اللحاق بفلك غزة قبل أن تستوي
رغم أن السفينة التي بناها أبونا نوح عليه السلام، لم يصعد إليها إلا المؤمنين بما جاء برسالته السماوية، رغم ذلك فلم يمنع ذلك من أن يكون أبناء هؤلاء الصالحين أن ينحرفوا فيما بعد ويخرج منهم الفاسق والمتخاذل كما بقي منهم من يحافظ على درجة إيمانه.
لكن المشكلة هي أن الفاسقين ـ وباستمرار ـ يعتقدون أنهم هم من بقوا على الإيمان، وغيرهم هم من انحرفوا عن خط الإيمان. ويبدو أنها إرادة الله سبحانه وتعالى ليجعل الناس في امتحان دائم ليعلم من آمن منهم بصدق ومن لم يؤمن.
وغزة، بمساحتها الضيقة وإمكانيات أهلها المتواضعة، أصبحت كالسفينة التي نقلت الصالحين من عهد نوح عليه السلام الى العهد الذي تلاه، ولم تكن رسالة أهل غزة الى أهل غزة أنفسهم ولا للفلسطينيين ولا للعرب ولا للمسلمين، بل كانت رسالة دعوة الى كل أبناء البشرية، تدعوهم فيها بالبث الحي والمباشر ليروا الزيف الذي ساد قيم العالم ومن يقوده، فلقد ألغى صمود غزة ما خطته أيدي البشرية من كلام يدعي الحث على الأخلاق وينتصر لحقوق الإنسان وتم امتحانه في شكل ردة فعل كل مدعي فكانت النتائج:
1ـ أن الحق وأصحابه هم دائما المنتصرون، حتى لو كانت القوة بشكلها المادي بيد غير أصحاب الحق، وهذا بعثٌ لروحية الرسالة التي جاء بها الإسلام وتجلت بأداء طلائع المؤمنين الذين حققوا الانتصارات في زمن قياسي.
فأثناء المعارك التي كانت دائرة في العراق ضد الإمبراطورية الفارسية، جاءت إشارة من الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه الى خالد ابن الوليد أن يتجه مع قسم من القوات المحاربة هناك الى الجبهة الغربية في الشام حيث القتال ضد إمبراطورية الروم، فتوجه مع بضعة آلاف من الفرسان قيل أن عددهم لم يتجاوز الستة آلاف، فبعث رسولا من طرفه الى (هرقل الروم) وكان يجلس في مجلسه كبار قادته، وقال له: أسلِم تسلم وإلا السيف بيننا، فالتفت هرقل الى أعوانه وسألهم: من هذا؟ فقالوا له: إنه رسول خالد ابن الوليد، فتساءل: ومن خالد ابن الوليد؟ فأوضحوا له أنه جاء من العراق ومعه بضعة آلاف من هواة المقاتلين بأسلحة متواضعة. ولما كانت قوات هرقل في بلاد الشام يزيد تعدادها عن ربع مليون فارس مزود بأحدث الأسلحة في وقتها، ضحك هرقل وقرع كؤوس هذه الطرفة، متسائلا: على ماذا يعتمد هؤلاء في تهورهم؟
وبعد شهور قليلة، كانت سنابك الخيول القليلة تدك حصون الروم والفرس في آن واحد.
2ـ لم تفلح الدوائر الإمبريالية التي أوحت للكيان الصهيوني في تفكيك الجبهة الداخلية لأهالي غزة، ولم تفلح في تفكيك جبهة المقاومة، فكان المقاتلون من كل الفصائل يسارها ويمينها ووسطها تقاتل مع حماس، وقد تعلمت جيدا أن سجون الاحتلال بها من فتح (البرغوثي ورفاقه) والجبهة الشعبية (أحمد سعدات ورفاقه) وكل فصيل سياسي أو مستقل، وقد خبر المواطنون الفلسطينيون بتجاربهم أن الكيان الصهيوني يستهدفهم كلهم مع وجودهم ولم يكن يذبحهم بدير ياسين أو كفر قاسم أو تل الزعتر أو قانا أو جنين على هويتهم النضالية، فكانوا كلهم مع قيادة المقاومة.
سرعة الالتحاق بركوب فلك غزة
كانت الجماهير العربية المستهترة بأداء قياداتها الراكضة وراء سلام مزعوم مع الكيان الصهيوني والذي لا يخفي احتقاره لتلك القيادات التي جلبت لنفسها ولشعبها العار.
كما أن الضمير الإنساني، قد عبر بأبهى أشكاله عن رفضه لزيف القيم السائدة في العالم، وكان اللطم على غزة تعبيرا إضافيا لاستيائه من كل أداء تلك القيادات التي استنزفت شروط بقائها هي ومؤسساتها التي تعبر عن هيبتها المخدوشة من مجلس الأمن الى باقي المنظمات الأخرى.
أما القيادات العربية الرسمية، فإن وخز ضميرها كان بطيئا كمن يتعلم الطباعة بأصبع واحد، لا يستطيع اللحاق بمن يملي عليه ما يكتب، فكانت التبريرات الرسمية لسوء أداء تلك القيادات لا تقنع حتى القيادات نفسها فبات أداءها محموما لا تُحسد عليه، تجلى بالتصريحات المضطربة وزحمة المؤتمرات التي تكشف عورة تلاحم الجسم الرسمي العربي.
من كسب ومن خسر في تلك الحرب؟
في البداية، تُحسب الخسارة والانتصار في الحروب عندما تتكافأ أدوات الحرب، فالمصارعون والملاكمون يجب أن يتساووا في الوزن، فهذا وزن ثقيل وهذا وزن الديك وهذا وزن الريشة الخ،
ولو أن فريق البرازيل بكرة القدم تعادل مع فريق قرية صغيرة في بلد ما، لاعتبر كل المراقبين أن البرازيل قد خسرت خسارة كبرى، فكيف إذا كان الفريق الصغير بإمكاناته قد هزم فريق البرازيل؟
لقد حدد الصهاينة أهدافا لحربهم، منها إنهاء فكرة المقاومة من قاموس الفلسطينيين وإحداث شرخ في صفوفهم وترجيح كفة ما يسمى بالمعتدلين بالمنطقة، وقيادة نوعهم من الفلسطينيين، ووقف إطلاق الصواريخ، وتحرير جنديهم المأسور منذ سنين، ولم تحقق من ذلك شيء.
فالتحم الفلسطينيون مع بعض، وتراجع اللهاث وراء ما يسمى بالمسيرة السلمية، وتعرى زيف العالم الليبرالي وتراجع النظام الرسمي العربي عن إطاعة التوجهات الغربية، من خلال إحراجه أمام شعوبه، وكانت آخر إهانة هي ذهاب وزيرة خارجية الكيان الصهيوني الى واشنطن لترتيب وقف إطلاق النار من طرف واحد، متجاوزين تسايل الحكمة المبتذلة من المعتدلين الرسميين العرب.
من انتصر في هذه الحرب إذن؟ إنها المقاومة الفلسطينية البطلة والشعب الفلسطيني الذي التف حولها، وسار بسفينته لترسو في بر جديد يبشر بمستقبل أفضل، تاركا وراءه من مثل الحكمة الواقعية الزائفة يغرق دون عاصم.