جدلية البحث النظري في القاعدة الاقتصادية
لقد حاولنا تشبيه القاعدة الاقتصادية بالبناء أو الآلة أو الأسرة أو الإنسان (والذي يتكون جسمه من أجهزة وأعضاء)، وحاولنا ربط الاقتصاد الفردي باعتباره قاعدة اقتصادية منفصلة ولكن لها روابطها مع الأسرة أو صنف العمل الذي يقوم به الفرد كالمزارع بين صنف المزارعين، وربط الأسرة أو الصنف مع الاقتصاد الخاص بالمجتمع المحلي (مدينة، ريف، صناعة، تجارة) وربط هذه الوحدة الأكبر مع الاقتصاد الوطني للدولة، والتي لم تعد معزولة عن الاقتصاد العالمي.
مزاعم قد تؤذي الوصول الى حالة الفهم العام للقاعدة الاقتصادية:
هناك ميلان يتدخلان في الشأن الاقتصادي، ويتركا أثراً يخلخل التشريع الخاص بالاقتصادات الوطنية أو الفردية، كما يؤثران على رسم الخطط الاقتصادية وتحويلها لإجراءات عملية، يُفترض أن يقتنع بها الأفراد أو الوحدات الاقتصادية الجزئية:
الميل الأول ـ الميل النظري:
يجلس خبراء محليون أو دوليون ويبدءوا بطرح المشكلات الاقتصادية التي تمر بها منطقة معينة، سواء في مناقشة الهجرة الريفية أو الهجرة من البلدان الأفقر للبلدان الأغنى، أو لتحديد النسل أو لدعم الأنشطة الاقتصادية للأسر الفقيرة الخ.
إن هذا النوع من النشاط الذهني ليس طارئاً على البشرية، فقد كان يزاوله سكان ما بين النهرين في القدم قبل آلاف الأعوام، وأخذ بالتطور والتعقيد كلما زاد عدد أشكال الأنشطة الاقتصادية، ولم يكن في يوم من الأيام محل اتفاق الجميع، فما أن توضع نظرية، حتى يأتي من يدحضها ويبين الثغرات الكثيرة فيها، وقد يأتي من ينقضها بعد عقود أو بعد سنين أو أحياناً يكون نقضه لها وقت ظهورها.
إذا أسقطنا أحد الأمثلة التي شبهنا بها، ولتكن حالة الإنسان بأجهزة جسمه وأعضائه، على الحالة الاقتصادية، فإنه لا يوجد ولم يوجد طبيبٌ ادعى أنه يستطيع معالجة كل أمراض الجسم، من أسنان وعيون وكبد الخ، فظهرت التخصصات وظهرت المختبرات التي تضع كل حالة فردية، أمام مجموعة من المختصين وأدوات مختبراتهم، وأحياناً تنجح في المعالجة، أو تفشل ويموت المريض الذي بين يديها. ولم نسمع بمريض تم علاجه بالهاتف أو أن مرضى تم تعميم علاج لهم بشكل جماعي من خلال توصيات!
فكيف لخبراء وضعوا نظرياتهم في إحدى جامعات الغرب، وتم ترجمتها الى لغات مختلفة، أحياناً يفتقر المترجم لمعرفة المصطلحات الموضوعة، أن يناقشوا حالات أكثر من ستة مليارات شخص يعيشون على ظهر هذا الكوكب؟
الميل الثاني ـ الميل التقني
للسدود خبراء ومهندسون، وللجسور والآلات كذلك مثلهم، وللهندسة الوراثية خبرائها ولكل شيء خبير فَهِمَ أساس تصميمه وأسس تركيب أجزاءه، وكيفية التعامل الجيد معها، ولكن هؤلاء الخبراء يكونوا بفاعليتهم المؤثرة في المختبرات وفي المطارات وفي المستشفيات. ولكن حضورهم مع كل وحدة صغيرة في بلدٍ ناءٍ لن يكون متاحاً في أغلب الأوقات.
فاستخدام التقنيات قد يكون نادراً بين أيدي أكثر من ثلثي سكان العالم، وإن استخدم أحدهم تلك التقنيات، فقد يستخدمها بشكل خاطئ مضيعاً ثمنها الذي جمعه، أو مسبباً لأضرار جانبية معينة. مثلاً، تعج أسواق دول العالم الثالث، ومن بينها بلادنا بآلاف الساحبات والجرافات وغيرها من المكائن التي أحيلت منذ زمن بعيد على التقاعد وتم معاملتها بشكل (سكراب أو نفايات)، ولو تمعن أحدنا بجدوى تلك الآلات، لرأى أنها تُشكل أحد المسارب الرئيسية للثروة الوطنية، وأن كفاءتها تقل كثيراً عن كفاءة مثيلاتها (بالاسم) في الدول المتقدمة، مما يزيد من كلف الإنتاج ويقلل من إنتاجية الوحدة الواحدة.
سيقول قائل: أن إمكانيات المنتج الفردي أقل من أن تسمح له بشراء آلات أكثر كفاءة. فلذلك يضطر لشراء مثل تلك الآليات، ولذلك يضطر لبناء حظائر للدواجن متواضعة، وستكلفه تلك الحظائر تدفئة إضافية وتبريد إضافي وعمال أكثر وستكون في النهاية كلفة الكيلوغرام الواحد أكثر من كلفته في الغرب، وعندها ستكون البضاعة المستوردة أرخص وأفضل للمستهلك، وقد يؤدي ذلك الى ضمور قطاع كامل أو قطاعات نتيجة الخسائر وعدم القدرة على منافسة المستورد، خصوصا بعد توقيع معظم دولنا على اتفاقية (الجات).
كيف نتلمس طريقنا للخروج من تلك الحالة؟
هذا ما سنتناوله في المرة القادمة