل احتقان صامت. قائد الطائرة.. "أيها السادة المسافرون. الطائرة تهبط بنا الآن إلى مطار لارنكا. نرجو منكم التزام الهدوء والتمسك بقواعد السلامة وعدم التحرك وربط الأحزمة". الاحتقان التام يسيطر على ركاب أغمض معظمهم أعينهم وأمسكت قبضات أيديهم بالمقاعد.
    الطائرة تقترب من المدرج وهي لا تزال تهتز.. "عندما تصل الطائرة إلى الأرض سوف ترتطم بشدة بالمدرج أرجو ألا تخافوا مهما حصل. الارتطام في مثل هذه الحالات أمر عادي. لأن الطائرة تهبط وهي تهتز. أمسكوا أنفسكم جيدا ولن يحدث أيُّ ضرر. ولن تلبثوا إلا عدة ثواني بعد الارتطام حتى تروا أن الطائرة ستدرج على المدرج بطريقة عادية وكأن شيئا لم يحصل".
    الطائرة تقترب من الأرض. تبدو تهوي كأنها ستتحطم. المدرج ظهر يتراقص في الأسفل يمينا وشمالا كأنه يتهرب من الطائرة. الخوف المخنوق, والاحتقان والبكاء المستجدي, انفعالات سيطرت على الجميع. الدعاء والتسبيح والتهليل بلغات مختلفة راح يُسمعُ كطنين النحل في أرجاء الطائرة وهي تهتز. تصطدم الطائرة بأرض المطار فجأة. يزداد الخوف والرعب, والصراخ يعمُّ المكان. تبدأ بالانحراف بشدة يمينا وشمالا كأنها ستخرج عن المدرج. الصراخ مستمر. قبضات الأيدي المغروزة في المقاعد هُيِّىَء لأصحابها أنهم بذلك قد يوقفون الطائرة. لحظات قليلة فقط وبدأت تعود إلى التوازن. سرعتها تخف شيئا فشيئا إلى أن توقفت تماما.
    استرخاءٌ حذِر مشوبٌ بالخوف وانفلات الأعصاب سيطر على الركاب وهم يستسلمون لانفعالات مختلفة ومتباينة. بكاء. ارتجاف. ضحك وبكاء معا. إغماء. إحساس بشلل مؤقت في الأطراف. عجز عن الحركة, وأسنان تصطك. مخزون البكاء يستمر في التدفق لدى الكثيرين. قائد الطائرة يقول.. "الحمد لله على سلامتكم".
    الطائرة توقفت بعيدا عن مباني المطار. سيارات الإسعاف والمطافىء وسيارات الأمن القبرصي تهرع إليها بالعشرات. العديد من السلالم تقترب منها. العشرات من رجال الأمن والإسعاف يصعدون وقد فتحت كامل أبواب الطوارىء. وجهت إليها خراطيم مياه سيارات المطافىء تحسبا لحرائق محتملة.
    الركاب في أماكنهم بلا حراك مستسلمون للانفعالات التي سيطرت عليهم بعد إحساسهم بأن حياتهم لم تعد بخطر. رجال أمن وإسعاف يجوبون الطائرة للاطمئنان على الركاب. أحد رجال الأمن يسأل إحدى المضيفات كانت تمسح دموعها.. "هل هناك أيُّ إصابات؟". المضيفة تهز رأسها كأنها لا تعرف وهي لا تزال لم تتحرر من الذهول. يتركها وخلفه رجل إسعاف مقدرا حالتَها ليكتشف بنفسه. يراه سعيد وهو يحضن زوجته التي بدأت تتخلص من نوبة النحيب.. "لو سمحت, زوجتي خرجت للتو من عملية جراحية. أرجو أن نخرجها من هذا الجو بسرعة".
    رجل الأمن.. "هل يمكنها أن تقف أم هي في حاجة إلى مساعدة؟".
    سعيد محدثا سلوى.. "هل بإمكانك الوقوف؟".
    هزت رأسها بالإيجاب.. "نعم. يمكنني الوقوف. لكن ساعدني يا سعيد. أني أحس بانهيار, قد لا أقوى على التماسك جيدا".
    سعيد موجها نظره وحديثه إلى رجل الأمن.. "نعم يمكنها أن تقف وسوف أساعدها".
    رجل الأمن.. "إذن هيا بنا".
    تقف بتثاقل. يساعدها سعيد, وينطلقان خلف رجل الأمن وخلفهما رجل الإسعاف. فجأة يقف الرجال المراقبون الثلاثة. يحاولون اللحاق بهم بأسلوب فجٍّ غير مدروس. لكن رجال الأمن يمنعونهم ويبقونهم في أماكنهم. أحد رجال الأمن يتحدث إلى أحدهم.." هل أنت متعب يا سيدي؟ هل تود الذهاب إلى المستشفى؟".
    وهو يشير إلى سعيد وسلوى.. "لا ولكن أين يذهبان بهما؟ هل أقدر على اللحاق بهم؟".
    رجل الأمن.. "هل هما قريباك؟ لا تقلق, السيدة متعبة وتحتاج إلى عناية ورعاية. تفضل إجلس مكانك لو سمحت يا سيدي". يجلس مضطرا بعد أن كاد يفصح بفجاجته عن نفسه. ينظر بارتباك إلى زميليه الواقفين. يتبع سلوى وسعيد بنظراته. ظهرت على ثلاثتهم بعد أن اضطروا إلى الجلوس علامات الحيرة والقلق. رجل الأمن يطمئنه.. "لا تقلق ستنزلون جميعا من الطائرة خلال دقائق, وستنقلكم طائرة أخرى إلى القاهرة. سوف ترى قريبتك. أتمنى أن تراها في قاعة الانتظار عندما تنزل بعد قليل. أظن أن حالتها الصحية غير مقلقة. اطمئن. هي تعاني فقط من ردة فعل نتيجة لما جرى. أرجوك تفضل بالجلوس".

    ... يتبع في الحلقة الثانية عشرة




    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  3. #13
    النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الحادية عشرةالفصل الرابعحجرة واسعة في شقة فاخرة مُطِلَّة على النيل. طاولات مختلفة الأحجام تناثرت في الحجرة بغير انتظام. الكراسي متشابهة. عبق الحياة وعطر الحب يخترقان النوافذ, يرسلهما ضجيج الحركة من كوبري عباس. حجرة أخرى تزَمَّلَت بالعتمة. تحتضن صفائح الموت. أسلاك وساعات توقيت وعتاد كهربائي وأجهزة ريموت خاصة كانت هناك أيضا. والتابوت الأسود مفتوح ينتظر الفريسة. "طوني" و"توماس" و"ليفانوف" منشغلون بالمتفجرات. أبراهام يراقب ويتابع ويتنقل بينهم.أبراهام يقف بجانب "طوني", يراقبه بتفحُّص وهو منهمك في تفريغ الصفائح من (التي. إن. تي) وترتيبها وربطها بالأسلاك وساعات التوقيت.. "كيف تسير معك الأمور يا طوني؟".طوني.. "سلسة لغاية الآن, لكن الكمية كبيرة جدا ويجب أن يتم تجهيزها بطريقة مختلفة عن الحالات العادية. لذلك فإنها تحتاج إلى وقت".يربت على كتفه وهو يتحرك نحو توماس.. "لا بأس طوني. معنا وقت كاف لإعداد كلِّ شيء قبل حضور الإمبراطورة". يصل في هذه اللحظة إلى حيث يجلس توماس, وينظر إليه مبتسما.. "لا أظن أن عملك يحتاج إلى وقت أيضا؟".توماس هازا رأسه باستهزاء.. "أتظنني ألعب يا أبراهام؟ إن ما أقوم به لا يقل أهمية وصعوبة عما يقوم به طوني. وربما يحتاج إلى وقت أكثر مما يحتاجه". يلتفت إلى طوني ويبادله النظرات ويشير إليه بإبهامه دون كلام. التزم أبراهام الصمت بعد أن لمس توافقا في الرأي غير معلن بين طوني وتوماس. يتجه نحو التابوت بعد أن مرَّ بليفانوف دون أن يحدثَه.وقف على رأس التابوت, ونظر إليه بعينين جاحظتين مخيفتين.. "وهنا ستنام الإمبراطورة. أليس كذلك؟". يلتفت إلى ليفانوف الذي كان أقرب الثلاثة إليه. ليفانوف ينظر إليه ولا يجيب. يشيح أبراهام بوجهه عنه ويعود ليركِّزَ نظرَه إلى التابوت. ثم يقول بلهجة مستهزئة ونظرات فاحت بالحقد.. "نوم هانىء يا سيدتي. نوم هانىء".ينظر إلى ساعته. يعبث بكبسة التاريخ. يهز رأسه.. "بقي لها يومان وتصل إلى القاهرة".طوني من بعيد.. "هل جهزوا من يراقبها عندما تصل؟".أبراهام.. "هه. من يراقبها! ومن يقتلها! ومن.. يخرج الكنز الذي في بطنها أيضا!". يصمت لحظة وهو يمعن النظر إلى التابوت, ويمرِّر يديه على خشبه الأملس.. "هذه السيدة حكاية مهمة. قصة مثيرة. لا تقلق يا طوني. كل شيء معد وجاهز". يضحكون ويستمرون في عملهم.سلوى وسعيد ينتظران قيام الرحلة إلى القاهرة. وجه سلوى شحوب وإعياء منذ أفاقت من البنج. ساعات وأيام قضاها سعيد وهو يحاول إعادة التوازن إلى نفسها المشروخة, وتحريرها من إحساسٍ بالقرف والاشمئزاز سيطر على كل مشاعرها بعد أن عادت إلى الوعي, بلا جدوى. في المستشفى كما في غرفتها في الفندق, ناضلت سلوى بألم كي تنسى أن يهودا وراحيل قد استوطناها واحتلا أحشاءها. لم تتمكن من التحرر من هذا الإحساس رغم أنها حاولت. وبالدموع وبالبكاء كانت ترجو سعيد وتتوسل إليه ليغرقها في النوم كي تنسى. كوابيس ليلية لم تعهدها من قبل, كانت تمزق سكينتَها وهدوءَها وتضِنُّ عليها بالراحة. سلوى عادت تحلم. لكن الحلم كان وخزا يُضْعِف. لا وقت الآن لأحلام متولي. لقد تأخرَت في العودة. تأخرَت كثيرا.تبعثرت قدرات سعيد بين جهدٍ مضنٍ بذله لتوجيه انفعالات سلوى والسيطرة عليها ودفعها نحو الهدوء والاستقرار والتحرُّر من أحاسيسها الجديدة, وبين مقاومةٍ خاضها وهو يئن متعبا تحت وطأة خوفه عليها, بعد الذي اعتراها من تحوُّلٍ لم يكن متوقعا ولا مفهوما, في ضوء لهفتها السابقة على إجراء العملية. أدرك سعيد أن مأساة زوجته أكبر من كلِّ محاولاته. عرف أن إحساسَها الغريب الذي يجعلها ترغب في التقيؤ, وتبدأ معه بالصراخ ومحاولة الهروب من وعيها, والذي يجعلها تنهار تحت ثقل وخزٍ مؤلم يجتاح جسدها, ليس نابعا من قرف واشمئزاز بسبب رؤيةِ منظر مقرف تشمئز منه النفس. لأن من كان هذا حاله يزول إحساسه بزوال مُسَبِّبِه من أمامه. أما سلوى فأمرها كان مختلفا, دفعها إلى المستحيل كي تبقى تحت تأثير النسيان.إن التذكر عند سلوى, لم يكن من النوع الذي يجعلها تعيش حالة تصورية لحدث ما, مر بها وانتهى وجوده كواقع, بحيث يمكن احتمال وطأة تذكُّرِه, ما دام هذا التذكُّر سيتحول مع الأيام إلى أداة لاستحضار حادثة سينعدم تأثيرها السلبي على النفس في العادة. نعم إن تذكُّر سلوى لم يكن من هذا النوع, بل كان استحضارا لواقع تخللها وسكنها, كما يتخلل الماء قطعة من الإسفنج ويسكنها ليصبح جزءا مها. هي كانت تريد النسيان الدائم, لأن التذكُّر أيا كان يعيدها إلى الواقع الدائم الذي أحدث في أعماقها انقلابا خطيرا لم تعد تقدر على تحمُّلِه.عندما كانت سلوى تتذكر, فإنها كانت تعيش حالةَ من يحسُّ ويرى مرة أن دودا أسود ومرة أخرى أن دودا أزرق يسري في عروقه ويسكن في بطنه, ولا يستطيع التخلُّص منه. فترتجف وترتعب وترتعش وتشمئز, وتصاب بالهستيريا هاربة بكل ذلك من دائرة التذكر الخانقة المُقَشْعِرَة للبدن والأحاسيس, إلى فضاءات النسيان الواسعة.أحيانا كانت تلفها حالات من الهدوء والسكينة حتى وهي تتذكر وكأنها استطاعت وبطريقة غير مفهومة أيضا, أن تفصل بين سلوى التي تتذكر وبين سلوى الواقع الذي تتذكره. فلا ترى الدود الأسود والأزرق في داخلها, بل تراه في مكان آخر اسمه أيضا سلوى, لكنها كانت تتحدث عنه بصيغة الغائب. وقعُ التذكر عليها في هذه الحالات القليلة كان محتملا. وسعيد عندما أدرك هذه المعادلة وانتبه إليها في حالة زوجته، عمل على تثبيتها كلما هلَّت, وعلى جعل سلوى تعيشها كعلاج مؤقت ومتاح, ريثما تشفى من هذا الإحساس الغريب كلِّه.لقد أصبح الهدوء عند سلوى يعني تمكنُّها من الفصل بين سلوى متولي، وبين كلٍّ من دم ورحم سلوى متولي. ومع أن هذا أمر صعب للغاية, ولا يحدث في العادة إلا لإنسان قوي جدا شديد السيطرة على نفسه, أو لإنسان غير سوي نفسيا. وهو ما لم تكن قد وصلت إليه سلوى بعد, فقد كان القدر يساعدها ويخفف عنها أوجاعها بأن يجعلها تعيش هذه الحالة من حين لآخر.وفي هذه اللحظات العابرة التي لم تكن تدوم طويلا. كانت سلوى تتحاور مع سعيد حول المستقبل, وحول مولودهما القادم. كيف ستتعايش معه؟ هل ستتقبله؟ وسعيد يقود هذا الحوار الحساس بصعوبة قوامُها الحذر الشديد والخوف من أيِّ انتكاسة مفاجئة, كي يحافظ قدر ما يستطيعه على هذه اللحظات الهادئة التي أصبحت عابرة في حياة سلوى منذ أفاقت من بنج جولدي ومنذ أن انتكست على عقبيها إلى أحلام متولي, لكن بعد أن كانت أحلام جولدي قد أحرقت كلَّ الأرض الخصبة الصالحة لنموها, فلم تعد تقوى على العيش في مخيلة أحرقت خصوبتها.خلف سلوى وسعيد في قاعة الانتظار, جلس ثلاثة رجال كانوا يلبسون نظارات سوداء, ويتظاهرون بقراءة جرائد يحملونها. كانوا متباعدين. بعد قليل.. "على السادة المسافرين المتوجهين إلى القاهرة على متن خطوط شركة سيناء للطيران على الرحلة رقم 312 التوجه إلى بوابة الخروج رقم 11". يبدأ الركاب بالتوجه إلى بوابة الخروج. سعيد يعانق سلوى بحنان دافق, وخلفهما المراقبون الثلاثة. الركاب يأخذون أماكنهم بمساعدة المضيفات ويستعدون لإجراءات الإقلاع. سلوى قرب النافذة وبجانبها سعيد.الركاب منشغلون بتناول وجبة الطعام. والمضيفون يقومون على خدمتهم. سعيد يداعب سلوى التي توشَّحت بابتسامة مرهقة, وينظران عبر زجاج النافذة. يظهر البحر وجزر متناثرة. سلوى هدوء ونسيان. المراقبون خلعوا نظاراتهم, انكبوا يأكلون بشراهة كما الثيران. يختلسون النظرات من حين لآخر إلى حيث يجلسان. يتخاطبون بحركات العيون وإشارات الرؤوس وإيماءات الوجوه. موسيقى وضحك أطفال وطنين أحاديث. هدير المحركات إحساس بالألفة والأمان. أم تطلب ماء لطفلها, والمضيفة ترشد عجوزا إلى المرحاض. عربات نقل بقايا الطعام هنا وهناك. رجل طويل القامة أرهقه الجلوس فوقف . لفت انتباهَه شاب يلتهم شفتي فتاة استسلمت في حضنه. يبتسم ويتذكر. سلوى تداعب النسيان وتناغش الجزر بعينيها, وسعيد يفيض بالحنان. الطائرة تشق الفضاء نحو مصر.. ماذا بعد يا زرقاء؟الضحك والألفة والأمان والهدوء. بكاء. غربة. رعب وصراخ.. فجأة, ميلان في الطائرة وحركة عنيفة نحو اليمين ثم نحو الأسفل. مقدمة الطائرة تهوي بأكملها ثم ترتفع. الطائرة تهتز. المضيفون والمضيفات يتدافعون ويتساقطون على الجانبين وعلى أرضية الطائرة بسبب شدة الاهتزاز. عربات الطعام تضيِّق الخناق على الحركة, وتصيب رؤوس وأجساد الكثيرين ممن تهاووا فوقها. بعض المضيفين يمسكون بالمقاعد وآخرون فوق الركاب. مضيفات يصرخن, والخوف والذهول باد على وجوههن.الركاب يهتزون يمينا وشمالا في مقاعدهم. هلع وصراخ. الأطفال يبكون. بعض الركاب يمسك بالبعض الآخر عن غير وعي. انفعالات خوف تلقائية تتفاقم. الطعام يتساقط في كلِّ مكان. محاولات الوقوف رغبة في هرب متوهَّم تحرُّرا من إحساسٍ بالتكبيل, ديدن الكثيرين. أمهات يحتضن أطفالهن ويتشبثن بالمقاعد. أفراد الطاقم لم يعودوا قادرين على الانشغال بالركاب. المراقبون الثلاثة شأنهم شأن الجميع سيطرت عليهم حالة من الرعب والهلع, وسقطت نظاراتهم على الأرض وتهشمت تحت الأقدام. سلوى تلقي برأسها في حضن زوجها المرعوب, تبكي وتصرخ. الطائرة ما تزال تهتز وتترنح وتهوي. حالات إغماء.قائد الطائرة يحاول الحديث مع الركاب عبر الإذاعة بصوت ظهرت عليه علامات الجفاف والخوف, محاولا التماسك المصطنع أمام أسماعهم.. "حضرات السادة.. حضرات السادة المسافرين الرجاء الهدوء". عيون جاحظة. أجساد ترتجف. خوف يتفاقم. هلعُ الموت يخيم في أرجاء التابوت الطائر. كلمات الطيار المتقطعة المخنوقة زادتهم ذعرا وأشعرتهم بأن الموت محقَّق. وإنه يقوم فقط بواجب تخفيف وقع النهاية عليهم."الرجاء الهدوء. أريد أن أوضح لكم ما الذي حصل. الرجاء البقاء في أماكنكم". يسكت بسبب الفوضى والضجيج الذي راح يزيد وينقص على إيقاع اهتزاز الطائرة. لا أحد بدا مقتنعا بأن كلمات الطيار كافيه لأن تدفعه إلى التماسك والاطمئنان إلى أن البقاء على قيد الحياة أمر ممكن. بعض المضيفات وبحركات غير مقنعة يحاولن إجلاس الركاب وربط أحزمتهم. وجوه تقطر رعبا, تبحث عمن يطمئنها وينتشلها من وساوس الموت الشنيع الذي كانت تسمع عنه في حوادث تحطم الطائرات. قائد الطائرة يعود إلى مخاطبتهم بعد أن انتصر على الخوف وتماسك في حديثه.. "حضرات السادة المسافرين. الموضوع ليس خطيرا. الرجاء إعطائي فرصة كي أشرح لكم ما الذي يحدث حتى تتصرفوا حسب قواعد السلامة. ونصل بالسلامة أن شاء الله".كلمة "السلامة" أنعشت شعورا باردا في النفوس بأن البقاء على قيد الحياة أمر ممكن وإن كان صعبَ التصديق. محاولات التزام هدوء مقنَّعَة برعبٍ وبكاءٍ وارتجافٍ مكبوتٍ لسماع ما قد يُطَمْئِن. الطائرة تستمر في الاهتزاز والترنح في الجو. البكاء والصراخ لا ينقطعان. قائد الطائرة يواصل حديثه.. "أرجوكم يا جماعة إن الذي حصل لا يستدعي كلَّ هذا الخوف والهلع. أرجوكم. أجلسوا في أماكنكم. اسندوا ظهوركم واربطوا أحزمة المقاعد لتفادي الاهتزازات والارتطامات المتوقعة". الطائرة تهتز بعنف. صراخ هنا وهناك.. "أود أن أوضح لكم أن الأمر بسيط. كلُّ الذي حصل أن محركا من محركات الطائرة تعطل فجأة عن العمل. وحصل هذا عندما كنا نعبر بمحض المصادفة منطقة مطبات هوائية عميقة. هذا هو سبب كلِّ هذه الاهتزازات في الطائرة. لا توجد هناك خطورة حقيقية. أرجوكم لا تقلقوا. سنصل بالسلامة بإذن الله".الطائرة تهتز. المضيفون يترنحون. بكاء أطفال وصرخات متفرقة. أصوات نحيب مكبوت.. "أرجو الاطمئنان. لكن الطائرة ستستمر في الاهتزاز والارتجاج. وهذا أمر طبيعي لأنها تحلق بمحرك واحد, وتعبر مناطق مطبات. إن ما يجب أن تعرفوه أننا لن نستطيع الوصول إلى القاهرة بمحرك واحد". صراخ وبكاء وعويل واهتزازات.. "أرجوكم. أرجوكم. هذا لا يخيف. لا يستدعي كلَّ هذا القلق. لقد اتصلت بأقرب مطار وهو مطار لارنكا القبرصي. وأخذنا الإذن بالهبوط الاضطراري, ولقد بدأنا بالفعل نهبط. وسوف نكون على أرض المطار خلال ربع ساعة فقط. اطمئنوا وتحملوا هذه الدقائق. وسوف نصل بالسلامة إن شاء الله". اهتزازات عنيفة. صراخ وعويل.. "أرجو الهدوء والبقاء في أماكنكم وعدم التحرك إطلاقا حتى تهبط الطائرة على الأرض وتتوقف تماما. أرجوكم نفذوا التعليمات وشكرا".حالة الرعب الأصفر الشاحب كانت ما تزال بادية على وجوه الركاب والمضيفين. رغم أن كلمات قائد الطائرة بثت نوعا من الطمأنينة المشوبة بحذر عدم الاستسلام للأمل في نفوسهم. الطائرة تهتز من حين لآخر وسط بكاء الأطفال وبعض النساء وصراخ آخرين وأخريات. نحيبٌ مخنوقٌ تغرقه دموع من كانوا أكثر سيطرة على أعصابهم. الكل كان يتمتم وربما كان يدعو بكلمات غير مفهومة. لا أحد كان مهيئا لتخيِّل نهايته مهروسا تحت حطام طائرة تهوي لتحترق.آفاق التفكير أختزلها المشهد المرعب عند الجميع, لتغدو محصورة في كلمتين.. "أريد أن أعيش.. لا أريد أن أموت". نطقتها بكلمات ليست من اللغات وبحروف لا تُكْتَب وجوهٌ تحولت إلى خرائط بلا معالم, رسمت حدودَها الدموعُ وأخاديدُ الخوف. وأجسادٌ ترتعش على إيقاع رنين أسنانٍ تصطك, ونبضِ موتٍ تنتفض به قلوبٌ غيرت أماكنَها فلم تعد في الصدور. لا الخوف بقي هو الخوف. ولا الموت كما عرفته القواميس. والحياة شبحٌ يتلفت, يكافىء عند كلِّ حطامٍ أدمي ينتظر النهاية في جوف حريق مهول, العالم, كلَّ العالم.سلوى ما تزال تبكي. تخفي وجهها في حضن سعيد. تنتظر لحظة موت لا تريد أن تراها. سعيد يضمها متصنعا الهدوء كي يوهمَها بأن الأمر عادي. بعد قليل, الطائرة تبدو قريبة من الأرض. هبوط نحو المدرج. اهتزاز وانخفاض وارتفاع. مدرجات مطار لارنكا أصبحت على مرمى البصر.إحساس الركاب بهبوط الطائرة على هذا النحو من الاهتزاز والتراقص كأنها تهوي في واد سحيق, خلق لديهم حالة خوف من نوع آخر, ظهر على شكل احتقان صامت. قائد الطائرة.. "أيها السادة المسافرون. الطائرة تهبط بنا الآن إلى مطار لارنكا. نرجو منكم التزام الهدوء والتمسك بقواعد السلامة وعدم التحرك وربط الأحزمة". الاحتقان التام يسيطر على ركاب أغمض معظمهم أعينهم وأمسكت قبضات أيديهم بالمقاعد.الطائرة تقترب من المدرج وهي لا تزال تهتز.. "عندما تصل الطائرة إلى الأرض سوف ترتطم بشدة بالمدرج أرجو ألا تخافوا مهما حصل. الارتطام في مثل هذه الحالات أمر عادي. لأن الطائرة تهبط وهي تهتز. أمسكوا أنفسكم جيدا ولن يحدث أيُّ ضرر. ولن تلبثوا إلا عدة ثواني بعد الارتطام حتى تروا أن الطائرة ستدرج على المدرج بطريقة عادية وكأن شيئا لم يحصل".الطائرة تقترب من الأرض. تبدو تهوي كأنها ستتحطم. المدرج ظهر يتراقص في الأسفل يمينا وشمالا كأنه يتهرب من الطائرة. الخوف المخنوق, والاحتقان والبكاء المستجدي, انفعالات سيطرت على الجميع. الدعاء والتسبيح والتهليل بلغات مختلفة راح يُسمعُ كطنين النحل في أرجاء الطائرة وهي تهتز. تصطدم الطائرة بأرض المطار فجأة. يزداد الخوف والرعب, والصراخ يعمُّ المكان. تبدأ بالانحراف بشدة يمينا وشمالا كأنها ستخرج عن المدرج. الصراخ مستمر. قبضات الأيدي المغروزة في المقاعد هُيِّىَء لأصحابها أنهم بذلك قد يوقفون الطائرة. لحظات قليلة فقط وبدأت تعود إلى التوازن. سرعتها تخف شيئا فشيئا إلى أن توقفت تماما.استرخاءٌ حذِر مشوبٌ بالخوف وانفلات الأعصاب سيطر على الركاب وهم يستسلمون لانفعالات مختلفة ومتباينة. بكاء. ارتجاف. ضحك وبكاء معا. إغماء. إحساس بشلل مؤقت في الأطراف. عجز عن الحركة, وأسنان تصطك. مخزون البكاء يستمر في التدفق لدى الكثيرين. قائد الطائرة يقول.. "الحمد لله على سلامتكم".الطائرة توقفت بعيدا عن مباني المطار. سيارات الإسعاف والمطافىء وسيارات الأمن القبرصي تهرع إليها بالعشرات. العديد من السلالم تقترب منها. العشرات من رجال الأمن والإسعاف يصعدون وقد فتحت كامل أبواب الطوارىء. وجهت إليها خراطيم مياه سيارات المطافىء تحسبا لحرائق محتملة.الركاب في أماكنهم بلا حراك مستسلمون للانفعالات التي سيطرت عليهم بعد إحساسهم بأن حياتهم لم تعد بخطر. رجال أمن وإسعاف يجوبون الطائرة للاطمئنان على الركاب. أحد رجال الأمن يسأل إحدى المضيفات كانت تمسح دموعها.. "هل هناك أيُّ إصابات؟". المضيفة تهز رأسها كأنها لا تعرف وهي لا تزال لم تتحرر من الذهول. يتركها وخلفه رجل إسعاف مقدرا حالتَها ليكتشف بنفسه. يراه سعيد وهو يحضن زوجته التي بدأت تتخلص من نوبة النحيب.. "لو سمحت, زوجتي خرجت للتو من عملية جراحية. أرجو أن نخرجها من هذا الجو بسرعة".رجل الأمن.. "هل يمكنها أن تقف أم هي في حاجة إلى مساعدة؟".سعيد محدثا سلوى.. "هل بإمكانك الوقوف؟".هزت رأسها بالإيجاب.. "نعم. يمكنني الوقوف. لكن ساعدني يا سعيد. أني أحس بانهيار, قد لا أقوى على التماسك جيدا".سعيد موجها نظره وحديثه إلى رجل الأمن.. "نعم يمكنها أن تقف وسوف أساعدها".رجل الأمن.. "إذن هيا بنا".تقف بتثاقل. يساعدها سعيد, وينطلقان خلف رجل الأمن وخلفهما رجل الإسعاف. فجأة يقف الرجال المراقبون الثلاثة. يحاولون اللحاق بهم بأسلوب فجٍّ غير مدروس. لكن رجال الأمن يمنعونهم ويبقونهم في أماكنهم. أحد رجال الأمن يتحدث إلى أحدهم.." هل أنت متعب يا سيدي؟ هل تود الذهاب إلى المستشفى؟".وهو يشير إلى سعيد وسلوى.. "لا ولكن أين يذهبان بهما؟ هل أقدر على اللحاق بهم؟".رجل الأمن.. "هل هما قريباك؟ لا تقلق, السيدة متعبة وتحتاج إلى عناية ورعاية. تفضل إجلس مكانك لو سمحت يا سيدي". يجلس مضطرا بعد أن كاد يفصح بفجاجته عن نفسه. ينظر بارتباك إلى زميليه الواقفين. يتبع سلوى وسعيد بنظراته. ظهرت على ثلاثتهم بعد أن اضطروا إلى الجلوس علامات الحيرة والقلق. رجل الأمن يطمئنه.. "لا تقلق ستنزلون جميعا من الطائرة خلال دقائق, وستنقلكم طائرة أخرى إلى القاهرة. سوف ترى قريبتك. أتمنى أن تراها في قاعة الانتظار عندما تنزل بعد قليل. أظن أن حالتها الصحية غير مقلقة. اطمئن. هي تعاني فقط من ردة فعل نتيجة لما جرى. أرجوك تفضل بالجلوس".... يتبع في الحلقة الثانية عشرة
    النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الثانية عشرةالفصل الخامس"الماء يطهر الجسد من الأوساخ العالقة. كم هو سهل أمر الطهارة إذن عندما يكون الماء هو الحل.. هل تكفي الدموع لغسل الدم من الجراثيم؟ .. لا .. لا .. إنها لا تكفي. الدموع لا تغسل سوى الضمير.. إذن طهارة الضمير أيضا سهلة. إنها الدموع.. من يتوضأ طهارة بدن. ويبكي من يبغي طهارة الضمير.. لماذا لا ينفع الماء ولا تكفي الدموع كي أحس بذلك؟ لماذا يا رب؟.. أي نوع من النجاسة هذا الذي يغمرني, فلا تزيله مني الدموع, ولا يبعده عني الماء؟.. أي أصناف الأحاسيس هذا الذي ينتابني فلا أقوى على تحمله؟.. أهو إحساس بالذنب؟ إذن لكفته الدموع وأوجاع نفسي المؤرقة!.. لا. لا. أنا لست مذنبة. سعيد أقنعني. سعاد أيضا كانت مقنعة في تلك الليلة.. ما الذي يحدث لي إذن؟ كيف أتخلص منه؟".تتوقف سلوى عن محاورة نفسها لحظة. تحدق في المرآة المقابلة للسرير. تمسك برأسها وتفتح عينين تمعنان النظر في صورتها عبر الزجاج. تفكر والشعر والوجه لحظة استيقاظ متعبة. ثم تعود إلى حوارها الداخلي مرة أخرى.. "إن جسدي ملوث من الداخل. ولا ينفعه الماء ولا تنفعه الدموع. ماذا إذن؟ لابد أن هناك حلا. لكن أين هو هذا الحل؟ لكل مرض دواء يستأصله من جذوره. ما هو الدواء لمرضي؟ ولكن ما هو مرضي في الأساس؟ كيف أعرف الدواء قبل أن أعرف الداء؟".تتحرك في السرير بهدوء شارد, تبالغ التحديق في المرآة بعينين راحتا تخترقان شبحَ جسدٍ منكمش يتقوقع حول نفسه. سبحت في الدم الملوث, وأسكنت خيالها في وعاء أثقل أحاسيسها. سواد يسري في العروق والدود الأزرق ينهش منها الأحشاء. تترك رأسها. تنتفض. وخز الإبر يعتصر جسدها وجعا يقطر. تمرر يديها حيث الآلام, فوق الصدر والكتفين والذراعين والبطن. تتلوى من الوجع. ترتجف وأسنانها تصطك. تبكي بصوت مخنوق كي لا يستيقظ سعيد المستغرق في النوم."أنا.. يجب.. أن .. أموت.. هذا.. هو الحل.. نعم.. هذا هو.. الحل". يزداد وخز الإبر, كأن التماسيح تقتلع من جسدها ألواح صبار رمت بجذورها في أغوارها البعيدة. تضعف أمام رغبة في البكاء المسموع ثم في الصراخ ألحت عليها تحت وطاة إحساسها المعتاد كلما تذكرت أن جسدَها أصبح مزبلة, وعاء للقاذورات. يفيق سعيد مذعورا، هزَّه صوتها الموجوع. يضمها إليه وهي تبكي وترتعش. يساعدها في تدليك جسدها لتخفيف الوخز. تقول بكلمات متقطعة زاد في تباعد حروفها ومقاطعها البكاء المأزوم قيدته أطواق الاختناق.. "أنا.. عرفت.. الحل.. يا سعيد.. أنا يجب.. أن.. أموت.. نعم .. أموت.. كي .. أريح .. وأستريح.. مرضي.. ليس .. له علاج.. إلا.. الموت".سعيد يبالغ في احتضانها. الدفء ينساب من قلبه تجاه هذه الحبيبة التي تتفلت منه فجأة ذاوية نحو نهاية مقلقة مجهولة. بعد لحظات, راحت أوجاعها تخف وجسدها بدأ بالاسترخاء. نوبة الإحساس الغريب تتلاشى.. "لا يا سلوى. لا يا حبيبتي. هذه أزمة مؤقتة وهي إلى زوال. سيكون ذلك قريبا. أنت فقط لم تتقبلي بعد أن جسدك يحمل دما ورحما من هناك. هذا كل ما في الأمر".سلوى وقد استسلمت في حضنه, مستعيدة توازنها بعد دقائق من اختلال الأحاسيس. تقول بصوت خافت خائف يعبق بالاستجداء تبلله بقايا دموع.. "وكيف أصل إلى تقبُّل هذا الواقع؟ كيف يا سعيد؟ ساعدني يا حبيبي. أرجوك أنا لا أدري ما الذي جرى لي. لم أكن هكذا قبل العملية".سعيد.. "سأساعدك يا سلوى. لا تخافي. أنت فقط اهدئي وحاولي عدم تذكر ذلك. لا تفكري فيه كثيرا. ومع الأيام سيصبح واقعا تتعايشين معه". يصمت لحظة. يداعب شعرها وخدها ويقبل رأسها.. "سلوى. افهميني يا حبيبتي ركزي معي جيدا. حاولي. إن التطبيع, أي التطبيع, أمر مقدور عليه. صدقيني. كلُّ شيء في حياتنا يمكنه أن يصبح طبيعيا إذا تعاملنا معه على أنه أمر واقع. إذا فهمنا أو إذا افترضنا على الأقل أن الرجوع إلى الوراء مستحيل. نعم. هذه هي المشكلة في أيِّ تطبيع في الوجود. لا نستطيع التطبيع إذا كنا لا نقبل الأمر الواقع, أو إذا كنا نظن أن هذا الواقع يمكن تغييره بالعودة إلى اللحظة التي سبقته. أنا معك يا سلوى. إذا توفر هذان الأمران فلسنا ملزمين بالتكيف. ولن نكون قادرين على التطبيع أساسا. ولكن إذا افتقدناهما أو إذا افتقدنا أحدهما على الأقل. فعدم التكيف عندئذ فناء, موت, انطواء, تقهقر, هل تفهمينني؟".لا تجيب. يقبل رأسها مرة أخرى. يطمئن لصمتها. تضغط على صدره برأسها كي يواصل. فيستجيب.. "إذا جرَّكِ التفكير رغما عنك ووضعك في دائرة الإحساس المقيت الذي يسبب لك كل هذه الأوجاع. صارحي نفسك وهي تتألم بحقيقة أن الرجوع إلى الوراء, إلى مرحلة ما قبل العملية مستحيل عمليا, وسوف تجدين أن نفسك تتكيف مع الواقع مع مرور الأيام, وتتقبل المعادلة الجديدة".سلوى دون أن تتحرك.. " وكيف أستطيع أن أفكر بهذه الطريقة الموزونة ووخز الإبر يقطع أوصالي؟ كيف يا سعيد؟ إن الألم يفقدني التوازن والتركيز. أنه يفقدني كل قدراتي الذهنية".