[justify]3- من تطبيقات التراث في الضرورات الإبداعية:
في الجانب الآخر يتأكد أن التراث الشعري الذي ورثناه عن آبائنا الأوائل يعامل الوزن الشعري والتقفية أو مساحة البيت على أنها ما كانت إلا بدافع أعمق من مجرد الإطار؛ فإن هذا الإطار كان يتشكّل تبعًا للمضمون مثلما يساهم في تشكيل المضمونِ تبعًا له: بمعناةِ أنّ الشكلَ والمضمون كانا في شد وجذب بينهما. يؤكد لنا هذا ما رُوِيَ في الكامل للمبرد حيث تزيد تفعيلة في البيت أو تنقص تفعيلة عن المعتاد. ولعلنا بهذا نكون على يقين من أن الوزن في بدايته اعتبرت فيه فائدةُ فنّيّةِ تتابعِ التطورِ الانفعاليِّ والنفسيِّ والتصويريِّ واللغويِّ لدى الشاعر، وليس فقط للناحية الشكلية التي نقلها لنا الزمن عبر أجيال طويلة من الشعراء. "يُرْوَى أن عليًا (رضي الله عنه) أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلامًا ولا نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه:
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكـا
ولا تجزع من الموت إذا حـل بـواديكـا
والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول:
حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا
ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علمًا بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر "اشدد" فأظهره، ولم يعتد.
قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيرًا:
لسعد بن الضبـاب إذا غـدا * أحب إلينا منك فا فرس حمر
وإنما الشعر:
لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا..."
وهذا صراع المساحة المقررة مع المعنى والموقف وَنَفَسِ الشاعر.
وقريب مما سبق ما قام به قدامة بن جعفر من نزع كلمة من حشو بيت لأبي
عدي العيشمي:
نحن الرؤوس وما الرؤوس إذا سمت * في المجد للأقوام كالأذناب
فقد أسقط كلمة (للأقوام) على أنها "حشو لا منفعة فيه"، ولو أسقطها الشاعر لجاء البيت كالتالي: "في المجد كالأذناب": ثلاث تفعيلات في الشطر الأول واثنتان في الشطر الثاني" وهذا على مبدأ ما أورده المبرد من توافق المساحة النفسية مع المساحة العروضية المطروحة..
وقصيدة عبيدة بن الأبرص :
أقفر من أهله ملحوب * فالقطبيات فالذنوب
حيث زحّف، واستخدم أكثر من وزن شعري تبعًا للتطور النفسي الحادث واللغوي المتفاعل مع الحالة النفسية...
وقصيدة للأسود بن يعفر الشاعر الجاهلي الذي كتب قصيدة من خمسة أبيات على أربعة أوزان :
إنا ذممنا على ما خيلت سعد بن زيد وعمرو من تميم
ولعله يزيد من إيماننا أن الشكل الخليلي له توافقات وتداخلات مع
المشاعر الإنسانية، ووجه الشبه بينهما هو التنوّع والتعدد والبساطَةُ أحيانًا والتعقّد أو الازدواج أحيانًا أخرى، والمتداول كالذي وصلنا من بحور الخليل، والمتخفِّي كالذي ألمح إليه الزمخشري بقوله: "والنظم على وزن مخترع خارج على أوزان الخليل لا يقدح في كونه شعرًا، ولا يخرجه عن كونه شعرًا". ويكمل قوله ونظرته وجهةُ نظرِ الجاحظ الذي يرفض المحفوظات من الأوزان ويترك الأمر للنفس الشاعرة أن تبتكر حوارها الموسيقي حيث العروض "أدب مستبرد ومذهب مرذول"
والأمثلة كثيرة في الحماسة وفي غيرها. ولعل القارئ يجد سعة من التفصيل والشرح في "الخطيئة والتكفير" و"الصوت القديم الجديد" للدكتور عبد الله الغذامي..
4- أشكال الشعر الجاهلي (تفعيلي، وعمودي، ومرسل):
وهناك القصائد القائمة على تفعيلة واحدة. وهناك من شعراء العرب من أرسلوا القافية .
ولعل أكبر ضربة لفكرة مجرد الشكلانية التي كالإناء لأوزان جدودنا من قدامى الشعراء في ذكر أبيات لعروة بن الورد (وهو جاهلي أيضًا) ؛ فإن مثل هذه الأبيات فرضت على قارئها الذي يريد أن يقف على تفعيلاتها أن يكتبها بطريقة كتابة الشعر الحر:
يا هند بنت أبي ذراع أخلفتِني ظنّي ووترتني عشقي
ونكحت راعي ثلة يثمرها والدهر فائته بما يبقي
ويقول الدكتور عبد الله الغذامي: "ولن نجد وزنا ثابتًا إلا إذا نحن كتبناها بطريقة الشعر الحر كالتالي:
يا هند بنت أبي ذراع مستفعلن متفاعلاتن
أخلفتني ظني مستفعلن فعلن
ووترتني عشقي متفاعلن فعلن
ونكحت راعي ثلة متفاعلن مستفعلن
يثمرها مفتعلن
والدهر فائته بما مستفعلن متفاعلن
يبقي فعلن.
فيصبح على وزن الكامل بطريقة الشعر الحر .
وينبغي ألا ننسى ظاهرة التدوير في تلك المقطوعة التفعيلية، وما سيرد حولها لاحقًا عند شعراء العصر الحديث.[/justify]