بخلاء .. لم يذكُرهم الجاحظ
بقلم: شامل سفرذَهَبُهم الذي يَكنِزون، وفِضَتُّهم التي يُراكمون .. هي عواطفهم .. مشاعرهم .. أحاسيسهم ... يبخلون بها .. يَضِنُّون بها أن تترجمها شفاهُهم ولو بكلمة .. أو حتى بابتسامة .. وتأبى عضلاتُ وجوههِم أن ترسم لمحةَ تعاطفٍ، ولو من باب المجاملة.
لعلهم انتبهوا في مرحلةٍ ما مِن بدء تشكُّلِ وعيهم، أن الطرف الآخر .. المتلقّي .. يشعر بالسرور والارتياح، إذا ما عبّر له إنسانٌ عن شعورٍ طيبٍ تجاهه ... إذن هي فائدة .. ربح .. «فلماذا يُنفِق هؤلاء المبذرون فيعطونه؟! يا له من غباء!» ... هكذا يدور في دواخلهم .. «ما هي الفائدة؟! ما هو العائد؟! لماذا؟!» .....
أو أنهم يعتبرون أن الإنفاق من أكياس عواطفهم .. ضعفٌ .. وهم لا يريدون أن يبدوا بمظهر الضعفاء .. أبداً .. ولا بشكلٍ من الأشكال ... «معقول؟! .. أنكون مثل أولئك الشحّاذين الذين ينتظرون أن يَمُنَّ عليهم مُحسِنٌ كريم .. بلفتة .. بكلمة حلوة .. لا .. وألفُ ألفِ لا» ...
إذا سألتَ أحدَهُم عن ديدنه هذا .. وألححتَ عليه أن يجيب ... بادرك بالقول أنه لا يُحسن التعبير بالكلمات المنمقة .. وأن ما في قلبه من المشاعر .. كثير .. كثيرٌ جداً .. لكنه لا يتقن فنَّ إخراجِه .. لذلك فهو يُبقيه حيث هو .. في قلبه ... ثم يضيف أن (تصرفاته العملية) هي طريقته في التعبير عن مشاعره .. لا الكلمات .. ولا اللفتات .. ولا حتى لغة الجسد ..... ويقول لكَ هذا الكلام غالباً ، وهو يرسم على وجهه تعبيراً ساخراً من «أولئك المتملّقين السخفاء الذين يبذرون عواطفهم يمنةً ويسرة، دون طائل .. ودون فائدة .. إلا الإسراف .. وتبذير الوقت بمزيدٍ من الكلام الفارغ» !
رِجالُهم ـ إن صحَّت تسميتهم كذلك ـ وجوههم عَظْمٌ ... ونساؤهم ـ إن صحَّت تسميتهن كذلك أيضاً ـ ثلاجاتٌ لا تنقطع عنها الكهرباء .. وذريَّتَهُم التي أستحيي أن أسمّيها: أطفالاً .. معجونون بماءِ اللؤمِ والأذى .. صبيانٌ يكسرون قطع الأثاث لمجرد الهواية .. وبناتٌ لم (ولن) يسمعن بفكرة أن البنوتة .. ريحانة المنزل .. وحنونة أبيها.
انظر إليهم وقد أتت فائدةٌ مادية ملموسة إلى أحدهم .. وستعرف فوراً كم هم كاذبون ... تنشرح أساريرهم .. تنطلق ألسنتهم .. يتحوّلون إلى شعراء .. وإلى ممثلين بارعين في مسلسلٍ مكسيكي أتخمهُ كاتِبُهُ بالكلام المعسول .. حشواً وملءَ وقتٍ .... ثم انظر إليهم وقد مَرِضَ أحدُهم أو حصلت معه مشكلةٌ ما ، فبادره واحدٌ من الناس الطبيعيين بكلمة مواساة ، كيف يرد عليه بأنه قوي .. متماسك .. مجرد وعكة خفيفة .. سحابة صيف .... وكأنه يقول له: «لستُ ضعيفاً مثلكم، ولن أضعف» .. و «إذا كنتَ تقول هذا الكلام كي أرده لك في يومٍ من الأيام .. فأنت واهم» ...
يبخلون حتى بإبداء الرأي .. حتى بالنصيحة ... «لا أعرف .. أنت أدرى ... أنت أعلمُ بظروفك» ... لعلّهم يرتعدون من مجرد فكرة أن يقترحوا عليكَ حلاً ما .. فيترتب على اقتراحهم هذا أن تطلب منهم مساعدةً ما (ولو بالكلام) لتنفيذ اقتراحهم ... الخلاصة .. «حبيبي وعيني .. لكن لا تقترب من جيبي الذي أخبئ فيه عواطفي ومشاعري .. لنفسي فقط» ....
ومع مرور الزمن .. ولأنهم يجهلون (أو يتجاهلون) .. حقيقةَ أن الرزق ينمو بالعطاء .. يتناقص مخزونهم من العواطف والمشاعر والأحاسيس ... يقلُّ .. يتراجع ... وهكذا إلى أن يصل إلى مرحلة الصفر .. فلا يبقى لديهم خوفٌ من أن ينفقوا شيئاً .. إذا لم يبقَ لديهم شيءٌ ينفقونه ... فيتحولون إلى أشباه جَمَادات.
وأما المرحلة الأخيرة .. والتي لا يتوقعونها .. فهي أن هنالك مرتبةً أقل من الصفر .. فالتناقص يصل إلى الصفر .. ثم يتعدّاه نزولاً ... يستمر في التناقص .. إلى أن يصل إلى مرحلة الكره .. والحقد .. والغلِّ .. والحسد ...... أي أنها بداية النهاية.صباحكم ومساؤكم .. تأمُّل.