سعيد.. "إنها رياضة صعبة. أنا أعرف ذلك. لكنها رياضة لا مفر منها. لابد من ممارستها. افترضي أنك تمارسين تمرين الضغط. وإن عليك أن تقومي به مائة مرة كاملة. وإن الوصول إلى هذا الرقم مسألة مصيرية, قضية حياة أو موت.. المرة رقم تسعة وتسعين كانت صعبة جدا, وتحققت بجهد غير طبيعي, ترتب عليه ألم فظيع. المرة رقم مائة ستكون بالتأكيد أصعب وأشد إيلاما لكنها ضرورية. ستحاولين حتما أن تقومي بها لأن المسألة مصيرية. ستجدين نفسك تعملين على إيجاد حالة تعايش بين ضرورتين من المفروض أنهما متعارضتان. ضرورة الضغطة رقم مائة بما تعنيه من راحة واسترخاء بعدها, وضرورة الألم والوجع المترتب على القيام بها".سلوى.. "سعيد أنت تُنَظِّر ولا تجيبني على سؤالي. هب أن ما تقوله صحيح. أو لنقل أنه بالفعل صحيح. إن صحته لا تحل المشكلة. أنا أريد جوابا على سؤال كيف أفعل ذلك؟ وليس ماذا علي أن أفعل؟ أريد أن أعرف كيف أفعل هذا؟ كيف أفعله وأنا أتوجع عندما أكون في الحالة إياها؟".سعيد.. "بنفس الطريقة التي تضغطين بها الضغطة رقم مائة وجسدك يرتعش ويكاد ينهار تحت وطأة الألم".سلوى.. "الموضوع مختلف"."الألم من حيث المبدأ واحد يا سلوى. لكنه مستويات. ونحن الذين نتخيل أن هذا الألم يختلف عن ذاك في طبيعته وليس في كميته. ونعتبر أن أحدهما ألم فيما الآخر شيء مختلف"."إذن بتعبير يتناسب مع تنظيرك, حجم الألم الذي أعانيه يكون كبيرا جدا فيفقدني قدرتي على التركيز الذهني وعلى كل أشكال المتابعة ومراقبة النفس"."ربما أن هذا صحيح. لكن اسمعيني يا سلوى. اسمعيني جيدا. إنك لن تموتي من وجع إكمال المائة ضغطة. إن الذي جعلك تتحملين الوجع هناك هو ضرورة ألحت عليك وفكرتِ فيها وتحركتِ من ثمَّ بما تمليه عليك. واستطعت بإرادتك هذه أن تتغلبي على الوجع وتنقذي نفسك من مخاطر عدم إكمال المائة ضغطة. افعلي الشيء نفسه يا سلوى"."لا أستطيع يا سعيد. كيف؟ كيف أفعل الشيء نفسه؟ كيف أركز؟ كيف أفكر؟ كيف أسيطر على ذهني؟"."اجعلي ضرورة التعايش مع وضعك الجديد بعد العملية تلحُّ وتسيطر عليك رغم استفحال نوبة الألم. عندها ستشعرين بأنك تقاومين هذه النوبة بإرادة التعايش هذه. إن هذه الضرورة التي سيطرت عليك ستُخْتَزَن في داخلك لتقوية مقاومتك للنوبة القادمة, أما النوبة فإنها ستزول. لأن هذا ما يحدث في كلِّ مرة. بهذه الخطوة إذن فإنك تختزنين مقاومة ستسهم في تخفيف حدة النوبة اللاحقة"..يصمت ليراقب ردة فعلها. لم يظفر بشيء, فيواصل.. "مع مرور الأيام وإذا قمت بالشيء نفسه عند كل نوبة ألم, سيخف ألم النوبة التي تليها إلى أن يزول نهائيا. تماما مثلما أن الألم المرافق للضغطة رقم مائة سيخف إلى أن يتلاشى مع كثرة التمرين والتدريب". يصمت من جديد بعد أن توقع أنها ستعقب. ولما استمرت هادئة ساكنة واصل حديثه.. "انطلقي من هذه النقطة يا سلوى. انطلقي من أنك لا تستطيعين الرجوع إلى الوراء. مثلما انطلقت في التمرين من نقطة مفادها أنك لا تستطيعين الاكتفاء بتسعة وتسعين ضغطة. إن الأمرين متشابهان يا سلوى. ألا ترين أنه من غير الممكن انتزاع الرحم والدم من جسدك مرة أخرى؟ هل تفهمين؟".انتفضت لما سمعت كلماته الأخيرة. أبعدت رأسها عن صدره. نظرت إليه وقد قطَّبت جبينَها كأنها استحضرت من ذاكرتها أمرا مهما.. "من قال ذلك؟ فعلا لماذا لا يكون الحل في أن أعود كما كنت قبل إجراء العملية؟". تصمت. تفكر تحرك رأسها في أكثر من اتجاه. تمط شفتيها.. "سعيد أنا لا أريد هذا الرحم. لا أريده".ظهرت على وجه سعيد علامات خوف من نوع جديد لما قد يعنيه قول سلوى من متاهة جديدة قد تفاقمُ حالتَها. قرَّرَ بسرعة أن يلغي هذا التفكير من ذهنها. أراد تيئيسها منه وانتزاع أيَّ بادرة تفكير شبيهة به من مخيلتها.. "هذا لا يحل المشكلة يا سلوى. والدم. هل ستعيشين من غير دم؟".بدون تفكير.. "أغيره. أغيره بالكامل".سعيد بتذمر وضجر مشوبين بمسحة قلق بعد أن بدأت تنساق مع هذه الفكرة المجنونة.. "لن تستطيعي التحرر عندئذ من إحساسك بأن ذلك الدم أحياك فترة من الزمن, وأنك مدينة له بالحياة ولو لمدة قصيرة؟ إن الدم ليس كالرحم. ليس موجودا في مكان محدد لا يغادره. إنه ينساب إلى أعماقنا لينقل إلينا الحياة ويحافظ لنا عليها. ولقد فعل دم يهودا معك ذلك يا سلوى. لن تستطيعي أن تتحرري من وطأة هذا الإحساس. وهو نفس إحساسك الحالي ولا فرق. دعك من هذه الأوهام. إن ما تعانين منه يا سلوى هو إحساس من نوع غريب بالتلوث وبالاتساخ بسبب هذا الوافد الجديد الذي استوطنك فجأة, والذي شعرت فجأة أيضا بأنه مستوطن غير مرغوب فيه, وهذا الإحساس لا يزول بالزوال الشكلي للدم والرحم. لا. فهما حتى لو زالا بعد أن أصبحا جزءا منك, ستحسين بأن جزءا منك قد زال. جزء أعطاك وأخذ منك. إن الفترة التي عشتها في الأيام الأخيرة هي نتاج لسلوى الأصلية ولهذا الجديد. إن سلوى الجديدة هي مركبة من كليهما وستبقى مهما حصل نتاجا لهما. المسألة معقدة جدا يا سلوى. ولا حل لها سوى بالتعايش. بالتكيف. بالتطبيع. هل تفهمين؟".تهزُّ رأسها بعد أن اهتزت هذه الفكرة في ذهنها. تلقيه من جديد فوق صدر سعيد, وسط ملامح اطمئنان بدت على وجهه لأنها تحررت من تأثير هذا الجنون الذي اقتحم تفكيرها فجأة.. "أنا سأجن يا سعيد. أريد أن أتحرر من هذا الإحساس المقيت. إحساسي بالسواد والدود الأزرق يسري في عروقي وينهشني عندما أتذكر أن دما من هناك وأن رحما من هناك احتلا جسدي"."يا سلوى يا حبيبتي. المسألة بيديك أنت. إن إحساسك هذا هو سبب المرض الذي تعانين منه. إنه بالفعل سبب غريب. كل مريض في الدنيا يتألم ويتوجع بسبب شيء ما, لكنه يتعايش معه, أي مع الوجع إلى أن يزول بزوال سببه. وهو يفعل ذلك بإرادة التكيُّف. أنت أيضا افعلي ذلك يا سلوى. أنت مريضة. ومرضك من النوع الذي ليست له عقاقير قادرة على استئصاله كالأمراض العضوية التي يعاني منها الناس عادة. إن علاجه الإرادة وتقبل فكرة التعاسيش"."إنني أحاول قدر ما أستطيع يا سعيد. إن ردة فعلي هي نتيجة لطبيعة الألم المترتب على هذا النوع الغريب من الأمراض. وسأبقى كذلك حتى يزول السبب كما تقول. والسبب واضح ومعروف. إنه هذا الاحتلال الجديد الذي قبلت به بإرادتي عندما كنت متلهفة على هذه الأمومة المزيَّفَة. وسأبقى موجوعة إلى أن يزول هذا الاحتلال. أجل هذه هي الحقيقة يا سعيد. أنا انتهيت. لم أعد إنسانة طبيعية منذ عشت تلك الكذبة. إنها مضاعفات علاج فقدان الأمومة الأصلية بكذبة الأمومة المُطَعَّمَة بدم يهودا في رحم راحيل"."يا سلوى لا تعذبي نفسك بهذا الكلام المغلوط. صدقيني يا حبيبتي أنت تتصورين المسائل بطريقة خاطئة. مقلوبة. مغلوطة. إياك أن تقتنعي بهذه الأوهام والوساوس, إياك. هي التي ستتعبك قبل أن تصلي إلى الشفاء التام"."أنت تحاول فقط أن تخفف عني. أعرف ذلك. إن محاولاتك الطيبة لن تغير الحقيقة"."بل أنا أقول الحقيقة يا سلوى. صدقيني. أوجاعك ليست ناتجة كما تتصورين عن وجود هذا الاحتلال الجديد لجسدك كما تسمينه. إنها ناتجة في واقع الأمر عن إحساسك بالقرف, بالاشمئزاز, بعدم رغبتك في التكيُّف وتطبيع علاقتك النفسية معه, حتى لو قبلنا اعتباره احتلالا كما تقولين. إذا تحررتِ من هذا الإحساس زال الوجع. ما الفرق بين الدم الذي يسري في عروقك وبين دم أي إنسان آخر غير يهودا؟ ما الفرق يا سلوى؟ في الحقيقة لا يوجد أي فرق. إنما هناك مشكلة في نفسك اختلقت لك هذا الفرق وولدت لديك هذا الإحساس"."أنا أعرف أنا مشكلتي نفسية يا سعيد. أعرف ذلك جيدا. لست أجادل في هذا. أنا أريد مساعدتك في إعادة نفسي إلى ما كانت عليه من توازن قبل إجراء العملية. وكل ما ذكرته لغاية الآن لا أجد أنه يساعدني على ذلك. هو أقرب إلى تشخيص حالتي منه إلى علاجها"."ما يجب أن تدركيه جيدا هو أن علاجك لا يمكنه أن يتمثل في انتزاع هذا الرحم وذاك الدم منك من جديد. هذا تخريف. إن علاجك يتمثل في إعطائك جرعة قوية ومؤثرة من المشاعر, تجعلك قادرة على قبول الوضع الجديد والتكيُّف معه. مع أني والحق يقال لست أدري ما الذي أصابك فجأة وأنت المتلهفة على الطفل والأمومة"."أنا أيضا لست أدري ما الذي جرى لي. كل ما أعرفه الآن أنني مقتنعة بأنها مجرد كذبة. الأمومة بهذه الطريقة كذبة. أن يصل التمازج والتداخل بيننا إلى هذا الحد مستحيل, غير مقبول. لقد عشت هذه الكذبة وهذه هي النتيجة. إني متأكدة من شعور أساسي يستغرقني الآن هو أنني لم أعد حريصة على البقاء على قيد هذه الكذبة. لكن هذا الشعور وصلني متأخرا. بعد فوات الأوان. لقد أصبحت أرى أن عودتي إلى سلوى المحرومة من الأمومة أرحم من هذه الحياة التي سأصبح فيها أما بهذه الطريقة النشاز. لماذا لم ننتبه إلى هذه الكذبة قبل اقترافها يا سعيد؟ لماذا لا نندم على الكذب إلا بعد أن نعيش مآسي هذا الكذب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا لا تستغرقنا الرغبة في العودة إلى أحلامنا الدافئة التي رضعناها مع حليب أمهاتنا, إلا بعد أن نكون قد كسرناها ولم يعد بالإمكان لملمة أشلائها الدامية من جديد؟".يصمتان قليلا. يسود الغرفة جو عابق بالخوف. يستمر في مداعبة شعرها وهي مستسلمة لتفكير هادىء. يقطع عليها حبل التفكير كي لا يسافر بها بعيدا حيث موطن الأوجاع التي تهرب منها إلى أحضانه.. "بصرف النظر عن موقفي مما تقولينه, فإنه لم يعد يهم كثيرا في علاجك. سأوضح لك المسألة يا سلوى بطريقة مبسطة. افترضي أن شخصا أصيب بورم خبيث في مكان ما داخل جسده. الفرق بين مرضه ومرضك أنه سيشفى إذا استأصلنا منه الورم, لأنه سيكفُّ عن الإحساس بالألم. ألمه ناتج عن الورم. انتزعنا الورم زال الألم. إنها معادلة في منتهى البساطة. أما بالنسبة لك فلا وجود لورم محسوس لو استأصلناه منك لكففتِ عن الإحساس بآلامك وأوجاعك".بنبرة يائسة.. "وهذا ما قلته لك يا سعيد. إن حالتي لا علاج لها إلا الموت". يضمها إليه بشدة فتستسلم لاحتضانه لها.. "لا يا سلوى. علاجك موجود ومتاح. اسمعيني حتى النهاية وستعرفين أن الحل متوفر لكنه بحاجة إلى أن تضعي يديك عليه وتبدئي بتناول جرعاته"."لست أدري لماذا أشعر بالراحة عندما أسمعك تتحدث عن حالتي. رغم أنني غير موقنة أن بوسعي الشفاء. أقصد أن أشفي نفسي بنفسي. أرجوك يا سعيد. حدثني دائما بهذه الطريقة".يعانقها. يقبل شعرها. يحاول مداعبة وجهها فيحس بأنها أغمضت عينيها واستسلمت لحديثة.. "حاضر يا سلوى. لا تقلقي يا حبيبتي. أنا معك بكل ما أقدر عليه حتى اللحظة التي تشرق فيها الحياة لك مرة أخرى". يصمت ليستجمع أفكارَه.. "حتى لو انتزعنا منك الرحم مرة أخرى وغيرنا دمك, ستبقين تعانين من نفس الآلام والأوجاع, صدقيني. لأن سبب الألم عندك كما اتفقنا ليس هو هذا الدم ولا هذا الرحم. كي تكفي عن الإحساس بالألم يجب أن نستأصل منك إحساسك الغريب غير المفهوم الذي يولد الألم. إحساسك الغريب هذا يا سلوى هو الورم الذي يجب أن تتخلصي منه. صحيح أن علاجك شبيه بعلاج ذلك الشخص صاحب الورم الخبيث قائم على مبدأ الاستئصال. لكننا هناك استأصلنا ورما خبيثا محددا مكانا وشكلا وحجما. بينما نحن هنا في حالتك يجب أن نستأصل إحساسا لا أحد سواك يتحكم فيه أو يستطيع السيطرة عليه. لأنه قائم على تصور أو فكرة. على إيمان. غيري الفكرة. غيري التصور والإيمان. آمني بما يولد إحساسا جديدا يقوم على القبول وسيتغير كل شيء.... أنك تعانين من ورم نفسي يا سلوى. أو دعيني أقول ورم روحي. ورمك ليس عضويا حتى يستأصله مبضع جراح. ولو كانت مشكلتك عضوية لظهرت عليك علامات ومضاعفات مرض عضوية. أنا متأكد تماما أن الرحم الذي تحملينه لو لم يكن هو رحم راحيل, ولو لم يكن الدم الذي حقنت به أثناء العملية هو دم يهودا لما كانت هناك مشكلة أساسا. هل تفهمين يا سلوى؟ هل تفهمين يا حبيبتي؟ هاه". سلوى لا ترد. يتوقف عن الحديث. ينظر إلى وجهها. يجدها قد استسلمت للنوم.... يتبع في الحلقة الثالثة عشرة
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  4. #14
    December 11, 2013 at 9:29pm
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الثالثة عشرة
    الفصل الخامس
    العاشرة صباحا. سلوى وسعيد تدثرهما فوق السرير حميمية دافئة. الإضاءة خافتة والشمس تتسلل. سلوى يكتنفها الهدوء وتلفها السكينة. بصوت ناعم تستحضر عذابات الأمس.. "كنا سنموت بالأمس. أليس كذلك يا سعيد؟".
    "لكننا على قيد الحياة, وعلى أحسن ما يرام. نرتاح مما حصل في هذا الفندق المرفَّه في قبرص. لقد كنت تتمنين الحضور إلى هنا منذ سنين. لقد جاءتك الفرصة".
    "أبهذه الطريقة المرعبة يا حبيبي؟".
    "بالإمكان نسيان ما حصل بأن نعطي لأنفسنا أجازة جميلة في هذا البلد الجميل. ما رأيك؟".
    "وهل هذا وقت إجازات؟".
    "أن هذا هو أحسن وقت للإجازات. لقد بقيت لنا خمسة أيام من أجازتنا الصيفية. ما رأيك في أقتراح جميل. سيعجبك أنا متأكد؟".
    "ما هو؟".
    "ما رأيك لو نلغي ذهابنا إلى القاهرة بأن نقضي الأيام الخمسة المتبقية من إجازتنا في قبرص, ونسافر بعد ذلك إلى السعودية مباشرة, من هنا؟ هاه, ما رأيك؟".
    "ولكنك تعلم أن ماما و بابا وسعاد يريدون الاطمئنان علي ورؤيتي بعد العملية".
    "الأمر بسيط, نتصل بهم, ونخبرهم بأننا في قبرص, وبأنك في حاجة إلى راحة بعد العملية, خاصة بعد الذي حصل معنا في الطائرة, وهذا يعني أن الإجازة ستتبخر, ولن يكون هناك متسع من الوقت للحضور إلى القاهرة. لذلك سنسافر من هنا إلى الرياض مباشرة".
    بعد لحظة تفكير.. "حاضر يا حبيبي. أنا موافقة".
    بحماس وهو يداعب شعرها بعذوبة.. "إذن فلنقضي من اللحظة أجمل الأيام هنا في قبرص".
    جمع الشيطان. غضب ونزق وانفعال. الزبد يتطاير من شدقي شنشلي كمريض انتابته نوبة صرع.. "ليس المزعج في الأمر ما حصل للطائرة. يمكن لمثل هذا الأمر أن يحصل في أيِّ وقت. المزعج والمقلق حقا هو النتيجة. نتيجة ما حصل". يتأفف. يحرك رأسه بسرعة تراقصت معها أذناب السحالي المتدلية من تحت القبعة السوداء. قرقعة رؤوس أصابعه الغاضبة على الطاولة, أصوات مسامير تنهش الخشب على إيقاع شرر يتطاير من عينين اتسعتا لكل أصناف الحقد والكراهية وصنع الموت.
    جوناثان.. "يراودني إحساس بأن الحادثة حصلت فقط كي تفلت هذه السيدة منا وتختفي عن أعيننا وتنقطع أسباب مراقبتها وخيوط متابعتها".
    شنشلي يضرب الطاولة بانفعال شديد.. "مع أن الخطة محكمة, وكانت تسير بسلاسة". شيريكوف. لهجة ساخرة نضحت بها حمرة وجه مقيته.. "يبدو أن الرب أشفق على الأطفال الذين كانوا سيموتون نتيجة الانفجار, فأجل موتهم حتى يستعد نفسيا لذلك. أنتم تعرفون أن رب الجنود حساس بعض الشيء, ولا يحب الدم في كلِّ الأوقات, خاصة منظر دم الأطفال, أطفال الجويم, إذا لم يكن بهدف صناعة الفطير في الأعياد. إنه يروِّض نفسه على تقبل وقوع يوم القيامة قبل موعده المقرر من قبله". ينظر إلى جولدي.. "عموما سنعرف مكانها بسرعة. ألم تقل أن أمامنا سنة كاملة يا دكتور؟".
    شنشلي وقد ظهرت على وجهه علامات استياء جراء تعليقات شيريكوف الساخرة اللاسعة.. "إجازتها هي وزوجها في السعودية قاربت على الانتهاء. إذا سافرا إلى هناك قبل أن نجدهما, فسوف نتعب في البحث عنهما وفي إيجاد الطريقة الكفيلة بإعادة السيدة إلى القاهرة".
    شيريكوف.. "علينا إذن أن نعرف مكانهما في قبرص. وأن نبقيهما تحت المراقبة هناك حتى يعودا إلى مصر".
    شنشلي.. "ولكن ماذا لو طال الوقت وسافرا إلى القاهرة قبل أن نعثر عليهما في قبرص؟".
    شيريكوف.. "إذن فلنراقب مطار القاهرة مراقبة دقيقة منذ هذه اللحظة أثناء البحث عنهما في قبرص. فإن وجدناهما هناك فبها ونعمت. وأن لم نجدهما فلاشك أننا سنكتشفهما وهما يدخلان القاهرة".
    شنشلي.. "ليس هذا ما يقلقني".
    توم.. "وما الذي يقلقك إذن سيد شنشلي؟".
    شنشلي بشرود ذهن وحركة رأس خفيفة تخفي خوفا وقلقا.. "أن يختصرا الرحلة. فبدلا من أن تكون القاهرة محطة لهما قبل السعودية, أن يتجها من قبرص إلى هناك مباشرة". لفتت انتباههم ملاحظة الشنشلي فراحوا يتبادلون النظرات المستريبة القلقة. ثم راح كل منهم يتخيل الأمر على طريقته الخاصة ويتصوره من زاوية نظره, ويفترض له الحلول ويضع الخطط لاستكمال تنفيذ العملية على أساس أنها الآن في الرياض, وأنها لم تمر بالقاهرة. كانوا يرسمون لأحلام إبليس خرائط ليست كالخرلئط. ولأنهم كرهوا اللون الأبيض ولم يكونوا يشربون الحليب إلا بالدم. فما تمنوا رؤية الشمس, لأنها تقتل ظلمة الليل التي فيها يبصرون.
    على عكس ما توقع سعيد وتمنى, كانت حالة سلوى تزداد مع الأيام سوءا. آلامها وأوجاعها تستفحل. فشلت معها كل الرياضات والأدواء, فأصبحت حياتها مستحيلة. لم يعد يملك ما يفعله كي يخفِّفَ عنها ما هي فيه سوى أن يكون بجانبها ليحضنَها ويفيض عليها من دفء مشاعره, كلما اعترتها نوبات الألم التي تحولت مع مرور الوقت إلى نوبات أقرب ما تكون إلى الصرع. إحساسها الغريب بالعفونة الداخلية وبالاتساخ سيطر عليها وامتلك انفعالاتها امتلاكا كاملا تشلت حياتها فغدت أجزاء متباعدة عصية على اللملمة. توزع وقتها بين لحظتين, أخذت إحداهما تطغى وتتمدد مع مرور الأيام على حساب الأخرى التي راحت تضمحل وتتضاءل وتتلاشى. الرَّوْع يعارك السكينة في نفس تناثرت بداخلها حبيبات الأمان راسمة لوحة اغترابٍ باردٍ يرتعش. تحولت سلوى إلى حطام شارد ساهمٍ معظم الوقت, يعتريها الذهول, وتدهمها من حين لآخر لحظات انعدامٍ كامل في التوازن. لم تعد قادرة على التعايش حتى مع سويعات هدوئها العابرة. نوبات الوخز تفاقمت واحتلت من وقتها معظمه.
    ظن الجميع أنها بحملها ستتغير. لكن أشهر الحمل كانت جحيما لا يطاق لها ولمن حولها. كانت تبكي بمرارة ليس لأنها تتألم فقط. بل لأنها غدت مصدر ألم وأرق متواصل لمن يحبونها. ومع كل يوم جديد يمر على حملها كانت سلوى تزداد خوفا وإحساسا برفض هذا القادم, واقترابا من حافة الجنون. سيطرت عليها كوابيس فظيعة مرعبة فساءت حالتها أكثر. رأت جنينها في الحلم ثعبا أرقط يسكن أحشاءَها, وعنكبوتا أسود كبيرا ينهش بأظافره المدببة بطنَها, بل عقربا ضخما يبث السم الزعاف في كلِّ جسدها. حاولت الانتحار والتخلص منه. لم تعد أمينة على حياتها وحياته. تم إنقاذها من الموت أكثر من مرة في اللحظات الأخيرة. لم يعد من الممكن تركها لوحدها.
    انتقلت مع سعيد إلى أميركا عندما أرسلته الشركة إلى هناك في دورة تدريبية مكثفة. وعندما عاد إلى القاهرة بعد شهر, جاب معها كلَّ مناطق الاستجمام والترفيه في مصر. كان ذلك يخفِّف عنها ويساعدها على النسيان. لكنه أبدا لم يساعدها على الشفاء. ورم النفس والروح أصبح سرطانا, راح يتمدد ويتشعب وينتشر إلى أن غدت كتلة من الانفعالات المدمرة لنفسها ولمن حولها.
    عاد بها إلى الرياض. وهناك وكما في مصر وفي أمريكا من قبل عرضها على الأطباء وعلى مصحات ومستشفيات متخصصة بلا فائدة. سلوى حالة ميئوسة منها. الكلُّ أخبره بأن حالتَها ستزداد سوءا بعد الولادة. لن تستطع أن تكون أما لطفل. إنَّ ما عاشت لأجله وعانت لأجله وتلهفت لأجله, يتحطم على صخرة اغترابٍ عجيب دمرَّ هذا الكيان البرىء الذي أحبه الجميع لفرط براءته ووداعته.
    كوابيس الليل نغصت على سعيد حياتَه عندما أيقن أنه خسر سلوى الحبيبة إلى الأبد. لقد قاربت الجنون عندما رأت بطنها ينتفخ. لم يتمكن أيُّ طبيب من تخليصها من أوهامها وهلوساتها. ولا أن يجعلها تتعامل مع جسدها بصورة غير الصورة التي ارتسمت في مخيلتها عنه. وعاء نتن يحمل في جوفة أقذر أنواع القمامة. هكذا كانت سلوى تعتقد. انتقلت معه إلى مقر عمله الجديد في الدمام. كان يقضي وقتا طويلا إلى جوارها خوفا عليها. ممرضة وخادمة على مدار الساعة كانتا تقومان على رعايتها باستمرار كي تحميها من نفسها أولا وقبل كل شيء.
    انتهى شهر الحمل السادس وهلَّ السابع. حضر أهلها من مصر لزيارتها قبل موسم الحج بعد أن عرفوا من سعيد سوء حالتها, وأن وجودهم إلى جانبها في هذه الفترة الحرجة قد يساعدها على تخطي آلامها. لكنهم لم يجدوا سلوى التي يعرفونها. وجدوا امرأة تذوي, وإنسانة تنتهي, وجسدا يتحطم, ونفسا تحترق بنيران الوساوس المهولة التي سكنت روحَها. بكت في حضن متولي كثيرا وطلبت منه أن يعتذرَ لها من أرواح الشهداء كي تلقاهم نظيفة. اهتز الجميع ودمعت أعينهم حتى زرقاء اليمامة.
    جمع الشيطان لاحقها في كل مكان. لكن القدر كان دائما أسرع. ما الذي يرسمه القدر يا زرقاء؟ لماذا كانت سلوى تفلت منهم دوما؟ أهي مدينة القاهرة تعصى على الفناء وتتحدى خرائط إبليس؟ أهو التاريخ يُحَصِّنُ نفسَه ضد حشرات لم تجد لنفسها مكانا فيه؟ هل هي الفدية؟ هل هو القربان؟ أم هي لعنة الحلم المُكَبَّل في أركانٍ بعيدة وزوايا غائرة من النفوس المخدوعة, بعد أن اجتثوا جذوره من روح متولي؟ ما الأمر يا زرقاء؟ الزرقاء لا تجيب.. كل ما في الظاهر أن كثرة أسفارها وحركتها مع سعيد الذي لم يكن ليطمئن عليها إذا لم يكن قريبا منها, جعلتهم يعانون كثيرا ويعجزون عن الظفر بها. مع أنهم لم يكونوا يعلمون عن حالتها النفسية شيئا.
    عندما قضت أواخر أجازتها الصيفية في قبرص, بذلوا كل ما في وسعهم كي يعرفوا أين تنزل, وما عرفوا إلا بعد أن كانت في بيتها في الرياض. وعندما توصلوا إلى هاتفها وعنوانها هناك ورتبوا لاستحضارها إلى القاهرة, بتدبير حادث سير يرقد والدَها في المستشفى كي تأتي لزيارته, كانت تؤدي العمرة مع سعيد, فلم يظفروا بها في الرياض كي يتم إخبارها بما حدث واستدراجها إلى مصر. انتظروا عودتها إلى منزلها أياما وأسابيع. لكنها لم تعد. ولما أضناهم الانتظار وخيم عليهم الشك, تحركوا, فاكتشفوا أنها في القاهرة. لكن ذلك كان متأخرا جدا, في نفس يوم سفرها مع زوجها إلى أمريكا. ولم يعرفوا أنها في أمريكا ويحددوا مكان إقامتها هناك إلا في أيامها الأخيرة.
    وما أن بدأوا بالترتيب لاستدراجها مرة أخرى إلى القاهرة حتى كانت تجوب مصر طولا وعرضا مع سعيد بعيدا عن أعينهم. ولما عرفوا ذلك وحاولوا التحرك بسرعة, لم يسعفهم الحظ ولا أسعفهم الوقت, فأفلتت منهم سلوى من جديد وعادت إلى الرياض. وعندما وضعوا خطة جديدة لإحضارها إلى مصر كانت قد انتقلت إلى الدمام. وقبل أن يعرفوا أي شيء عنها بعدما فقدوا أثرها في الرياض, كان أهلها قد غادروا القاهرة لزيارتها هناك في مكان إقامتها الجديدة, فانقطعت كل الخيوط الموصلة إليها. ولما عرفوا أنها في الدمام بعد عودة أهلها من الحج. كان القدر يرسم لهذه المأساة مسارا آخر أكبر من كل الخرائط وأبعد من أن يتوقعه أحد أو أن يتخيله إنسان.
    سلوى في بدايات الشهر الثامن. اكتنفتها حالة غريبة وغير عادية من السكينة والهدوء. سعيد يستبشر خيرا, وإن كان قلقا وخائفا من الهدوء الفجائي غير المطمئن. خشيَ أن يكون هدوءا يسبق عاصفة أو حدثا كبيرا. قررت قضاء ما تبقى من فترة الحمل في القاهرة بين أهلها بعد أداء العمرة. أحست بأن قوة خفية تشدها إلى البيت الحرام, حيث الدفء والأمان والسلام في كنف الرحمن.
    ملابس الإحرام. الكعبة المشرفة. سعيد يصلي وهي ترفع يديها بالدعاء وتبكي. يسعيان متجاورين بين الصفا والمروة, وهي تدعو وترفع يديها وتبكي. يرقبها خائفا حذرا. يهرولان. مرة واثنين وثلاثا تدعو وتبكي. في الرابعة دوار وغثيان. تسقط سلوى مغشيا عليها.
    نائمة تحت التخدير في مستشفى "البيت الحرام" في مكة المكرمة, وحولها حشد من الأطباء والممرضين. ينظرون جميعا في أجهزة القياس والفحص وأمارات القلق بادية على وجوههم. الطبيبة المشرفة تشير إليهم بيديها كي يواصلوا عملهم, وتغادر غرفة العمليات إلى حيث سعيد. تحدثه.. "أستاذ سعيد زوجتك في حالة حرجة. إنها في حالة ولادة مبكرة. الجنين لا يستطيع أن يعيش في رحمها بعد هذه اللحظة. والولادة سوف تكون صعبة. صعبة ومتعسرة".
    سعيد في ملابس الإحرام لا يزال. قلق وخوف.. "ماذا تقصدين بصعبة ومتعسرة يا دكتورة؟".
    الدكتورة.. "الأعمار بيد الله أستاذ سعيد. لكن حالة السيدة سلوى خطيرة لقد شاهدنا ظاهرة غريبة. المشيمة ملتصقة بجدار الرحم".
    سعيد.. "هل يمكن التخلص من الجنين والحفاظ على حياة سلوى يا دكتورة".
    الدكتورة.. "المسألة ليست بهذه الصورة يا أستاذ سعيد. الجنين حالة والأم حالة أخرى منفصلة تماما. الجنين يمكنه أن يعيش وهذا هو الأرجح. وسواء عاش أو لم يعش, فهذا ليس له دخل في حالة الأم".
    بقلق راح ينمو ويزداد ويتشكل أخاديد من الألم حفرت في وجهه.. "وما هو سبب هذه الحالة المحرجة يا دكتورة؟".
    الدكتورة تجيبه بإشارات وحركات تعبِّر عن الاستغراب والاندهاش.. "حالة مركبة ومعقدة. الجنين مستعرض تماما, المشيمة ملتصقة بجدار الرحم. هذا هو في اعتقادي سبب الخطر على حياة الأم. العملية القيصرية ضرورية, والنتائج بالنسبة لحياة الأم غير مضمونة. أدعو الله وارض بقضائه يا أستاذ سعيد".
    تتركه الدكتورة وتعود إلى غرفة العمليات. مرتبك متوتر كما لم يكن في يوم من الأيام. حياة الحبيبة في مهب الريح. ماذا تخبىء لعنة الكذبة التي لفظتها روح سلوى يا زرقاء؟ يجوب الممر ذهابا وإيابا في أشد حالاته قلقا وتوترا وترقبا. بعد قليل تخرج الدكتورة ومعها بعض الممرضات مقطِّبَة الجبين. يسرع نحوها كي يستفسر. يحاول أن يسأل. صمتها الحزين المتأثر أعطاه الجواب. قرأه في عيون الممرضات, لكنه لم يقبله. يسأل وهو في حالة تقارب الانهيار.. "كيف حال سلوى يا دكتورة؟".
    أدركت أنه رفض إجابات الوجوه وكلمات العيون. وإنه ينتظر إجابة أخرى, لكنه لن يظفر بها. تبتعد عنه قليلا متأثرة بحاله وتقول.. "اصبر يا سعيد هذا قضاء الله وقدره. عظم الله أجرك. أنت إنسان مؤمن وهي شهيدة. ستتذكرها بولدها دائما. حفظه الله. إنه جميل جدا".
    يضرب جبينه بكفه وينهار باكيا.. "لا إله إلا الله. لا إله إلا الله. لا إله إلا الله".
    تخرج من الغرفة ممرضة تمسك بمولود يصرخ. تقربه منه كي تخفف عنه الفاجعة. ينظر إليه وهو يبكي.. "جئت يتيما يا حسن. لقد قتلتها قبل أن تقتلك يا حسن. لماذا جئت بدونها؟ أيٌّ منكما هو الذي لم يرد أن يرى الآخر, أنت أم هي؟ أنت أم هي؟ لماذا أخذتها مني يا حسن؟ لماذا؟ يا رب ما هذه المأساة؟". تنصت الممرضة إلى كلامه الغريب. لا تفهم منه شيئا. تحدق فيه. يبادلها النظرات.. "لا تستغربي. ما حصل كان هو الحل الأمثل الذي اختارته السماء لمأساة لم يسبق لها مثيل".
    شواهد القبور في مكة تملأ الأفق. سعيد يقرأ الفاتحة على روح سلوى. غمٌّ وحزن ووجه يقطر بالألم. يدعو لها بالمغفرة والجنة وعيناه تدمعان. كتبت على الشاهد هذه الكلمات.. "هنا ترقد الفقيدة سلوى متولي التي توفيت عن عمر يناهز الحادية والثلاثين عاما, بعد أن وهبت حياتها لوليدها حسن. فارقت الحياة لأنها لم تتحمل أكبر كذبة حاولنا جميعا إقناعها بها. تطبيع ما ليس طبيعيا. طاهرة عاشت وطاهرة رحلت. حلمت بأمومة قتلتها بعد أن أقنعتها بالتخلي عن حلم الشهداء ومتولي. رحم الله الفقيدة وتغمدها بواسع رحمته".
    الحزن الشديد يغمر شقة متولي. سعاد وسكينة تتوشحان بالسواد. سعيد يغالب البكاء ويسلم حسن إلى سعاد.. "هذا حسن يا سعاد. حسن الذي تمنته سلوى طوال حياتها. هو جاء وهي ذهبت. لست أدري أيهما رفض أن يرى الآخر ولا أيهما رفض أن يرى الآخر ولا أيهما هرب من الآخر. لكنني تأكدت الآن أن سلوى وحسن ضحية التخلي عن الحلم. امنحيه الحنان الذي حرم منه. دعونا نرد الجميل للحبيبة الوديعة التي رحلت عنا". حسن يتحرك في حضن سعيد ويصرخ.
    سعاد تضمه إليها وتبكي بحرقة ومرارة.. "يا حبيبي يا حسن. أنت في قلبي ستعيش يا غالي يا ابن الغالية. لك وبك سأحيا".
    سعيد ينظر إلى حماه. يقول له وقد رآه يغالب الدموع.. "لا بأس يا عمي. يبدو أن سلوى في أيامها الأخيرة أحست بذلك. لهذا السبب فضلت أن يكون مثواها الأخير هناك في مكة. كانت تقول عندما يكتنفها الهدوء وتلفها السكينة.. "إن الذين يكرمهم الله بالموت في مكة أثناء أداء الحج أو العمرة, لماذا يعيدونهم إلى بلدانهم؟ أليست نعمة من عند الله أن يموتوا هنا؟ إذن لماذا لا يدفنون في هذه الأرض الطيبة الطاهرة؟". يصمت لحظة يحاول خلالها السيطرة على انفعالاته قبل حديثه بعد أن كاد ينفجر باكيا وهو يتذكر لحظاتها الأخيرة.. "هي التي أوصتني أن أدفنها في مكة إذا وافتها المنية أثناء الحج أو العمرة". بكاء ودموع وحزن. حسن يتحرك في حضن سعاد ويصرخ.
    جمع الشياطين. يأسٌ وإحباط باد على وجوه الأفاعي. شنشلي.. "يبدو أننا سنضطر إلى إقفال ملف هذه العملية اللعينة التي أحرقت أعصابنا وأقلقت راحتنا. أمضينا أكثر من ثمانية أشهر في المتابعة والملاحقة وفي البحث والتحري دون أن نظفر بهذه المرأة الزئبقية. لقد لاحقناها في كل مكان بلا فائدة. وعندما لم تجد مكانا في الدنيا تفر إليه من بين أيدينا, هربت إلى الآخرة. ما هذا بحق الشياطين؟".
    شيريكوف.. "أظن أنه آن الأوان فعلا بعد كل هذا الإرهاق والأرق كي نكف عن الركض وراء سراب. لقد أصبحت الشرائح الآن في مكان لا يمكننا الوصول إليه إطلاقا. تخيلوا, مقبرة في مكة في السعودية. إذا كان الدخول إلى السعودية لوحده مشكلة يصعب حلها. فكيف بالوصول إلى تلك المدينة بالذات.. هه.. بل إلى مقبرة فيها غير معروفة أصلا. لقد وصلنا إلى دائرة المستحيل..
    .. إن الوصول إلى هناك حيث ترقد هذه السيدة أصبح بالفعل أمرا مستحيلا. وإذا تم الوصول إلى هناك بافتراض تحقق هذا المستحيل, تبدأ على الفور دائرة المستحيل الثانية, كيف سنخلص الشرائح من جثتها؟ وإذا فعلنا ذلك وانتصرنا على هذا المستحيل, كيف يصبح بالإمكان أن نخترق دائرة المستحيل الثالثة؟ كيف نخرج تلك الشرائح من مكة إلى القاهرة؟ لا. لا. لا داعي للتوغل كثيرا في دائرة التخريف والهلوسة".
    جوناثان متنهدا.. "بالفعل لا داعي لذلك. ما عانيناه لحد الآن يكفي وزيادة".
    جولدي.. "ولكن مالي أراكم حزانى كأنكم فقدتم غاليا؟".
    شنشلي بنزق.. "لا تقل أن لديك خطة لنقل الشرائح مرة أخرى إلى القاهرة, وأنك تريد ثلاثة ملايين دولار هذه المرة, ما دامت المسافة أبعد؟".
    جولدي يضحك.. "لا يل سيد شنشلي. ليست لدي خطط. انتهى المعقول ودخلنا كما قال شيريكوف في دوائر المستحيل".
    شنشلي ساخرا.. "لو قلت أنك تستطيع فعل ذلك لذكرتني بحكاية الصديقين "جو" و "هاري". هل تعرفها؟".
    جولدي.. "لا. هل بالإمكان معرفتها الآن أرجو أن تكون مضحكة كي نغير بها هذا الجو المكتئب".
    شنشلي.. "قال هاري لجو ذات مرة. لقد اصطدت أكبر سمكة رنجة رأتها عين إنسان. كانت تزن خمس مائة كيلو. فرد جو. هذا لا شيء يا صديقي. عندما كنت اصطاد, أمسكت سنارتي بمصباح سفينة وكان التاريخ المحفور عليه هو 1392 أي بمائة عام قبل ظهور كولومبس. الغريب أنه في داخل المصباح كان هناك ضوء مازال مشتعلا. هل تعرفون ماذا فعل هاري بعد سماع كذبة جو التي تفوقت على كذبته؟". يصمت لحظة يستعرض فيها وجوهه ثم يقول.. "قال هاري لجو.. إسمع يا جو تعال نتفق. أتنازل أنا عن 495 كيلو من وزن الرنجة وتطفىء أنت نور المصباح". ضحك فاجر يعم الجميع.
    جولدي بدهاء بعد أن وصلته رسالة الشنشلي وهو لا يزال يضحك.. "هذا ما كنت أود قوله يا جماعة. لم نخسر شيئا. لم تحترق القاهرة. لا توجد مشكلة. ستحترق مدينتهم المقدسة. ربان يتصارعان وأثناء صراعهما يتقاسمان مناطق النفوذ ويتنازل كل منهما للأخر عن شيء ما. تنازل ربهم لربنا عن مكة، فتنازل له ربنا عن القاهرة".
    شنشلي يضحك.. "بل عندما أنقذ ربهم مدينة القاهرة. غضب رب الجنود وقرر أن ينتقم بحرق مكة".
    شيريكوف بشيء من العزاء لنفسه.. "هذا أقل ما يجب عليه فعله مكافأة لنا على ما فعلناه لأجله".
    شنشلي يلتفت إلى الجالسين.. "بالمناسبة قمت أنا وشيريكوف بحساب المدة المتبقية. يوم الانفجار سيتطابق مع موسم الحج الأكبر عند المسلمين. في ذلك اليوم سيكونون فوق هذا الجبل الذي اسمه. اسمه. آه اسمه عرفه هل تعرفون لماذا سمي عرفة؟ لانهم في ذلك اليوم سيعرفون أن رب الجنود أقوى من ربهم. حوالي ثلاثة أو أربعة ملايين إنسان في بقعة صغيرة جدا. على كل حال عدد القتلى هناك سيكون مساويا تقريبا لعدد القتلى الذي كنا نتوقعه في القاهرة. وفي أقدس مدنهم. بالفعل نحن لم نخسر شيئا كما قال جولدي".
    شيريكوف.. "العملية خرجت من أيدينا الآن. وما علينا إلا أن ننتظر السنوات الأربع والأشهر الثلاثة المتبقية لنرى ما الذي سيجري في مدينتهم المقدسة".
    جولدي.. "إذن فلنقفل الملف".
    شنشلي.. "وهو يطوي الملف أمامه.. "نعم. إنني أعلن إغلاق ملف هذه العملية اللعينة". ومثله يفعل الباقون.
    تقفز أذهان الشياطين إلى المستقبل. ينظرون إلى صور مكة وهي تحترق وإلى ملايين الحجيج وهم يذوبون تحت وطأة نار الموت.
    يناغشون شبح جلادهم الرابض في السماء ثملا أسكرته أنهار الدم المنتظر, ويقدمون له القرابين حرائق في كل مكان, وهو يملأ عنان السماء ضحكا يعبق برائحة الصديد. والصديد فوق رؤوسهم مطر. والمطر تحت أقدامهم طوفان.
    زرقاء اليمامة تشيح بوجهها عن جحيم ملأ الآفاق. يقع بصرها على إبليس وقد تقدم المشيعين في جنازة أبو قراط. وفي البعيد جنازة أخرى تحمل نعش القسم المذبوح إلى مثواه الأخير. تبكي وهي تطوف بالحرم. أنهار دموعها تروي الأرض. ترطب مرقد الشهيدة, وتقول.. "وداعا يا سلوى. وداعا أيها الجسد الطاهر الذي هرب إلى السماء لأنه ضاق بالكذب في الأرض".
    ... يتبع في الحلقة الرابعة عشرة

    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  5. #15
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الرابعة عشرة
    الفصل السادس
    التاسعة صباحا. الهدوء العابق برائحة الشمس الخريفية تمزِّقُه صرخات المُنَبِّه. حاولَتْ إسكاتَه بحركات يدٍ عشوائية دون أن تلتفتَ إليه. يسقطُ على الأرض مُحتجا على كبت أنفاسه. جفلت من ثورته وانزعجت من تمرُّده. يستمر في الصراخ مُصَمِّما على ألا يلفظَ أنفاسَه الأخيرة إلا بعيدا عن السياط وبعد أداء الرسالة. هربت من لحظات احتضاره الأخيرة مُخفية رأسها تحت الوسادة. "حسن" مستغرق في النوم.
    مع آخر شهقات المنبه المطروح أرضا يمارس حريته في اختيار لحظة سكوته, بدأت تتململ في سريرها. تحركت في أكثر من اتجاه, تستدرج الحياة إلى جسدٍ أنهكته ليلة لم تكن كلياليها, وتلملِمُ بقايا سكينة بعثرَتْها مخاوفُ جاءت من بعيد, على أجنحة حُلُمٍ مسافر يبحث عن ضمير.. فركت وجهها الناعس وعينين تقاومان النوم بصعوبة. ناضلت للتحرر من سيطرة النوم. حاولت أن تبثَّ في جسدها رغبة في النهوض قاومتها حالةٌ من التشلِّي سيطرت عليها في تلك اللحظات مُكبِّلَة محاولاتِها بقيودِ التفكيك, كان قد أسكنها في أضلعها المتعبة سفرٌ ليلي جاءها على غير ميعاد.
    مَدَّت يديها إلى الأعلى. حركت أصابعها المتشابكة, فتناثر صوت قرقعة خفيفة في أرجاء الغرفة. جلست في السرير بتثاقل واضح. دفعت بعضا من الغطاء عن جسدها وهي لا تزال تحاول إحياء نفسها. نظرت إلى حسن المستغرق في النوم. انحنت تداعب شعره وتقبِّلُه, والذهن شارد يراقب شبحا راح يرسمُ للخوف في قلبها حدودَ وطن.
    البراءة والوداعة اجتمعتا بلطف يبعث على الأسى في هذا الطفل الذي كان فيض عذوبة ورقه, رغم أن الحياة حرمته من الكثير, ويبدو أنها تخبىء له أكثر. أربع سنوات حملت بين طياتها مأساةً غلَّفَها الهدوء ودثَّرَتها السكينة. ليس كأيِّ طفل كان. أغنية, بسمة, نسمة وسيلَ دموع. ثمرةُ الحلم المتروك.. "هل أنت يا حسن من كرهت مقدمه الراحلة؟". الزرقاء تقول كلاما غير مفهوم.. "إنه الحلم المسافر يبحث عن بقايا الذَّنب كي يكسرَ به قيده ويفلت من القمقم".
    تحضنه ظمأى إلى فيض البراءة؟؟ "يا حبيبي يا حسن. أنت أملي في هذه الدنيا. لك وبك أحيى. حماك الله من كلِّ سوء. يكفيك ما أنت فيه يا حبيبي. سأموت لو حدث لك مكروه. لا تتركني. لا تعذبني. أرجوك يا حسن". حسن نائم. سعاد تروي الظمأ من نبع براءة لا ينضب, وتذرف الدمع خوفا من زائرِ ليلٍ جاء يهزُّ سعادتها ويقلق راحتها بغير استئذان.. "يا رب لا تُعِدْ ليلةَ الأمس. يا رب احفظه لي. إنه هوائي الذي أتنفسه".
    تُحِسُّ بصداع شديد يفكِّكُ أوصالَ رأسها. التساؤلات ووطأة الأفكار التي غزت مخيلتَّها تمتزج بأشباحٍ من الخوف والقلق تهزأ بها من بعيد. استغربت حالة الاستذكار والتداعي التي سيطرت عليها واستغرقتها في هذا الصباح. المعاني تتداعى أمامها, والخيالات تقفز إلى ذاكرتها من أمكنه ممعنة في البعد. تصابُ بذهولٍ لا يلبث أن ينقشعَ عن اكتئابٍ لملمت شظاياه كتلةَ نارٍ ملتهبةً أسرابُ أشباحٍ توطَّنَت منذ إفاقة الليل, فكرا سلَّم زمامه للفوضى واللاتحديد. سعاد تحسُّ منذ استيقظت بأشياء كثيرة لم يسبق لها أن أحست بمثلها. تضطرم في أعماقها نار لم تتعودها من قبل.
    تذكرت لوحةً ألم بلا معالم, الألوان فيها سكبٌ مضطرب من حبيبات خوف أهلَّ بعد غياب. كيف كان حسن يهتز وينتفض ويرتعش في فراشه تحت تأثير نوبة الصرع المفاجئة. وكيف كانت أسنانه تصطك باعثه في جسدها رعشة رعب اخترقتها سهاما تمزِّق أوصالَها. كيف تشنَّجَ جسده والساق المشلولة حطامٌ غائب. كيف جحظت عينان لم تريا النور منذ جاء إلى هذه الحياة. السائل الأبيض وهو يتدفَّق من فمه. كيف يحاول الصراخ لكنه لا يقوى على ذلك, فيخرج صوته مكتوما كأنه يختنق. تذكرت يديه المقبوضتين وذراعين كالخيزران. عنقُه الذي راح يلتوي رغما عنه مستغيثا بأوجاع لم تسمعها, لكنها أحستها.
    تحضنه وتبكي والنفس مكبوت. تمسح دموعا سكبها خوف على حسن اجتاحها مع اهتزاز الستائر على إيقاع هبات هواء خريفية صفراء. تتسلل إليها رهبة بدا أنها تزحف نحو ضلوعها المرهفة باعثة عن سكن دائم.
    دقائق طويلة بطعم الحنظل قضتها سعاد متنقلة بين مشاهد الليل المخيف الذي جاء على حين غِرَّة يذكِّر من نسوا بأن لعنة الحلم المذبوح تلاحِقُهم. عطرُ البراءة يفوح في أرجاء الغرفة ابتسامة ثغر تمتطي حلما. والصدر منك يا سعاد زنزانة قضبانها الضلوع, سيدهمها البوم والناب الأزرق, وتدهمها أذناب السحالي بالخوف والرعب والهلوع. هكذا قالت زرقاء اليمامة عندما حضرت على أجنحة الكروان لتناغش غفوةَ حسن.
    لم تستطع سعاد مواصلة التفكير. انعدم التركيز لديها. إنها تتألم من شدة الصداع. لم تعد تطيق حمل رأسها، فألقته بين يديها, وراحت تحركه في كلِّ اتجاه لتخفيف الوجع. انعدام الوضوح زادها قلقا وتموضعا في الخوف. نظرت إلى حسن. اقتربت منه. رأته يناغش بسحر ثغره الباسم طيفا ملائكيا, تمنت لو تراه كي تستحضره دائما لأجله. تحسَّسَت بعينيها ما تناثر حوله من دفء أنفاس سلوى التي هاتفتها في الليل.
    صورة سلوى التي سكنتها ساعاتٍ طويلةً فأضاءت عتمتها, تدثرها الأسرار ولون الغموض. تغيب وتبتعد إلى أن تتلاشى في البعيد نقطة بيضاء في السواد المطبق. شعرت بها تتشَلَّى وتتناثر في هذا الكون المطلق. تحاول استجماع أشلائها فلا تستطيع. رأتها في كلِّ مكان. كلُّ مكان كان يتغنى باحتضان بعض من أشلاء الطيف الهارب.
    ضاعت صورة سلوى في أعماق الكون. تتركه وراءها موغلة في المكان, موغلة في الزمان. الكون العظيم يصغر يضمحل أمام الطيف اللامتناهي. عقل سعاد يعجز عن اللحاق به. إنه يسير مسرعا نحو المطلق. أرسلت سعاد كلَّ الأطياف ومدَّت كلَّ الهامات لتعيدَ سلوى من حاضرها إلى حاضرهم بلا جدوى. سلوى تنفصل عن كونهم وتلبس ثوب السرمدية. كانت تصيح وتنادي في جوف كون مظلم بارد يردِّدُ صدى صوتها.. "أنا حلمكم يا سعاد. لا تقتلوني كما قتلتم سلوى. حافظوا علي. أن فقدتموني الآن فلن أعود ثانية, لن أعود ثانية, لن أعود ثانية".
    سعاد, عودة إلى وعي مهزوز. حيرةٌ واستفهام وخوف على حسن.. "ماذا تقصدين يا سلوى؟". ألغاز وطلاسم. حسن يبتسم ويحلم.. "ماما.. بابا". تنتبه إليه فيغمرها الحزن. والأمان سراب يلاحقه فزعٌ راح يضرب الجذور في أعماقها البعيدة. تُقَبِّلُه وهو نائم وتهمس.. "هل رأيت ماما يا حسن؟ هل رأيت بابا يا حبيبي؟ حسن يتحرك في السرير. يتقلب. يناغش الطيف باسما ويستمر يحلم.. "أنا الدليل, أنا حسن.. أنا الدليل أنا حسن". تستمع إليه وتُقَطِّبُ الجبين. تحاول أن تفهم.. "ماذا تقول يا حسن؟ ماذا تقول يا حبيبي؟".
    تصمت, وتشرد بذهول في المجهول. تحاور خليطَ الأحاسيس المشوَّشَة, وتنهال على ذهنها المرتبك بسيل أسئلة سوداء. ظفرت منها بالصداع والتيه وقلقٍ يتفاقم. حسن يفتح عينيه وهو مستلق على ظهره, كأنه يحدق في السقف. يستكمل مناغشة الطيف. يحسُّ بها إلى جواره. يحرك إحدى يديه بحثا عنها. يمسك بها ويلتفت نحوها مُحَدِّقا في الطيف. عينان سوداوان واسعتان جميلتان بريئتان, والظلام يُخَيِّم.. "ماما سعاد, أين أنت؟".
    "أنا بجانبك يا حبيبي. أنا بجانبك دائما". يتشبث بها. يتحرك معظم جسده نحوها ما عدا الساق المشلولة وظلمة العينين.. "صباح الخير يا حسن. صباح الخير يا حبيبي".
    "صباح الخير ماما سعاد". يصمت. تحضنه. تقبله. تداعبه بحنان دافق.. "رأيت ماما سلوى. كانت هنا معنا في الغرفة. لكنها كانت خائفة وتبكي. لماذا ماما سعاد؟ لماذا كانت تبكي؟ أين ذهبت؟ هل رأيتِها؟ أريد أن أعرف لماذا كانت تبكي؟". تضمه إليها بشدة فيكف عن الكلام. أرادته أن يسكت كي لا يسترسل في استحضار الآلام, وسافرت هي إلى موطن تلك الآلام كي تطمئن عليه منها, وتحول دون مجيئها لتنغِّصَ حياتها وحياتَه. لكنها كانت مشتتة الذهن هذا الصباح. لم تظفر بلحظة صفاء تمتطي صهوتَها, كي تكتشف سرَّ احتقان الصور والخيالات والأحداث بهذه الطريقة المحتشدة والغريبة, في لحظة امتدت كي لا تنوء بالثقل, أزمانا ودهورا تلاحقُها الزرقاء منذ أفاقت على ضحكة قلب جولدي الفاجرة بلا فائدة.
    في غرفة صغيرة اشتملت على كلِّ ما يلزم الطفل المدلل المعتنى به من ألعاب, وخُصِّصَت وأُعِدَّت لراحته ولَعبه ونومه, كان حسن يجلس فوق السرير, وقد ثنى ساقه السليمة ومد ساقه المشلولة المحاطة والمغطاة بصفائح معدنية طبية تساعده على الحدِّ والتخفيف من صعوبة الحركة. بدا غارقا في دوامة اللعب. ينتقل من لعبة إلى أخرى وهو جالس مكانه لا يتحرك, أو بعد أن يتحرك حركة خفيفة بمساعدة يديه.
    كان حسن يعتمد في لعبه على كفيه وأذنيه ويستمع. ألعابٌ صوتية كثيرة ومتنوعة تملأ الغرفة.. مسدسات رشاشات, عربات, طائرات, ألعاب موسيقية وأخرى تُصْدِرُ أصواتا وفرقعات مختلفة الإيقاعات, كانت تغمره بالسعادة, تعوِّضُه عن نور عينيه. إلى جانب الألعاب الصوتية تناثرت ألعاب تتشكل باليدين تجعله يندمج في عالم خاص, يفيض بمتعة بريئة, قوامها الخيال القابع في زوايا من دماغه أظلمت. الخيال الواسع الذي كان وراء أسئلته الغريبة وتصرفاته الأكثر غرابة.
    في الغالب كانت خالته تراقبه وهو يلعب, كي تتأكد من أنه يستمتع بألعابه كالأطفال الآخرين, وتطمئن عندما تراه وتشاهده. فحسن لم يكن يستمتع بألعابه فقط, بل هو كان يعيش بينها ومن خلالها ومعها حياة خاصة لا يفهمها غيره, بناها خياله المُقَيَّد. تظهر على وجهه وانفعالاته وحركاته اهتماما وسعادة مختلفين عما يُعهَد في الأطفال من سنِّه عادة. ومع أن عيني سعاد كانتا تفيضان بالدموع وهي تراقبه, إلا أنها لاحظت مع مرور الأيام ذكاء ونباهة غير عاديين في تعاملِ حسن مع أشيائه ومع نفسه, بل ومع من حوله وما حوله. وهذا ما أكده لها الأطباء الذين كانوا يتولون علاجه والإشراف عليه إذا ألمَّ به مرض ما, وغير الأطباء ممن كانوا يرونه وهو يلعب, ويسمعونه وهو يتحدث ويسأل. لقد كان محبوبا, يبعث في قلب من يراه إحساسا عصيا على التفسير والفهم, لا يمكن الشعور به مع أيِّ طفل آخر. إحساسٌ تختلط فيه معاني التعاطف مع التأثر, وتتداخل فيه مسحةُ الحنان مع رغبة الاستحواذ, وتتعانق فيه مظاهر الحزن مع إشراقات الأمل المجبول بالإعجاب والانبهار. إحساس تجتاحه أعاصير من الحيرة والتساؤل المستسلم لقدر حكيم لا يناقش.
    إن اعتماد تسلية وملاعبة حسن على الصوت بالدرجة الأولى, جعله يحب الموسيقى والغناء, ويستمتع بهما رغم صغر سنه. لقد لفت انتباهَ خالتِه وجدَّيه, إصغاؤه الشديد المتفحِّص إلى بعض المعزوفات والأغنيات, وهزُّه لجسده على إيقاعاتها بتوافق وتناغم غريبين لا يتناسبان مع قدرات طفل في سنه, فكيف مع قدرات طفل في مثل إعاقته. أما اعتماده في جانب أخر من متعته وتسليته على اللمس فقد كان له شديد الأثر في تولُّد ملكة البناء والتشكيل لديه ونموها إلى درجة أنه شيَّدَ لنفسه عالما خاصا من الأشكال التي راح يصنعها من العجين في تناسق مبهر لا يمكن لمسه حتى عند المبصرين.
    حسن هادىء بصورة ملفتة. كثير السكوت. قليل الانفعالات وقليل الحركة أيضا, وربما كان ذلك بسبب الشَّلَل في ساقه اليمنى. يحب أن يعتمد على نفسه في معظم الأعمال. ذكي فطن, سريع الاستيعاب والفهم لما يدور حوله ولما يقال له. ذو ذاكرة قوية, فهو قلما ينسى شيئا قيل له مهما كان. كان يذهلهم عندما يذكرُهم بأقوال وكلمات وعبارات نطقوا بها عندما يرى مناسبة لذلك, فيما كانوا هم قد دفنوها في مناسي الذاكرة. يتكلم بطلاقة وبمخارج صوتية واضحة. ولعل أكثر ما كان يميزه عن أقرانه كثرة أسئلته وغرابتها إلى درجة أنها كانت تخيفُ سعاد منه وعليه في معظم الأحيان وعند معظم الأسئلة.
    لقد كانت الفاجعة التي أصابت أسرة متولي بوفاة سلوى حافزا قويا لأن يهبوه كلَّ وقتهم وحبهم واهتماماتهم. ازدادت رعايتهم له وعطفهم وحنوهم عليه بعد وفاة والده سعيد في حادث سير في السعودية, وهو لم يكمل السنة الأولى من عمره بعد. اكتشفوا منذ وقت مبكر, منذ الأيام الأولى التي أعقبت ولادته, أن ساقه اليمنى مشلولة. وبعد ذلك بأسبوعين فقط عرفوا أنه أكْمَه. لقد كانت فاجعة كبرى بالنسبة لهم أفقدتهم تماسكا حاولوا استرجاعَه بعد ما فقدوه برحيل سلوى. لكن القدر لم يمهلهم, وبقى الأثر السلبي لهذه الفاجعة الجديدة متمكنا من مشاعرهم لوقت طويل. الأطباء أكدوا لهم أن ذلك راجع إلى تعطُّلِ أجزاءٍ في الدماغ مسؤولة عن البصر وعن حركة الساق، وأن هذا التعطُّل مولودٌ معه, وهو ما يعني أنه خِلقي لا علاج له في العادة.
    عندما كان يخلو كلٌّ منهم إلى نفسه, حتى سعاد التي لم يكن من السهل عليها أن تفهمَ الأمر خارج نطاق العلم المحض, لم يكن ليتحرَّرَ من وطأة إلحاح معادلة مثيرة كانت تفرض نفسها بقوة. هل لدم يهودا ورحم راحيل علاقة بالموضوع؟ هل هي لَعْنَةٌ تلاحقهم بعد ما قرروا أن يتركوا الحلم؟ وهذه اللعنة إلى أين ستصل بهم؟ وإذا كانت هي لعنة الحلم المذبوح, ألم يكفِها أنها ابتلعت سلوى وانتقمت للمغدور؟ ما ذنب هذا الطفل كي يدفعَ ضريبة لعنة يفترض أن تقتصَّ منهم هم بالتحديد؟ لكن هذه المعادلة الغريبة ما تلبث أن تنقشع خيالاتُها ليتحرروا من أثقال الحلم ويعيشوا أثقالا أشد لواقع أعصى على التفسير من الأحلام.
    ومع كل فاجعة كانت تقتحم حياتهم مغلِّفَةً بالحرمان والمأساوية حياة هذا الطفل الملائكي كانوا يزدادون حرصا عليه ورغبة في تعويضه. ولولا إيمانهم العميق بقضاء الله وقدره لوقفوا طويلا أمام السؤال المحيِّر الذي كان يقضُّ مضاجعَ سكينتهم, وهو السؤال الذي ما كان إيمان سعاد ليمنعها من أن تخضع لإلحاحه على ذهنها من حين لآخر.. "لماذا حسن بالذات؟ ولماذا هذا الكمُّ الهائل من الآلام؟ ولماذا هذه الغرابة وهذه الشفافية والرهافة في شخصية هذا الطفل؟". ترى هل هو حقا كما تساءلوا مُطَوّلا أمام صورة الشهيدة وصورة زوجها الفقيد, ثأرُ الحلم المُكَبَّل, بدأ بهروبِ سلوى إلى السماء، ليعبرَ آلام حسن جسرا يوصله إلى نهاية لا يعلمها أحد؟
    سعاد لم تكن ترى أن في حياتها هدفا أسمى وأقدس من حسن. أحبته حبا فاق كلِّ تصور وعجزت عن وصفه كل الكلمات. نذرت نفسها له, وعاشت ناسكة في محراب حبه ورعايته والسهر عليه وعلى راحته. لا شيء غدا يخصها ويهمها ويعنيها أكثر منه. كانت تخشى عليه حتى من حُبِّها له. تدخل البيت عندما تدخله متلهفة عليه سائلة عنه والديها أسئلة تتدفق منها بغير وعي. تنفقُ معظم دخلها على ألعابه وملابسه وعلاجه إن احتاج إلى علاج. تنام معظم لياليها في غرفته وتقضي من وقتها معه أكثر مما تقضيه في عملها ونومها مجتمعين.
    رفضت ثلاثة عروض بالزواج وستبقى ترفض, مادام المتقدمون لخطبتها لا يقبلون حسن وبلا شروط جزءا لا يتجزأ منها. لقد اعتبرت أنها وحسن كيان واحد لا تمكن تجزئته. ولم تكن ترى نفسَها معنيَّةً بأن تشرح أو تفسر لأيٍّ كان سر هذا الوله والارتباط بحسن. لقد أصبح بالنسبة لها وفي حياتها كالهواء. ولا أحد يقبل مناقشة حقه في تنفس الهواء. ولا يوجد إنسان عاقل يطلب يدَ أمرأةٍ مشترطا عليها ترك الهواء الذي تتنفسه في بيت أهلها.
    كانت تنظر إلى من يريد حرمانها من حسن أو عزلها عنه كمن يريدها أن تعيشَ من غير هواء, فهو إذن يريد منها أن تنتحر. لم تكن تتورع عن وصف كلِّ من يحاول فصلها عن حسن تحت أيِّ ذريعة بالمجرم والقاتل والسفاح الذي يحق لها أن تحمي حياتها منه بكلِّ الطرق. رفضت أن تكون علاقتها بحسن محلَّ نقاش من أيِّ نوع. إنها علاقة فوق الانتقاد أو التوجيه أو التحكُّم. إنها بديهية من بديهيات وجودها وحياتها. والعقلاء لا يناقشون بديهياتهم ولا يتحاورون مع أحد بخصوصها. وحسن المكفوف المشلول غارق في هذا الدفء, يعيش في حضن خالته التي أصبح صوتها موسيقاه المحبَّبة إلى قلبه.
    دخلت عليه سعاد الغرفة وهو غارق في اللعب وأصوات ألعابه تغمر المكان. أحسَّ بها كعادته, فحرَّك رأسه باحثا عنها.. "حسن يا حبيبي ألم تتعب من اللعب؟ ألا تريد أن تأكل؟ هيا تعال أغسل يديك لتأكل يا حبيبي".
    "لست جائعا. أريد أن أشرب".
    "تعال معي يا حبيبي إذن لتشرب".
    "اتركيني ألعب يا ماما. أحضري الماء هنا". يحمل لعبته بكلتا يديه ويرفعها كي تراها.. "هذه اللعبة قد أعجبتني, سألعب بها. أريد أن أبقى في الغرفة".
    تقترب منه. تجلس بجانبه. تداعب شعره وتقبله.. "حسن يا حبيبي انتهى الآن وقت اللعب. تعال مع ماما سعاد كي تأكل وتشرب. سنذهب إلى الطبيب اليوم. ثم سآخذك إلى مدينة الألعاب. ما رأيك؟".
    يترك اللعبة من يده, ويلقي بنفسه في حضنها بعذوبة.. "أريد أن أذهب إلى مدينة الألعاب. خذيني الآن يا ماما سعاد".
    "لا يا حبيبي. الآن لا. سنتناول الإفطار أولا ثم نذهب إلى الطبيب, وبعد ذلك آخذك إلى حيث تريد".
    متولي وسكينة يجلسان على مائدة الإفطار ينتظران حضور سعاد وحسن. بدت عليهما ملامح شيخوخةٍ مُتْعَبَة زادها الحزن انكسارا, وفاقمت الآلام وقعها عليهما. متولي يرشف رشفه شاي.. "كنت أفكر في أن أذهب لأداء فريضة الحج هذه السنة يا سكينة ما رأيك؟".
    "أتمنى ذلك يا متولي. أريد أن أزور قبر سلوى وأقرأ الفاتحة على روحها هناك".
    "هل أعتبر ذلك موافقة منك وأبدأ بالترتيب للسفر؟".
    "طبعا أنا موافقة. سعاد تستطيع الحصول على أسبوعين أو ثلاثة أسابيع إجازة من عملها كي تبقى بجانب حسن طول الوقت خلال غيابنا".
    يهزُّ رأسه بحسرة وألم.. "آخ يا سكينة. الولد أمه ماتت وهي تلده. وأبوه مات في حادث سير قبل أن يتعرف عليه, وهو فوق هذا وذاك مبتلى بما ترين. لكن الله عوَّضَه عن كل هذه الخسائر بسعاد. إنها لا تستطيع أن تعيش لحظة واحدة بعيدة عنه. إنها أمه الجديدة يا سكينة".
    "إنها أكثر من ذلك يا متولي. إن العلاقة التي تربط بينهما أكثر من علاقة أم بولدها. الحمد الله على ذلك. لقد كبرنا, وكان بحاجة لأن يعوضه الله عما أصابه بعلاقة وبحب من هذا النوع".
    "إنها تمثل له محيط حياته بالكامل. كلٌّ منهما هواء الآخر وطعامه وشرابه. الله يرحمك يا سلوى. الله يرحمك يا سعيد. الله يرحمكما".
    الأربعة يجلسون حول مائدة الإفطار. سعاد بجانب حسن الذي جلس على كرسي مرتفع كي يتمكن من تناول طعامه عن المائدة. تضع قطعا صغيرة من الجبن في طبقه وتناوله الشوكة. يحاول استخدامَها رافضا المساعدة. يستمر في المحاولة باحثا عن قطعة جبنٍ يلتقطها. يبتسم سعيدا عندما يظفر بها. يرفعها نحو فمه دون أن يحرك رأسه. كأنه يحدق بعينيه الغائبتين في شيء ما لفت انتباهه. كانت هذه طبيعته أثناء تناول الطعام. يُثَبِّتُ رأسَه تماما ويتحرك بيده نحو فمه. لا يُشْرِكُ رأسَه في البحث عن يده. يده وحدها كانت تقوم بمهمة البحث والتوصيل.
    كانت ملابسه تتسخ أحيانا بسبب هذه الطبيعة إذا كان يتناول حساء. لكنه عندما فهم من سعاد ما يحدث أصبح يحرك يده بحذر وهدوء كي لا ينسكب أيُّ شيء من الملعقة فوق ثيابه. لكنه أبدا لم يفكر في أن يحني رأسه أو في أن يقربه من الملعقة أو من الطبق. حاول الجميع أن يفهموا سرَّ هذه الظاهرة الغريبة, وطلبوا منه مرارا أن يُغَيِّرَها وأن يقرب رأسه من يده لأن هذا أفضل وأسهل, لكنه رفض ولم يستجب. وهو دون أن يعرف السبب كان يصر دوما على الاستسلام لطبعه, وعلى إهمال ملاحظتهم وعدم الاكتراث بها, إلى أن استسلموا هم, وغدا الأمر عاديا بالنسبة لهم, مع مرور الأيام, خاصة عندما أصبح يسيطر على الملعقة جيدا ويتحكَّم فيها دون أن يفقدَ توازن يده أثناء رفعها نحو فمه.
    في خلواتهم البعيدة عنه, وعندما كانوا يحاولون تفسير سرِّ هذه الظاهرة الغريبة التي شغلتهم فعلا ولفترة طويلة, قبل أن يستقرَّ قبولها والتعامل معها باعتبارها جزءا من صفات حسن, كانت تخطر على بالهم العديد من الأفكار والآراء حولها, ما تلبث أن تدخل دائرة اللااكتراث نظرا لعدم أخذهم إياها مأخذ الجد. مرة قالوا أن ذلك مظهر من مظاهر الإحساس المُبَكِّر بالشموخ, ومرة قالوا أن الله يلهمه منذ صغره أن يتعلم عدم الانحناء أمام أيِّ شيء ولا حتى أمام ضرورات حياته. ولم يفت سعاد المولهة به أن تشير إلى شبحِ اعتقاد سكنها بأن ذلك سمو, وأن كلَّ شيء يجب أن يرتفع باتجاه حسن, لأنه عالي النفس, سامي الأحاسيس, وسيكون كذلك طوال حياته. لكن زرقاء اليمامة كان لها رأي أخر لم تشأ أن تفصح عنه قبل أن تتأكد. ما تزال تمتطي أجنحةَ الكروان وتبحث عن حلمٍ كسرَ القيد وانطلق من قمقمه. إنها تحاول. تحاول فقط أن تمنع الزلزال, مع أنها موقنة أن حرائق الشياطين كثيرة. واحدٌ أيقظها. أما الثاني فتحرص على أن لا تعود إلى مرقدها قبل منع وقوعه. فهل تستطيع؟ ما أطيبك يا زرقاء.
    سعاد.. "كل يا حبيبي. كل يا حسن. كل كي تكبرَ وتصبح رجلا مثل بابا".
    حسن وهو منشغل بملاحقة قطعِ الجبن الصغيرة في الطبق, وبعد لحظة صمت تفحَّص خلالها قول خالته.. "وأنا عندما أكبر يا ماما سعاد. هل سأموت مثل بابا؟ أم سأعيش مثل جدي؟".
    فزعٌ هز سعاد. تتوقف عن تناول الطعام وتقترب منه. تضمه كأمٍّ تحمي طفلها من خطر يهدده. وبصوت خائف مذعور قالت.. "لا يا حبيبي. أنت ستكبر وتصبح رجلا وتعيش مثل جدك".
    "هل أنت متأكدة؟".
    "طبعا إن شاء الله يا حبيبي".
    "ولماذا أنت نتأكدة؟ لقد مات بابا قبل أن يصبح مثل جدي. سيحدث لي مثله".
    "لا يا حبيبي سيرعاك الله. إن الله يحبك وستعيش".
    "وهل كان الله يكره بابا و ماما؟".
    "لا يا حبيبي. لا تفكر في هذه المسائل الآن. أنت صغير. عندما تكبر ستفهم كلَّ شيء".
    "ماما سعاد, ألا يوجد ناس يموتون صغارا وهم مثل سني؟".
    سعاد وهي ما تزال تضمه وقد تفاقم قلقها من حديثه.. "بل يوجد. أما أنت فستعيش".
    "وهل كنت متأكدة أن ماما وبابا سيموتان مثلما أنت متأكدة أنني سأعيش؟".
    بحيرة وارتباكٍ وتردُّدٍ بعد هذا السؤال المحرج والمثير.. "لا يا حبيبي أنا لم أكن متأكدة من ذلك.. ولكن..".
    "لماذا إذن أنت متأكدة من أنني سأعيش؟ هل أخبرك أحد بذلك؟ قولي لي يا ماما سعاد. من أخبرك؟".
    متولي يظهر انزعاجا من هذا الحديث الباعث على الخوف والتشاؤم. يتبادل النظرات الحزينة المشفقة مع سكينة وسعاد. ثم يقول لحفيده.. "عما تتحدث يا حسن يا حبيبي؟ لا داعي للكلام في هذا الموضوع يا ولدي. إنسى هذا الموضوع. لا تنشغل به الآن يا حبيبي. أنت صغير على هذه الأسئلة". يحاول استثارة طفولة بريئة خرجت عن طورها بالخوض في هذا الحديث الذي بدا غير طفولي على الإطلاق.. "قل لي يا حسن يا حبيبي. ألست مستعجلا للذهاب مع ماما سعاد إلى مدينة الألعاب وحديقة الحيوانات؟ هه.. هيا إسرع في تناول إفطارك كي تذهبا بسرعة ولا تضيعا الوقت. هناك أشياء جميلة وألعاب جديدة سوف تكتشفها اليوم. أليس كذلك يا سعاد؟".
    سعاد.. "نعم يا بابا هذا صحيح. وحسن سيحب هذه الألعاب كثيرا. أليس كذلك يا حبيبي؟ هيا استعجل. لا نريد أن نتأخر. أم أنك غيرت رأيك ولا تريد الذهاب؟".
    بذكاءٍ مَنَعَ معه الجميع من مصادرة حقه في السؤال.. "لم أغير رأيي يا ماما سعاد. أنا أريد الذهاب إلى مدينة الألعاب كي ألعب بالألعاب الجديدة. لكن أريد أولا من جدي أن يجيبني على سؤالي. ألا يوجد ناس يموتون وهم صغار؟ هل يجب أن يكبروا ثم بعد ذلك يموتون؟".
    متولي وقد استبدَّ به القلق.. "ولماذا تريد أن تعرف يا حسن؟".
    يبتسم برقة. يضع الشوكة في الطبق. يتأكد بحركات يديه من أنها لم تسقط أرضا. يقول بتلقائية وعفوية فاجأت الجميع وزلزلت كياناتهم وهزت مشاعرهم واستحضرت مخاوف وآلاما ظهر أنها لن تفارق هذه الأسرة المكلومة.. "لأنني يا جدي أريد أن أموت وأنا صغير, ولا أريد أن أكبر".
    سعاد تعود لتحضنه بكلِّ الخوف والهلع.. "لا يا حبيبي لا تقل هذا الكلام". ثم توجه كلامها إلى أبيها.. "أرجوك يا بابا أن تغيِّر الموضوع. لا أريد أن أسمع هذا الكلام". ثم تعود لتكلم حسن بتوبيخ رقيق.. "حسن, لا تجعلني أغضب منك. هيا يا حبيبي. هيا بنا كي نذهب. لا تسأل أسئلة من هذا النوع".
    "ولكن لماذا لا تريدونني أن أسأل هذه الأسئلة؟".
    "لأنها أسئلة غير جيدة وغير مفيدة, ومزعجة. الأسئلة عن الموت يا حبيبي لا تُسْأَل".
    "وعندما أريد أن أعرف شيئا. ماذا أفعل؟ أريد أن أعرف".
    "لماذا هذا الإصرار؟ لماذا تريد أن تعرف؟ وماذا يحدث لو لم تعرف؟".
    "لقد قلت لكم لأنني أريد أن أموت صغيرا. أنا لا أريد أن أكبر".
    "ولكن لماذا يا حبيبي تفكر بهذه الطريقة؟ ما الذي جرى لك؟ لماذا تريد أن تموت صغيرا؟ لماذا تشغل نفسك بهذه القضية؟".
    في تصميم غريب غير مبالٍ بكلِّ اعتراضاتهم واحتجاجاتهم, مع أن فهمه الطفولي للأمور رغم فطنته لم يسعفه إلى تلمُّسِ وفهم أسباب عدم رغبتهم في الإجابة على سؤاله. ومبررات خوفهم الذي أحسَّه بوضوح.. "هل تعرفين يا ماما سعاد لماذا أريد أن أموت صغيرا قبل أن أكبر؟".
    سعاد تصل إلى حافة البكاء, وسط حالة من عدم القدرة على التعليق لَجَّمَت سكينة ومتولي وكَبَّلَت لسانيهما.. "أرجوك يا حسن لا تقل شيئا. لا أريد أن أسمع منك في هذا الموضوع أيَّ شيء. هيا قم كي نستعد للذهاب إلى الطبيب. هيا".
    لا يتحرك من مكانه. يسترسل في حديثه مصرا على طرح رأيه.. "لأن ماما سلوى ماتت وهي تحب الأطفال. وعندما أموت سأذهب عندها. وإذا مت وأنا كبير ستراني وأنا كبير ولن تراني وأنا صغير. لهذا السبب أريد أن أموت صغيرا. كي ترى ماما سلوى الطفل الصغير الذي تحبه والذي اسمه حسن. لأنها ماتت قبل أن تراه. وأنا أحب ماما سلوى وأحب أن أراها سعيدة".
    تتفلَّت الدموع من عيني سعاد. تحمله وتبعده عن المائدة. تتجه به نحو غرفته. تقول بكلام بدأ يغالب حالة من الاختناق الجاف سيطرت عليها. فيما كان كلٌّ من سكينة ومتولي يتابعان خطواتها وحديثها, بعد أن توقفا مندهشين عن تناول الإفطار.. "لا طبعا يا حبيبي. ماما سلوى تريدك أن تعيش وتكبر وتصبح رجلا. ماما ستحزن ولن تكون سعيدة إذا حصل لك أيُّ شيء. هيا يا حبيبي. هيا إلى غرفتك كي ترتدي ملابسك. لقد تأخرنا".
    على الرغم من أن سعاد وكذلك متولي وسكينة متعودون على الاستماع إلى أسئلة غريبة من حسن. كما أنهم متعودون أيضا على إصراره وعناده عندما يقرر أن يعرف شيئا أو أن ينفذ أمرا. إلا أن ما فاجأهم به في ذلك الصباح من أسئلة كان متضمنا لجرعة غرابة أكبر من المعتاد. لم تصدمهم غرابة الأسئلة ولا العناد والإصرار فقط, فهذا قد أصبح بالنسبة لهم واقعا. إن ما صدمهم حقا, هو طبيعة الأسئلة. الموضوع المخيف الذي طرحه من خلالها. الموت وسلوى وذهابه لإسعادها. كل هذا أقلقهم. فكل شيء في حياة حسن أصبح يثير حساسيتهم. إنهم لفرط ما فجعتهم الحياة بحسن أصبحوا يرون في كلِّ هبة هواء غير عادية استهدافا لحسن, وفي كلِّ خبر مزعج يسمعونه شيئا ما لا يفهمونه له علاقة بحسن. فكيف إذا طرح حسن نفسَه حديثا عن الموت؟ إن المسألة عندئذ تغدو كابوسا مرعبا يجدر بهم أن يحاربوه بكل ما أوتوا من قوة. هكذا كان حسن في حياتهم. وهكذا كانوا يخافون عليه حتى من نفسه وربما من حبهم له.
    ... يتبع في الحلقة الخامسة عشرة



    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  6. #16

    غلاف رواية "الحليب والدم"
    في طبعتها المصرية عام 2001 عن دار الأمين بالقاهرة

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  7. #17
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الخامسة عشرة
    الفصل السادس
    عيادة الدكتور فاروق. واحدة من أهم العيادات المتخصصة في أمراض الجهاز العصبي بالقاهرة. غرفة الفحص. مجموعة كبيرة من الأجهزة والمعدات المتطورة. في وسط الغرفة سرير كان ينام فوقه حسن مستلقيا على ظهره. يلتزم الهدوء وتغلفه السكينة. سعاد تقف إلى جانب الدكتور فاروق الذي انهمك في إجراء فحوصات من أنواع مختلفة لحسن كي يعرف السبب الذي جعله يتعرض لنوبة صرع. يضع في أماكن عديدة من رأسه كوابل متصلة بجهاز متطور لتخطيط الدماغ وينظر إليه بإشفاق وتأثر. يحاول استدراجه إلى الحديث معه ليشعره بالألفة.. "هاه يا حسن! هل تعرف ما الذي أفعله الآن؟ إذا عرفت سأعطيك هدية تعجبك".
    يبتسم ويتظاهر بالتفكير.. "أنك تريد أن تعرف ماذا يوجد في رأسي".
    "هل أنت متأكد؟".
    "نعم أنا متأكد. لكنك لن تعرف".
    باستغراب.. "ولماذا تظن أنني لن أعرف يا حسن؟".
    "لأن الذي يريد معرفة ماذا في رأس إنسان يسأله ليحصل على الإجابة".
    "ولكن هذا الجهاز يقوم بهذه المهمة. إنه يسأل دماغك ودماغك يجيب".
    "ولكني متأكد أن هذا الجهاز لا يستطيع معرفة ماذا يوجد في رأسي".
    "ولماذا أنت متأكد من ذلك يا حسن؟".
    يبتسم. يمط شفتيه برقة وعذوبة كأنه يناغش.. "إن ما في رأسي مكتوب بلغة أخرى غير اللغة التي يفهمها هذا الجهاز".
    بشيء من الجدية بعد أن تبادل نظرات الاندهاش مع سعاد.. "وأنت يا حسن كيف عرفت أن ما في رأسك مكتوب بلغة أخرى لا يفهمها هذا الجهاز؟".
    بلهجة احتجاج.. "الله يا دكتور! إنه رأسي وكل إنسان أدرى برأسه. إن رأس كلِّ إنسان فيه أحلام يحملها هذا الإنسان. ورأسي فيها أحلامي أنا. أنا وحدي. إذن يجب أن أعرف بأيِّ لغة هي مكتوبة".
    "وبأي لغة مكتوبة يا حسن؟".
    تعتري وجه حسن مسحة تفكير. ويبدأ بالحديث وهو يحرك يديه.. "بلغة. بلغة.. الله. لا أعرف يا دكتور. جدي هو الذي يعرف أكثر مني".
    "ما دخل جدك بالموضوع؟".
    "أنا أعرف ما قاله جدي".
    "وماذا قال جدك؟".
    "رأيته في الحلم وأنا نائم يقول لي وكان حزينا, قال لي أن أحلامك جميلة يا حسن. لكنها صعبة, لا يفهمها أحد غيرك".
    "وأنت ماذا قلت له عندما قال لك هذا الكلام؟".
    "قلت له. ولكنك بالتأكيد تفهمها يا جدي. أنت تفهم كلَّ شيء. أليس كذلك؟".
    "وهل رد عليك عندما قلت له ذلك؟".
    "نعم رد علي وقال, إلا أحلامك يا حسن فإنني لا أفهمها".
    "وعندما استيقظت من نومك تحدثت مع جدك عن الحلم؟ وهل سألته لماذا لا يفهمها؟".
    "نعم تحدثت معه وسألته. ولكنه لم يجبني. قال لي أشياء لم أفهمها".
    "وهل اكتفيت بما قاله لك؟".
    "طبعا".
    "ألهذا السبب تعتقد أن الجهاز لن يستطيع أن يعرف ما في رأسك يا حسن؟".
    "ألا يكفي ذلك؟ إذا كان جدي الذي يفهم كلَّ شيء لم يفهم ما في رأسي. هل يستطيع هذا الجهاز أن يفهمها؟ هل تظن أن جهازك هذا أشطر من جدي؟".
    "جدك يا حسن لم يدخل في رأسك. لكن هذا الجهاز سيدخل إلى رأسك".
    "إنه خارج رأسي. لم يدخل. أنا متأكد أنك لن تقول لخالتي الحقيقة. لأن هذا الجهاز لن يقول الحقيقة. رأسي لغز. هكذا قال جدي وهكذا قالت ماما سعاد. اسألها. أليس رأسي لغزا يا ماما سعاد. أخبري الدكتور. قولي له أنه لن يستطيع معرفة ما في رأسي".
    يتوقف الدكتور فاروق عن توجيه الأسئلة إلى حسن بعد هذه المحاورة الغريبة. الصمت يخيم على العيادة. سعاد والدكتور يتبادلان النظرات المستريبة السابحة في بحورٍ لُجِّيَّةٍ من الاندهاش. وسط انهماكه في الفحص واستسلام هادىء من حسن. ظهرت على وجهيهما أثناء تبادل النظرات علامات الذهول والحيرة من كلامه المليء بالأسرار المغلفة ببراءة الطفولة. الدكتور فاروق يتقدم في الفحص قليلا. أراد هدوءا كاملا من حسن وامتناعا عن الحركة. ولأنه لا يمتلك فكرة مسبقة عن طبيعة انفعالاته وظن أنه كبقية الأطفال يكثرُ من الحركة والمشاغبة أثناء الفحص فقد لجأ إلى وضع قطعة قطن صغيرة فيها القليل من المخدر قرب أنفه كي تخفَّ حركته. وراح يواصل فحوصاته وسعاد واقفة ترقبة وتنظر إلى حسن الذي ظهر وقد تأثر بالمخدر واستسلم لحالة من الاسترخاء.
    الدكتور فاروق يغير مكان الأربطة والكوابل ويضعها في أماكن أخرى من رأس حسن. يربط صدره بجهاز غير الجهاز الأول ويسجل قراءته. يضغط على كبسات محددة في جهاز خاص بطباعة مخططات فحوصات قام بها. ينقل السرير الذي ينام فوقه حسن ليضعه تحت جهاز تصوير أشعة عادية, ثم ينقله إلى حيث توجد أجهزة التصوير الطبقي, ثم إلى حيث نوع ثالث من صور الأشعة. وهو كان في كلِّ ذلك يراقب ويسجل ويقرأ ويدقق. بعد الانتهاء من هذه الفحوصات يعيد السرير إلى مكانه ويتوجه إلى مكتبه حاملا حصيلة الفحص, مشيرا بيده إلى سعاد التي سارت خلفه نحو مكتبه, وقد ارتسمت على وجهها معالم قلق وخوف أرادت التحرر منها بسرعة ظهرت في حركاتٍ نزقةٍ غير مقصودة قامت بها وهي تنتظر على عجل ما سيقوله الدكتور فاروق عن حالة حسن.
    الدكتور فاروق باستغراب وهو يتفحص ما بين يديه من صور ومخططات.. "أنا مندهش جدا".
    سعاد بخوف.. "لماذا يا دكتور؟ هل هناك ما يخيف؟".
    هازا رأسه بالنفي.. "لا لم أقصد ذلك. أنا في الواقع مندهش لأن تخطيط الدماغ عند حسن يبين سلامة الجهاز الكهربائي فيه. الدورة الكهربائية ليس فيها أيُّ اختلال. وهذا لا يظهر عند الأطفال الذين يصابون بنوبات صرع كالتي أصيب بها حسن ليلة أمس".
    الخوف يزداد ويتفاقم.. "وما معنى ذلك يا دكتور؟ هل يمكن أن تكون المسألة أكثر من مجرد كهرباء زائدة في الدماغ؟ هل هناك احتمال لشيء أخر أخطر؟".
    يركز عينيه في تفاصيل المخطط أمامه ويقطِّب الجبين.. "لا أستطيع أن أجزم. المهم أن مالا يظهر في التخطيط وفي صور الأشعة العادية, يظهر في الغالب في الصور الطبقية. وهذا ما سوف نراه بعد قليل عندما تجهز الصور".
    يقف ويتجه إلى جهاز التصوير الطبقي. يمر بحسن الذي ما يزال مسترخيا أقرب إلى النوم منه إلى الاستيقاظ. يعود وهو يدقق النظر في الصورة التي كان يحملها. سعاد تراقبه بقلق ثم تبادره.. "هاه يا دكتور. هل ظهر شيء مطمئن؟".
    يهز رأسه بالنفي من جديد.. "هذا ما يحيرني فعلا. الصور الطبقية ذاتها لا تظهر أيَّ شيء أو علامة أو حتى مجرد إشارة لها علاقة بالصَّرَع. أمر غريب. ما ذكرته لي من أعراض هو حتما صرع. والسبب الرئيسي بل والوحيد للصرع عند الأطفال, إذا لم يكن خللا محددا في الدماغ, فهو بالضرورة شحنات كهربائية زائدة. وحسن لا يعاني من هذه ولا من تلك. ما الأمر؟ ما الذي يحدث في دماغ حسن؟". يصمت يقطِّب الجبين كأنما تذكر شيئا.
    ينظر إلى حسن.. "غريب هذا الطفل. ما هي القوة السحرية التي أنطقته بأن ما في رأسه لن تفهمه الأجهزة؟".
    "أنت تخيفني يا دكتور".
    محاولا بثَّ الطمأنينة في روحها وتهدئة روعها؟؟ "لا. لا.. لا داعي للقلق والخوف. لا بد أننا سنعرف السبب. وعندما نعرفه سنتمكن من تحديد العلاج المناسب. الحل الوحيد المنطقي أمامنا الآن هو أن نخضع حسن إلى تصوير من نوع أخر. مغناطيسي, فوق صوتي.. يمكننا أن نكتشف عن هذين الطريقين ما لم نكتشفه في التخطيط وما لم يكشفه لنا التصوير الطبقي. سنحاول ذلك. مع أنني مستغرب فعلا مما أراه أمامي. إني بالفعل أسأل نفسي ماذا عسانا نكتشف بهما, مادمنا لم نكتشف بغيرهما أيَّ شيء غير طبيعي في دماغ حسن؟!". ينظر إلى حسن بشرود وحيرة.
    سعاد تقطع عليه شروده وتبادره في رجاء حزين.. "أرجوك يا دكتور افعل المستحيل".
    مبتسما لها.. "لا تقلقي يا آنسة سعاد. هذا واجبي. بالتأكيد سوف نصل إلى نتيجة مرضية ومطمئنة إن شاء الله".
    يعود الدكتور فاروق إلى حيث يوجد حسن, وسعاد تنظر إليه من مكانها. يحرك السرير وحسن ما يزال شبه نائم. ينقله إلى مكان أخر لإجراء فحوصات من نوع جديد. ولما عاد بعد دقائق حاملا صورا كان ينظر إليها بصمت أربكته الحيرة, بادرته سعاد خائفة محاولة التقاط بادرة أمل تطمئنها.. "أني أراك قلقا يا دكتور. هل حالة حسن خطرة إلى هذه الدرجة؟ أرجوك لا تخفي عني شيئا يا دكتور".
    يهز رأسه بعدم المعرفة.. "كل ما فهمته لغاية الآن أن الحالة الكهربائية لدماغ حسن سليمة مائة في المائة. إلا أن الصور التي بين يدي تظهر أمرا غير مفهوم".
    في استفسار المرعوب.. "أمر غير مفهوم؟ مثل ماذا يا دكتور؟".
    يستخدم يديه في الإشارة إلى الصور التي أمامه.. "الصور التي بين يدي تكشف, وهو ما لا أستطيع فهمه, عن وجود جسم معدني غير معروف الهوية وصغير جدا في منطقة حساسة للغاية في دماغ حسن".
    اندهاش. رعب. إنفعال. صرخة خوف. حركات نزقة. مغالبة دموع.. "ما الذي تقوله يا دكتور؟ جسم معدني في دماغ حسن! هل أنت متأكد من سلامة أجهزتك يا دكتور؟".
    ينظر إليها باستغرابٍ شديد مُظهرا قدرا من التَّفَهُّم.. "طبعا يا آنسة سعاد, أكيد سليمة".
    سعاد.. "العفو. أنا لم أقصد أيَّ إساءة. لكنني لا أستطيع تصديق ما أسمعه. ما الذي تقصده بجسم معدني يا دكتور؟ وإذا كان هذا صحيحا. فهل يمكن استئصاله أم لا؟ ومن أين جاء؟ وهل هو سبب الصرع الذي بدأ يعاني منه حسن؟ أرجوك يا دكتور, اشرح لي. وضِّح لي. أنا قلقة جدا". تلقي نظرة وادعة حانية على حسن النائم فوق السرير, وتذرف دمعتين ضاقت بهما الجفون.. "يا حبيبي يا حسن. أربع سنوات فقط. وتمر بحياتك خلالها كلُّ هذه المصائب والبلاوي. لماذا يا رب؟ لماذا حسن؟".
    ينهض من مكانه ويتحدث واقفا.. "الحالة التي بين يدي غريبة جدا. وهي بناء على معلوماتي الطبية التي أحسبها مواكبة لآخر ما تمَّ التوصل إليه في طب الأعصاب في العالم, حالة غير مفهومة". يمط شفتيه ويهز رأسه باستغراب واندهاش. يتجه نحو أحد الأجهزة وهو ما يزال ينظر إلى ما بين يديه من صور.. "جسم معدني في قلب المخ؟ ما معنى هذا؟ أنا لا أفهم شيئا. لابد من فريق طبي كامل ومتخصص للاطلاع على هذه الحالة وتحليلها وفهمها". يصمت قليلا. ينظر إليها وقد اعتراها شرود شاحب جعلها لا تقوى على الوقوف أو الكلام.. "ولكنني وكي أقطع الشك باليقين سوف أعيد تصويره مة ثانية. من يدري؟ ربما هناك حقا مشكلة في الأجهزة. مع أنني متأكد من أن محاولتي ستكون بلا نتيجة. إنه تعلُّق الغريق بقشة فقط".
    "أرجوك أن تفعل ذلك يا دكتور. أرجوك".
    أكثر من ثلاث ساعات أخرى قضاها الدكتور فاروق في فحص وإعادة فحص حسن كي يفهم ويطمئن بلا فائدة. الجسم المعدني مجهول الهوية حقيقة لا مراء فيها, وإن كانت غير قابلة للتفسير على الإطلاق, وفق ما بين يديه من وسائل وتقنيات..
    "أعترف لك الآن يا آنسة سعاد بأنني عاجز عن الفهم". ينظر إلى حسن. سرت في جسده قشعريره وهو يلمح هذا الهدوء الغريب الذي بدأ يخيفه, ويقول بذهن شارد.. "صدقت يا حسن. إن ما في رأسك أكبر من أن تفهمه كلُّ هذه الأجهزة. يا آآه. ما هذا؟ إن حسن ظاهرة غريبة تبعث على الشعور بالارتعاش من الهالة القدسية التي تجلِّلُها". ينظر إلى سعاد المتسمرة في مكانها عاجزة عن أيِّ تعليق.. "إنني بالفعل أحتاج أن أعرض هذه الحالة على فريق طبي كما ذكرت لك".
    بتوتر وارتباك.. "فليكن يا دكتور. فريق طبي لا مانع لدي. متى يمكن لهذا الفريق أن يفحص حسن, كي يشخص حالته ويتعرف على هوية هذا الجسم؟".
    "بعد ثلاثة أيام إن شاء الله, سوف أقوم غدا بعرض هذه الصور والمخططات ونتائج الفحص على مجموعة أطباء متخصصين أثق بكفاءتهم وأناقشهم في حالة حسن قبل القيام بفحصه. ما رأيك في ذلك؟ لو حددنا موعدا للفحص الجماعي بعد ثلاثة أيام. هل يناسبك ذلك؟".
    "طبعا. وإن كنت أفضل أن يتمَّ الفحص بأسرع من ذلك. هل يجب أن يبقى حسن في العيادة يا دكتور؟".
    "لا ضرورة لذلك. بإمكانك إحضاره فقط يوم الفحص. بعد ثلاثة أيام".
    خافت وانتفضت بعد أن تذكرت حالة حسن خلال الليلة الماضية.. "وماذا أفعل لو عاودته نوبة الأمس؟".
    "لا شيء. لن تستطيعي أن تفعلي له شيئا. سأعطيك بعض المسكنات والمهدئات لاعطائها له إذا عادت إليه الحالة. لكن عندما تنتابه النوبة أتركيه حتى تزول عنه وحدها. هذه هي طبيعة الأمر في مثل هذه الحالات. إذا عادت إليه نوبة الصرع, سيحصل له نفس ما حصل بالأمس. وبعد دقيقة أو دقيقتين سيعود إلى طبيعته. يسترخي ويستسلم للنوم. لا داعي للمبالغة في القلق. لكن عليك أن تتشجعي وأن تقوي قلبك كي تتحملي رؤيته وهو على هذه الحالة خلال هاتين الدقيقتين. لا تقلقي يا آنسة سعاد. الله معك. أزمة وستزول إن شاء الله".
    ... يتبع في الحلقة السادسة عشرة




    Like




    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة السادسة عشرة
    الفصل السابع
    هواء الخريف بدأ يتحرر من رائحة العتمة. تداعبه أشعة الشمس المنبعثة باكية من أفق حزين. تُعِدُّه ليكون جافا, خانقا, مؤرقا, مثل أكوام الذكريات المُغْبَرَّة, تستحضرها آلامٌ راحت تُثْقِلُ البراءة. ريحٌ صحراوية مشؤومة تغمر السماء, وقرن الشيطان الملطخ بالدم هناك, راية وصفير موت. القطط المتسكعة باحثة مع كلِّ شروق عن لحظة مواء سعيدة, تفرُّ مذعورة من أعاصير الشر الزاحف من محرقة تنضح بالنتن. والمزابل قمامة بشرية ترهلت أحاسيسها فروج مومسات.
    الاكتئاب حتى لدى القطط, مدت خيوطَه أصداءُ معاول راحت تحفر لربهم على الأرض مداس نعل شائك, سيعتصر الحياة نخبَ كراهية. سكان الطرق وحواف الأزقة يفزعون وما تعودوا. يزيحون عن أجسادهم المنكمشة هلعى وخم الظلام وأدران العرق الأسود. يعيدون بناء هياكل عظمية صدَّعتها محاولاتُ نوم يائسة تتكرر مع كلِّ ظلام يلف أرواحهم بوخز الأحلام المُكَبَّلَة. يستنهض في أجسادهم همةً وعزيمة رحلت منذ رحلت سلوى.
    الفجر الأرجواني يراقص خيالاتِ نجومٍ هاربة من هول ما ترى على الأرض, ويطرد كوابيس الليل التي حاصرت سعاد ساعات طويلة. تقاوم في ذلك الصباح الجاف, يلفظه رحم ليل أكثر جفافا. تختلط في أعماقها آثار باهتة للذة نشوة صباحية اعتادت عليها قبل غزو سيل الذكريات, بأحاسيس مثقلة بكَدَر القلق. تنتفض في فراشها. تستعد ليوم حافل بالمفاجآت.
    البراءة حسن, والرقة حسن, والعذاب وكلُّ الآلام حسن. زرقاء اليمامة تجوب البلدان والأمصار, تلاحق الحلم قبل أن يغرزَ سيفَ الثأر في أزهار النرجس والياسمين. حسن مستغرق في النوم. لهيب النار قد اقترب, وقرن الشيطان الأسود شرر. معركة في الأفق بين حلمٍ ينازع الموت وآخر يولد من رحم العجلة العمياء, والقادم دليلٌ وبرهان. حسن يتقلَّب في فراشه. وسعاد حضن دافىء.
    تنظر إلى ساعدها المضمد. يؤلمها وتذرف دمعة على حسن. في الليل عندما استسلمت للنوم من شدة التعب وهجمة النعاس, وهي تراقب فيض البراءة. كان الجو خريفيا برائحة أشجار الفِلين وهي تغازل إيقاع العري البريء. راودتها رغبة عارمة في أن تهرب بحسن إلى قمة جبل شتوي في لبنان, تعبق الأكواخ فيه برائحة أخشاب الأرز المبتلة, وتتكسر أعواد الحطب في نيران المواقد الهادئة على أنغام الصمت وصراخ حباتِ الكستناء وهي تتلظى كي تُدَفِّىءَ ليل السامرين. ولكن أين المفر؟ الخوف في صدرها صفير ليل يخترق فراغاتٍ خلت من الأمان.. "غربة من غيرك الدنيا يا حسن". ما سر هذا الحب يا زرقاء؟
    نوبة الصرع جاءت زائرة من جديد, تزرع الخوف في قلبها المرهف, وتنثر لعنة الحلم المتروك. شدَّتها الذاكرة المتعبة إلى رعب الليل. يمسك بساعدها وهو يتلوى. يغرز أظافره في لحمها فيحفرُه. تفيق من نومها متألمة موجوعة. تصرخ وتصيح من شدة الألم, وترى المشهد. خوفها على حسن أفقدها الإحساس بالوجع. تضمه إلى صدرها وهو يتلوى ويتشنج ويبوح بأسراره المكبوتة أصواتا مخنوقة. تبكي وأظافره مغروزة في لحمها كالسكاكين. عينان جاحظتان لبراءة فجعها وخز إبليس. الحليب يتدفق في فمه ودمها ينزف. صراخ وبكاء وحشرجة.
    سُكَيَْة ومتولي حضرا مذعورين على صوتها. رأوها تحضنه وتصرخ وتبكي ويدها تنزف والأظافر الرقيقة تنهش منها اللحم. لكنها لا تحس بذلك. أمها تصرخ وتشير إلى ساعدها. تنظر. تجفل من رؤية الدم الذي اختلط بحليب تدفق من جوف حسن. تبكي بمرارة.. "حسن. يا حبيبي يا حسن. لو كان دمي ينقذك خذه كله. لكن إبق حيا وعد كما كنت".
    حسن لا يزال تحت تأثير نوبة الصرع الشديدة. ارتجاف واضطراب. أسنان تصطك وصراخ مكتوم. ارتعاشٌ وتشنُّجٌ في كافة مناطق الجسد. انتصاب كعود الخيزران, ودم سعاد ينزف. أمها تحاول تخليص ذراعيها منه لكنها لا تستطيع. بعد ثلاث دقائق ليست في حساب سعاد من الزمن, حسن يهدأ ويعود إلى حالته الطبيعية. يسترخي ويستسلم للنوم وقد تبللت ثيابه بالزبد الأبيض. الحليب والدم يتعانقان. سكينة مرتبكة لا تدري ما الذي يجب أن تفعله, وسعاد تسقط أرضا مغشيا عليها. الزرقاء لم تكن هناك كي ترى بعينيها المسالميتن المشاهد الأولى من شريط الثأر, خنجرٌ غرزه الحلم المتروك في قلب الياسمين. كانت في البعيد تلاحق الحلم, تبحث عنه. والحلم فارس ثائر غاضب. يكرُّ كفرسان البوادي ويفِر.
    التداعي يعود ليستغرق سعاد في ذلك الصباح.. "سلوى بعد العملية عاشت أسوأ أيام حياتها إلى أن توفاها الله في مكة, مُخَلِّفَة ثمرة كرهت أن تراها فرحلت. حالتها كانت تزداد سوءا كلما طال عمر يهودا وراحيل في داخلها". سعاد تسافر على أجنحة الخوف باحثة عن بصيص نور وتتذكَّر.. "كلما طالت مدة حبس الحلم وتكبيله في زنازين الوهم. كان طيف العجوز الخرف يدهم سكينتها.. الخاسر هو الذي يتنازل عن حلمه قبل خصمه. الأحلام المتكافئة حصن وأمان. لا تتركوا حلمكم قبل أن يتركوه. أن تركتموه سيثأر, والثأر بشع تحقنه أحقاد الحلم الباقي بالحرائق". تفكر. تحاول الفهم. صداع يستعيد طيفَ الشهيدة.. "هل كان إحساس سلوى الغريب طليعة مسيرة الثأر؟ لقد بدأ وخزا يجتاحها, وانتهى بها حطاما لا تقوى معه على التماسك. ما الذي يجري لحسن؟ هل هي خطواتُ قدرٍ في مسيرة الثأر الذي تحدث عنه متولي؟".
    منذ تلك الليلة المشروخة التي جاء فيها ذلك الزائر البشع وحالة حسن تزداد سوءا. كلُّ نوبةِ صرعٍ أشد من سابقتها. اقتراب الليل كان يعني لسعاد اقتراب المحنة. الأسبوع الذي سبق صدور التقرير الطبي لفريقٍ كاملٍ فحص حسن, كان أثقل عليها من كل ما عرفته في حياتها من آلام وأوجاع. لم تنفع كلُّ المسكنات والمهدئات لحماية حسن من هذا الزائر المرعب.
    الدقيقة أصبحت دقيقتان, والدقيقتان غدتا ثلاثة. وعندما جاء موعد موافاة الدكتور فاروق لمعرفة نتيجة الفحص الجماعي, كان الزلزال قد استوطن حسن خمس دقائق كاملة. صرعٌ لم يسبق له مثيل. هل هو الحلم المُكَبَّلُ يكسر القيود, ويحطِّم جدران زنزانته؟ هل هو ذاك يا زرقاء؟ هل هو يريد أن ينطلق من جديد باحثا عن مسكنٍ في خيالات المخدوعين, كي يعودوا يحلمون؟ زرقاء اليمامة لا تجيب. لكنها تذرف الدمع على حسن. وتنظر في الأفق البعيد, وتهتز لهول ما ترى.
    الدكتور فاروق ينظر إلى التقرير الموضوع أمامه فوق طاولة المكتب. يهز رأسه ويقول.. "آنسة سعاد لا أستطيع أن أخفي عليك الحقيقة المرة. نحن أمام حالة يصادفها الطب لأول مرة في تاريخه. وأنا أريدك أن تتعاملي معها بشجاعة. يجب أن نتعاون جميعا على حلِّها. نحن بالفعل أمام معضلة".
    منكمشة, مستسلمة, خائفة. سعاد.. "وهل اتضحت لكم أبعاد هذه الحالة الغريبة يا دكتور؟".
    "لا. ليس بعد. الحالة بكاملها لم تتضح من جميع جوانبها. الذي اتضح لنا هو بعض جوانب الحالة فقط. مسائل محددة, مع أنها للأسف لم تفسِّر الحالة, بل زادتها تعقيدا وغموضا".
    "ماذا تقصد؟".
    "سأشرح لك كلَّ شيء. لا تستعجلي".
    "أن كلامك يخيفني ويرعبني".
    "في الواقع وكي لا أخفي عليك. الأمر فيه ما يخيف".
    "يا رب لطفك بحسن. يا رب لا تفجعني به".
    "أريد أن أثق بشجاعتك كي أعول عليك وأخبرك بالتفاصيل. حسن بحاجة ماسة إليك في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها. أنت بالذات. نظرا لتعلقه بك. إنك الأمان بالنسبة له. يجب أن تتماسكي. يجب أن تكوني أقوى مما أنت عليه الآن. ويجب أن يحسَّ بذلك".
    "أتمنى أن أقدر على ذلك".
    "ليست المسألة أمنيات. بل هي واجب".
    "لا أحد يستطيع أن يفهم علاقتي بحسن. ما قصدته أمنيتي بأن أكون أقوى من أوجاعي التي سببتها لي حالته يا دكتور".
    "على كل حال أنت عاقلة وأحسبك تعرفين كيف تتماسكين أمامه عند الضرورة. إنه يحس بك فلا تجعليه يحس بأنك منهارة. حسن ذكي جدا, وهو في هذه الظروف يحاول أن يفهم ما يدور حوله. إنه يتلمس أحاسيسك وانفعالاتك أنت بالذات، وهو يتأثر سلبا وإيجابا بما يلمسه منك يا سعاد. إجعليه يلمس ما يشعره بالدفء والسكينة كما تعود منك دائما".
    تتذكر آلام حسن, فتبكي وتذرف الدموع, ثم تمسحها بمشقة وتحاول التغلب على مظاهر البكاء. تنظر إلى الدكتور فاروق متصنعة الإراده القوية الشجاعة. وبكلمات أظهرت رغبة في التماسك لم تظفر بها.. "تفضل يا دكتور. أخبرني بكل شيء. أنا في كلِّ الأحوال يجب أن أعرف. أن ما يهمني هو حسن. أنا على استعداد لأن أفعل أيَّ شيء لأجله".
    يحاول التباطؤ في حديثه معها ريثما يجد وسيلة لطيفة لإلقاء ما في جعبته من معلومات عليها.. ثم.. "الفريق الطبي الذي فحص حسن, انكبَّ في الأيام الماضية على تحليل ما توصل إليه من بيانات عن حالته. وها هو تقرير الفريق أمامي".
    "وماذا يقول التقرير يا دكتور؟ أرجوك طمئني".
    "لست أدري كيف أبدأ ولا من أين أبدأ".
    "ابدأ من حيث شئت, ولا تقلق بشأني. ما دمت ستتحدث عن حقائق, فعلي أن أتعامل مع هذه الحقائق".
    "حسن يا سعاد. أرجو فقط أن تركزي معي وتستوعبي ما سوف أقوله".
    "تفضل إنني مصغية إليك. فجِّر القنبلة ولا تخشى شيئا لقد حصَّنْتُ نفسي. لقد أصبحتَ لديَّ مناعة ضد الأمور المفجعة. لقد أصبحت الفجائع كثيرة في حياتي فلم أعد قادرة على العيش بدونها".
    "توصل الأطباء إلى نتيجتين مؤكدتين. الأولى هي أن حالة الصرع الغريبة التي أصابت حسن, والتي راحت تتفاقم يوما بعد يوم, غير ناتجة لا عن كهرباء زائدة في الدماغ, ولا عن أيِّ شكل من أشكال التلف في خلايا المخ ذات العلاقة. الفحوصات كلها أكدت ذلك. لا مجال للشك في هذه النقطة. لقد تأكدنا جميعا من سلامة الدوائر الكهربائية وسلامة المخ التي يحدث الصرع في حالة تلفها عادة". يلاحظ متابعت سعاد باهتمام بدا على وجهها الذي جلَّلَه الحزن. يواصل محاولا قدر ما يستطيعه تخفيف وقع أقواله عليها.. "وهذا بطبيعة الحال مطمئن. ولكن".
    سعاد تستنفر عندما سمعت كلمة "ولكن". يواصل بسرعة كي لا يعطيها فرصة للانفعال قبل إسماعها ما يريد أن تسمعه.. "النتيجة الثانية خلخلت هذا الاطمئنان. إنها أغرب ما في حالة حسن. وهي مع ذلك ما تزال عاجزة عن تفسير نوبات الصرع التي تصيبه بموجب الطب الذي نعرفه. إننا لا نملك في حوزتنا كأطباء أيَّ معلومات طبية بخصوص الحالة التي أمامنا".
    يصمت ليرى ردة فعلها على ما قاله لحد الآن. تبادره بدون تركيز.. "وما هي النتيجة الثانية؟ وما هو الغريب فيها؟ ما هو هذا الذي وقف الطب أمامه عاجزا؟".
    يتردد. يختلط لديه التردد بنوبةٍ من الشك, جعلته يقتنع بينه وبين نفسه أنها لن تصدِّقَه, وأنها ستتعامل مع ما سيقوله بريبة واستهزاء ونزقٍ مختلف عن كل ما سبق وأن أظهرته. لكنه حزم أمره وقرَّرَ أن يلقي على مسامعها القنبلة.. "النتيجة الثانية. نعم. النتيجة الثانية هي.. هي أن هناك بالفعل قطعة معدنية صغيرة على شكل مكعب طول ضِلعه عشر ملليمتر, موجودة في منطقة خطرة وحساسة في دماغ حسن لكنها في منطقة أمكنه أن يتعايش مع وجودها فيه".
    سعاد تفغرُ فاها وتنظر إليه بعينين اتسعتا إلى حدٍّ أخافه. لكنه يتغلب على هذا التأثير المباشر لهذا الانفعال الطبيعي لديها, ويواصل.. "والغريب أن هذه القطعة المعدنية تصدر إشعاعات بصورة مستمرة".
    صمتٌ من قبل الطرفين ثم.. "بالمناسبة يا سعاد هذا هو الجسم المعدني الذي سبق وأن كلمتك عنه فيما مضى. لقد ثبت لنا الآن يقينا أن هذا الجسم هو قطعة معدنية حقيقية, ومُشِعَّة أيضا. ولا شك أن لهذه الإشعاعات التي تصدر عن هذا الجسم تأثير كبير على حسن. لكننا هنا في المستشفيات لا نستطيع معرفة نوع هذا التأثير. لغاية الآن على الأقل. قد تكون هي سبب هذا الصرع. لكنني غير متأكد. وإذا تبين لنا أن ذلك صحيح, فلا شك أننا سنكون أمام كشف طبي يضاف إلى حصيلة ما لدينا بخصوص الصرع".
    يصمت ليعطيها فرصة للتعليق أو لتوجيه الأسئلة. لكنها لفرط ما أصابها من ذهول تعجز عن إبداء أيِّ رأي أو تبني أيِّ موقف بل حتى عن التعليق بأيِّ كلمة. عندما رآها على هذا الحال والشرود القلق يرتسم على وجهها بوادرَ ثورة. خاف من ردة فعلٍ توقعها وقرأها في وجهٍ راح يتشكل ويتلون منبئا بأيِّ شيء ما عدا الاستسلام والقبول. فضَّلَ مواصلة الشرح والحديث, ربما يساعده ذلك على خلق فسحة في الوقت تفرِّغُ خلالها جزءا من انفعالاتها داخليا قبل أن تفرِّغَها في الحديث والتعليق بنزقٍ وغضبٍ غير متوقعين.. "اتضح لنا أيضا أن وجود هذا المعدن في تلك المنطقة من الدماغ هو الذي يُرَجَّحُ أن يكون وراء حالة الشلل وفقدان البصر التي يعاني منها حسن منذ ولادته. فهذا المعدن يقع بالضبط في المنطقة البصرية ومنطقة التحكم في حركة الساق اليمنى. يبدو أن وجوده هناك تسبب في تلف الخلايا الدماغية في محيطه, ففقد حسن بصره وأصيبت ساقه اليمنى بالشلل. على كل حال لا نستطيع أن نعرفَ كيف جاء هذا المعدن إلى الدماغ؟ ولا أظن أن أحدا يستطيع أن يعرف. كما أن وسائلنا كأطباء ليس بإمكانها أن تحدِّدَ نوعيته ولا نوعية إشعاعاته ولا أيَّ معلومة متعلقة به".
    عجلة. حزن. هلع. شرود. سعاد تلتقط أول سؤال مرَّ ببركان انفعالاتها قبل أن ينفجرَ وطرحته بهدوء غريب لا يبعث على الاطمئنان.. "من الذي يستطيع أن يعرف كل ذلك أذن؟".
    بتردد كبير هذه المرة جراء يقينه أنه سيفجر لديها كلَّ الانفعالات التي أصبحت على شفا الانطلاق.. "أرجو ألا تستغربي يا آنسة سعاد لو قلت لك أن.. أن هيئة الطاقة الذرية هي الجهة الوحيدة التي بإمكانها أن تعرف كلَّ شيء عن هذا المعدن".
    يبدأ جسدها بالارتعاش. تشير إليه بيد ترتجف.. "هيئة ماذا؟ الطاقة الذرية؟ ما هذا التخريف يا دكتور؟ منذ متى تعالج أمراض الأعصاب في المفاعلات الذرية؟ أم لعلَّ الطب في مصر, قد تطور إلى هذه الدرجة المجنونة؟". انفعالاتُها تزيد. تقف. تتحدث وهي واقفة. سيطرتها على نفسها تخف وتحكمها في أعصابها يتلاشى.. "هذا غير ممكن وغير معقول. أريد أن أسمع شيئا قابلا للتصور, كلاما قابلا للتصديق. لا أريد أن أسمع هلوسات وتخاريف مجانين عجزة. لماذا تريد إقناعي بأن كلَّ هذه البلاوي والمصائب موجودة في رأس حسن؟ لماذا؟ لماذا حسن؟ هاه. لماذا؟".
    يقف محاولا تهدئتها وهي تتحدث وتجوب العيادة ذهابا وإيابا وقد سلمت زمام وعيها للاضطراب واللاتوازن وأعصابها للانفلات. يستدرك بسرعة كي يخفِّفَ من حدة انفعالاتها.. "أنا أقدر ما أنت فيه الآن يا آنسة سعاد. أنا أدرك تماما أن المسألة غاية في الغرابة. لكن هذا هو الواقع.. صدقيني, لست أبالغ. يجب أن تعلمي أن هيئة الطاقة الذرية هي وحدها التي تستطيع أن تحدِّدَ هوية وطبيعة الجسم المعدني المشع الموجود في دماغ حسن. وهذا بالتحديد لأنه جسم مشع. ولأنها هي الجهة الوحيدة التي تمتلك القدرة على معرفة المعادن المشعة من غير المشعة". لحظة صمت تكشف عن أن شيئا لم يتغير في انفعالات سعاد. فيواصل قبل أن تنفجر من جديد.. "ثم بعد ذلك. يعني بعد تحديد هوية هذا الجسم يمكننا أن نعرف ما الذي يحصل في دماغ حسن".
    ترتمي على الكرسي وهي في حالة تقارب الانهيار, مُتَشَلِّيَة الوعي, تخفِّضُ رأسَها وتضعه بين يديها.. "لا. لا أستطيع أن أصدق. ما الذي يجرى يا رب؟ حسن الطفل البرىء الوديع يعاني من كلِّ هذا. لماذا؟ ألا يكفي أنه يتيم الأب والأم؟ ألا يكفي أنه ولد مشلولا ومحروما من نعمة البصر؟ ألا يكفي كلُّ ذلك حتى يفجعه القدر بهذه المأساة الجديدة؟".
    ترفع رأسها. تنظر إلى الطبيب وتسأله بنزق وانفعال.. "ولكن لماذا لم تظهر عليه هذه الأعراض إلا الآن؟ أين كان هذا الجسم من قبل؟ هل ولد معه أم تكوَّن فيما بعد؟ تكوَّن؟! ما هذا؟ وهل الأجسام البشرية تكوِّن وتولد الأجسام المشعة؟". يزداد انفعالها.. " وإذا كان ولد معه فمن أين جاء؟ من أين جاء؟". تحدِّق في وجهه بغضب وتشير إليه بسبابتها وتقول وقد بدأت تخرج عن طور التركيز الذهني.. "لا. هذا أمر لا يصدق. هذا تخريف. أنتم تهلوسون. كلُّ فريقك الطبي يهلوس. أنتم مجانين تريدون فقط تبرير عجزكم عن علاج حسن. نعم هذا هو الصحيح. تريدون تبرير عجزكم". وتبدأ تبكي بمرارة. والدموع منها سيل دافق.
    يتفهم حالتها. يستمر في محاولات تهدئتها.. "يا آنسة سعاد ما أقوله ليس تخريفا ولا هلوسة. إنه الحقيقة. التقرير الذي أمامي يؤكد ذلك. إنه موقّع من أحد عشر طبيبا من خيرة الأخصائيين في أمراض الأعصاب في مصر. اضطروا للتوقيع عليه جميعا, ولم يكتفوا بتوقيعي نيابة عنهم باعتباره تقريرا صادرا عن عيادتي هذه. هل تعرفين لماذا فعلوا ذلك؟ كي تتعامل معه هيئة الطاقة الذرية بجدِّيَّة. ولو لا هذه التواقيع الكثيرة, لظنوا بالتأكيد أننا نخرف ونهلوس مثلما ظننت أنت".
    تمسك التقرير وتقرأ بعد أن بدأت تخلد إلى الهدوء وتسيطر على انفعالاتها منشغلة أثناء القراءة بمسح بقايا الدموع. مع كلِّ كلمة تقرأها كانت تقول بصوت مسموع.. "يا حبيبي يا حسن". تنتهي من القراءة. تضع الأوراق فوق طاولة المكتب. تصمت شاردة الذهن برهة ثم تسأل بصوت مكبوت خنقته نوبة بكاء لم تتحرر من تأثيرها بعد.. "هل معنى هذا أن حسن سيبقى عندكم في العيادة؟".
    "بل سيتم نقله إلى مستشفى خاص أكثر قدرة على العناية به ومتابعته. إن حالة الصرع تتفاقم عنده. يجب ومنذ هذه اللحظة أن يكون تحت أشراف طبي مُكَثَّف. نستطيع أن نخصِّص لك مكانا للبقاء معه إذا شئت".
    "ومتى ستبدأ هيئة الطاقة الذرية بفحصه؟".
    "سأرفع لهم التقرير غدا".
    "وهل سيباشرون فورا؟".
    "أعتقد ذلك. إن الوضع لا يحتمل. من يدري ما الأمر وما مدى خطورته على حسن وعلى غير حسن؟".
    "ماذا تقصد بخطورته على غير حسن؟".
    "لا أقصد شيئا محددا. كل ما أعنيه أن التعامل مع معدن مشع مسألة ليست هينه ولا سهلة. وقد تكون لها ذيول خطيرة ليست لدينا عنها الآن أيُّ فكرة".
    "مع أنني لا أفهمك. لا أجد نفسي قادرة على التحكم في هذا الواقع المرير أو التدخل فيه. أسأل الله أن تكون المسألة بسيطة ومقدور عليها. لم يعد في براءة حسن ولا في طفولته المنكوية مُتَّسَعٌ لفاجعة جديدة. ولم يعد في مقدوري تخيل مأساة جديدة تدخل حياتي وحياته. أظن أنها النهاية لي وله إذا كان الأمر قد فرَّ من آمالنا البيضاء واستوطن دائرة السواد".
    "أتمنى أن تكون المسألة أقل خطورة مما أتوقع".
    تنظر إليه بنزق.. "وهل تتوقع سَيِّئا يا دكتور؟ أرجوك أخبرني ماذا تتوقع؟".
    "لا تخطئي أو تبالغي في فهمي على النحو الذي يرعبك. ليس لدي في واقع الأمر توقع محدد. لكنني لست قادرا على التحرر من سيطرة الاعتقاد بأن هذا الجسم هو سبب هذا الصرع. وأن التعايش مع هذا الصرع غدا مستحيلا عند حسن, فهو يتفاقم. كما أن التخلص من هذا المعدن بالاستئصال مستحيل مع إبقاء حسن على قيد الحياة. إنني أرى حالة صعبة التصور. طفل يضطر لأن يعيش مع جسم مشع ينغِّصُ عليه حياتَه ويتسبب له في آلام تتصاعد يوما بعد يوم. لست أدري. حسن الآن ليس له إلا الله. حتى الطب والعلم استسلما استسلاما كاملا".
    سعاد تبكي.. "يا رب رحمتك. يا رب كفانا مصائب. يا رب أحفظه لي أو خذني قبله".
    مختبر متخصص في مركز أبحاث ذرية. مجموعة كبيرة من الأجهزة والمعدات المتطورة والدقيقة. شاشات عرض وكمبيوترات وأجهزة قياس إشعاعات وتعرُّف على المعادن. تسعة عاملين يلبسون ملابس واقية من الإشعاعات الذرية. في وسط المختبر سرير جهز خصيصا لهذا الغرض الاستثنائي. حسن نائم فوق السرير تحت التخدير الكامل ومعزول بملابس واقية من الإشعاعات.
    من حين لآخر يتمُّ ربطه بجهاز من تلك الأجهزة لقياس شيء ما له علاقة بالجسم المعدني المشع الموجود في دماغه. حركه دائبة ونشطة داخل المختبر. فنيون يعملون وآخرون يراقبون الشاشات. قسمٌ يتابع حسن وقسمٌ منهمك في تسجيل الملاحظات كتابة أو على أجهزة الكمبيوتر. يظهر على إحدى الشاشات مخطط لدماغ حسن ولموقع الجسم المشع فيه. على شاشة أخرى ظهرت صورة لدماغه ولنبضات الإشعاع التي تنطلق منه.
    العاملون في المختبر في هذا الظرف الاستثنائي يتبادلون الأحاديث ويشيرون إلى النتائج والدلائل التي راحت تظهر أمامهم من حين لآخر. الكلُّ خرج من طور الاندهاش إلى طور الرعب. حالة من الخشوع الموشى بالحزن تسيطر على كلِّ من عرف الحقيقة. الزرقاء بكت لما رأت الدم. تصرخ مستغيثة بالحلم أن يرحم, وأن يكف عن طعن الياسمين. لكنه يبكي ويقول.."لست أنا يا زرقاء. إنها الضريبة. كنت حصنا وأمانا لهم فكبلوني قبل الأوان. كبلوني قبل الأوان".
    الدكتور فاروق يمسك بتقرير هيئة الطاقة الذرية, ويقول لسعاد وهو في حالة من الخوف والاندهاش لم تعهدها فيه من قبل.."إن التقرير الذي بين يدي يا آنسة سعاد يشير إلى حالة يمكن وصفها بأنها خرافة أو أسطورة أو أيُّ شيء من هذا القبيل". تنظر إليه ببالغ الحزن مغالبة دموعا أصبح حضورها أمرا عاديا منذ الليلة المشؤومة. تبدو عليها أمارات الاستعجال. الدكتور فاروق يواصل بعد لحظة صمت استعرض خلالها حالتها.." الجسم المعدني الموجود في دماغ حسن هو عبارة عن مادة البلوتونيوم المُغذى التي تستخدم في صناعة القنابل الذرية. وهي مغذاة بطريقة متطورة جدا, تجعل منها قنبلة ذرية موقوتة. وتوقيت انفجارها له علاقة بهذه الإشعاعات التي تنطلق منها".
    تخفِّض رأسَها. تنتصر الدموع على مقاومتها. تتساءل وسط اختناق الكلمات.." يارب هل من الممكن أن يحدث ذلك؟ يا ترى هل هذه معجزة؟ لكننا لسنا في زمن المعجزات. كيف جاء هذا البلوتونيوم إلى دماغه؟ كيف يارب؟ . "تنظر إليه باستسلام.." هل كشفت هيئة الطاقة الذرية كيف وصل هذا الجسم إلى دماغ حسن يا دكتور؟".
    "لا أحد يعرف. إن هناك في التقرير أمورا غير مفهومة. إنها متخصصة جدا. أنا أخبرتك بما تمَّ شرحه لي وبما فهمته. لكن ما نحن متأكدون منه جميعا الآن, أن المسألة بشكلها الحالي أصبحت مسألة أمن قومي، خارج نطاق الصحة والطب. تم تبليغ وزارة الداخلية كي تقوم بدورها بتبليغ القيادة السياسية. نحن يا سعاد أمام قنبلة ذرية موقوتة معرضة للانفجار في أيِّ وقت. هل تعرفين ما معنى هذا؟ إن حسن الآن أصبح يشكل خطرا على حياة ملايين المواطنين يا سعاد". يصمت قليلا. يواصل النظر إلى التقرير. يحاول أن يشرح لها بعض الأمور التي فهمها هو.."التقرير يذكر أيضا أن الانفجار سيحدث حتما بعد انتهاء العمر الافتراضي للبلوتونيوم المُغذى المشع الموجود في دماغ حسن".
    "وما هو العمر الافتراضي؟".
    "العمر الافتراضي كما هو مشروح في التقرير هو المدة الزمنية اللازمة للتوقف عن الإشعاع وحدوث الانفجار المدمر".
    "وهل تحدث التقرير عن المدة. عن توقيت الانفجار".
    "نعم هناك أرقام ومعادلات لم أفهمها. لكن ما قالوه لي أنه لم يبق الكثير من هذا العمر الافتراضي. عدة أسابيع فقط".
    تبكي بحرقة وفزع.."لا إله إلا الله. حكمتك يارب. رحمتك. إرحم حسن يارب وارحمنا جميعا معه يارب".
    "لم تعد المسألة ذات الأهمية الآن هي حالة الصرع التي تصيب حسن والتي نراها تتفاقم يوما بعد يوم. حسن سيتفجر بعد عدة أسابيع محدثا دمارا هائلا. يجب أن تكون السلطة السياسية هي صاحبة القرار. أيُّ قرار. إنه أمن شعب وحياته ومصيره. حسن أصبح تحت أشراف القيادة مباشرة".
    ... يتبع في الحلقة السابعة عشرة
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  8. #18
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الثامنة عشرة
    الفصل الثامن
    رئيس الوزراء ينظر إلى اللواء عبد الحميد ويسأله.."يا حضرة اللواء بصفتك المكلف بمتابعة العملية وبتنفيذ قراراتنا بخصوصها هل لديك تصور أولي حول ما يجب أن نفعله؟".
    بصوت هادئ وحزين.. "مادمت قد كُلِّفْت بهذه العملية, أرجو أن تسمحوا لي باستعراضٍ سريع لما فهمته لغاية الآن. أريد التأكد من أنني فهمت ما تمَّ عرضه بشكله الصحيح, كي أبني عليه بعد ذلك رأيا. فهمت أولا أن هناك فلسفة لرئيس الجمهورية, أظن أننا جميعا في هذا الاجتماع ومن خلفنا الشعب المصري كله بكل تأكيد موافقون عليها. وقد فهمنا هذه الفلسفة جيدا وعرفنا كيف ينظر السيد الرئيس من خلالها إلى هذه المحنة التي ألمت بنا. وفهمت ثانيا أن هناك من حولنا عالما معنيا بالأمر بصورة مباشرة ويجب أن ننسِّقَ معه, مادامت هذه الكارثة تمسُّ أمنَه واستقرارَه بالقدر ذاته الذي تتعلق فيه بأمن مصر واستقرارها. فنحن لسنا نتحدث عن انفجار صاروخ ولا حتى عن كارثة عادية. بل عن انفجار نووي تعادل قوته خمسين ضعف ما حصل في مدينة لا زالت ذكرياتها الأليمة تعيش في الأذهان إلى يومنا هذا..
    .. ولقد فهمت ثالثا, وهو أصعب ما في المحنة على الإطلاق, أن هناك إنسانا, طفلا بريئا اسمه حسن. نحبه كلنا. هو موضوع ومادة هذه الحادثة الرهيبة التي جمعتنا وشغلتنا. وحسن الذي نحبه جميعا هو الآن وكما يراه رئيس الجمهورية صورة أخرى للوطن. هذا يعني أن المحافظة عليه قدر المستطاع يجب أن تكون هدفا بقدر ما أن المحافظة على مصر هي هدف أيضا". ينظر إلى رئيس الوزراء بعد أن صمت لحظة استجمع فيها أفكاره.. "وأنا يا دولة الرئيس يجب أن أرسم محاور خطتي في ضوء هذه النقاط مجتمعة. أما فلسفة الرئيس فقد عرفناها وفهمناها. وأما التنسيق مع العالم فله قنوات معروفة وطرق مفهومة". بشرود حزين.. "إذن لم يبقَ سوى حسن الذي لم نره ولا تحدثنا معه. كي أكمل خطتي يجب أن أتحرك باتجاه حسن. يجب أن أقابل حسن. يجب أن أراه وأقابله وأكلمه قبل أن أتحرك".
    الكل ينظر إليه باندهاش ورئيس الوزراء يُعَلِّق على مطلبه بهدوء.. "وبماذا ستفيدك مقابلة حسن؟ وعما ستتحدث معه؟ إنه طفل صغير عمره أربع سنوات. لا يعرف شيئا مما يدور حوله".
    اللواء عبد الحميد يركز نظره في وجوه الحاضرين بقسمات إصرار قوية.. "لا أعرف عما سأتحدث مع حسن, ولست أدري على وجه التحديد ما الذي يمكن فعله مع طفل مكفوف ومشلول في سِنِّه. لكنني أعرف بلا شك حقيقة واحدة. لا يمكن لأي منكم أن يعارضني فيها".
    رئيس الوزراء باهتمام.. "ما هي يا حضرة اللواء؟".
    "السيد رئيس الجمهورية أكد لنا في رؤيته للمحنة, أن حسن هو مصر بكاملها وليس الطفل المكلوم بهذه الفاجعة فقط. ولا أستطيع التصرف في أمر له علاقة بمصر من غير أن أتحدث مع مصر وأسمع منها. أليس كذلك يا دولة الرئيس؟".
    الكل مندهش ينظر إليه باستغراب ولكن بدون تعليق. فحسن غدا في قلوبهم أكبر من ذواتهم ومن أن يكون موضوع إنسان له علاقة به محل نقاش أو تردد. إنهم يدافعون عن مصر.
    الساعات التي قضاها اللواء عبد الحميد الفيومي مع حسن في غرفته في المستشفى, كشفت له عن حجم المأساة وعن كبر المحنة. بدأت رحلة الساعات الخمس بلحظات خوف وقلق من اقتحام حياة هذا الطفل بشكل قد يدفن الألفة المرجوة في مهدها. ومع انقضاء الدقائق الأولى من مقابلة لم تكن لتخطر له على بال, تعرف اللواء الفيومي على كائن مأساوي, لم يستطع أن يقتنع بأن مأساويته هي فقط ملهاة قدر هازىء. توقف طويلا عند ها التتابع العجيب في الأحداث, وأفزعته نغمة التصاعد المتسارع في كثافة المحنة. كيف يمكن لأمل سلوى المشرق بلون الحب والسلام, العابق بدفق الأمومة والدفء, أن ينتهي إلى كلِّ هذا السواد؟ وكيف يقوم القدر بتحدي كل قواعده ويعيد عصر المعجزات؟ ما الذي يجري في هذا الزمن الموبوء بلواط العقول؟ ألف كيف! وألف لماذا! وألف هل! وألف ألف سؤال, كان جوابها العجز والحيرة والاستسلام.
    فهم قصة وصلته أحداثا تتابعت, يربطها خيط علاقة أحسَّه لا واضح ولا مفهوم. أما قصة الحلم الثائر لكرامته المسحوقة على موائد النسيان, فقد بقيت هناك في البعيد يحضنها صدر الزرقاء وتدثرها منها الجفون في مأمن من أذناب السحالي التي راحت تقرأ سورة "السخرية" على قبر أبوقراط وقبر قَسَمِه المغدور, وتذكر اسم "اللات والعزى" وهي تطوف بقبرٍ آخر ضم رفات سلوى, في انتظار يوم القيامة قبل موعده, ليحرق مكة ويبني هياكل الرب فوق أشلاء المؤمنين, ويكفر بكل الأنبياء, ويجعل الجنة مأوى لكل الشياطين.
    تحدث مع حسن خمس ساعات كاملة. تعرف على سعاد ومتولي وسكينة. بكى مثلما بكوا. رأى الوداعة والبراءة وهي تفيض بالفطنة والذكاء الهادىء المسالم. في عيني حسن المشرقتين تتحديان المحنة والظلام, رأى صحراء مصر وقدم النيل. رأى الأهرامات وأبا الهول وكلَّ التواريخ. وفي الساق المشلولة رأى مدن مصر وهي تنبض بالحياة وتفيض بالعراقة. أحب حسن كما أحب مصر. وأيقن أن العدوان يتجه صوب الخريطة الصفراء الموشاة بالشريان الأخضر. لكنه لم يعرف كيف ولا عرف لماذا هذا اليقين.
    رحلة الساعات الخمس كانت رحلة زمن علمه الكثير, فكتب على أثرها أعظم تقرير. وفي يوم الاجتماع لملم الأفكار وحبس الدموع, فاعتصره الألم وفضحه الحزن, شأن الجميع.. "يا دولة الرئيس سأحاول أن أشرح لكم بنفسي ما كتبته لكم في التقرير الذي بين أيديكم".
    "تفضل يا حضرة اللواء".
    "قابلت حسن وقابلت الدكتور فاروق. قابلت أهل حسن, خالته, جده, جدته, وعرفت عنه كل شيء. لعلكم تعرفون أنه يتيم الوالدين". يتبادلون نظرات لا تدل على شيء محدَّد.. "والدته ماتت أثناء ولادته في مكة بعد أن جاءتها حالة ولادة مبكرة أثناء سعيها بين الصفا والمروة. لقد كانت بدايته غريبة, نهاية لأمه في ظروف استثنائية. والده أيضا مات في حادث سير بعد أقل من سنة من مولده, أيضا في السعودية. وبالتحديد عندما كان يغادر مكة بعد أداء العمرة وزيارة قبر زوجته. غريبة علاقة هذه الأسرة بمكة. يظهر أن القدر أراده بلا أم وبلا أب كي يكون إنسانا مأساويا بمعنى الكلمة". يصمت لحظة يتغلب خلالها على هجمة حزن عابرة انتابته, ثم.. "عرفت من الدكتور فاروق الذي أشرف على علاجه منذ ظهرت لديه نوبة الصرع, أن استئصال الشريحة النووية من جمجمته مع المحافظة على حياته أمر مستحيل. لا مفر من موت حسن".
    رئيس الوزراء ينظر إلى الحاضرين بإندهاش كأنه اكتشف أمرا مهما.. "الاستئصال. نعم الاستئصال. لماذا لم تخطر على بالنا فكرة الاستئصال هذه؟ إننا بهذه الطريقة نحافظ على جثمانه من أجل أهله, ونخفف حدة الدرامية في مسألة موته. ما رأيكم؟".
    اللواء عبد الحميد يعترض بشدة ظهرت في نبرة صوت جفل منها الجميع.. "لا يا دولة الرئيس. لا.". ينظر إليه الرئيس مندهشا, ويهز له رأسه إشارة إلى رغبته في المواصلة وتوضيح وجهة نظره.. "لا يا دولة الرئيس, موت حسن يجب أن يكون دراميا, ودراميا جدا أيضا. أرجوكم جميعا أن تسمعوني إلى النهاية. أريد توضيح فكرتي التي توصلت إليها. فإذا تقبلتم هذه الفكرة ووافقتموني عليها. سأكمل مشوار المسؤولية التي كُلِّفْتُ بها. وإذا رفضتموها فإنني سأتنحى عن متابعة هذا الدور, وابحثوا عندئذ عن غيري للقيام بها, لأنني لا أستطيع القيام بما لست مقتنعا به".
    رئيس الوزراء وقد تأثر بردة فعله, يشير إليه كي يواصل.. "نريد أن نسمعك إلى النهاية يا حضرة اللواء. أكمل فكرتك وكل ما توصلت إليه".
    اللواء عبد الحميد.. "إن حسن سيموت سواء استأصلنا منه القنبلة أم لم نستأصلها. هو إذن ميت في جميع الحالات. هناك إذن طريقتان لموت حسن. خياران. فإما أن يموت تحت التشريح لاستئصال القنبلة. وأما أن يموت بفعل الانفجار. والموت واحد يا دولة الرئيس. أليس كذلك؟". يهز رأسه بالموافقة, وقد ظهرت عليه وعلى الجميع علامات تعجب نظرا لتوقعهم أمورا غريبة سوف تطرح بعد هذه المقدمة المثيرة.
    اللواء عبد الحميد يواصل.. "ومادام هناك خيران لطريقة موت حسن. فالسؤال الذي يفرض نفسه هو. من صاحب الحق في اختيار طريقة موت حسن؟". ينظر إليه الجميع هازين رؤوسهم في تعبير عن وجاهة السؤال.. "من له حق الاختيار؟ السؤال الغريب, المحيِّر, العادل.. من؟ أنا مثلا؟ أنتم يا دولة الرئيس؟ أم السيد رئيس الجمهورية؟ أم أن علينا أن نجري استفتاء شعبيا؟ أم أنه حسن نفسه؟ أم غيره؟ لا توجد لدينا قوانين لتنظيم المعجزات والحكم فيها. وإذن فمن له الحق في ذلك؟". يشير بيده إشارة عبرت عن التأجيل ويقول.. "سوف أضع هذا السؤال جانبا قبل الإجابة عليه وأواصل عرض فكرتي ثم أعود إليه فيما بعد".
    لحظة صمت سادت الجميع. حاول خلالها كلُّ واحد ضبط مسار انفعالاته وهو يتابع من اللواء عبد الحميد ما توقع غرابته.. "النقطة الثانية في فكرتي يا دولة الرئيس, هي أن حسن عندما يموت سيكون بمثابة فدية. فدية عظيمة. لكنه سيفدي من بحياته يا ترى؟ إنه سيفدي شعب مصر بأكمله, بل أكثر من ذلك. إنه سيفدي البشرية كلها بروحه وحياته البريئة الرقيقة. ما معنى هذا؟ معناه أن المَفْدي في خطر وأن الخطر زال لأن هناك من ضحى لأجل أن يزول هذا الخطر. أما إذا لم يعرف المَفْدي أن هناك من فداه وأنقذه من الموت, فإن الفدية تفقد قيمتَها ومعناها".
    ينظر إلى رئيس الوزراء بالتحديد ويشير إليه بإحدى يديه.. "سأفترض يا دولة الرئيس أنك كنت تغادر بيتك. وفجأة وبينما وأنت في الشارع سمعت صوت انفجار وراءك. ولما التفت وجدت شخصا مقتولا على الأرض بفعل انفجار قنبلة. ما الذي سيحدث؟ ستتعاطف مع القتيل وسوف تلعن المجرمين. لكنك لن تتعامل مع هذا القتيل ولن تحس تجاهه بإحساس المفدي تجاه من فداه, إلا في حالة واحدة". ينظر بصمت إلى رئيس الوزراء الذي كان مطرقا وحزينا وقد بدأ يستوعب الفكرة. ثم يواصل.. "نعم. إنك لن تحس بذلك يا دولة الرئيس إلا في حالة واحدة فقط. أي عندما تعرف أن الرجل القتيل فداك بحياته. مات لأجلك. قضى كي تعيش أنت. فعل ذلك إنقاذا لك من موت محقق..
    .. دعونا الآن نسقط هذا التحليل على حالة حسن. حسن سيفدي مصر على الأقل. فهل يعقل يا دولة الرئيس أن تكون لفدية حسن أيُّ معاني, إذا لم يعرف المفدي الذي هو الشعب المصري, أن حسن فداه هذا الفداء العظيم؟ بالتأكيد لا. لا معنى للفدية عندئذ.. وفي هذا الخصوص أود أن أضيف نقطة أخيرة. تعرفون أن الأشياء بأضدادها تُعرف. إذن فلن يشعر الشعب المصري ولن يشعر العالم معه بالراحة والسعادة الناتجتين عن التخلص من هذه القنبلة الذرية. إذا لم يشعروا جميعا بالخوف والرعب الناتجين في الأساس عن العلم بالكارثة وترقبها..
    .. كل هذا يا دولة الرئيس أوصلني إلى النتائج التالية". يستخدم يديه في إشارات قوية التعبير.. "أولا. حسن أولا ثم أهل حسن ثانيا هم وحدهم أصحاب الحق في اختيار الطريقة التي يفترض أن يموت بواسطتها حسن. ثانيا. الشعب المصري والعالم كله يجب أن يعلموا بالخطر, وبأن حياتهم وسلامتهم مرهونتين بتضحية عظيمة سيقوم بها هذا الطفل البرىء الوديع حسن".
    رئيس الوزراء يحاول تخفيف حدة الانفعالات التي بدأت تسيطر على الجميع.. لكن يا حضرة اللواء كيف تتصور أن بالإمكان عرض موضوع كهذا على حسن, لكي يختار الميتة التي يرغبها؟ ألا ترى معي أن المسألة صعبة من أكثر من وجهه؟".
    "لقد تحدثت مع حسن أكثر من خمس ساعات يا دولة الرئيس. شرحت له كلَّ شيء بطريقة سهلة تناسب مستواه البرىء. حسن عرف أنه سيموت. ربما هو لم يعرف حقيقة أنه سيموت كما نعرفها نحن. ما كان يهمني هو أن يعلم بأن الموت هو فقدان لأعز ما يملك. وهو قد عرف أنه بموته سيغادر هذه الدنيا وسيلحق بأمه وأبيه, وأنه لن يرى بعد موته لا خالته ولا جده ولا جدته الذين هم كلُّ عالمه ومحيطه. لقد عرف كل ذلك. وعرف أنه سيموت خلال أسبوعين فقط..
    .. جعلته يقتنع أو دعوني أقول جعلته يفهم أن الموت بالتضحية لأجل مصر أفضل من الموت بدون تضحية. هل تعرفون ماذا كان جواب حسن ذي السنوات الأربع؟". يصمت. ينظر إليهم وقد انشَدُّوا بأبصارهم وأسماعهم إليه.. "لقد قال لي, كلامك صحيح يا عم عبد الحميد. ماما ماتت وأنا أولد. يعني هي أعطتني حياتي وخسرت هي حياتها. يعني هي ضحت من أجلي. أليس كذلك؟ ولهذا السبب أنا أحبها كثيرا. لأنها ماتت من أجل أن أعيش أنا. أكيد كل مصر ستحبني مثلما أحب أنا ماما. أليس كذلك يا عم عبد الحميد؟".
    يذرفون الدموع متأثرين.. "هذا هو حسن يا دولة الرئيس. أنا لا أزعم أنني ناقشت مفكرا. بل طفلا بريئا وديعا ذكيا بسيطا. ولقد قمت بكل ما في وسعي كي أخفِّفَ إحساسا بالأنانية وتأنيب الضمير الناتجين عن شعورنا بأننا خدعناه ورميناه في البحر دون أن يعرف لماذا". يشير بيده إلى مستشار رئيس الجمهورية.. "لما سمعت حضرة المستشار في الاجتماع الماضي يحدثنا عن فلسفة الرئيس لهذه المحنة. فهمتها بالضبط وتقمصتها وحرصت على تحقيقها, وهذا ما أفعله تحديدا".
    بشيء من الانفعال بدأ يسيطر على نبرة حديثه.. "بما أننا لا نملك التضحية بمليون مواطن مصري تنفجر فيهم القنبلة لإنقاذ حسن, بسبب أن إنقاذ حسن مستحيل. فقد كان من الضروري إذن أن يحقق موت حسن فلسفة الرئيس وإن يكن في حدها الأدنى الذي نملكه, وهو ما رأيت أنه يتمثل في نقتطين أساسيتين هما اختياره لطريقة موته، وحقه في أن يعلم الجميع بأنه يفديهم بحياته. هذا أقل ما نستطيع تقديمه لحسن ولضمائرنا كي نخفِّفَ عنها عبءَ الألم والتأنيب..
    .. حسن هو مصر. ومصر مصابة بإصابة حسن. حسن هو الصورة الأخرى لمصر. فإذا كان لابد لإحدى الصورتين من أن تموت كي تبقى الصورة الأخرى على قيد الحياة. فلابد للصورة التي ستموت من أن تموت باحتفاء عظيم. بأسطورية تليق بأسطورية مصر العظيمة. ولا شيء يمكنه تحقيق ذلك إلا ما ذكرته لكم. "بانفعال شديد.. "هل تفهموني ماذا أعني؟".
    يهزون رؤوسهم بالإيجاب وهو يواصل.. "حسن عرف أنه سيموت. ولقد اختار أن يموت من أجل مصر, حتى لو كان بإمكانه أن لا يموت. وحسن هو الذي اختار أن يموت بحفاوة. هو فهم الأمر بطريقته الطفولية البريئة. أعجبته الفكرة. أعجبته فكرة أن يموت متفجرا, متشليا. هل تعرفون لماذا؟ لأنه إذا مات ودفن في التراب, فلن يستطيع رؤية الأطفال الذين بموته سيعيشون ويحيون, لأنه سيكون تحت الأرض وهم فوق الأرض. أما إذا مات وانفجر وتطايرت أشلاؤه البريئة الطاهرة في الجو, فسوف يكون سعيدا وهو ينظر من الأعلى إلى كل الأطفال الذين أنقذهم موته, ويراقبهم وهم يلعبون بالطائرات الورقية, ويطيرون الحمام, ويلبسون الملابس البيضاء الجميلة, ويفجرون البلالين والألعاب الصاروخية المنيرة في الجو".
    بكى بحرارة في هذه اللحظات وبكى معه الجميع.. "حسن يا دولة الرئيس. الطفل البرىء الذي لا يعرف شيئا, والذي لا يفهم ماهية الموت المرعبة, اختارت براءته اختيارا أكبر من أيِّ فيلسوف أو مصلح أو زعيم. حسن أثبت أنه في الأعلى وأن علينا أن نصعد إليه. أثبت وهو يداعب دبَّه الأبيض الكبير المصنوع من القطن على سريره في المستشفى دون أن يراه, أنه مثلما قال عنه رئيس الجمهورية, مصر كلها, بكل معانيها. فلا تجعلوا مصر تهون في أعينكم فتموت بطريقة لا تليق بها".
    صمت وتأثر ودموع..
    ... يتبع في الحلقة التاسعة عشرة
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة التاسعة عشرة
    الفصل التاسع
    اليوم التالي,
    العالم مضطرب, ودواليب الأعلام تجتر ألوان كارثة ظهرت في أفقٍ خائفٍ مترقب. حسن يحصل على أدنى حق مقدور عليه, والحق وطن في أعماق الضمائر الحية كان. المؤتمر الصحفي الذي عقده اللواء عبد الحميد نزل كالصاعقة وأحدث الزلزال. أعاصير الخوف تذرو الطمأنينة من القلوب, أتربةً تناثرت حباتُها, تلاحقُ الأمان الهارب, باحثة في كنفه عن سكن للنفس المرتعشة ومأوى. اليوم الموعود غدا يومَ حشدٍ لم يسبق له في التاريخ مثيلا. ومئات الملايين من البشر يتقاذفون الرواية في الأذهان والمحافل والأندية, انفعالاتٌ امتدت بلون الطيف الإنساني, من تندُّرٍ عابث بليد لا مسؤول, فاحت بروائحه الكريهة كتلٌ لحمية تشابهت لديها تجاويف العقول وتجاويف البطون والفروج, إلى دموع خضبت بالحزن والألم كلَّ الأحاسيس الرطبة النَّدِيَّة.
    الأرض تهتز تحت وقع الفاجعة, والمحيطات غضب صاخب. اختفى القمر من ليالي العاشقين, ونَكَّسَت الأشجار أوراقَها. رضابُ الحسناوات مذاقُ ملحٍ والشهد غاب واختفى. تكَسَّرت أجنحة الكروان, والبلابل والشحارير في حداد. أبصر المكفوفون ليروا هول ما سيحدث, والصُّمُّ سمعوا أخبار المعجزة. وكلُّ أبكم في الدنيا نطق ليترنَّم بأغنية ستبقي مابقي الإنسان, "وداعا يا حسن ".. "حسن قنبلة ذرية موقوتة".. "أغرب ظاهرة في التاريخ".. "هل هي معجزة أم أسطورة؟".. "صدقوا أو لا تصدقوا, طفلٌ يحمل الدمار في جمجمتة".. "القربان العظيم حسن".. "جبل الأولمب ينتقل إلي القاهرة".. "حسن الكارثة المتحركة".. "البراءة تفدي الإنسانية".. "كيف, أين, متي ولماذا؟".. "حسن فضَّل أن يموت متفجرا".. " طفلٌ بأمَّة".. "أين سيتم تفجير".......؟".. "أطفال العالم يصلون لله كي ينقذَ حسن".. "حسن نجم الكون الجديد".. "القدر أكبر إرهابي في الوجود" .. ".....".. ".......!".. ".......؟".. "الرب نائمٌ وأقدارُه تعبث بالبشر".. "لعنة الحلم المذبوح تهدِّد العالم".. "كيف ستتعامل مصر مع هذة المحنة؟".. "وداعا يا أبوقراط".. "وداعا يا زرقاء".. "وداعا يا حسن".. آلاف العناوين تناثرت علي صفحات الجرائد والمجلات في كلِّ أرجاء الأرض. مصر محور المحنة, وحسن حضنتة قلوب كل البشر. أجراس الكنائس والأذان, وفي كل المعابد صلوات. وجمع الشيطان على الكره, على القتل, على الحقد التأم. أسكرته رائحة الدم, وانتشى لما رأى دموع الأطفال وقلوب الأمهات تبكي حسن.
    الشنشلي يضحك. يندهش. يسعد.. "يا لغرائب الصدف. يا لحكمة الرب التي لا نفهمها.. رب الجنود لم يكن يلعب. بل كان يرسم لوحة بديعة".
    شيريكوف.. "مستخدما ريشة المرحوم "جولدي" يا سيد شنشلي".
    شنشلي بابتهاج.. "ما أروع ريشتك أيها المرحوم العظيم".
    شيريكوف.. "وما أبدع حكمة الرب وهو يستأثر لنفسه بأسرار اللوحة".
    شنشلي.. "تكون الأم حاملا ولا نعرف. وتموت وهي تلد, وتنتقل إحدى الشريحتين لوليدها الذي سيتفجر بإرادة الرب في المكان الذي أردناه. إن السماء معنا".
    شيريكوف.. "وتبقى الشريحة الثانية في بطنها كي يكون اللون الأحمر في لوحة الرب الخالدة بحجم المسافة بين حضارتهم ودينهم".
    شنشلي.. "إني عاجز عن إعطاء ما نحن فيه ما يليق به من انفعالات الغبطة, فليغفر لي رب الجنود تقصيري".
    شريكوف.. "لقد أثبتت السماء أنها معنا بصورة أكبر من أيِّ توقع. إنها لم ترض بتفجير الشريحتين في القاهرة أو في مكة. استكثرتها على جرذان مدينة واحدة. قسمةٌ عادلة وتوزيعُ الرب مكافأة لنا. يا لبهاء السماء. القاهرة ومكة في وقت واحد. ملايين هنا وملايين هناك. تاريخهم ودينهم أطلالٌ بعد أيام. شكرا للرب. إنه يحقق لشعبه الحلم الذي ما تخلَّوْ عنه يوما".
    جوناثان بلهجة متخوفة تعتريها مسحة من شرود الذهن.. "أليس من الممكن أن تكون الشريحة الثانية قد نزلت مع المشيمة وانتقلت معها حيثما ذهبت؟ وبالتالي أليس من الممكن ألا يقع الانفجار في المكان الذي دفنت فيه المتوفاة؟".
    شنشلي يضحك باستهزاء.. "مهما يكن الأمر. من المؤكد أن الشريحة في أيِّ مكان في العالم إلا هنا تحت أرجلنا. لا توجد أيُّ مبررات لتنتقل من هناك عائدة إلينا. لا توجد معاملات من أيِّ نوع بيننا وبين هؤلاء القوم خاصة في السنوات السابقة. وإذن فحيثما انفجرت فهناك دماء ستراق لنشوة الرب. صحيح أن دماء هؤلاء أولى الآن. لكن حيثما سالت الدماء فهي قرابين للملك في عليائه. فالملك الذي رسم هذه اللوحة البديعة بحكمته لن يؤذي شعبه".
    جوناثان على تخوفه لا يزال.. "أرجو ألا تنسى يا سيد شنشلي أن المشيمة سواء كانت مشيمة إنسان أو حيوان. فهي تدخل في صناعة العديد من المركبات الكيماوية. لذلك فمن الممكن أن تكون الشريحة الثانية قد انتقلت عبر خطوط الإنتاج والتصنيع التي تنقلت بالمشيمة إلى أن وصلت إلى جهة التصنيع النهائية لها. ولا أحد يعرف أين هي الآن. صحيح لم تكن بيننا وبينهم معاملات مباشرة آنذاك. لكن من قال أن صناعتنا لم تكن تصل إليهم, أو أن خاماتهم لم تكن تصل إلينا؟ ألا ترون أن ما أقوله وإن كان مجرد احتمال بعيد هو مصدر خوف وقلق حقيقي؟ إذا كان هذا القدر الأرعن قد حقق معجزة لم تكن تخطر على البال، وأعاد إحدى الشريحتين إلى القاهرة في دماغ طفل. فهل ببعيد على هذا العابث أن يعيد الشريحة الأخرى إلى مصدرها؟".
    شنشلي يهزُّ رأسه بامتعاض.. "جوناثان أرجوك, لا تعكِّر علينا صفوَ هذا اليوم الممتع. لا تفترض لنا افتراضات خيالية وتُمَوْضِعْنا في الخوف. إن الرب الذي أعاد إحدى الشريحتين إلى القاهرة بهذه المعجزة ليحقق الهدف الذي بدأناه منذ سنين, لا يمكنه أن ينقل الشريحة الثانية إلى هنا. وإن كان لابد ناقلها من مكة, فلا شك في أنه سينقلها إلى مكان آخر, سيسعد برؤية حرائق الدم فيه. إنني مطمئن لأنني أشم رائحة أصابع الرب الحمراء في هذه الملهاة العجيبة".
    جوناثان.. "لنا ربنا ولهم ربهم يا سيد شنشلي. والربان في صراع محتدم. لماذا لا يكون ربهم بعد عجزه عن حماية القاهرة. قد قرر الانتقام لكرامته من رب الجنود بحرق شعبه. بأن يحرقنا هنا؟ لا أظن أن ربهم ضعيف إلى هذه الدرجة بحيث يعجز عن حماية تاريخ شعبه ودينه معا. إنني خائف؟".
    شنشلي.. "رب الجنود أقوى يا جوناثان. أقوى دائما. هل تعرف لماذا؟".
    جوناثان.. "لماذا يا سيد شنشلي؟".
    شنشلي.. "لأنه يحب لون الدم. ربهم ضعيف يخاف من الدم. لذلك فهو لا يقوى على رؤيته يراق أنهارا. لا هنا ولا هناك. أيُّ دم يراق هو بسبب ربنا لا ربهم. لا يستطيع ربهم تفجير نزيف في مكان آخر. هذا هو السبب الذي يؤكد لي أننا في أمان. لقد أزفت رحلة الصراع الطويلة على نهايتها يا جوناثان. إن حرقهم في مكة يعني موت ربهم. إن ربنا سيتربع على عرش الكون وسيستخدم ربهم عبدا لديه".
    شيريكوف محاولا تغيير الموضوع.. "دعونا الآن فيما هو مهم. ما هي تفاصيل الخطة التي وضعت في القاهرة لاختطاف الطفل وتركه يتفجر فيها قبل أن يبعدوه عنها وينقذوها منه. إنها آخر فرصة لنا. لم يعد هناك متسع من الوقت. إن الرب حبك المقدمات وها هو يضع كلَّ خيوط اللعبة بين أيديكم فلا تخذلوه".
    شنشلي وهو يداعب ذيل الماعز.. "أنا سعيد جدا. ستسعد روح الدكتور جولدي في سكنها الأبدي, وهي ترى إنجازَه العظيم يثمر الآن بعد موته. تمنيت لو كان حيا كي يرى بعينيه صنع يديه. لا تقلقوا, رجالنا في القاهرة سيخطفون الطفل في الوقت المناسب, ويقتلونه ويدفنونه في مكان آمن في المدينة. لن يستطيع أحد الوصول إليه قبل الإنفجار, قبل الكارثه. كلُّ الأمور تسير في الطريق السليم".
    شيريكوف.. "حمدا للرب على عطائه. لقد كدتُ أكفرُ به لولا أنه أثبت أنه أذكى وأعلم منا جميعا".
    في الغد,
    "يا شعب مصر تعامل مع الحدث بمسؤولية".. "أحفاد الفراعنه لا يمكنهم أن يفقدوا أعصابهم".. "رحمة الله قادره على إنقاذ مصر في الأيام الأربعة المتبقية".. "لا يمكن أن تكون إرادة الله هي شطب مصر عن الخريطة".. "تعجز كلُّ اللغات عن وصف من خطفوا حسن".. "أيُّ نوع من البشر يمكنه التفكير بهذه الطريقة؟".. "اللون الأسود لا يكفي لوصف هذا المستوى من الشر".. "من المقصود بجريمة خطف حسن؟". هذه بعض من عبارات تماسكت وهي تحاول الحديث بتوازن عن اختفاء حسن من مقر إقامته في المستشفى.
    اللواء عبد الحميد الفيومي الذي أصرَّ من قبل على جعل العالم يطلع على محنة حسن كي يكون للفدية معنى في بعضٍ من رد المعروف, هو ذاته الذي أصرَّ على التحرك السريع لإخبار العالم مجددا بما آلت إليه المحنة. لم يجد هذه المره معارضة من أحد لأن المسؤولية كانت أكبر من أن يقدر على تحمُّلِها أيٌّ كان بإخفاء الحقيقة عن الناس لانقاذهم من رعب أيام وجرِّهم إلى المحرقة بعد ذلك دون علمهم. علمُ المصريين والعالم كان أمرا فوق النقاش وخيارا لم ينافسه خيار رغم أن أحدا من ذوي الشأن لم يقدر على تخيل ردة الفعل بعد نشر الخبر.
    قبل أن يتكامل تشكُّلُ أيُّ ردة فعل لدى أيٍّ كان لهول الواقعة, رئيس الجمهورية كان يخطب في الشعب في محاولة لتوجيه ردود الفعل والتحكم فيها وضبطها. خاصة وأن الحديث هو عن ردة فعل سبعين مليون إنسان خيم عليهم رعب وحزن لم يسبق لهما مثيل. في تلك اللحظات مصر بأكملها ومن ورائها العالم, سكونٌ يستمعون بإصغاء روَّعته المخاوف إلى ما يقوله الرئيس.
    الرئيس.. "إنك تمر بمحنة كبيرة أيها الشعب الكبير. محنة لم يعرفها شعب لا في الماضي ولا في الحاضر. وعليك أن تتعامل مع هذه المحنة بمسؤولية عالية, كما عودت العالم على ذلك دوما. إنك في ظرف لا يسمح لك بالتصرفات النزقة, ولا بردود الفعل الارتجالية غير المدروسة, ولا بالفوضى بالتحرك واتخاذ القرار. إذا كانت محنة حسن امتحانا لقيمك وشرفك وحضارتك وأخلاقك. فإن محنة اختفاء حسن في هذه الظروف وبهذه الطريقة هي امتحان لصبرك وإرادتك وهدوئك واتزانك وعقلك. وكما قبلت المحنة الأولى أيها الشعب الكبير امتحانا من الله للجذور وللأخلاق. فإن عليك أن تقبل وبالقدر ذاتِه من الإيمان بقضاء الله وقدره امتحانَ الله لصبرك وإرادتك في هذه المحنة الجديدة..
    .. إن مصر مستهدفة. مصر التاريخ والحضارة والثقافة. مصر العروبة والإسلام.. من هم؟ لا أحد يمكنه أن يتصور وجود مجرمين قتلة بهذا القدر من الدموية والوحشية. إنهم كالخفافيش يعملون في الظلام ويستمتعون بصناعة الكوارث وبقتل البشر. أنيابهم زرقاء بلون دمائهم الملوثة بالحقد والكره. يتلذذون برؤية دم الأطفال الأبرياء يراق أنهارا يختلط بحليب الأمهات. وجوه تماسيح ورؤوس أفاعي..
    .. ستتجاوز مصر هذه المحنة بإذن الله. إن الله معنا ولن يتركنا. نعم. إن الله لن يتركك في محنتك وحدك تواجه مصيرا مظلما رسمته وطاويط الليل يا شعب مصر, ليس لأنك شعب مصر فقط. ولكن لأنك تحب السلام وتكره منظر الدم وتحضن الطفولة. لأنك عريق في تاريخك, متجذر في قيمك. أصيل في إنسايتك. والله أكبر بكثير من أن يسمح لكل ذلك بأن يضيع بعبث العابثين الذين لا يفكرون إلا في القتل من أقبية الموت والفناء التي ستقتلهم قبل غيرهم..
    .. تأكد أيها الشعب الكبير أنَّ الله يمتحنك هذا الامتحان لأنه يُعِدُّك لأمرٍ جلل يريدك أن تكون أهلا له. وأنت شعب عريق في إيمانك بالله. ما تعودتَ أن تقابل امتحانَه لك بغير الرضى والقبول والصبر. إن الله الذي كشف لنا في الوقت المناسب محنة ولدنا الحبيب حسن, سيكشف لنا وفي الوقت المناسب أيضا مدبري اختفاء حسن. اجعل ثقتك بالله أكبر من ثقتك بأيٍّ كان وبأيِّ شيء, لأنك بذلك تثق بالرحمة والحكمة. وتحيى الأمان في كنفهما حتى والحرائق تحيطك من كل جانب..
    .. مصر لن تزول وستبقى. والشعب المصري لن يزول وسيستمر في العطاء وفي إثراء مسيرة الحضارة الإنسانية, مهما كانت قوة الضربة وضخامة الجريمة التي ترتكب في حقه.. يريدون تدمير القاهرة وقتل الملايين. القاهرة بنتها تلك الملايين. فوتوا عليهم فرصة قتل هؤلاء الملايين. أما القاهرة إذا دمروها فسنبكيها, لكننا سنبنيها من جديد..
    .. انتشروا في أرض مصر أيها المصريون. أرض مصر تناديكم كي تحميكم من هذه الجريمة. لبوا نداء الأرض التي حضنتكم آلاف السنين. إنها تمد لكم أيديها في أحلك الظروف كي تحميكم كما حمتكم دائما. إن أرض مصر هي الرحم الذي سوف يحميكم من هؤلاء القتلة. وبدل أن نخسر خمسة ملايين مواطن كما يريدون ويخططون. فلنخسر مائة ألف أو أقل. ولنعتبرها حربا من حروب مضت, لتسكنَ آلامَنا مجاورةً لكل الذكريات. هذه هي الحكمة وهذه هي المسؤولية..
    .. حسن حبيبنا جميعا. كان سيفدي العالم بروحه البريئة الطاهرة التي رُوِّعَت بهذا الحدث الجسيم. هؤلاء المجرمون حرموا طفولته حتى من حقها في أن تموت من أجل شعبها ووطنها الذي أحبته بكل البراءة والطهر. أيها المواطنون. يا شعب مصر العظيم. حضارة السبعة آلاف عام ستستمر وستثبت للعالم أن أعتى المحن تنكسر ذليلة على صخرة صمود مصر وصمود شعب مصر. لم نكن نتصور أن في عالم يخطو نحو عصور جديدة، مَنْ تسكنه البشاعة بهذا الشكل الذي أعجز وتحدى كل اللغات والقواميس..
    .. لا أحد يعرف على وجه التحديد أين سيرتكب هؤلاء المجرمون جريمتهم؟ في القاهرة, في الإسكندرية, في أسيوط, في السويس, في الإسماعيلية, أو في أيِّ مكان آخر. لا أحد يعرف. وإزاء ذلك, فليس أمامنا سوى أمرين اثنين فقط. أن تنتشر في أرضنا الحبيبة قدر ما نستطيع. متجنبين التجمع والتَّرَكُّزَ في مساحاتٍ صغيرة, ريثما تنتهي الأيام المتبقية من عمر هذه المحنة التي ابتلينا بها. وأن ندعو الله ونبتهل إليه كي يحمي هذه الأرض الطاهرة وهذا الشعب المعطاء". يبدأ صوته يختنق وتخرج كلماته متقطعة كأنه يغالب البكاء وهو يقول.." وأن يحمي حبيبنا حسن. نعم حبيبنا حسن". تزداد حالة التقطع في حديثه وتخرج الكلمات منه متباطئة.." انطلقوا على بركة الله من هذه اللحظة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
    عشرات الآلاف من المواطنين يتراكضون ويتزاحمون في شوارع القاهرة. يحتشدون للسفر والمغادرة. فوضى عارمة تعم حركة المرور في كلِّ مكان. المراكز الرئيسية لوسائط النقل في مدن مصر الكبرى, تجمعات بشرية لم يعهدها المصريون من قبل. كل وسائل النقل لم تعد قادرة على تغطية حجم الحركة المطلوبة بالسرعة المطلوبة. والوقت لا يكفي للانتظار. مئات الآلاف من الأسر خرجت تجوب الشوارع مغادرة القاهرة سيرا على الأقدام. خوفٌ ورعبٌ واستعجال.
    الآلاف من سيارات الأجرة تقف أمام المطارات, وآلاف أخرى تشق طريقها غربا وشرقا وجنوبا. مئات الطائرات المدنية التابعة لمعظم شركات الطيران العالمية تُسْهِمُ في إجلاء الآلاف عن مصر. عشرات الآلاف من السيارات الخاصة تهرب من الجحيم المنتظر. الحافلات ومختلف وسائل النقل العمومية على الطرق تملأ الآفاق. تبعد عن القاهرة. تنعطف في كل الاتجاهات وتتوغل في عمق الصحراء حاملة آلاف الأشخاص. القطارات تعج بالمواطنين تلقي بهم في أيِّ مكان بعيدا عن مراكز التجمع, وبالقرب من أيِّ نقطة تمكِّنُهم من التوغل بعيدا عن المدن. حتى اليخوت والزوارق والسفن. جُنِّدَت للانتشار. إنها أيامٌ كأيام الحشر, تشهد أكبر وأسرع عملية جلاء جماعي في تاريخ البشر.
    الأيام المتبقية على الانفجار الكبير ثلاثة فقط. القاهرة لا زالت تعج بالملايين من سكانها. الوقت قصير جدا وحسن ما يزال مختفيا. الدعاء والابتهال طنينُ نحلٍ يُسْمَعُ في كلِّ مكان. الشموع أضاءت ليالي مصر. والدموع بللت جفاف الخائفين. العالم يستنفر طاقاتِه مستعدا متحفزا متعاطفا مع مصر. كل الدول والشعوب تبدأ بإعداد ما يلزم لتقديم الدعم والعون المطلوبين لشعب مصر عندما يحدث الانفجار. لم يسبق للعالم أن انتظر بأكمله وعلى قلب إنسان واحد حدثا مهولا مرعبا لا يستطيع التحكمَ فيه مثلما هو الآن.
    غابت كل مشكلات الدنيا. توقفت الحروب ونزيف الدم. كل المنظمات الدولية في حالة طوارىء, وغرف العمليات والمتابعة على مدار الساعة. تناست كلُّ شعوب الأرض آلامَها. استعدت فرق الأطباء والممرضين. الجميع ينتظرون لحظة الموت القادم بقلوب يعتصرها الوجع, ليهبوا أمَّ الحضارات دفَقا من دمائهم. راحوا يصلون لياليهم في كل معابد الأرض على أملٍ باهتٍ داعبتْه أنوار الشموع الحزينة الباكية. خشوع ودعاء. إلا جمع الشيطان. التأم يراقب ويضحك, مكشرا عن أنيابه الزرقاء. وأذناب السحالي ترقص على إيقاع الموت القادم.."شكرا لك يا رب الجنود على نعمك. إنك تطهر الأرض من الجرذان لأجل شعبك المختار".
    رئيس الوزراء يمسح جبينه بكفه وهو في غمٍّ وكرب.."لم تبق إلا ثلاثة أيام فقط. لست أدري ما الذي يجب أن نفعله. يبدو أن علينا الانتظار ولا شيء غير الانتظار".
    اللواء عبد الحميد.. "هذا مؤكد. ليس أمامنا سوى الانتظار والدعاء. المواطنون بدأوا بالانتشار بعد خطاب الرئيس مباشرة".
    رئيس الوزراء.. "لقد صدر مرسوم رئاسي بألا يغادر القاهرة أيُّ فرد من أفراد السلطة أيا كان موقعه ومهما كان منصبه. إن بقاءنا قد يرفع معنويات الناس في هذه الظروف الحالكة".
    اللواء.. "سيعيشون الأيام المتبقية في العراء في الصحاري. في كل مكان".
    رئيس الوزراء.. "هذا صحيح. ليس أمامهم غير ذلك".
    اللواء يتنهد بأسى وهو شارد الذهن.. "ولكن من غير الممكن انتشار عشرات الملايين بهذه السرعة على مساحة مليون كيلو متر مربع. هذا مستحيل. لقد اختار المجرمون الوقت المناسب. الوقت الحرج".
    رئيس الوزراء.. "وماذا تتوقع أن يفعلوا بحسن؟ هل سيقتلونه أم سيتركونه يتفجر وهو حي؟".
    اللواء بعد تفكير عميق.. "أظن أن حسن ما يزال حيا. وأحسب أنهم سوف يقتلونه كي يتفجَّرَ وهو ميت".
    رئيس الوزراء.. "وعلى ماذا أقمت ظنك بأنه حي؟".
    اللواء.. "لا شك في أنهم يريدون قتل أكبر عدد ممكن من المصريين. ومع بدء عملية الانتشار سيكون من الصعب عليهم تصور أيُّ مكان سيكون هو الأكثر اكتظاظا بالناس. لذلك فسوف ينتظرون حتى الساعات الأخيرة. لكن بشرط أن تكون كافية لهروبهم واختفائهم بعيدا عن مكان حسن. مكان الانفجار".
    رئيس الوزراء.. "لكنهم لا شك يلاحظون هذا البطء في الانتشار مثلما نلاحظه. وبناءً عليه فإنهم يستطيعون توقعَ أن عدة ملايين من المواطنيين لن يكون لديهم الوقت الكافي لمغادرة القاهرة قبل موعد الانفجار. إن تصور أن القاهرة ستبقى المكان الأكثر اكتظاظا رغم أكبر عملية جلاء في التاريخ, ليس أمرا صعبا. وإذن فهم يتصرفون على هذا الأساس".
    اللواء.. "رغم وجاهة ما تقوله يا دولة الرئيس. إلا أنهم غير مضطرين لقتل حسن الآن ومغادرة المكان. لا يوجد ما يمنعهم من الانتظار. ربما أن الأيام المتبقية تحدِث اختلالا كبيرا في ميزان الانتشار. فلماذا يضعون أنفسهم في موقف قد لا تسرهم نتائجه كثيرة ما داموا يستطيعون الانتظار يومين آخرين على الأقل لمشاهدة ما يمكنه أن يحدث خلالها؟".
    رئيس الوزراء يمط شفتيه شبه مقتنع.. "ولماذا تميل إلى الاعتقاد بأنهم سيلجأون إلى قتل حسن قبل الانفجار؟".
    اللواء.."لأن هذا أضمن لتحقيق النتيجة. ومع ذلك فليست هذه النقطة هي التي كنت أعنيها عندما تحدثت عن قتل حسن. كل ما عنيته هو أن حسن ما يزال على قيد الحياة لغاية الآن".
    رئيس الوزراء مستغربا.." ولما هذا اليقين؟".
    اللواء.."إن السيطرة على طفل في مثل حالة حسن وضمان بقائه هادئا عدة أيام أمر سهل. فلماذا يقتلونه ويقعون تحت طائلة عبء التعامل مع جثة خاصة إذا إضطروا للانتقال به إلى مكان آخر مادام تأجيل قتله الى أخر لحظه أمرا ممكنا؟".
    رئيس الوزراء بتساؤل حذر كأنما تذكر شيئا.."أليس من الممكن أن يكون المختطفون قد اخنطفوا حسن لتفجيره في مكان ما خارج مصر؟".
    اللواء.. "هذا مستحيل بالمنطق يا دولة الرئيس. الذين خطفوا حسن, أرادوه عندما خطفوه أن يتفجر في مصر وفي القاهرة بالذات. هم عرفوا بطبيعة الحال وعبر متابعتهم لوسائل الأعلام أننا كنا ننسِّق مع دول العالم لنخرجَه من مصر ونذهب به إلى أعماق المحيط الأطلسي. لهذا السبب فإن عملية الاختطاف ليس لها إلا معنى واحد, هو الحيلولة دون تنفيذ خطة الانقاذ التي وُضِعَت. هدفهم إذن هو بالتأكيد تفجيره في مكان آهل لقتل الملايين من الناس..
    .. وبما أنهم يعرفون بالتأكيد أيضا أننا منذ لحظة الاختطاف سنراقب كلَّ الممرات والمعابر والحدود مراقبةً لم يسبق لها مثيل. وأنهم لن يستطيعوا من ثمَّ تهريبَه إلى أيِّ مكان خارج مصر، فلا يمكن أن يكون تهريبُه هدفا لهم. إن هذا يؤكد أن هدفهم هو إحداث الكارثة في مصر. وأنت تعلم يا دولة الرئيس أنَّ حسن قنبلة موقوتة بفعل القدر ولا يمكن التحكم في توقيت انفجارها. وبالتالي فمن كانت هذه القنبلة بين يديه فستحرقه أن لم تكن خطته واضحة وسهلة".
    رئيس الوزراء يهز رأسه بأسى مبديا موافقته.. "هذا تحليل منطقي". يصمت برهة ثم يتذكر أمرا هاما فيقول.. "لكن ألا ترى أن انشغالنا بالموضوع أنسانا مجرد التفكير في المختطفين. من عساهم يكونون؟ ما هي هويتهم؟ لماذا يريدون قتل الملايين من المصريين؟ من له مصلحة في هذه الجريمة؟".
    اللواء.. "مع أنني لا أجد داعيا للتفكير وإرهاق ذهني في هذه المسألة لأنها بمثابة ترف لا أقوى على ممارسته في هذه اللحظات. إلا أنني متأكد من نقطة هامة جدا بخصوص هؤلاء القتلة".
    رئيس الوزراء.." وما هي يا حضرة اللواء؟".
    اللواء.." لو أن المختطفين يا دولة الرئيس قاموا بجريمتهم وهم يعلمون أن ما سيترتب عليها هو قتل عدة أشخاص أو حتى عدة عشرات فقط كما هو الحال في اختطاف طائرة أو باخرة أو باص ركاب, لقلنا أنهم يعادون السلطة. ويضغطون عليها بهذه الجريمة. ولو كانوا يعلمون أن الضحايا قد يصلون إلى عدة آلاف. فربما كانوا يُكِنُّون عداوةً خاصة للشعب المصري, لسبب أو لآخر. ويفرغون جزءا من حقدهم عليه بهذه الطريقة البشعة. أما المجرم الذي يرتكب جريمة يعلم علم اليقين أنها ستقضي على الملايين حرقا في لحظات، وستدمِّر واحدة من أكبر مدن العالم. فهو ليس عدوا لتلك الملايين فقط. بل هو عدو لكل الإنسانية, ولا تهمه هوية الضحايا ولا من يكونون, وإن كانت ظروف معينة قد دفعته إلى التفكير في ارتكاب جريمته في مكان دون آخر. إن المختطفين يا دولة الرئيس يكنون عداوة وكرها لكل البشر. إن هذه الجريمة ضد الإنسانية. وسيفعلونها في أيِّ مكان آخر ولا يبالون لو قدروا على ذلك".
    ... يتبع في الحلقة العشرون
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  9. #19
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة التاسعة عشرة
    الفصل التاسع
    اليوم التالي,
    العالم مضطرب, ودواليب الأعلام تجتر ألوان كارثة ظهرت في أفقٍ خائفٍ مترقب. حسن يحصل على أدنى حق مقدور عليه, والحق وطن في أعماق الضمائر الحية كان. المؤتمر الصحفي الذي عقده اللواء عبد الحميد نزل كالصاعقة وأحدث الزلزال. أعاصير الخوف تذرو الطمأنينة من القلوب, أتربةً تناثرت حباتُها, تلاحقُ الأمان الهارب, باحثة في كنفه عن سكن للنفس المرتعشة ومأوى. اليوم الموعود غدا يومَ حشدٍ لم يسبق له في التاريخ مثيلا. ومئات الملايين من البشر يتقاذفون الرواية في الأذهان والمحافل والأندية, انفعالاتٌ امتدت بلون الطيف الإنساني, من تندُّرٍ عابث بليد لا مسؤول, فاحت بروائحه الكريهة كتلٌ لحمية تشابهت لديها تجاويف العقول وتجاويف البطون والفروج, إلى دموع خضبت بالحزن والألم كلَّ الأحاسيس الرطبة النَّدِيَّة.
    الأرض تهتز تحت وقع الفاجعة, والمحيطات غضب صاخب. اختفى القمر من ليالي العاشقين, ونَكَّسَت الأشجار أوراقَها. رضابُ الحسناوات مذاقُ ملحٍ والشهد غاب واختفى. تكَسَّرت أجنحة الكروان, والبلابل والشحارير في حداد. أبصر المكفوفون ليروا هول ما سيحدث, والصُّمُّ سمعوا أخبار المعجزة. وكلُّ أبكم في الدنيا نطق ليترنَّم بأغنية ستبقي مابقي الإنسان, "وداعا يا حسن ".. "حسن قنبلة ذرية موقوتة".. "أغرب ظاهرة في التاريخ".. "هل هي معجزة أم أسطورة؟".. "صدقوا أو لا تصدقوا, طفلٌ يحمل الدمار في جمجمتة".. "القربان العظيم حسن".. "جبل الأولمب ينتقل إلي القاهرة".. "حسن الكارثة المتحركة".. "البراءة تفدي الإنسانية".. "كيف, أين, متي ولماذا؟".. "حسن فضَّل أن يموت متفجرا".. " طفلٌ بأمَّة".. "أين سيتم تفجير".......؟".. "أطفال العالم يصلون لله كي ينقذَ حسن".. "حسن نجم الكون الجديد".. "القدر أكبر إرهابي في الوجود" .. ".....".. ".......!".. ".......؟".. "الرب نائمٌ وأقدارُه تعبث بالبشر".. "لعنة الحلم المذبوح تهدِّد العالم".. "كيف ستتعامل مصر مع هذة المحنة؟".. "وداعا يا أبوقراط".. "وداعا يا زرقاء".. "وداعا يا حسن".. آلاف العناوين تناثرت علي صفحات الجرائد والمجلات في كلِّ أرجاء الأرض. مصر محور المحنة, وحسن حضنتة قلوب كل البشر. أجراس الكنائس والأذان, وفي كل المعابد صلوات. وجمع الشيطان على الكره, على القتل, على الحقد التأم. أسكرته رائحة الدم, وانتشى لما رأى دموع الأطفال وقلوب الأمهات تبكي حسن.
    الشنشلي يضحك. يندهش. يسعد.. "يا لغرائب الصدف. يا لحكمة الرب التي لا نفهمها.. رب الجنود لم يكن يلعب. بل كان يرسم لوحة بديعة".
    شيريكوف.. "مستخدما ريشة المرحوم "جولدي" يا سيد شنشلي".
    شنشلي بابتهاج.. "ما أروع ريشتك أيها المرحوم العظيم".
    شيريكوف.. "وما أبدع حكمة الرب وهو يستأثر لنفسه بأسرار اللوحة".
    شنشلي.. "تكون الأم حاملا ولا نعرف. وتموت وهي تلد, وتنتقل إحدى الشريحتين لوليدها الذي سيتفجر بإرادة الرب في المكان الذي أردناه. إن السماء معنا".
    شيريكوف.. "وتبقى الشريحة الثانية في بطنها كي يكون اللون الأحمر في لوحة الرب الخالدة بحجم المسافة بين حضارتهم ودينهم".
    شنشلي.. "إني عاجز عن إعطاء ما نحن فيه ما يليق به من انفعالات الغبطة, فليغفر لي رب الجنود تقصيري".
    شريكوف.. "لقد أثبتت السماء أنها معنا بصورة أكبر من أيِّ توقع. إنها لم ترض بتفجير الشريحتين في القاهرة أو في مكة. استكثرتها على جرذان مدينة واحدة. قسمةٌ عادلة وتوزيعُ الرب مكافأة لنا. يا لبهاء السماء. القاهرة ومكة في وقت واحد. ملايين هنا وملايين هناك. تاريخهم ودينهم أطلالٌ بعد أيام. شكرا للرب. إنه يحقق لشعبه الحلم الذي ما تخلَّوْ عنه يوما".
    جوناثان بلهجة متخوفة تعتريها مسحة من شرود الذهن.. "أليس من الممكن أن تكون الشريحة الثانية قد نزلت مع المشيمة وانتقلت معها حيثما ذهبت؟ وبالتالي أليس من الممكن ألا يقع الانفجار في المكان الذي دفنت فيه المتوفاة؟".
    شنشلي يضحك باستهزاء.. "مهما يكن الأمر. من المؤكد أن الشريحة في أيِّ مكان في العالم إلا هنا تحت أرجلنا. لا توجد أيُّ مبررات لتنتقل من هناك عائدة إلينا. لا توجد معاملات من أيِّ نوع بيننا وبين هؤلاء القوم خاصة في السنوات السابقة. وإذن فحيثما انفجرت فهناك دماء ستراق لنشوة الرب. صحيح أن دماء هؤلاء أولى الآن. لكن حيثما سالت الدماء فهي قرابين للملك في عليائه. فالملك الذي رسم هذه اللوحة البديعة بحكمته لن يؤذي شعبه".
    جوناثان على تخوفه لا يزال.. "أرجو ألا تنسى يا سيد شنشلي أن المشيمة سواء كانت مشيمة إنسان أو حيوان. فهي تدخل في صناعة العديد من المركبات الكيماوية. لذلك فمن الممكن أن تكون الشريحة الثانية قد انتقلت عبر خطوط الإنتاج والتصنيع التي تنقلت بالمشيمة إلى أن وصلت إلى جهة التصنيع النهائية لها. ولا أحد يعرف أين هي الآن. صحيح لم تكن بيننا وبينهم معاملات مباشرة آنذاك. لكن من قال أن صناعتنا لم تكن تصل إليهم, أو أن خاماتهم لم تكن تصل إلينا؟ ألا ترون أن ما أقوله وإن كان مجرد احتمال بعيد هو مصدر خوف وقلق حقيقي؟ إذا كان هذا القدر الأرعن قد حقق معجزة لم تكن تخطر على البال، وأعاد إحدى الشريحتين إلى القاهرة في دماغ طفل. فهل ببعيد على هذا العابث أن يعيد الشريحة الأخرى إلى مصدرها؟".
    شنشلي يهزُّ رأسه بامتعاض.. "جوناثان أرجوك, لا تعكِّر علينا صفوَ هذا اليوم الممتع. لا تفترض لنا افتراضات خيالية وتُمَوْضِعْنا في الخوف. إن الرب الذي أعاد إحدى الشريحتين إلى القاهرة بهذه المعجزة ليحقق الهدف الذي بدأناه منذ سنين, لا يمكنه أن ينقل الشريحة الثانية إلى هنا. وإن كان لابد ناقلها من مكة, فلا شك في أنه سينقلها إلى مكان آخر, سيسعد برؤية حرائق الدم فيه. إنني مطمئن لأنني أشم رائحة أصابع الرب الحمراء في هذه الملهاة العجيبة".
    جوناثان.. "لنا ربنا ولهم ربهم يا سيد شنشلي. والربان في صراع محتدم. لماذا لا يكون ربهم بعد عجزه عن حماية القاهرة. قد قرر الانتقام لكرامته من رب الجنود بحرق شعبه. بأن يحرقنا هنا؟ لا أظن أن ربهم ضعيف إلى هذه الدرجة بحيث يعجز عن حماية تاريخ شعبه ودينه معا. إنني خائف؟".
    شنشلي.. "رب الجنود أقوى يا جوناثان. أقوى دائما. هل تعرف لماذا؟".
    جوناثان.. "لماذا يا سيد شنشلي؟".
    شنشلي.. "لأنه يحب لون الدم. ربهم ضعيف يخاف من الدم. لذلك فهو لا يقوى على رؤيته يراق أنهارا. لا هنا ولا هناك. أيُّ دم يراق هو بسبب ربنا لا ربهم. لا يستطيع ربهم تفجير نزيف في مكان آخر. هذا هو السبب الذي يؤكد لي أننا في أمان. لقد أزفت رحلة الصراع الطويلة على نهايتها يا جوناثان. إن حرقهم في مكة يعني موت ربهم. إن ربنا سيتربع على عرش الكون وسيستخدم ربهم عبدا لديه".
    شيريكوف محاولا تغيير الموضوع.. "دعونا الآن فيما هو مهم. ما هي تفاصيل الخطة التي وضعت في القاهرة لاختطاف الطفل وتركه يتفجر فيها قبل أن يبعدوه عنها وينقذوها منه. إنها آخر فرصة لنا. لم يعد هناك متسع من الوقت. إن الرب حبك المقدمات وها هو يضع كلَّ خيوط اللعبة بين أيديكم فلا تخذلوه".
    شنشلي وهو يداعب ذيل الماعز.. "أنا سعيد جدا. ستسعد روح الدكتور جولدي في سكنها الأبدي, وهي ترى إنجازَه العظيم يثمر الآن بعد موته. تمنيت لو كان حيا كي يرى بعينيه صنع يديه. لا تقلقوا, رجالنا في القاهرة سيخطفون الطفل في الوقت المناسب, ويقتلونه ويدفنونه في مكان آمن في المدينة. لن يستطيع أحد الوصول إليه قبل الإنفجار, قبل الكارثه. كلُّ الأمور تسير في الطريق السليم".
    شيريكوف.. "حمدا للرب على عطائه. لقد كدتُ أكفرُ به لولا أنه أثبت أنه أذكى وأعلم منا جميعا".
    في الغد,
    "يا شعب مصر تعامل مع الحدث بمسؤولية".. "أحفاد الفراعنه لا يمكنهم أن يفقدوا أعصابهم".. "رحمة الله قادره على إنقاذ مصر في الأيام الأربعة المتبقية".. "لا يمكن أن تكون إرادة الله هي شطب مصر عن الخريطة".. "تعجز كلُّ اللغات عن وصف من خطفوا حسن".. "أيُّ نوع من البشر يمكنه التفكير بهذه الطريقة؟".. "اللون الأسود لا يكفي لوصف هذا المستوى من الشر".. "من المقصود بجريمة خطف حسن؟". هذه بعض من عبارات تماسكت وهي تحاول الحديث بتوازن عن اختفاء حسن من مقر إقامته في المستشفى.
    اللواء عبد الحميد الفيومي الذي أصرَّ من قبل على جعل العالم يطلع على محنة حسن كي يكون للفدية معنى في بعضٍ من رد المعروف, هو ذاته الذي أصرَّ على التحرك السريع لإخبار العالم مجددا بما آلت إليه المحنة. لم يجد هذه المره معارضة من أحد لأن المسؤولية كانت أكبر من أن يقدر على تحمُّلِها أيٌّ كان بإخفاء الحقيقة عن الناس لانقاذهم من رعب أيام وجرِّهم إلى المحرقة بعد ذلك دون علمهم. علمُ المصريين والعالم كان أمرا فوق النقاش وخيارا لم ينافسه خيار رغم أن أحدا من ذوي الشأن لم يقدر على تخيل ردة الفعل بعد نشر الخبر.
    قبل أن يتكامل تشكُّلُ أيُّ ردة فعل لدى أيٍّ كان لهول الواقعة, رئيس الجمهورية كان يخطب في الشعب في محاولة لتوجيه ردود الفعل والتحكم فيها وضبطها. خاصة وأن الحديث هو عن ردة فعل سبعين مليون إنسان خيم عليهم رعب وحزن لم يسبق لهما مثيل. في تلك اللحظات مصر بأكملها ومن ورائها العالم, سكونٌ يستمعون بإصغاء روَّعته المخاوف إلى ما يقوله الرئيس.
    الرئيس.. "إنك تمر بمحنة كبيرة أيها الشعب الكبير. محنة لم يعرفها شعب لا في الماضي ولا في الحاضر. وعليك أن تتعامل مع هذه المحنة بمسؤولية عالية, كما عودت العالم على ذلك دوما. إنك في ظرف لا يسمح لك بالتصرفات النزقة, ولا بردود الفعل الارتجالية غير المدروسة, ولا بالفوضى بالتحرك واتخاذ القرار. إذا كانت محنة حسن امتحانا لقيمك وشرفك وحضارتك وأخلاقك. فإن محنة اختفاء حسن في هذه الظروف وبهذه الطريقة هي امتحان لصبرك وإرادتك وهدوئك واتزانك وعقلك. وكما قبلت المحنة الأولى أيها الشعب الكبير امتحانا من الله للجذور وللأخلاق. فإن عليك أن تقبل وبالقدر ذاتِه من الإيمان بقضاء الله وقدره امتحانَ الله لصبرك وإرادتك في هذه المحنة الجديدة..
    .. إن مصر مستهدفة. مصر التاريخ والحضارة والثقافة. مصر العروبة والإسلام.. من هم؟ لا أحد يمكنه أن يتصور وجود مجرمين قتلة بهذا القدر من الدموية والوحشية. إنهم كالخفافيش يعملون في الظلام ويستمتعون بصناعة الكوارث وبقتل البشر. أنيابهم زرقاء بلون دمائهم الملوثة بالحقد والكره. يتلذذون برؤية دم الأطفال الأبرياء يراق أنهارا يختلط بحليب الأمهات. وجوه تماسيح ورؤوس أفاعي..
    .. ستتجاوز مصر هذه المحنة بإذن الله. إن الله معنا ولن يتركنا. نعم. إن الله لن يتركك في محنتك وحدك تواجه مصيرا مظلما رسمته وطاويط الليل يا شعب مصر, ليس لأنك شعب مصر فقط. ولكن لأنك تحب السلام وتكره منظر الدم وتحضن الطفولة. لأنك عريق في تاريخك, متجذر في قيمك. أصيل في إنسايتك. والله أكبر بكثير من أن يسمح لكل ذلك بأن يضيع بعبث العابثين الذين لا يفكرون إلا في القتل من أقبية الموت والفناء التي ستقتلهم قبل غيرهم..
    .. تأكد أيها الشعب الكبير أنَّ الله يمتحنك هذا الامتحان لأنه يُعِدُّك لأمرٍ جلل يريدك أن تكون أهلا له. وأنت شعب عريق في إيمانك بالله. ما تعودتَ أن تقابل امتحانَه لك بغير الرضى والقبول والصبر. إن الله الذي كشف لنا في الوقت المناسب محنة ولدنا الحبيب حسن, سيكشف لنا وفي الوقت المناسب أيضا مدبري اختفاء حسن. اجعل ثقتك بالله أكبر من ثقتك بأيٍّ كان وبأيِّ شيء, لأنك بذلك تثق بالرحمة والحكمة. وتحيى الأمان في كنفهما حتى والحرائق تحيطك من كل جانب..
    .. مصر لن تزول وستبقى. والشعب المصري لن يزول وسيستمر في العطاء وفي إثراء مسيرة الحضارة الإنسانية, مهما كانت قوة الضربة وضخامة الجريمة التي ترتكب في حقه.. يريدون تدمير القاهرة وقتل الملايين. القاهرة بنتها تلك الملايين. فوتوا عليهم فرصة قتل هؤلاء الملايين. أما القاهرة إذا دمروها فسنبكيها, لكننا سنبنيها من جديد..
    .. انتشروا في أرض مصر أيها المصريون. أرض مصر تناديكم كي تحميكم من هذه الجريمة. لبوا نداء الأرض التي حضنتكم آلاف السنين. إنها تمد لكم أيديها في أحلك الظروف كي تحميكم كما حمتكم دائما. إن أرض مصر هي الرحم الذي سوف يحميكم من هؤلاء القتلة. وبدل أن نخسر خمسة ملايين مواطن كما يريدون ويخططون. فلنخسر مائة ألف أو أقل. ولنعتبرها حربا من حروب مضت, لتسكنَ آلامَنا مجاورةً لكل الذكريات. هذه هي الحكمة وهذه هي المسؤولية..
    .. حسن حبيبنا جميعا. كان سيفدي العالم بروحه البريئة الطاهرة التي رُوِّعَت بهذا الحدث الجسيم. هؤلاء المجرمون حرموا طفولته حتى من حقها في أن تموت من أجل شعبها ووطنها الذي أحبته بكل البراءة والطهر. أيها المواطنون. يا شعب مصر العظيم. حضارة السبعة آلاف عام ستستمر وستثبت للعالم أن أعتى المحن تنكسر ذليلة على صخرة صمود مصر وصمود شعب مصر. لم نكن نتصور أن في عالم يخطو نحو عصور جديدة، مَنْ تسكنه البشاعة بهذا الشكل الذي أعجز وتحدى كل اللغات والقواميس..
    .. لا أحد يعرف على وجه التحديد أين سيرتكب هؤلاء المجرمون جريمتهم؟ في القاهرة, في الإسكندرية, في أسيوط, في السويس, في الإسماعيلية, أو في أيِّ مكان آخر. لا أحد يعرف. وإزاء ذلك, فليس أمامنا سوى أمرين اثنين فقط. أن تنتشر في أرضنا الحبيبة قدر ما نستطيع. متجنبين التجمع والتَّرَكُّزَ في مساحاتٍ صغيرة, ريثما تنتهي الأيام المتبقية من عمر هذه المحنة التي ابتلينا بها. وأن ندعو الله ونبتهل إليه كي يحمي هذه الأرض الطاهرة وهذا الشعب المعطاء". يبدأ صوته يختنق وتخرج كلماته متقطعة كأنه يغالب البكاء وهو يقول.." وأن يحمي حبيبنا حسن. نعم حبيبنا حسن". تزداد حالة التقطع في حديثه وتخرج الكلمات منه متباطئة.." انطلقوا على بركة الله من هذه اللحظة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
    عشرات الآلاف من المواطنين يتراكضون ويتزاحمون في شوارع القاهرة. يحتشدون للسفر والمغادرة. فوضى عارمة تعم حركة المرور في كلِّ مكان. المراكز الرئيسية لوسائط النقل في مدن مصر الكبرى, تجمعات بشرية لم يعهدها المصريون من قبل. كل وسائل النقل لم تعد قادرة على تغطية حجم الحركة المطلوبة بالسرعة المطلوبة. والوقت لا يكفي للانتظار. مئات الآلاف من الأسر خرجت تجوب الشوارع مغادرة القاهرة سيرا على الأقدام. خوفٌ ورعبٌ واستعجال.
    الآلاف من سيارات الأجرة تقف أمام المطارات, وآلاف أخرى تشق طريقها غربا وشرقا وجنوبا. مئات الطائرات المدنية التابعة لمعظم شركات الطيران العالمية تُسْهِمُ في إجلاء الآلاف عن مصر. عشرات الآلاف من السيارات الخاصة تهرب من الجحيم المنتظر. الحافلات ومختلف وسائل النقل العمومية على الطرق تملأ الآفاق. تبعد عن القاهرة. تنعطف في كل الاتجاهات وتتوغل في عمق الصحراء حاملة آلاف الأشخاص. القطارات تعج بالمواطنين تلقي بهم في أيِّ مكان بعيدا عن مراكز التجمع, وبالقرب من أيِّ نقطة تمكِّنُهم من التوغل بعيدا عن المدن. حتى اليخوت والزوارق والسفن. جُنِّدَت للانتشار. إنها أيامٌ كأيام الحشر, تشهد أكبر وأسرع عملية جلاء جماعي في تاريخ البشر.
    الأيام المتبقية على الانفجار الكبير ثلاثة فقط. القاهرة لا زالت تعج بالملايين من سكانها. الوقت قصير جدا وحسن ما يزال مختفيا. الدعاء والابتهال طنينُ نحلٍ يُسْمَعُ في كلِّ مكان. الشموع أضاءت ليالي مصر. والدموع بللت جفاف الخائفين. العالم يستنفر طاقاتِه مستعدا متحفزا متعاطفا مع مصر. كل الدول والشعوب تبدأ بإعداد ما يلزم لتقديم الدعم والعون المطلوبين لشعب مصر عندما يحدث الانفجار. لم يسبق للعالم أن انتظر بأكمله وعلى قلب إنسان واحد حدثا مهولا مرعبا لا يستطيع التحكمَ فيه مثلما هو الآن.
    غابت كل مشكلات الدنيا. توقفت الحروب ونزيف الدم. كل المنظمات الدولية في حالة طوارىء, وغرف العمليات والمتابعة على مدار الساعة. تناست كلُّ شعوب الأرض آلامَها. استعدت فرق الأطباء والممرضين. الجميع ينتظرون لحظة الموت القادم بقلوب يعتصرها الوجع, ليهبوا أمَّ الحضارات دفَقا من دمائهم. راحوا يصلون لياليهم في كل معابد الأرض على أملٍ باهتٍ داعبتْه أنوار الشموع الحزينة الباكية. خشوع ودعاء. إلا جمع الشيطان. التأم يراقب ويضحك, مكشرا عن أنيابه الزرقاء. وأذناب السحالي ترقص على إيقاع الموت القادم.."شكرا لك يا رب الجنود على نعمك. إنك تطهر الأرض من الجرذان لأجل شعبك المختار".
    رئيس الوزراء يمسح جبينه بكفه وهو في غمٍّ وكرب.."لم تبق إلا ثلاثة أيام فقط. لست أدري ما الذي يجب أن نفعله. يبدو أن علينا الانتظار ولا شيء غير الانتظار".
    اللواء عبد الحميد.. "هذا مؤكد. ليس أمامنا سوى الانتظار والدعاء. المواطنون بدأوا بالانتشار بعد خطاب الرئيس مباشرة".
    رئيس الوزراء.. "لقد صدر مرسوم رئاسي بألا يغادر القاهرة أيُّ فرد من أفراد السلطة أيا كان موقعه ومهما كان منصبه. إن بقاءنا قد يرفع معنويات الناس في هذه الظروف الحالكة".
    اللواء.. "سيعيشون الأيام المتبقية في العراء في الصحاري. في كل مكان".
    رئيس الوزراء.. "هذا صحيح. ليس أمامهم غير ذلك".
    اللواء يتنهد بأسى وهو شارد الذهن.. "ولكن من غير الممكن انتشار عشرات الملايين بهذه السرعة على مساحة مليون كيلو متر مربع. هذا مستحيل. لقد اختار المجرمون الوقت المناسب. الوقت الحرج".
    رئيس الوزراء.. "وماذا تتوقع أن يفعلوا بحسن؟ هل سيقتلونه أم سيتركونه يتفجر وهو حي؟".
    اللواء بعد تفكير عميق.. "أظن أن حسن ما يزال حيا. وأحسب أنهم سوف يقتلونه كي يتفجَّرَ وهو ميت".
    رئيس الوزراء.. "وعلى ماذا أقمت ظنك بأنه حي؟".
    اللواء.. "لا شك في أنهم يريدون قتل أكبر عدد ممكن من المصريين. ومع بدء عملية الانتشار سيكون من الصعب عليهم تصور أيُّ مكان سيكون هو الأكثر اكتظاظا بالناس. لذلك فسوف ينتظرون حتى الساعات الأخيرة. لكن بشرط أن تكون كافية لهروبهم واختفائهم بعيدا عن مكان حسن. مكان الانفجار".
    رئيس الوزراء.. "لكنهم لا شك يلاحظون هذا البطء في الانتشار مثلما نلاحظه. وبناءً عليه فإنهم يستطيعون توقعَ أن عدة ملايين من المواطنيين لن يكون لديهم الوقت الكافي لمغادرة القاهرة قبل موعد الانفجار. إن تصور أن القاهرة ستبقى المكان الأكثر اكتظاظا رغم أكبر عملية جلاء في التاريخ, ليس أمرا صعبا. وإذن فهم يتصرفون على هذا الأساس".
    اللواء.. "رغم وجاهة ما تقوله يا دولة الرئيس. إلا أنهم غير مضطرين لقتل حسن الآن ومغادرة المكان. لا يوجد ما يمنعهم من الانتظار. ربما أن الأيام المتبقية تحدِث اختلالا كبيرا في ميزان الانتشار. فلماذا يضعون أنفسهم في موقف قد لا تسرهم نتائجه كثيرة ما داموا يستطيعون الانتظار يومين آخرين على الأقل لمشاهدة ما يمكنه أن يحدث خلالها؟".
    رئيس الوزراء يمط شفتيه شبه مقتنع.. "ولماذا تميل إلى الاعتقاد بأنهم سيلجأون إلى قتل حسن قبل الانفجار؟".
    اللواء.."لأن هذا أضمن لتحقيق النتيجة. ومع ذلك فليست هذه النقطة هي التي كنت أعنيها عندما تحدثت عن قتل حسن. كل ما عنيته هو أن حسن ما يزال على قيد الحياة لغاية الآن".
    رئيس الوزراء مستغربا.." ولما هذا اليقين؟".
    اللواء.."إن السيطرة على طفل في مثل حالة حسن وضمان بقائه هادئا عدة أيام أمر سهل. فلماذا يقتلونه ويقعون تحت طائلة عبء التعامل مع جثة خاصة إذا إضطروا للانتقال به إلى مكان آخر مادام تأجيل قتله الى أخر لحظه أمرا ممكنا؟".
    رئيس الوزراء بتساؤل حذر كأنما تذكر شيئا.."أليس من الممكن أن يكون المختطفون قد اخنطفوا حسن لتفجيره في مكان ما خارج مصر؟".
    اللواء.. "هذا مستحيل بالمنطق يا دولة الرئيس. الذين خطفوا حسن, أرادوه عندما خطفوه أن يتفجر في مصر وفي القاهرة بالذات. هم عرفوا بطبيعة الحال وعبر متابعتهم لوسائل الأعلام أننا كنا ننسِّق مع دول العالم لنخرجَه من مصر ونذهب به إلى أعماق المحيط الأطلسي. لهذا السبب فإن عملية الاختطاف ليس لها إلا معنى واحد, هو الحيلولة دون تنفيذ خطة الانقاذ التي وُضِعَت. هدفهم إذن هو بالتأكيد تفجيره في مكان آهل لقتل الملايين من الناس..
    .. وبما أنهم يعرفون بالتأكيد أيضا أننا منذ لحظة الاختطاف سنراقب كلَّ الممرات والمعابر والحدود مراقبةً لم يسبق لها مثيل. وأنهم لن يستطيعوا من ثمَّ تهريبَه إلى أيِّ مكان خارج مصر، فلا يمكن أن يكون تهريبُه هدفا لهم. إن هذا يؤكد أن هدفهم هو إحداث الكارثة في مصر. وأنت تعلم يا دولة الرئيس أنَّ حسن قنبلة موقوتة بفعل القدر ولا يمكن التحكم في توقيت انفجارها. وبالتالي فمن كانت هذه القنبلة بين يديه فستحرقه أن لم تكن خطته واضحة وسهلة".
    رئيس الوزراء يهز رأسه بأسى مبديا موافقته.. "هذا تحليل منطقي". يصمت برهة ثم يتذكر أمرا هاما فيقول.. "لكن ألا ترى أن انشغالنا بالموضوع أنسانا مجرد التفكير في المختطفين. من عساهم يكونون؟ ما هي هويتهم؟ لماذا يريدون قتل الملايين من المصريين؟ من له مصلحة في هذه الجريمة؟".
    اللواء.. "مع أنني لا أجد داعيا للتفكير وإرهاق ذهني في هذه المسألة لأنها بمثابة ترف لا أقوى على ممارسته في هذه اللحظات. إلا أنني متأكد من نقطة هامة جدا بخصوص هؤلاء القتلة".
    رئيس الوزراء.." وما هي يا حضرة اللواء؟".
    اللواء.." لو أن المختطفين يا دولة الرئيس قاموا بجريمتهم وهم يعلمون أن ما سيترتب عليها هو قتل عدة أشخاص أو حتى عدة عشرات فقط كما هو الحال في اختطاف طائرة أو باخرة أو باص ركاب, لقلنا أنهم يعادون السلطة. ويضغطون عليها بهذه الجريمة. ولو كانوا يعلمون أن الضحايا قد يصلون إلى عدة آلاف. فربما كانوا يُكِنُّون عداوةً خاصة للشعب المصري, لسبب أو لآخر. ويفرغون جزءا من حقدهم عليه بهذه الطريقة البشعة. أما المجرم الذي يرتكب جريمة يعلم علم اليقين أنها ستقضي على الملايين حرقا في لحظات، وستدمِّر واحدة من أكبر مدن العالم. فهو ليس عدوا لتلك الملايين فقط. بل هو عدو لكل الإنسانية, ولا تهمه هوية الضحايا ولا من يكونون, وإن كانت ظروف معينة قد دفعته إلى التفكير في ارتكاب جريمته في مكان دون آخر. إن المختطفين يا دولة الرئيس يكنون عداوة وكرها لكل البشر. إن هذه الجريمة ضد الإنسانية. وسيفعلونها في أيِّ مكان آخر ولا يبالون لو قدروا على ذلك".
    ... يتبع في الحلقة العشرون
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة العشرون
    الفصل العاشر
    الواحدة بعد منتصف الليل. يوم الخميس. السابع عشر من شهر الموت. أقل من ثلاثة أيام على الكارثة. ثلاثة أشخاص يجلسون في حجرة استقبال واسعة ويتابعون عبر الفيديو فيلما أمريكيا عن حرب فيتنام. كانوا ذوي بشرات بيضاء وعيون زرقاء, مع أنهم كانوا يتحدثون فيما بينهم عندما يتحدثون, باللهجة المصرية. اندمجوا في المشاهدة وساد بينهم الصمت الذي لم تكن تُعَكِّر رتابتَه من حين لآخر سوى أصوات مشاهد الاقتتال الدموية التي كانت تثير سعادتهم وتعليقاتهم وانفعالهم على تلك المشاهد.
    طاولة صغيرة ومجموعة أرائك وجهاز تلفزيون وفيديو. لا مبالاة وبلادة واستهتار. جهاز الهاتف ووجوه تقطر بالسادية. هذا كل ما تمكن مشاهدته في الحجرة التي فاحت من جنباتها لحظات سواد. على بعد عشرة أمتار خلف الأرائك التي كانت مواجهة لجهاز التلفزيون, ظهر جزء من باب غرفة مغلق يواجه الجالسين, فيما غطت الجزء الآخر منه خزانة خشبية فاخرة من الزان البني اللامع, امتلأت بالأكواب الزجاجية وقوارير الخمر وبالكراهية. في مكان مكشوف من الخزانة وعلى ارتفاع متر واحد فقط عن الأرض, ظهر جهاز تلفون آخر كان مربوطا بكابل طويل. الخزانة لم تكن بعيدة عن باب الغرفة. متران فقط. الجلوس كانوا "جابي" و "إيرماندو" و "ستيف".
    في هذه الأثناء باب الغرفة يفتح بحذر وهدوء فتحة صغيرة. ومن بعيد ظهر حسن دون أن يثير انتباه أحد. فتحة الباب لم تكشف سوى عن نصف وجهه وعن جزء يسير من جسمه. أشاح بوجهه إلى داخل الغرفة مركزا أذنه على فتحة الباب, وأمسك بإطاره كي يخفِّفَ الثقلَ عن ساقه السليمة التي اتكأ عليها أثناء وقوفه, وراح يستمع إلى ما يدور في حجرة الاستقبال.
    "جابي" يتناول جهاز التَّحَكُّم من على طاولةٍ صغيرةٍ أمامه, ويخفِّضُ صوت الفيلم قائلا لجليسه.." مرَّ يومان كاملان على وجود هذا الطفل معنا. وفي كل اتصال يجرونه, يتم أخبارنا بأن موعد قتله لم يحن بعد. مع أن موعد الانفجار الكبير قد اقترب كثيرا".
    حسن يتفاجأ. يغفر فاه. يخاف. يضع كفَّه على فمه بعد أن سمع كلام "جابي" وحديثه عن قتله, لكنه يواصل الاستماع بإصغاء شديد, رغم أنه بدأ يغالب البكاء. ستيف يقول باستهزاء وضجر.." أظن أنهم يودون مواصلة الانتظار حتى يعرفوا إلى ماذا ستؤدي عملية الانتشار التي بدأت منذ يومين. كي يحدِّدوا أنسب مكان للتفجير. ففي ظل ما نشاهده من تفريغ للقاهرة يعتبرُ من الحماقة التضحية بهذا الكنز بقتله والقائه في مكان قد يخلو من السكان خلال يومين".
    جابي.." هذا صحيح. ولكني فهمت أنهم أكثر سعادة بما سوف يحدث للحجيج في مكة مما سوف يحدث للمصريين هنا في القاهرة. إن الكنز الذي كانوا أعدوه منذ سنوات كي ينفجرَ هنا في القاهرة, شاءت إرادة الرب أن تشطرَه شطرين, واحد للقاهرة والثاني لمكة".
    إيرماندوا يتناول جهاز التَّحَكُّم, ويرفع صوت الفيلم من جديد وهو يقول لهما ناهرا.." جابي, ستيف. أرجوكما لا تقرفانا بإضاعة الوقت في هذا الموضوع المُمِل, الطفل سيموت خلال أقل من ثمان وأربعين ساعة, وأظن أننا سنُبْقي عليه بعد قتله في هذا المكان. هذا هو الأرجح. يريدونه أن يتفجرَّ في القاهرة. يريدون قتل أكبر عدد ممكن من المصريين".
    حسن في مكانه على حاله يبدأ بالبكاء وهو يضع يده على فمه كي لا يُصْدِرَ أيَّ صوت قد ينتبه إليه الجالسون في حجرة الاستقبال. تزداد علامات الخوف على وجهه. لكنه يواصل الاستماع. ستيف يعلِّقُ على كلام إيرماندو.." لكنهم يفرغون القاهرة من السكان. إنها قد تخلو من البشر تماما خلال الأيام المتبقية".
    إيرماندو.." لا تكن غبيا يا ستيف يستحيل إخلاء القاهرة بهذه السرعة حتى من نصف سكانها, ولو استخدمت في ذلك كل وسائل النقل في العالم، إنهم عشرون مليونا. أين سيذهبون وكيف ومتى؟ لن يكون لديهم الوقت الكافي للانتشار. يومان فقط, هذا مستحيل. مهما فعلوا سيقتل منهم يوم الانفجار ما لا يقل عن مليون شخص".
    جابي.." إذن لماذا لا نقتل الطفل ونغادر بسرعة؟".
    إيرماندوا.."إنها احتياطات. إن هذه العملية أرهقتهم, وقد لعب القدر وعامل الصدفة دورا كبيرا فيها لغاية الآن. وهي عملية أحاطها الغموض واكتنفها الغرابة منذ اللحظة الأولى. منذ أكثر من أربع سنوات. إنهم أصبحوا يخشون من أن تفلتَ من أيديهم مرة أخرى. لا يريدون أيَّ مغامرة. يريدون التحرك بمعطيات مضمونة ومأمونة. يعني أنهم يريدون التأكد من أن القاهرة ستكون مقبرة جماعية مناسبة. هذا كلُّ ما في الأمر. عدم الرغبة في أيِّ مغامرة غير محسوبة وغير مبررة في وقت غير مناسب. لا تقلقوا. استمتعوا باليومين المتبقيين واطمئنوا, سنكون بعيدين عن الانفجار لحظة حدوثه. عندما نقتل الطفل سيكون لدينا متَّسَعٌ من الوقت لنبتعدَ ونغيب عن موقع الدمار والموت".
    حسن يغلق باب الغرفة, وينسحب إلى سريره حبوا. يَتَّكِئُ عليه عندما يصله وهو جالس أرضا. أرعبه الحديث الذي سمعه من هؤلاء الغربان. يبكي ويفرك عينيه. وبخوف البراءة والصوت مخنوق لا يكاد يسمع.."ماما سعاد أين أنت؟ ماما سعاد أنهم يريدون قتلي.. عمُّ عبد الحميد خذني من هنا. إنهم لا يحبون مصر ولا يحبون الأطفال. إنهم يكرهونهم. يريدون أن أموت هنا وليس كما أخبرتني بعيدا في البحر كي أنقذَ الأطفال. أرجوك يا عمُّ عبد الحميد أنقذني منهم. أنا خائف". يبكي والدموع تبلِّل خديه الرقيقتين. يستمر على هذا الحال إلى أن تُسْتَنْزَفَ من داخله شحنةُ الخوف تدريجيا ويهدأ. تظهر عليه علامات التفكير.
    يتنقَّلُ في أرجاء الغرفة حبوا. يتفقَّد موجوداتها بيديه. يركِّزُ سمعَه كلما احتاج إلى ذلك. لم يستوقفه أو يلفت انتباهه خلال جولته أيُّ شيء. يتجه نحو باب الغرفة. يفتحه فتحة صغيرة من جديد, ويركِّز سمعَه وهو لا يزال جالسا على الأرض. صوت الفيلم والحرب والسلاح يملأ أرجاء حجرة الاستقبال ويصل إلى أذنيه عاليا. فجأة يرنُّ جرس الهاتف. يجفلُ منه ويكاد يصرخ. يصدر عنه صوت خفيف ويمسك بالباب باحثا عن الأمان. يهدأ وتتوالى رنات الهاتف أثناء انشغال إيرماندو بتخفيض صوت التلفزيون. حسن يتابع بأذنه مصدر الصوت. يحسُّ بأنه قريب جدا منه. يحرِّك رأسَه بسرعة محاولا أن يتتبَّع الصوت لمعرفة مكان مصدره قبل أن ترفعَ سماعة الهاتف.
    إن رهافة حاسة السمع لدى حسن جعلته يتمكن من حصر مكان صدور الصوت في مساحة محدودة. أصغى إلى الحديث الذي أجراه إيرماندو عبر الهاتف. ثم أحس به وهو يضع السماعة ويتحرك من مكانه. إن بُعْدَ صوتِ وضع السماعة جعله يتأكد من أن هناك جهاز هاتف قريب منه. حبا مسرعا نحو السرير بعد أن أحسَّ من حركة إيرماندو بأنه قد يحضر إلى غرفته. يصعد فوقه ويتظاهر بالنوم. ومع أنه لم يغلق الباب إلا أن ذلك لم يستوقف إيرماندو بعد أن رآه من بعيد واطمأن إلى أنه ما يزال نائما. يغلق باب الغرفة ويعود إلى رفيقيه لمتابعة الفيلم. بعد لحظات كانت كافية لإقناع حسن بأنهم انشغلوا مجددا بمشاهدة الفيلم, ينزلُ عن السرير ويتوجَّه حبوا وهو يجرُّ ساقه المشلولة بصعوبة نحو باب الغرفة مرة أخرى. يفتحه بحذر وهدوء فتحة تكفي لخروج جسمه. يخرج متجها نحو مصدر الصوت كما حدَّده قبل قليل, ويبدأ في خوض معركته في الظلام مستخدما يديه وأذنيه, وإعاقتاه كانتا سلاحا في يد الخصم. طفولته تختلط بفطنته. وبراءته تمتزج بإرادته. حبُّ مصر والأطفال كما تعلمه من العم عبد الحميد يحضن رغبة لديه في إنقاذ نفسه من أيدي هؤلاء المجرمين كرغبته في الاستحواذ على أيِّ شيء يحبه طفل في سنه, وذلك كي يموت بطريقته التي أحبَّها, ويشاهد الأطفال من السماء وهم يغنون ويرقصون وهو في حضن أمه سلوى التي يحبها لأنها ماتت وهي تمنحه حياتَها.
    كان مشهدا ربانيا, رسمته يد الله بريشة فاضت بالحب والأمل. طفل في الرابعة ويفكر. مكفوف مشلول ويتحدى. خائف مرتجف وسط وحوش ويخطط. بدموعه النقية سكبتها أنغام نحيب مكبوت, يكسر قرن الشيطان, ويذود عن نفسه من أذناب السحالي وجلادهم. رفضَ موتا لأنه أحبَّ آخر. العالم على جمر يتحرق منتظرا الأهوال والموت وأنهار الدم, وحسن يحمل الكارثة في دماغه والحب الأبيض في قلبه ليصنع من إعاقتيه أفقا لا يعرفه أحد. هل رأيتِ يا زرقاء فيما مضى من أيامك ما ترينه الآن؟ الزرقاء صامتة لا تجيب.
    حسن يستمر في الحبو بدون إصدار أيِّ صوت إلى أن يرتطمَ بالخزانة في رفق. يتحسَّسُها بيده, فيعرف أنه أمام خزانة. يقترب منها أكثر. يتكِئُ عليها ليقفَ وهو يبحث بيديه في كلِّ مكان لعلَّه يصل إلى شيء. لم يجد شيئا. تعب من الوقوف وثِقَلُه على ساقه السليمة الوحيدة. خاف أن يقع أرضا فينتبه إليه المجرمون. يستمرُّ في الحركة متكئا على الخزانة ليخفِّفَ الثقل عن ساقه ويواصل البحث بيديه وهو يغالب البكاء لأنه لم يجد شيئا. فجأة يلامس سلكا بلاستيكيا. يتتبعه صعودا نحو الأعلى ويسير معه بيديه ببطء. أحس أن السلك يبتعد عنه. خشي أن ينكشف. توقف قليلا. فكر بسرعة وقرر المتابعة.
    ما إن تحرك خطوتين ورفع يده الممسكة بالسلك قدر شبرين فقط حتى لامس جهاز التلفون. أحس بذلك. بدت على وجهه بعض علامات الفرحة الخائفة اليائسة. أمسك بالجهاز وراح يمدُّ جسدَه بصعوبة نحو الأعلى كي يتمكن من الإمساك به من المكان المناسب. اتكأ على الخزانة أكثر بعد أن شعر بتعب شديد في ساقه وخاف أن يسقط أرضا. بدأ بسحب الهاتف نحوه بهدوء وحذر وبطء في ترافقٍ شديد الإنسجام مع حركات انسحابه البطيئة وهو متكئ على الخزانة. وصل إلى طرفها واقترب جهاز الهاتف منه أكثر. خشي أن يقع الجهاز أرضا إذا أمسكه بيد واحدة, وخشي أن يسقط هو أرضا إذا حاول إمساكه بكلتا يديه. ماذا يفعل؟ ماذا ستفعل يا حسن؟ ماذا ستفعل هذه البراءة التي تحملَت في لحظة زمن خانقة عبء إنقاذ العالم من أحقاد أولئك المعوَّقين؟ خوف وارتباك وقلق. لا يريد أن يفشل في المحاولة بعدما وصل إلى طرف الخيط. إنه الأمل الوحيد.
    ينسحب ليختبأ بجوار الخزانة, ويسحب معه جهاز الهاتف ليفكر بهدوء ما الذي يجب عليه فعله. يصدر صوتا لا إراديا فيرتعب. ستيف ينظر إلى مصدر الصوت. يقوم من مكانه ويتوجه نحو غرفة حسن. لكنه ما أن يمشي مترا واحدا فقط حتى يسمع صوت إطلاق نار شديد صادر في التلفزيون في أحد مشاهد الفيلم, فيعود ليرى المشهد بعد أن لاحظ انفعالات زميليه اللذين ظهرا في أعلى درجات الاندماج مع الصوت. يجلس. ثم لا يلبث إلا قليلا حتى ينسى الصوت الذي سمعه قبل قليل ويستمر في مشاهدة الفيلم.
    حسن يتكئ بظهره على الحائط وبكتفه الأيسر على الخزانة. فيخفُّ الثقلُ عن ساقه السليمة. ينتظر قليلا ليتأكد من أن الصوت الذي أصدره لم يلفت إليه انتباه أحد. تمكن بسبب وضع وقوفه الجديد من تحريك كلتا يديه ليتناول بهما الجهاز. يفلح في ذلك. الجهاز الآن بين يديه. ولكن كيف يجب أن يتصرف؟ لقد أصبح مُكَبَّلا. إنه ألقى بنفسه في وضع لا تراجع عنه ويصعب تحمُّلُه طويلا في ظل عدم قدرته على مقاومة التعب الذي بدأ يثقلُ ساقَه اليسرى رغم اتكائه بين الحائط والخزانة. إنه في حيرة وخوف. كيف ينزل أرضا ليبدأ رحلة العودة إلى الغرفة دون استخدام يديه؟ وكيف يمكنه استخدام يديه وهما تحضنان الهاتف الذي أصبح وضعه في حالة حرجة, وقد يسقط منه عند أقل خطأ محدثا صوتا سينهي كلَّ شيء؟ يستمر في وقوفه المتعب حاضنا الهاتف. يفكر وقد بدأت تظهر عليه علامات الإجهاد ويغالب البكاء والجسد يرتعش من الخوف.
    بعد لحظات من التفكير. بدأ باستخدام الحائط والخزانة معا, ليعطي جسده فرصة للانزلاق إلى الأرض بحذر وهدوء وبدون جلبة أو إصدار أيِّ صوت قد يهدم كلَّ شيء ويقضي على بارقة الأمل المتبقية. يحاول إلقاء كلِّ ثقله في الزاوية بين الخزانة والحائط, مستخدما كلَّ قوته, كي لا ينزلق بسرعة فيرتطمَ بالأرض محدثا صوتا. كان خائفا جدا ويكبتُ رغبة في البكاء, راحت تسيطر عليه عندما تخيل أنهم كشفوه وضربوه وأخذوا منه جهاز الهاتف وقتلوه وحرموه من إنقاذ الأطفال ومن الطيران إلى السماء ليرتمي في حضن أمه. ثم. بدأ ينزل ضاغطا بجسده على كلٍّ من الخزانة والحائط كي لا يلفت انتباهَ الجالسين.
    وصل إلى الأرض وهو على هيئة الجلوس. تصرف بسرعة. أمسك جهاز الهاتف بيده اليسرى إمساكة قوية, اتكأ على يده اليمنى أثناء الحبو, كي يتمكن من الحركة المتوازنة. استمر في حبوه إلى أن وصل إلى غرفته وكلُّه إحساس بأن أحدا يراه وينتظر وصوله كي يفاجئه ويرعبه. لكنه تصرف بهدوء إلى أن دخل وسحب كابل الهاتف. تحامل على نفسه بصعوبة كي يقفَ ويغلقَ باب الغرفة ثم عاد ليجلسَ أرضا وحبا حتى اقترب من السرير. وهناك استرخى ملقيا بظهره إلى السرير واضعا الجهاز بين ساقية. واستسلم للتفكير والتذكر.
    حسن يستخدم أصابعه وهو يلتفَّظ بالأرقام.. "كابتن عبد الحميد.. كابتن عبد الحميد.. ما هو الرقم؟ ماهو الرقم يا ربي؟..9 ..3.. لا. لا. ممكن هو.. 9.. 3..".. يواصل التفكير بقلق. يرعبه أيُّ إحساس بوجود شيء ما يتحرك. يجعله يجفل. يغالب البكاء عندما لا يحالفه الحظ في تذكُّر الرقم كاملا. لكنه يصر.. "1.. 3.. 3.. لا.. 1.. 1..3.. ماذا أيضا؟..لا..إنه.. 3.. 4.. نعم إذن رقم عم عبد الجميد هو.. 9.. 4.. 9.. 3.. 2.. 3.. 4.. نعم هذا هو رقمه. أكيد".
    يرفع سماعةَ الهاتف ويبدأ بتحسُّس كبسات الأرقام ويَعُدُّ ويكبس. يخطئ أكثر من مرة في العدِّ ويحصل على إجابات وردود تشير إلى ذلك. يتضايق. تسيطر عليه حالة من الاستعجال بسبب الخوف والقلق. إنه في اللحظات الأخيرة. لا تفصله عن اللواء عبد الحميد سوى لحظات ستغير مجرى الأحداث. يحاول من جديد. يركِّزُ في العدِّ وهو يتحسَّسُ كبسات الأرقام كي لا يخطئ. أثناء ذلك يلتفت أكثر من مرة إلى حيث كان يسمع أصواتا يخشى معها من دخول أحد عليه فجأة.
    مكتب رئيس الوزراء. غرفة عمليات على مدار الساعة. اجتماع يضمُّ كلا من رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الخارجية واللواء عبد الحميد الفيومي, وهم على اتصال دائم بمكتب رئيس الجمهورية وبمراكز المتابعة التي كانت تشرف على عملية الجلاء الكبرى عن مدن مصر الرئيسية. الوجوم يخيم على الاجتماع, والخوف والحزن باد على الوجوه. أوامر الرئيس التي قضت بأن يبقى كلُّ رجال السلطة في القاهرة زادتهم خوفا. وما دام الأمر المُرَجَّحُ أن الانفجار سيحدث في القاهرة, فلا شك أنهم سيكونون من ضحايا المحرقة. ومع ذلك فما كان يشغلهم أكبر من ذلك بكثير.. إن كارثة كهذه لا تترك لرجال في مواقع هؤلاء مجالا للتفكير في غير الكارثة وما ستلحِقُه من دمار وخسائر وضحايا.
    الثالثة صباحا من يوم الخميس, السابع عشر من شهر الموت. جرس الهاتف الخلوي الخاص باللواء عبد الحميد والموضوع أمامه على طاولة الاجتمعات في مكتب رئيس الوزراء يرن فجأة. يتأفَّفُ وبنزقٍ يقول.. "وهل هذا وقت الاتصال أو الإزعاج؟". يمدُّ يدَه إلى الجهاز, ويكبس زرا لإيقاف رنين الجرس دون أن يحاول الالتفات إلى هاتفه أو معرفة رقم المتصل.
    حسن في غرفته يحاول الاتصال مرة أخرى وكله خوف. يتأفف ويقول برجاء بريء يغالب البكاء.."أين أنت ياعم عبد الحميد؟ أين أنت؟ أرجوك رد علي". يكبس نفس الأرقام مرة أخرى وهو يتحسَّسُها ببطء شديد ويتلفظ بها كي لا يقع في أخطاء تضيِّع الوقت.." 9..4..9..3..2..3..4". جرس الهاتف يرن مرة أخرى لدى اللواء عبد الحميد الذي شعر بانزعاج شديد وقال بنزق لاحظه عليه المجتمعون.." ليس لديَّ وقت للإزعاج, كائنا من كنت. نحن في عمل أهم من كل شيء". يمد يده مرة أخرى نحو الهاتف ويقفل الجرس. يفكر. يتذكر أمرا. يحمل الهاتف ويكبس زر استعادة رقم المتصل. يقرأ الرقم الذي وجده بصوت سمعه الحاضرون الين لم يشغلوا أنفسهم بما يحدث.."5195921.. 5195921.. لمن هذا الرقم يا ترى؟".
    تخطر على باله فكرة ينفذها على الفور. يتصل بهذا الرقم. جرس الهاتف يرن عند حسن الذي جفل ورجع إلى الوراء مذعورا وهو يبكي بصوت مخنوق. يتوقف جرس الهاتف عن الرنين بعد أن رفعه إيرماندو. اللواء يتحدث مع الشخص الذي رد عليه.." آلو.. هل هذا منزل السيد عمران الجمراوي. هل هو موجود يا ترى؟". لحظة صمت.."آه. الرقم غلط. أنا أسف. أسف جدا". يضع الهاتف في مكانه مرة أخرى. يسترخي على كرسيه شاردا يفكر, ويتساءل بينه وبين نفسه.."ما هذا؟". من هذا الذي يتصل في هذا الوقت العجيب وبإلحاح؟ لماذا لم يتعرَّف على صوتي؟ إذن هو لا يعرفني. هل هي معاكسة وإزعاج فقط؟ من لديه وقت لمعاكسة الناس في هذه الأيام؟ يا لبرود الأعصاب".
    فجأة يرن جرس الهاتف مرة أخرى. ينتفض اللواء عبد الحميد في مكانه وسط انتباه الآخرين لحركته النزقة. يحمل الهاتف فيجد نفس الرقم.."أمر غريب. نفس الرقم. ما الموضوع يا ترى؟". الجرس يواصل الرنين. يفكر. ينظر إلى الهاتف. يتبادل نظرات مستريبة مع الحاضرين الذين استغربوا ردة فعله على مكالمة ليلية يبدو أنهم تعودوا على مثلها كثيرا. أخيرا قرر أن يرد.."آلو .. من؟".
    حسن بصوت خافت مرعوب.."آلو".
    اللواء يندهش عند سماعه صوتا خافتا لطفل.."آلو.. من؟".
    بنفس الصوت الخافت المرعوب.."أريد عم عبد الحميد".
    ذهول واندهاش. عينان بدأتا بالجحوظ. سيطرت عليه حالة استذكار للصوت.."العم من؟ عم عبد.. نعم..".
    حسن بنفس الصوت.."أنت عم عبد الحميد أليس كذلك؟ أنا حسن يا عم عبد الحميد".
    اللواء عبد الحميد ينتفض واقفا بغير وعي وبصورة غاية في النزق والانفعال جفل منها كل من كان جالسا حول الطاولة. بدأ يجوب الغرفة كالمجنون وهو يقول.." حسن. أين أنت يا حبيبي. لا تتحرك من مكانك". ما أن سمع الباقون اسم حسن حتى انتفضوا كالمجانين من أماكنهم. اتجهوا نحوه وأحاطوا به. لكنه لم يكن قادرا على التركيز فيهم وهو يستمع إلى حسن.
    حسن كان يقول وهو يبكي.."عم عبد الحميد, اللصوص الذين خطفوني من المستشفى يريدون قتلي ودفني هنا في البيت. أنا خائف يا عم عبد الحميد. أنا خائف منهم. أنا لا أريد أن أموت معهم. أريد ان أموت مثلما قلت لي. أريد أن أموت بعيدا كي يعيش الأطفال. إنهم يريدون قتل كل الأطفال".
    اللواء منفعلا وفي أقصى حالات التأثر.."لا تخف يا حبيبي. سأحضر إليك حالا. لا تقلق ولا تفعل شيئا. انتظرني يا حبيبي".
    حسن لا يزال يبكي بصوت مكبوت.."أنا لست خائفا لأنهم سيقتلوني يا عم عبد الحميد. إنهم سيقتلوني ويقتلون الأطفال أيضا. إنهم يكرهون مصر. سمعتهم يقولون هذا قبل قليل. أرجوك يا عم لا تتركهم يقتلونني بهذه الطريقة".
    اللواء يكاد يبكي ويغالب الدموع وقد تفاقمت لديه انفعالات التأثر.."لا تخف يا حبيبي. إبقَ مكانك. لا..لا. إذهب إلى السرير وتظاهر بالنوم وارتح حتى أتيك. لن أتأخر".
    حسن في غرفته فوق السرير, يتظاهر بالنوم والهاتف بجانبه. فجأة يدخل ستيف ويشعل النور وهو في حالة هيجان. يمسك حسن بعنف ويحمله بين يديه بقسوة وهو يبكي ويلقيه على الأرض ويسأله وهو يضربه بقدمه ضربا موجعا جعله يصرخ من شدة الألم.."تكلمت مع من؟ قل لي مع من يا حيوان؟"
    باكيا متألما خائفا.."مع ماما سعاد ومع جدي".
    يركله بقدمه ركلا موجعا.."وماذا قلت لهما. أنطق بسرعة. ماذا قلت لجدك ولماما سعاد؟هاه".
    "قلت لهما أنني خائف لأنكم ستقتلونني. سمعتكم تقولون ذلك. لماذا تريدون قتلي؟ ماذا فعلت لكم؟".
    مواصلا الضرب بقسوة وحسن يبكي بمرارة.. "ألم تقل لهما شيئا أخر؟".
    "لا. لم أقل لهما أي شيء".
    "ألم تعطهما رقم التليفون أو العنوان؟ ألم تقل لهما أين أنت؟".
    "ولكنني لا أعرف أين أنا, ولا أعرف رقم التليفون ولا العنوان".
    "ولكن أخبرني كيف حصلت على جهاز التليفون من هناك دون أن نراك أو نحس بك وأنت أعمى ومشلول؟ كيف؟ هل أنت شيطان؟ اسمع سنأخذك لنقتلك بعيدا عن هذا البيت. لن تبقى هنا".
    حسن يبكي من الخوف, ولا يستطيع أن يتكلم من شدة الألم الذي ألم به جراء الضرب العنيف والمبرح الذي تلقاه من ذلك المجرم. أرعبه أن يتصور إبعاده عن المكان قبل أن يصل إليه عم عبد الحميد لإنقاذه منهم. في هذه اللحظات رجال الأمن يقتحمون المكان, ويدخلون إلى حجرة الاستقبال ويلقون القبض فورا على إيرماندو وجابي. ستيف يخرج من غرفة حسن مسرعا ليرى ما الأمر بعد ما سمع صوت جلبة في حجرة الاستقبال, فيتم إلقاء القبض عليه أيضا.
    اللواء عبد الحميد يتجه مسرعا إلى غرفة حسن. فيجده ملقى على الأرض ويبكي تأثرا لحاله. يحس به حسن. يلقي برأسه فوق صدره شاعرا بالأمان بعد أن رُوِّعَ الليلة. يربِّت على كتفه ليخفِّفَ من حدة الخوف والترويع الذي أصابه ويقول له.. "لا تبكي يا حسن. لا تبكي يا حبيبي. لا تقلق أنت في حضن عم عبد الحميد. أنت حبيبنا جميعا يا حسن. لا تبكي".
    يخرج به إلى حجرة الاستقبال ويشير إلى رجال الشرطة.. "خذوهم وأبدأوا التحقيق معهم فورا. عندما نصل إلى المديرية يجب أن تكون كافة المحاضر قد كتبت وعرفنا كلَّ شيء. قبل شروق الشمس أريد الحقيقة أو أرواح هؤلاء الشياطين. هيا انطلقوا".
    ... يتبع في الحلقة الحادية والعشرين
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  10. #20
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الأخيرة
    الفصل الحادي عشر
    غواصة كبيرة تنتظر في عرض المحيط, كتبت عليها عبارة "Us force " جُهِّزَت لتنقل حسن إلى الأبد البارد كي يلتهمه الحريق فدية للبشرية. عدد كبير من الطائرات الحربية التابعة لسلاح الجو المصري ربضت في أحد المطارات العسكرية, تستعد لمرافقة حسن إلى مثواه الأخير. وفي مكان منزوٍ من المطار طائرة حربية مختلفة يفحصها طيار يعدها للإقلاع وعلى متنها القربان العظيم. قاعة كبيرة في المطار احتشد فيها الصحفيون والمصورون ورجال الدولة وضيوف مصر, الذين جاءوا جميعا ليودعوا حسن. حزن على البراءة المطعونة بسموم الغادرين, وخوف من محرقة ينتظرها الجميع على جمر.
    وصل إلى المطار في هذه اللحظات موكبٌ يضم الرئيس ومرافقيه ومعهم حسن وأسرته. دخلوا إلى القاعة. كان يمشي بصعوبة وبطء متكئا على ساقه السليمة ممسكا بيد خالته. الرئيس يحمله ويحضنه ويضمه إليه بقوة. ذرفت عيناه دموعا غلبته في لحظات أزكمها مذاق الفراق. يكلمُ أهلَه ويواسيهم ويخفِّفُ عنهم. سعاد ووالداها يبكون لرهبة المشهد. حسن يحسُّ بما حوله. يستشعر الحركة والجلبة والاهتمام, ويلتقط بقلبه المرهف ما أحاطه من أحزان ودموع.
    كان مندهشا مستغربا مما يحس به, خائفا مما التقطه قلبه وتحسَّسَته أذناه. يبتسم ببراءة عذبة ابتسامةً حاول أن يزيح بها عن وجهه مسحة حزن راحت تلاحق الدموع في عينيه. يحرك رأسَه في أكثر من اتجاه, متتبعا الأصوات ومنابع الدموع. الصحفيون والمصورون يلتقطون له الصور. كلُّ شخص كان حريصا على أن يحظى بصورة تذكارية مع هذا الطفل الذي أصبح فجأة نجم الكون.
    بدأت مراسم الوداع بمحاولات تماسك يائسة مرتبكة, حرصا على عدم حرمانه من لحظات سعادة أحسَّ الجميع بأنه يعيشها بأحلامه الوردية التي سبحت به في السماء إلى جوار أمه وأبيه. البعض يحضنه والبعض يقبله. وآخرون كانوا أضعف من أن يتماسكوا إذا لمسوا هذا الجسد الطاهر فاكتفوا بأن مسحوا على شعره بحنان. سعاد تودعه بطقوس تعصى على الوصف وركعت أمامها كلُّ اللغات. أحس بدموعها وبنبض قلبها المرعوب المروَّع. مسح بأصابعه الرقيقة ما فاضت به عيناه وراح يغالب البكاء بسبب بكاء "ماما سعاد". قال وهو يتصنع ابتسامة أصرت على خذلانه في تلك اللحظة.. "لا تبكي يا ماما سعاد. أنا سأطير لأراكم من السماء. هكذا قال لي عم عبد الحميد. سأناديكم وسأغني لكم وستسمعونني, أليس كذلك؟".
    يستخدم يديه ملوحا بهما بإشارات الوداع.. "وسألوِّح لكلِّ الأطفال هكذا. لأنني سأراهم وسيرونني. إنهم لن يبكوا ولن يخافوا بعد اليوم. عندما أطير في السماء سيكونون سعداء. هكذا أخبرني عم عبد الحميد. أليس كذلك يا ماما سعاد؟".
    تحاول التظاهر بالتماسك في حضرته ثم تتركه رغما عنها. يودعه جداه وهما يبكيان. يلمحه اللواء عبد الحميد. يسرع نحوه وسط الحشود ويحمله. يرتمي حسن في حضنه لما أحس به وعرفه. يضمه إلى صدره ويحدثه مغالبا دموعه.. "لن ينساك أيُّ إنسان على وجه الأرض".
    حسن يداعب وجه اللواء ويبتسم له ويسأله.. "هل تعدني بوعد يا عم عبد الحميد؟".
    يلتفت إليه ويحضنه.. "وعد واحد فقط؟ أطلب ما تشاء يا حسن. طلباتك ستنفذ فورا يا حبيبي. هه. ماذا تريد؟".
    يقترب الكلُّ من اللواء عبد الحميد, وحسن يستعد لطلب آخر شيء في حياته. يحاول الابتسام بتكلف لما راح يخالطه من خوف ورغبه في البكاء.. "كل طفل يولد في اللحظة التي سأطير فيها إلى السماء. سموه حسن يا عم عبد الحميد".
    وقبل أن ينزل حسن من حضن اللواء عبد الحميد كان رئيس الجمهورية يوقع مرسوما رئاسيا سمي "مرسوم وداع حسن", يقضي بالأمر بتسمية كل من يولد في مصر من الذكور بدءا من الساعة الرابعة ولغاية الساعة الخامسة من بعد ظهر ذلك اليوم "حسن" بقوة القانون وتحت طائلة العقاب.
    حسن يغادر القاعة برفقة الحرس متجها إلى الطائرة التي سيُنقل على متنها. المئات احتشدوا لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. الحرس يحاولون حمله كي لا يتعب من المشي. لكنه يصرُّ على أن يدوس بساقه المشلولة على الموت الغادر, كي لا يكون هناك موت غادر بعد ذلك اليوم. وكي تبقى البسمةُ لغةَ الشفاه وبلسمَ كلِّ الجراح. الطائرة تقلع بحسن. وسرب الطائرات العسكرية يرافقه ويبتعد عن القاهرة وأجواء مصر.
    من مصر إلى قلب المحيط رافقته مئات الطائرات. كلُّ بلدٍ كانوا يعبرون أجواءه أو يقتربون منه, أرسل سربا من الطائرات الحربية كي ترافق حسن حتى النهاية.. ليبيا.. مالطا.. قبرص.. اليونان.. إيطاليا.. تونس.. فرنسا.. الجزائر.. البرتغال.. المغرب.. كلُّ تلك الدول خرجت تودع حسن. إلى أن وصلت أسراب الطائرات إلى حيث تربض الغواصة في عرض المحيط.
    حسن يختفي داخل الغواصة برفقة بعض الجنود. تبدأ الغواصة بالاختفاء داخل الماء إلى أن تستقر في أعماق المحيط. تفتح بوابة أمامية ضخمة, فتخرج مها غواصة صغيرة تتجه بسرعة نحو الأعلى وعلى متنها الجنود الذين رافقوا حسن إلى الأعماق. تغلق البوابة. تخلد الغواصة إلى السكينة في انتظار الزلزال.
    قاعة مراقبة ضخمة في القاهرة تتوسطها شاشة عرض كبيرة رُبِطَت بالغواصة وبالأقمار الصناعية. مُلئت بالعلماء والفنيين والصحفيين والإعلاميين ورجال الدولة والضيوف حضروا إلى القاعة ليشهدوا شاشة العرض التي أظهرت حسن وهو يلعب في حجرته داخل الغواصة بهدوئه المعتاد وسكينته التي جلَّلَته بالوداعة والغرابة. الحزن والألم لغة الساعة التي قُرِئت في وجوه جميع الحاضرين, حروفها ارتعاش, وكلماتها دموع وعبارتها نحيب وبكاء. سعاد ومتولي وسكينة واللواء عبد الحميد كانوا بين الحضور.
    من عمق سحيق في لحظات الاحتقان سُمِعَ صوت ذبذبة كمبيوتر العدادِ التنازلي وهو يسجل على ركنٍ في شاشة العرض المدة المتبقية لحدوث الانفجار. كان الرقم الذي تمَّ تسجيله هو (7199), نظرَ الكلُّ إلى عداد التسجيل الذي راح يتنازل مع كل ثانية تمر. 7198.. 7197.. 7196.. انشَدوا إلى شاشة العرض بأعينٍ تنقَّلَت بغير وعي بين صورة حسن والعداد, وسط ألمٍ راح ينمو تشنجاتِ وجوه, واحتقانٍ راح يتفاقم ارتعاشا وارتجافَ أيدٍ, وخوفٍ راح يرتسم على الوجوه أخاديدَ سحيقةً من الأمل اليائس بحدوث معجزة تغيِّرُ كلَّ شيء في اللحظات الأخيرة.
    مئات الآلاف خرجوا إلى الشوارع في مدينة نيويورك, يسيرون صامتين. يحملون الشموع. ويودعون حسن بالحزن والدموع. ويصلون لأجله ولأجل إنقاذ ملايين الأرواح البريئة من المحرقة. كانوا ينشدون بصوت خافت كل بلغته.. "وداعا يا حسن.. وداعا أيتها البراءة.. وداعا أيها الفداء العظيم". وحسن يظهر على شاشة العرض في قاعة المراقبة يلعب. الجميع يراقبه بين شرود في لحظات احتراقه القادمة وتركيز في الزلزال مجهول المكان. العداد التنازلي يصل إلى الرقم.. 6121, ويستمر في النزول.. 6120.. 6119.. 6118..
    الفرنسيون خرجوا في باريس ومرسيليا وليون وليل وسترازبورغ ومدن كثيرة أخرى يحملون الشموع وصور حسن, وقد كتبت في أسفلها باللغة الفرنسية عبارة.. "حسن حبيب الإنسانية". والمسيرات تنشد في كل المدن وبصوت حزين نفس الأغنية العذبة.. "وداعا يا حسن". البريطانيون في كل أنحاء بريطانيا كانوا يحملون الأعلام البيضاء والشموع وصور حسن ويافطات كتب عليها.. "ستبقى جرحا في قلوب البشر يا حسن". وحسن يظهر على الشاشة جالسا على الكرسي يحرك ساقه اليسرى متحديا بساقه المشلولة كلَّ القتلة. يضع كفيه خلف رأسه. تعتريه السكينة. العداد التنازلي أصبح.. 4222.. واستمر النزول.. 4221.. 4220.. 4219.. والحضور في القاعة احتقان وجفاف حلوق.
    قرب برج بيتزا احتشدت أعدادٌ ملأت الأفق من الإيطاليين خرجوا لوداع حسن, وهم يلوحون بالمناديل البيضاء ويحملون صورا لحسن, من بينها صورة ملونة كانت ترتفع عاليا في قلب الحشد. الألمان أغلقوا شوارع فرانكفورت وميونيخ وهامبورغ وبرلين. اتفقوا جميعا على شعار وحيد رفعوه ورددته عيونهم الغاضبة وشفاهم الصامته.. "قتلة حسن هم قتلة كل الإنسانية". في كل أوروبا.. في تركيا وايران والهند والصين. اليابانيون. الروس. كل إفريقيا.. كل العالم خرج في عرس واحد ليودع القربان. حسن يظهر على الشاشة نائما مستلقيا بظهره على الأرض تحت تأثير المخدر الذي حقن به كي لا يحدث الانفجار وهو صاح. العداد التنازلي سجل الرقم.. 1095.. واستمر الهبوط.. 1049.. 1093.. 1092..
    ملايين الحجيج بملابس الإحرام يهللون ويكبرون ويدعون الله لحسن ولكلِّ ضحايا الأنياب الزرقاء في العالم, وهم فوق جبل عرفة بمكة. شعروا هناك بالسكينة رغم خوفهم الشديد مما يتوقع حدوثه, خاصة وأن مكة لا تزال في دائرة الخطر, والخطر الكبير. أحسوا بأنهم في كنف الرحمن وفي ضيافته. وأنه لا شك مكرمٌ ضيافتهم. ولن تكون ضيافة الرحمن فناء ينتظرهم في محرقة أشعلتها الثعابين والغربان. في مصر السكون والهدوء يخيمان على مدينة القاهرة والمدن الأخرى. الملايين التي بقيت في المدن بعد الجلاء الكبير, والميادين, تدعو وتبكي وتتابع عبر محطات الإذاعة وشاشات التلفزيون في المقاهي والمحلات والمطاعم أخبار حسن.
    حسن يظهر على شاشة العرض مستغرقا في نومه تحضنه الوداعة وتدثره البراءة. كان مستلقيا على ظهره ويميل بوجهه إلى اليمين قليلا فبدا في مواجهة المراقبين في القاعة. أثار في نفوسهم أسمى وأرق أحاسيس المحبة والحنان والشفقة. ابتسم وهو نائم. كان يحلم ويردد.. "تعيش مصر. يعيش كلُّ الأطفال. أنا سأذهب عند ماما. سأرى ماما". سعاد تبكي بمرارة وهي ترى المشهد.
    بدأت صورة حسن تختفي عن الشاشات نظرا لقرب موعد الانفجار. ظهرت بدلا منها صورة لسطح المحيط وقد خضبه لون الشمس الحزينة بأشعة قرصها الدامي قبل الغروب بساعة. انعكست صورتها المرتجفة على مائه المضطرب, فكان المشهد بكائيا. حزن الطبيعة يعزف ألحان الوداع بقيثارة صامته, أوتارها موج تراخى مفكك الأوصال احتراما للطهر الذي يرحل. طقوس مهيبة يشيع بها المحيط والشمس روح حسن.
    العداد التنازلي أصبح يداعب لحظة الصفر ويزحف نحو المجهول.. 59.. 58.. 57.. 56.. اللواء عبد الحميد في أشد حالاته توترا. مياه المحيط ترتجف. والعالم ينتظر موتا لا يعرف أين سيقع.. 45.. 44.. 43.. 42.. سعاد تصارع الاختناق بعينين تتعاركان مع شاشة الموت. تضع يديها على فمها استعدادا للصراخ. الجدة تغمض العينين وتسافر في التسبيح والتكبير والتهليل. الجد يضع وجهه في كفيه حتى لا يرى ولا يسمع. الحضور أمسكوا برؤوسهم وألقوا بها بين أيديهم.. 19.. 18.. 17.. 16.. صورة البحر, حياة تكاد تنطق باكية, ومياهه تحتقن منتظرةً الدمار. حدة الاحتقان في القاعة تتصاعد في الثواني الأخيرة. سعاد على مشارف الصراخ وهي تراقب العداد ينزل. تمنت لو توقف الزمن فجأة.. 3.. 2.. 1.. 0..
    عند رؤية الرقم.. 0.. صراخ هز أركان القاعة.. "حسن.. حسن.. حسن".. المحيط يضطرب. يتبعثر, يتشلى تحت هول الانفجار. بحيرات الماء شظايا تملأ الجو. عش الغراب يخترق الماء من الاعماق إلى عنان السماء. الصراخ يتواصل في القاعة. حالة من الهستيريا والبكاء اللاواعي سيطرت على الجميع وهم يتخيلون جسد حسن ينصهر في هذا الفرن الذري.
    زرقاء اليمامة في الأفق البعيد تبكي أرواح الضحايا الأبرياء. تمسك غصن زيتون محترق تناولته من حمامة باكية أرسلها طيف حسن. تغمسه في دمعها الدافىء الحزين ريشة تحمل بقايا الجرح, وتكتب فوق جبين السماء.
    "من الماضي إلى المستقبل".
    في ليلة غاب عنها القمر, وما أشرقت في الفجر لها شمس. صعد الشيطان من جوف الأرض الملتهب فزعا مذعورا, يلاحق كراهية بدأت ترحل عن الأرض. خيم اللون الأسود وانتحرت كلُّ الورود عندما جاب الآفاق كي يستعيد الهواء اللافح, ويستبقي سواد النفوس. أرهقه الترحال والتجوال فما وفق. استسلم لليأس وكاد يرفع الراية البيضاء, لولا أن تلقفته قبل أن ينهار روائح الكراهية القادمة من هناك, فانتعش من جديد. حمل سيفا أحمر وراح يطعن كل لون أبيض, فسال الدم أنهارا وتدفق الحليب. وجمع الكراهية يشرب حتى الارتواء.
    يؤخذ على البيت العريق وجود قبيح نفس فيه. فما بال بيت المستقبل يضم أقبح النفوس؟ نوبل يكفِّرُ عن خطيئته بعدما صنع للموت بيديه أداة. وهم يذرفون دموع التماسيح بكاء على أطلال اختلقوها, لم تسكن سوى مخيلاتهم الصدئة, ويصنعون منها للفناء ألف أداة وأداة. شيدوا لأنفسهم ربا بحجم الزائدة الدودية وحملوه سوطا وصولجان فغدا جلادا ولمعارضي نزواتهم سجان. قلدوه كأيِّ طاغيةٍ متجبرٍ أوسمةً ونياشين بعدد قطرات الحقد التي سرت في شرايينهم, وحاربوا به الحب واللون الأبيض وابتسامات الأطفال. وصلوا له في أقبية بنوها بمسحوق عظام البشر. فكانت محافل قوادة لا صوامع عبادة.
    وداعا أيها الراحل الحبيب. وداعا أيتها الأشلاء البريئة. لن تبكيك دموع ولا دماء يا حسن. أنت الحلم العائد. رحلت بهذه الطريقة, ليكون رحيلك وصمة عار في جبين الحضارة التي تقفز إلى المستقبل وهي لا تزال تحضن بدفئها الفياض, كل الأنياب الزرقاء وأذناب السحالي ورؤوس الأفاعي".
    تتوقف الزرقاء عن الكتابة ودمعها سيل جارف. تعود إلى سباتها الأبدي رافعة يديها إلى السماء وهي تلهج بالدعاء.. "اللهم لا "جولدي" بعد اليوم. اللهم لا "جولدي" بعد اليوم. اللهم لا "جولدي" بعد اليوم".
    انتهت رواية "الحليب والدم"
    مع رجاء أن تكون الرواية قد نالت رضاكم واستمتعتم بقراءتها
    منتظرا نقدكم البناء
    أسامة عكنان
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. "مزلقان" الإلحاد : رواية"طوق الحمام"أنموذجا
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-19-2016, 01:46 PM
  2. في رواية "بقايا صور" للروائي السوري الكبير "حناَّ مينة"..
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى فرسان الخواطر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-30-2015, 04:45 AM
  3. رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند"
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-10-2010, 08:20 AM
  4. قراءة في رواية \" عاشق أخرس \" ورواية \" مطر الملح \"
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-12-2009, 10:01 AM
  5. دراسة نقدية " دلا لة الحريم في رواية" نساء علىأجنحة الحلم" لفاطمة المرنيسي
    بواسطة خالد عبد اللطيف في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-27-2007, 10:02 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •