منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 21

العرض المتطور

  1. #1
    --------------------------------------------------------------------------------
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
    (الجزء الثاني)
    أ ـ الكتاب القرآني
    لا شك أن الكتاب القرآني يعد من بين الموضوعات، التي ينفرد بها الأدب العربي الإسلامي دون سائر الآداب في العالم، ويتميز بها الأدب العربي الإسلامي في العصر الحديث بوجه خاص، لكن حال الكتاب القرآني اليوم، تختلف عن حاله في السابق، حين نشأته وظهوره في المجتمعات العربية المسلمة، ويعود السبب في هذا الاختلاف والتباين إلى انحراف دور هذه المؤسسة التعليمية التقليدية، وغياب الالتزام بمبادئها وبكل أهدافها الأصلية ومناهجها الأساسية، وقد ظهر هذا الزيغ ابتداء من العصور التي شهد فيها العالم العربي الإسلامي انحطاطا فكريا واقتصاديا.
    وقد شغل موضوع الكتاب القرآني اهتمام كتاب الرواية والسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، إذ أجمعوا في إبداعاتهم على تناول نفس المشاهد والتجارب، والتمثلات والانطباعات المتعلقة بالكتاب، وهو المكان الذي يجسد إحدى العلامات المميزة للمكون الإسترجاعي الطفولي، والتي تندرج في إطار تشكيل فضاء الذاكرة الجماعية العربية الإسلامية.
    ثم إن الكتاب هو المكان المتفرد بصلته الوثيقة بطور الطفولة، الذي قل بين مؤلفي السيرة الذاتية العرب من لم يعرج عليه متذكرا في سياق سرد تاريخه الخاص، وذلك بالنظر إلى طبيعته وإلى ما يحفل به من متناقضات وذكريات، يقتسمها الخوف، والألم، والغرابة .
    لقد تم اختزال تلك الحياة المرعبة والمتقلبة، التي يحياها الطفل داخل الكتاب القرآني، في وقائع مرئية ومسموعة، ظلت مختلف طقوسها وتقاليدها منـزوية في ذاكرة كتاب السيرة الذاتية العرب، بحيث أن الكاتب العربي لا يجد أدنى صعوبة في استعراض مجريات أولى مراحل حياته التعليمية، وأكيد أن هذه المرحلة وما رحبت به من الآثار الموشومة في الذاكرة، كانت عاملا حاسما أسهم بكيفية مباشرة في تحنيط أجواء الكتاب القرآني في ذاكرة الإنسان العربي، حديثا وقديما.
    ثم إن الحديث عن الكتاب القرآني في مرآة الذاكرة الإسلامية الحديثة يُلازم الإشارة إلى موضوعات كثيرة إذ يكاد الكتاب القرآني يكون ذاكرة موضوعية مشتركة بين الذوات العربية المسلمة، فذات الأجواء ونفس المشاهد والمواقف، والمعالم المكانية المرتبطة بالكتاب القرآني هي قواسم مشتركة بين الخطابات التي يشتمل عليها أدب السيرة الذاتية العربية عموما والإسلامية بوجه خاص، وهي خطابات يشهد بعضها لبعض في العمق والجوهر، ثم إنها دالة على التشابه والمماثلة القائمة بين طبيعة الكتاتيب القرآنية في أقصى المشرق العربي وطبيعتها في أقصى المغرب العربي.
    أما الموضوعات المقرونة بالكتاب القرآني، والتي تكاد تسمه وترمز إليه، فيكفي أن نذكر منها القمع، والرعب، والضرب، والقسوة، وهي ممارسات تلحق الأذى النفسي والجسدي بالطفل في حاضره ومستقبله، ثم إن جميع هذه الممارسات وغيرها تصير صورة (الفقيه) أو (سيدنا) مختزلة لها في ذاكرة الطفل.
    ثم إن ما يعتمد في الكتاتيب القرآنية من نهج غير سليم لا علاقة له بالتربية والتعليم، بل هو في واقع الأمر وحقيقته نهج قمعي مدمر لحياة الطفل المبكرة : النفسية والجسدية، وقد ساد ـ وربما لا زال يسود في حدود معينة داخل البلاد العربية الإسلامية ـ الاعتقاد لدى طائفة من الآباء في إيجابيته وفاعليته التربوية والتعليمية، ولم يشكوا لحظة واحدة في مصداقيته، وقد ظلوا راعين له مدافعين عن بقائه واستمراريته، لأنهم وجدوا آباءهم عليه معتادين؛ بل صار لديهم عرفان وميراثا تجب حمايته من الاندثار، فكان الأطفال ضحية لذلك النهج العقيم، وكانت آثاره ومخلفاته سيئة وجلية طوال مسيرتهم الحياتية.
    تتفق إذن معظم الانطباعات عن الكتاب القرآني، وتتماهى الأوصاف لما يجري داخل هذا المكان من أحداث؛ إنها انطباعات سلبية و أوصاف مثيرة ومخيفة، تجمع على أن الطفل العربي المسلم يخوض تجربة قاسية في أولى مراحل حياته التعليمية، ويعاني منها أشد العناء، فهو مطوق بالقمع والخوف، ومهدد بالضرب والزجر لأتفه الأسباب في أي لحظة من طرف (الفقيه).
    إن المعاناة النفسية تبدأ عند هذا الطفل، وتظهر آثارها عليه قبل أن يلتحق بالكتاب القرآني، بحكم ما يتراكم في ذاكرته من مشاهد، ووقائع مسموعة منفرة ومنكرة حول ما يدور في داخل هذه المؤسسة التعليمية التقليدية؛ لقد صار الكتاب القرآني، من خلال شكله المعماري والطقوس التي تجري فيه، مؤسسة تكرس نشاطا تعليميا قائما على ممارسات قمعية.
    وتكاد تكون الأجواء السائدة داخل الكتاتيب القرآنية الحديثة صورة مرئية وسمعية واحدة، فإذا ما استعرضنا مختلف الشهادات الواردة في متون السير الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، خلصنا من خلالها إلى مشاهد، وانطباعات، وأوصاف دقيقة للكتاب القرآني من الداخل؛ هذا العالم البسيط في مظهره، والمثير في مخبره، لا نعثر له غالبا في شهادات كتاب السيرة الذاتية العرب المحدثين إلا على صور سيئة، لا علاقة لها بتربية الطفل وتعليمه.
    ولا شك أن مجموع تلك الصور السيئة تشكلت بناء على معطيات واقعية، إذ أن إرهاب الطفل وقمعه، ثم إكراهه على الخضوع لتقليد صارم ومنحرف منتهج في التعليم، وتعرضه لسوء المعاملة من خلال ممارسة العنف البدني عليه؛ هذه كلها أفعال تراكبت سلبا في ذهن الطفل، وخلفت لديه جراحا نفسية بليغة في حياته الدراسية، كما أسهمت في تكوين شخصية مضطربة وفاقدة للثقة في نفسها، فلم يكن الأسلوب المتبع لتعليم الأطفال داخل الكتاتيب القرآنية غير فعل تكميلي لمنهجية القمع المتبعة في الوسط الأسري، وهو حصار قمعي يتحول لدى الطفل إلى مصدر للرعب والانطواء على النفس نهارا، وإلى كوابيس متلاحقة ليلا.
    لقد كان الحديث عن موضوعة الكتاب القرآني في أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة مرآة عاكسة لكل ما له صلة وثيقة بهذه الموضوعة التي شغلت مكانا متميزا في الذاكرة العربية ذات الطابع الإسلامي الحديث، فهي تجسد إحدى أهم محطات طور الطفولة في البلاد العربية؛ بل إنها وشم في ذاكرة الإنسان العربي على وجه العموم.
    ومما لا شك فيه أن موضوعة الكتاب القرآني قد أمدت من تحدثوا عن أنفسهم بنفس إبداعي مثمر، ومكنتهم من امتلاك شحنة سردية ووصفية بليغة وفنية، قد سرى مفعولها واتضح أثرها في الصياغة الأدبية لجانب متميز من مرحلة الطفولة.
    ونستطيع أن نقول ـ بناء على ما اطلعنا عليه وسبرنا أغواره في شأن موضوعة الكتاب القرآني ـ إن هذه الموضوعة هي بمثابة عنوان رئيس وعلامة أساسية في مسار حياة من كتبوا سيرتهم الذاتية، إنها تجربة خصبة على مستوى ما توحي به وتفصح عنه من حقائق وإشارات، وعلى الرغم من قساوتها، فقد أفادت كثيرا في بناء قناعات مغايرة لتلك التي سادت في الماضي، وكانت سببا في إعادة النظر وتقييم العملية التربوية والتعليمية من جهة، وباعثا على التجديد، والاجتهاد، ثم بذل الجهد في سبيل تجاوز مختلف الانحرافات السابقة وكافة الممارسات العدوانية والمرضية التي يتبرأ منها العلم جملة وتفصيلا.
    ب ـ القرية والمدينة
    في البدء كان المجال الجغرافي والاجتماعي، الذي اصطلحت عليه الجماعة البشرية بالبادية، والريف، والقرية، أما المدينة أو الحاضرة فهي مكان جغرافي واجتماعي آخر، هو وليد منعطف تاريخي في دنيا الإنسان، ومن ثم فهو مجال محدث بالمقارنة مع الريف أو البادية، وقد كان الارتباط قويا وما يزال بين الكائن الإنساني والبيئة القروية، وربما بسبب قدم تاريخ القرية وعراقتها كان هذا النوع من الارتباط، وربما للسبب ذاته لا يغادر الحنين الإنسان إلى الوسط البدوي الريفي، الذي تتردد معالمه وخصائصه وأجواؤه كثيرا في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
    ويظهر جليا في ضوء كثير من القيم والأبعاد المرتبطة بعالم القرية أن الذات المسلمة تنجذب إلى امتداد فطرتها وحسها الإنساني في المجال الطبيعي الأول، المتمثل في الريف، وهذا الانجذاب يتخذ شكل موضوعة دالة على الطبع السليم في إطار رؤية إسلامية، إذ في القرية، حيث التواصل الحميم والألفة الشديدة، يجتمع الناس لينعموا بالحديث على طبيعتهم وبكل تلقائية في أجواء بسيطة، فيصير الإنسان مسكونا بروح الجماعة، بخلاف ما تشعر به الجماعة البشرية في المدينة، حيث يسود الزيف، والغربة، والوحشة، وحيث يتفشى الخداع ويكثر ارتداء الأقنعة .
    إن المدينة مكان مفتوح، لكنها مع ذلك مكان يسوده الاغتراب والاضطهاد الإنساني، وهي في الغالب تحمل معاني معادية ونقيضة لمعاني القرية، وتأخذ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رمز السلبية، والدخيل، والمصطنع، وذلك في مقابل الريف، والصحراء، والبحر، وهي أماكن من بين رموز الطهر، والأصالة، والسكينة، خاصة أن للمكان علاقة جوهرية بالإنسان، كما أن للموضوعات الطبيعية صلة جد وثيقة بالحالات النفسية للكائن البشري.
    إنه الاصطدام الذي تعانيه الذات المسلمة مع بيئة مدنية، تناقض طبيعة الإنسان المشبعة بصفاء القيم، وقوة الفطرة التي تشكل مناعة ذاتية، تدفع بالكائن الاجتماعي إلى الانتصار للبيئة الريفية، المحافظة على نقائها وتلقائيتها، وإعلان المواجهة والحرب على قساوة الوسط المدني، فالقرية بيئة هادئة ومونسة، بينما المدينة بيئة مضطربة وموحشة، ثم إن الحركة التي تدب في أنحاء الريف تختلف عن الحركة التي تسود أرجاء المدينة، ومن أهم ما ترتبط به الحاضرة القلق الإنساني، والفقر المادي، والفراغ الروحي، والأمل الضائع، والطموح المتكسر، وبمراحل العمر الفارغة، التي تنتقل الذات بين شعابها تائهة من جدب إلى جدب، وسط أجواء عدالة مختلة، وهذه الثغرات هي مصدر أدواء المدينة.
    ثم إن أفعال الإنسان غالبا ما تصرف في الوسط المدني وتذهب سدى عبر مسالك منحرفة ـ تفضي إلى فساد السلوك البشري، بحيث تتحكم الأهواء وتعمل على تنوعها ضد قيام وبناء وسط اجتماعي سليم، كان من المفروض أن يتحقق ويسفر عن وجهه بغير أقنعة مخيفة وصور مريبة، أما اليوم وقد تحولت المدينة إلى عالم كئيب يبعث الرعب في قلب الإنسان، ويذهب بعقله مذاهب شتى، فإن الذات المسلمة تستشعر قربها من الوسط الريفي، خاصة عندما تكون في أوج صفائها الذهني والروحي، باعتبار ما تعثر عليه من حياة مغايرة، مبنية على الانسجام والاعتدال، وهي حياة تظل الذات في شوق دفين إليها على الدوام ، لأنها الأصل والقاعدة البيئية الاجتماعية.
    لا يخفي الإنسان حبه الشديد للقرية، لكن شوق الذات المسلمة إلى الحياة الريفية البسيطة في العصر الحديث، سرعان ما سيخبو ويصطدم بحقيقة القرية ، التي لم تسلم من سيئات المدينة، وإذا أمعنا النظر جيدا، فإننا لا محالة سنكتشف أن الأديب المسلم عاش تجربة الهروب من المدينة واللجوء إلى القرية منقوصة وغير مستوفية لشروطها، لأنه أدرك بأن المدينة صارت قدوة وحلما بالنسبة إلى الريف.
    وقد نتج عن هذه الصدمة غربة مزدوجة تلاحق الذات المسلمة وتحاصرها، ثم إن الإنسان في هذه الحال سيجد نفسه مضطرا للعودة من جديد إلى البحث عن وضعه السليم ووظيفته المحددة داخل وسط اجتماعي آخر وبيئة مغايرة، بعد أن يكون قد أعياه الجري وراء سراب السعادة الوهمية، وأنهكته الحياة المادية الجافة بمتاهاتها، ثم إنه سيستشعر الحاجة في أعماق نفسه إلى طرق باب البساطة والاعتدال في الوسط الجديد، واتخاذهما بديلا للتعقيد والتطرف، فتصير لديه البداوة السوية عوضا للمدنية المنحرفة، وهذا الخيار طالما ازدراه وحط من شأنه، لما كان في غمرة انبهاره بالمظاهر دون الجواهر .
    ج ـ البحر والصحراء
    إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين الخطابات الأدبية الغنية بجملة من الموضوعات المحورية المتميزة، التي تدخل في تشييد بناء ومعمار دلالي متكامل ومحكم، باعتبار أن لها حضورا مكثفا وقويا في مسار هذا اللون الخطابي، فالصحراء مثلا موضوعة أساسية فاعلة في الذات المسلمة، وكذلك الشأن بالنسبة للبحر، إذ أن كلا من الموضوعتين يمثل فضاء رحبا للنظر، والتأمل، والمناجاة، وعالما جد مثير لطلب السكينة والاستقرار النفسي؛ هذا فضلا عن كونهما متنفسان تعاد في قلبهما صياغة الأسئلة الحاسمة، وصفحتان مجردتان من كل زيف أو تمويه، تتلاشى فيهما حيرة الإنسان وارتيابه، ونزواته وأوهامه، فالبحر والصحراء من الأماكن الغنية بالدلالات، ومن العوالم التي تكسب الإنسان معارف متجددة وخبرات متميزة.
    ولا غرابة في كون البحر و الصحراء موضوعتين كونيتين ، دخلتا التاريخ الإنساني من أوسع أبوابه، واحتلتا ببساطتهما مكانة في حياة الأفراد، فهما من بين الفضاءات والعوالم الطبيعية، التي صاحبت الإنسان على امتداد وجوده، فكانت الصحراء مهدا احتضن رسالات التوحيد، التي كلف الأنبياء والرسل عليهم السلام بتبليغها للناس، فالبحر والصحراء منذ وجدا وهما بمثابة مرآة تنزع الأقنعة من الوجوه، ولسان كوني فصيح، يكشف حقيقة الإنسان كلما حاول الاستعلاء أو توهم القوة؛ إنهما فضاءان يلجأ إليهما الكائن الاجتماعي، عندما يضيق باختلال حياته وفسادها طلبا للحقيقة، وبحثا عن الاستقرار والتوازن .
    1 ـ البحر
    والبحر واحد من تلك المخلوقات الكونية، التي تذكر الإنسان بوهنه وقلة حيلته في هذا الوجود، وهو واحد من تلك الآيات الشاهدة على قدرة الخالق و عظمته، وسعة رحمته سبحانه وتعالى، وواقع قائم في عالم الشهادة، وخطاب مفتوح يفصح للمخلوق العاقل عن حقيقته و يعظه؛ إنه كائن مسخر لدعوته إلى التأمل، والتدبر، واستخلاص العبر والحقائق، ثم إن اهتمام الإنسان بهذه الآية الكونية: (البحر)، ينشأ في وقت مبكر سابق عن لحظة المعاينة الفعلية، التي تمثل حدثا متميزا في حياة كل فرد، وتحقيقا لرغبة مؤجلة، وإشباعا لبعض الفضول.
    إن لقاء الإنسان بالبحر هو حدث يجمع بين كائنين، تمتد بينهما جسور من الخطاب الرمزي، والتواصل الكوني، والشبه المجازي، إذ كل من الإنسان والبحر يعتبر كائنا غامضا، ينطوي على أسرار كثيرة، ويتسم بشكل ظاهر وعالم باطن، وكلاهما متقلب لا يستقر على حال؛ إن آثار اللقاء الأول للإنسان بالبحر، التي تختزلها وتمتصها الدهشة، ويتملكها الانبهار والإعجاب وتلك المعاينة الأولى للبحر كافية لتخلف لدى الإنسان انطباعات شتى ستحفظها ذاكرته على الدوام، ذلك لأن رؤية البحر لأول مرة، يندرج بين الأحداث واللحظات الحميمية، التي لا تمحي من ذاكرة الإنسان.
    ثم إن البحر، باعتباره واحدا من بين الكائنات الطبيعية أو المخلوقات الكونية، يفضي إلى الإنسان ـ من خلال حوار خفي _ ببعض أسراره ودلالاته، بقدر ما يفضي إليه الإنسان بهمومه وانشغالاته، فتمتزج إيحاءات البحر ومظاهره بمشاعر الكائن العاقل ووجدانه، إلى الدرجة التي يبلغ فيها ذلك التمازج نوعا من الاتحاد الرمزي أو المجازي، ففي هدوء البحر واضطرابه، وفي مده وجزره، وفي سعته، وعمقه، وأسراره إشارة إلى طبيعة الإنسان وإحالة على تنوع انفعالاته، من سكون وحركة، وصمت وصخب، وسكينة وغضب، واندفاع و تراجع، وقلق واطمئنان، وظاهر جلي وباطن غامض.
    وعندما تتمكن الذات من إبرام ميثاق تواصلي بينها و بين الأمكنة و غيرها من الموضوعات في العالم الخارجي، فتجري معها حوارا حميما و مسترسلا، فإن وقع الاغتراب يكون في هذه الحال قد اشتد عليها بين بني جنسها، وتكون حدة السؤال قد شغلت كل تفكيرها، فتزداد الهوة اتساعا بين مركز الذاتية وضفاف الغيرية، مما يحتم على الإنسان البحث عن محاور بديل، بقصد أن يلتمس عنده بعض الإعانة على تبديد قوة الشك والحيرة المتنامية، وأيضا بهدف العثور على الإجابة الشافية على كثير من الأسئلة عنده، بعد أن تكون قد استفزته واستعصى عليه أمرها.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  2. #2
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
    (الجزء الثالث)
    2 ـ الصحراء
    إن الصحراء مرآة للنفس البشرية المجردة، وللحياة الطبيعية دون قناع، ففي شساعتها وبساطتها ونظافتها عودة بالإنسان إلى فطرته وأصله ، و تطهير له من انحرافاته وأهوائه، ولا شك أن الصحراء بما هي عليه من صفات ومعالم، تجرد حياة الإنسان من كل الأقنعة والأوهام، ففي نظافتها وطهرها شفاء لما تراكم في أعماق الكائن البشري من علل وأدواء؛ إنها صارمة في كشف ضعف الإنسان ورفض عبثه وضلاله، وليست الصحراء ـ كما يعتقد أكثر أهل البلاد الغربية ـ مكانا تسوده قسوة البداوة وتمزق المجتمع؛ بل هي عند العرب وغير العرب المسلمين فضاء رحبا موحيا بأبلغ وأسمى القيم الإنسانية، ومجالا يفيض طهرا وصفاء، وخطابا كونيا مفتوحا، يوحي بالتوحيد والحياة المجردة من كل زيف وقناع.
    إن الحالات التي تعتري الإنسان وهو في قلب الصحراء متكاملة الوظائف، إذ أن هذا الفضاء الجغرافي يمثل مسرحا لاكتشاف قيمة الحياة، واختبار الطباع البشرية مجردة من كل مظهر مزيف، وعلى الرغم من بساطة الصحراء والفراغ السائد فيها، فالجديد مباغث للإنسان على امتداد أرجائها، والإنسان الذي يخوض مشقة الرحلة والسفر فوق رمالها، وبين تلالها وكثبانها المتلاحقة، يكتسب باستمرار معرفة جديدة، ويكتشف أشياء كثيرة.
    فالرحلة في الصحراء أشبه ما تكون بركوب البحر، بحيث إذا كان ركوب البحر يوحي بترقب سفينة أو رؤية يابسة قد تلوح في الأفق، فكذلك الرحلة في الصحراء توحي بترقب قافلة أو رؤية واحة قد تلوح وسط السراب، ثم إن كثبان الصحراء وتلالها تذكر كل من شاهدها بأمواج البحر.
    أما اللقاء بين الناس المتنقلين في هذه الأجواء الصحراوية القاسية، والتحدث في ما بينهم، فذو طبيعة متميزة وألفة شديدة، وتمثل الصحراء إذن منبعا للحكمة، والمبادئ، والقيم الأصيلة، فالحضارة في أبهى صورها الروحية قائمة في الصحراء، وتحديدا في شبه الجزيرة العربية، بفضل الإسلام الذي أنار أرجاءها.
    ومن ثم فالصحراء تعد سرا من أسرار الحياة، ومكانا يحث الإنسان على التخلص مما علق به من نواقص ورذائل، واكتسبه من شرور وآثام، ثم إن الصحراء آية سخرها الله لعباده لتوحي إليه بما عليه من مجاهدة نفسية، تقتضي الصبر والإيمان، وذلك في سبيل الوصول إلى الحياة الدنيوية المثلى.
    إن ثمة فضاءات لا يملك الإنسان دفع تأثيرها، فهي بمثابة مثير خارجي للمشاعر والأفكار؛ بل إنها بواعث قوية لما تحتفظ به الذاكرة الفردية من أحداث ومواقف، خاصة منها تلك التي تتصل بالحياة العقدية للإنسان، فبإمكان المرء أن يستوعب التأثير المكثف لبعض الأمكنة المتميزة، التي تبعث في النفس انطباعات مختلفة، وتعمل على إحياء مشاعر دفينة في أعماق الإنسان، كما أنها توقظ في الذهن جملة من الإدراكات والتأويلات، حتى إن الذات تستشعر جاذبية الفضاء المكاني، وتتجاوب إيجابا مع جميع ما يشتمل عليه من موضوعات وآثار فعلية بالقدر الذي تعي به غنى وخصب إيحاءاته الرمزية.
    ثم إن كل أدوات الاستقبال الطبيعية لدى الفرد، تسهم بتكامل وظائفها في تشكيل علاقات جديدة من داخل العالم الخارجي، فضلا عن كونها تمثل جسرا واصلا بين ذات الإنسان ومحيطه، حيث تختزل الأشياء ومختلف المعالم المكانية شحنات من الأفكار، والمعاني، والدلالات، وما هذه الشحنات في الأصل إلا نتيجة لما يخلفه الفرد من آثار خارج ذاته، ولما يضفيه من إنسانيته وروحه على كل الموضوعات المادية، التي تنخرط بهذا الفعل ومن هذه الزاوية في دائرة التجريد، لتدخل بعد ذلك في علاقات معقدة مع الذات.
    وعندما يحتد انفعال الأنا بالمكان، يجد الإنسان نفسه في قلب فضاء يتأمله بكل ما أوتي من قوة تركيز، وكأنه يكتشفه لأول مرة في حياته، لكنه لا يستغرب وجوده بداخله، ويرى نفسه بعضا من الحياة التي يوحي بها المكان، وجزءا من حركة في مدار، ومن ثم يدرك بأن الذات الإنسانية ليست مركزا أو محورا، وإنما هي ذرة تسبح في فلك دائري، وبالتالي يظل المكان عاملا مساعدا على اكتشاف حقيقة بهذا الحجم و هذه القيمة.
    د ـ المسجد
    يعد المسجد من بين الأماكن الرمزية والهامة في العمران الإسلامي، فهو رمز للإسلام القائم على مبدأ التوحيد، وهو كذلك رمز لوحدة المسلمين، وعلامة بارزة تطبع الحياة الإسلامية اليومية، ثم إنه دعوة في حد ذاته إلى اتباع تعاليم العقيدة الإسلامية والتمسك بها، فهو فضاء ينطق ببساطته، وهدوئه، وإيحاءاته، ومكان تطمئن إليه النفس وتنجذب إليه، وعالم يذكر الإنسان بخالقه سبحانه وتعالى و بالدار الآخرة، ويذكره بحقيقة نفسه وبوظيفته ورسالته في هذه الحياة الدنيا.
    وإذا كان المسجد يحتل مكانة كبيرة في نفوس العرب المسلمين و حياتهم اليومية، فإنه بالتالي ذو أثر بليغ في حياة الإنسان، الذي يهتدي إلى الإسلام ويدخل فيه بعد ضلال وبحث جهيد، رغبة منه في العثور على الدين الحق، ومن ثم فهو معلم جد هام وإشارة متميزة في تجربة الاهتداء، التي تعيش الذات الغربية و غيرها فصولها المثيرة، ويكفي أن المسجد (بيت الله تعالى) يرتبط في الغالب لدى الذات المهتدية بحدث دخولها في الإسلام، وذلك من خلال النطق بالشهادتين،.
    ثم إن لفضاء المسجد ولجغرافيته وهندسته الأثر الروحي البليغ في نفس الإنسان المسلم، كما أن لأصوات المؤذن الذي يرتفع بالأذان عاليا من قلب المسجد ذات الأثر، فالفضاء الفسيح، وجمال الهندسة، وعذوبة الصوت، ثم ما يظهر على وجوه المصلين من سكينة وخشوع، جميعها عناصر تمارس جاذبيتها على الذات الإنسانية؛ بل وتمنحها من قوتها الروحية وإيحاءاتها العميقة حظا وافرا، وتعكس عليها جوهر البساطة ومنتهى التواضع.
    ولا شك أن المسجد بالنسبة إلى الإنسان خطاب مفتوح على العين، والنفس، والروح، وبقدر ما هو خطاب موضوعي قائم في العالم الخارجي، بقدر ما هو دعوة إلى توحيد الخالق عز وجل، ثم إنه مثير روحي وباعث على معرفة الإسلام والتطلع إلى الحياة الآجلة الباقية؛ إنها الانطباعات، والشهادات، والأوصاف تدل على التأثير البالغ للمسجد في حياة الإنسان العربي المسلم، وهي عبارات تفضي بنا إلى حقيقة مؤداها أن المسجد مكون أساس وموضوعة مكانية رئيسة، لا يكاد يخلو منها متن السيرة الذاتية الإسلامية بوجه عام، ومتن السيرة الذاتية العربية الإسلامية بصفة خاصة.
    ومن المؤكد أن تأثير المسجد في الذات العربية المسلمة، يتمثل في عمق العلاقة القائمة بينهما، فالمسجد مدرسة تصقل فيها أخلاق الإنسان المسلم، وتسدد في رحابه سلوكاته، ويتعلم فيه الكثير من القيم الإسلامية، حتى إن تنظيمه المعماري يعكس جوهر تلك القيم، هذا بالإضافة إلى أن المسجد يلزم من يلج إليه بسمات معينة، ومعنى هذا أن هذا المكان كغيره من الأمكنة لا يشكو فراغا أو سلبية، وأن الكيفية التي يتم إدراكه بها، تزكي فيه ما يكتسيه من دلالات خاصة.
    ثم إن المسجد مكان يثير فضول الذات الحديثة العهد بالإسلام، ذلك أن أول ما يحرص عليه الإنسان المهتدي هو التعرف أكثر على هذا المكان ووصفه من الداخل بدقة متناهية، والاجتهاد في استقراء كل ما يجري فيه، ومحاولة النفاذ إلى عمق كل جزئية وثيقة الصلة به، وكأنه يحاول من خلال الكلمات أن يلتقط له صورة معبرة أساسا عن الأجواء الروحية الماثلة فيه، وأن يفضي إلى جوهر الإسلام من خلاله.
    إن المسجد بالنسبة إلى الإنسان الداخل حديثا في الإسلام فضاء يحثه على القيام بمقارنة بين أجواء التوحيد السائدة فيه، المحكومة بالخشوع والنظام، وأجواء الكنيسة التي يسودها الشرك، والضلال، والتحريف، ومن ثم تخلص الذات المهتدية إلى تلمس الفرق الكبير بين وظيفة المسجد ومدى تأثير الحياة التي تسري فيه، ووظيفة الكنيسة المفتقرة إلى روح العبادة الحقيقية، فما يستشعره الإنسان في المسجد بعيد كل البعد عما يستشعره المرتاد للكنيسة ومناقض له تماما.
    ثم إن المسجد مكان يثير فضول الذات الحديثة العهد بالإسلام، ذلك أن أول ما يحرص عليه الإنسان المهتدي، هو التعرف أكثر على هذا المكان ووصفه من الداخل بدقة متناهية، وكأنه يحاول من خلال الكلمات أن يلتقط له صورة معبرة بالدرجة الأولى عن الأجواء الروحية الماثلة فيه.
    ثم إن ما يختلج في أعماق الإنسان الغربي، المقبل على الدخول في الإسلام، أو الداخل فيه، من مشاعر وتحولات، قد يكون باعثا قويا له على استكشاف المسجد الذي يرمز في وجه من وجوهه إلى إقامة الصلاة، باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة، وغالبا ما ستكون للمهتدي عين واصفة دقيقة، سيحرص من خلالها على النفاذ إلى جوهر العلاقة القائمة بين ظاهر المسجد وباطنه، وسيجتهد ما وسعه الاجتهاد في استقراء حقيقة ما يجري داخل هذا المكان المميز عن غيره من الأمكنة.
    هـ ـ مكــــة / الحج
    موضوعة مكانية أخرى نعثر لها على أصداء، وإيحاءات، ودلالات في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة؛ إنها مكة المكرمة، وعندما يذكر هذا المكان نستحضر فريضة الحج والركن الخامس في الإسلام بكل حمولته العقدية والشعائرية ذات الأبعاد الرمزية الكبرى في حياة الإنسان المسلم، الذي يتملكه الشوق والحنين إلى حج بيت الله تعالى وزيارة مدينة مكـة، تلك الأرض الطاهرة التي ترتدي حلة من البساطة والهيبة، والتي كانت مسرحا لكثير من الأحداث التاريخية الكبيرة في صدر الإسلام، بقدر ما كانت فضاء لمشاهد ومواقف عظيمة ومازالت، ويأتي في مقدمتها مشهد الحج الذي يتكرر مرة في كل سنة هجرية.
    إن مكة موضوعة مكانية حاضرة في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية العربية والأجنبية على حد سواء، وتكاد قراءة هذه الموضوعة أو استعادة مشهد الحج، سواء من طرف الذات العربية أم الأجنبية، تكون واحدة، ثم إن مكة / المكان، والحج / الحدث والمشهد، يجسدان في تكاملهما ذاكرة مشتركة بين الذاتين، مثلها في هذه السمة كمثل ذلك التكامل القائم بين المسجد / المكان والصلاة / الحدث، والذي يجسد بدوره ذاكرة مشتركة بينهما.
    وثمة إشارات جد مركزة تثير انتباه من يقصدون مكة وبيت الله الحرام، فاختلاف الأجناس والألوان، واللغات، واللباس الأبيض الموحد والبسيط، ثم الكعبة، والطواف، وعرفة والوقوف بها، جميعها مثيرات خارجية تذكر الإنسان بفناء الدنيا وزوال زخرفها ونعيمها، وتبعثه على تدبر آيات الله عز وجل، وإدراك ماهية النفس وقدرها، ثم تحثه على محاسبة الذات والإعداد ليوم الرحيل واستقبال الدار الآخرة.
    إنها علامات دالة في جوهرها على توحيد الله تعالى، وعلى وحدة المسلمين ومساواتهم، ولا شك أن مشهد الحج يوحي بعالم آخر جديد، كل ما فيه يشهد له بالسمو والتجرد، ويتوجه إلى الإنسان بالدعوة إلى الله عز وجل، ويذكره في العصر الحديث بذلك المجد والإرث الإسلامي القديم الذي ملأ الدنيا بنوره وأصدائه الإيمانية.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  3. #3
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
    (الجزء الرابع)
    وـ السجن و المنفى
    لقد استطاعت السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن تكون إنتاجا يجمع من جهة بين الحس الأدبي الإسلامي والفعل التأريخي، وأن تصير ذات وظيفة مزدوجة: جهادية ومعرفية من جهة ثانية، ثم إنها استطاعت أن تفصح في جانب مهم من متنها وخطابها عن إدانتها للممارسات الوحشية والقمعية، التي شهدها العصر الحديث في كثير من السجون والمعتقلات داخل العالم العربي الإسلامي، والتي حولت الإنسان العربي المسلم إلى ذات موشومة بالأسى والحسرة، وذاكرة تنوء بجراح غائرة، وقد تمكن كثيرون ممن تعرضوا لمحنة السجن، والنفي، والاعتقال من التعبير عن التجربة، وتسجيل شهاداتهم نثرا وشعرا.
    ثم إننا لن نكون مغالين أو مجانبين لقدر وافر من الصواب إن ألمحنا ونبهنا إلى كون تجربة السجن والاعتقال، تمثل في جزء لا بأس به من حيث الكم والكيف، داخل منظومة أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، تلك الموضوعة المركزية التي تبسط سلطانها السردي على فضاءات وعوالم مكانية وزمانية، وتتخذ لها الشخوص والدلالات قطبا رئيسا؛ إنها التيمة/ الموضوعة التي كانت باعثا لكثير من الكتاب المشارقة والمغاربة على مصارحتنا بجانب متفرد من حياتهم الدامية، وإطلاعنا على تجارب عاشوها قاسية ومأساوية يجهلها أكثر الأحياء في العالم العربي الإسلامي؛ بل إن تجربة السجن والاعتقال كانت باعثا لهم على إشراكنا في بعض ما عانوه من ممارسات هادرة للكرامة، وفي بعض ما خلف جراحا عميقة في أنفسهم.
    إننا أمام تجارب دامية، كُتبت ـ على حد تعبير نجيب العوفي ـ بنبض القلب وأشفار العين؛ بل إنها خطت بأنفاس الجسد ودمائه، ونحثت عميقا في الذاكرة قبل أن تصير حروفا على ظاهر الأوراق وباطنها، ولا شك أن ما كان من حظ الصفحات وبطون الكتب ليس سوى ظلال وأصداء بعيدة من عمق التجربة القاسية والمدمرة، ومن المؤكد الواجب أن تتم قراءة هذه التجربة بنبض القلب كذلك.
    إن تجربة السجن والاعتقال والنفي تمثل إحدى أهم قضايا الاغتراب، التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بصفة خاصة، لأنها تحكي جانبا كبيرا من تاريخ معاناة واغتراب الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، ابتداء من منتصف الأربعينات من القرن الماضي، ولقد كتب لهذا الأدب (أدب السجون) أن يرى النور بقوة في مصر بصفة خاصة، ابتداء من أوائل السبعينات من هذا القرن، منشورا بين قراء العالم العربي الإسلامي من جهة، وبين قراء العالم الغربي و سائر بلاد العالم من جهة ثانية، إذ أن الكثيرين عبروا عن تجربة السجن، وسجلوا تجاربهم كشهادات وثائقية حية، أو من خلال أعمال روائية، وقد ارتأى كل واحد منهم أن يبسط أمام القراء بعضا من تجربته داخل السجون والمعتقلات، فجاءت كتاباتهم في هذا الباب شاهدا صارخا، وفصولا متكاملة لواحدة من أبشع و أفظع الممارسات القمعية التي ذهب ضحيتها الإنسان العربي المسلم الحديث.
    ثم إن أدب السجون من الألوان التعبيرية، التي يتقاسمها النثر والشعر معا، ومداره من الناحية الموضوعية على المحاور التالية:
    أولا: تصوير معاناة السجين داخل المعتقل، والمتمثلة في الآلام الحسية الجسدية والمعنوية الروحية الهائلة والمستبدة بشخص السجين نتيجة التعذيب الممارس عليه، بالإضافة إلى تصوير العلاقة القائمة بقوة الإكراه بين المسجون والسجان داخل المعتقل.
    ثانيا: وصف نماذج بشرية، وأنماط سلوكية يرصدها السجين طيلة المدة الزمنية التي يقضيها داخل المعتقل.
    ثالثا: الربط بين الحياة داخل السجن والأوضاع السياسية السائدة والقائمة، وما تشهده من اختلالات ، ومفاسد، و مظالم.
    رابعا: الاستشراف النفسي المستقبلي، بين الأمل المشرق بالحرية الشاملة واليأس المطبق، الذي يسم الكلمات والعـبارات بلون قاتم، ثم النـظر إلى السـجن على أنه ابتلاء، وتجربة لها آثار وأصــداء نفسية وروحـية عمـيقة وبعيدة المدى.
    لقد كانت المفاجأة والصدمة قوية و بالغة الأثر في نفوس قراء أدب السجون والمعتقلات في العصر الحديث، وذلك لما اشتمل عليه هذا الأدب من شهادات مؤثرة حول وقائع مأساوية ودامية، فكان بحق وثيقة تاريخية كشفت عن الوجه المرعب لواقع الأمة العربية المسلمة في العصر الحديث، ولم يكن التأريخ لهذه الحقبة الزمنية، من خلال أدب السيرة الذاتية أساسا، إلا مبادرة جاءت من باب الحرص على حفظ كثير من الحقائق التاريخية، التي شهدها التاريخ الحديث للأمة العربية المسلمة، وذلك خشية ضياعها، أو طمسها، أو تحريفها.
    وقد عمل عدد من الكتاب على كتابة ونشر كل ما من شأنه أن يساعد على الإحاطة بملابسات تلك الحقبة الزمنية ومجرياتها المأساوية من جهة، بقصد الاستفادة من نتائجها المختلفة والمتعددة، وبهدف استخلاص العبر والدروس منها، وتلبية لنداء الواجب والمسؤولية، الذي يقضي بالتأريخ للدعوة الإسلامية في العصر الحديث، والعمل على استمرارها من جهة ثانية، وإنصافا كذلك للقادم من الأجيال العربية المسلمة، التي لها الحق في معرفة تاريخ آبائها وأجدادها، وماضيها وإرثها الحضاري بوجه عام، و تعد الأعمال الأدبية التي تم نشرها تباعا لهذا الغرض نمطا متميزا من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إذ يستقي خصوصيته من انفراده بسياق تاريخي معين، وبخطاب جماعي موحد، تحكمه لغة واحدة، وعقيدة دينية واحدة، وتتطابق فيه قناعات وانشغالات وتطلعات واحدة.
    لا شك أن محنة الذات العربية المسلمة، وهي تخوض مكرهة تجربة السجن والاعتقال، كانت بالفعل عقدة مأساوية، ظل أكثر الناس في العالم العربي الإسلامي الحديث زمنا طويلا لا يعلمون وجودها، ويجهلون أحداثها الكبرى وتفاصيلها الدقيقة، لكن عددا من السجناء العرب المسلمين، الذين عاشوا تلك المأساة الدامية، حاولوا أن يترجموا شكلها ومحتواها من خلال الإدلاء بشهاداتهم، على الرغم من وعيهم وإدراكهم للعناء الذي سيلقونه في استعادة ما تعرضوا له من ألوان التعذيب والهوان، وما عاينوه من مشاهد وحشية، وعلى الرغم مما في سرد معاناتههم داخل السجون من الأذى لنفوسهم المكلومة، ومن الألم الشديد لذواتهم المتأزمة، إذ انهم رأوا التصريح بالشهادة واجبا مفروضا لا يجوز للإنسان المسلم أن يتخلف عنه، وأن من الإثم كثمان الشهادة.
    إن في تأريخ الذات المسلمة لنفسها و غيرها ـ من خلال محنة السجن، والاعتقال، والنفي ـ معاناة جديدة لا تقل مأساة ولا تخلو من مشقة، إذ من العسير على السجين أكثر من غيره أن يقرأ ما احتفظت به ذاكرته من وقائع المحنة، ثم لا يجب أن يغيب عن الأذهان كون ما وعته ذاكرة السجين الفردية هو في ذات الوقت اختزال لما اشتملت عليه الذاكرة الجماعية التي يسمها تاريخ المحنة المشترك.
    ثم ربما قد تواضع الناس منذ القديم على كون السجن في تاريخ البشرية، هو ذلك المكان المقتطع من العالم الخارجي والمعزول عنه، الذي بحكم انغلاقه وضيقه وعزلته، صارت الحياة بداخله ذات طابع خاص وطقوس غير مألوفة، باعتبار شذوذها وتناقضها مع تلك الحياة القائمة خارج أسواره، لكن الذي يحيا داخل السجن، تتطور نظرته مع مرور الأيام إلى هذا البناء، بقدر ما تتخذ الحياة في العالم الخارجي أبعادا جديدة ؛ فقط السجين وحده الذي يستطيع بين الأحياء أن يدركها حق الإدراك.
    إن من الأمكنة ما يتحول لدى الذات المسلمة من عوالم وفضاءات معاكسة إلى مجالات مكانية مساعدة، باعتبار أن هذا الضرب من الأمكنة _ مثل السجن والمنفى _ يتخذ طابعا مزدوجا، يجمع بين بعدين متناقضين، يتجسدان في تقييد الحركة و التنقل الجسدي من جهة، وفي انطلاق الفكر متحررا من القيود المادية من جهة ثانية، وتعد الحرية الفكرية و الروحية ملجأ ذاتيا، يحتمي فيه السجين والمنفي من كثرة الضغوط الخارجية الممارسة عليهما وقساوتها، ومتنفسا طبيعيا لهما، ومصدر قوة يدفعان و يتحملان بها شدة معاناتهما.
    ثم إن ما يمكن أن نفضي إليه من طبيعة الحياة الفكرية والروحية، والوجهة التي تأخذها هذه الحياة في إطار تجربة الذات المسلمة داخل السجن، نستطيع أن نستخلصه من نهج الحياة الذي تسلكه نفس الذات، وهي تعاني تجربة النفي، بحكم أن المنفى لا يقل قساوة عن السجن، ولا يختلف عنه كثيرا في التأثير، فكلاهما من طينة واحدة، إذ تعاني فيهما الذات الحصار والتضييق، بقدر ما تلاقي فيهما من الابتلاء والمجاهدة النفسية.
    ولا شك أن كلا من السجن والمنفى من أكثر العوالم والفضاءات تجسيدا للمفارقات المبنية على الثنائيات الضدية، مثل ما بين داخل السجن والمنفى وخارجهما، وما بين الانفتاح والانغلاق، وما بين السعة والضيق، وهي ثنائيات جدلية، تتكامل ولا يلغي بعضها بعضا، ومن ثم فإن الإنسان وهو في قلب السجن والمنفى يشكلان ذلك التعارض بين الحيز المكاني المادي المغلق والمعزول والباطن النفسي الرحب.
    ثم إن السجن يمثل واقعا خاصا، يجمع بين السجناء بحكم تواجدهم داخله من ناحية، وتتباين معاناتهم فيه باعتبار اختلاف انشغالاتهم ومدى تفاعلهم معها من ناحية ثانية، ومن ثم نخلص إلى أن السجن مكان يندرج ضمن الأماكن الباعثة على الحكي والكتابة، فهو فضـاء يشهد مخـاض وولادة الـتأريخ لتجربة خاصة، ذلك لأن الذات محاصرة فيه، والإنسان لا يستطيع الهـروب منه إلا بالاستغراق في التفكير، أو الاستعانة بالخيال، أو بإيجاد متنفس في أحلام ورؤى المنام.
    لكن الكتابة والتأريخ لتجربة ذاتية في مثل هذا الوضع، يظل فعلا متميزا، ونشاطا من طبيعة متفردة، يمارس السجين والمنفي من خلاله حرية الفكر والتعبير، متجاوزا بذلك آثار الاعتقال والنفي وانعكاساتهما النفسية والجسدية، خاصة آثار تلك الأفعال القمعية التي تمارس على السجين المعتقل في مكان يفرض عليه باستمرار ضروبا من الرعب والقلق، ويسيج وجوده المادي كما يحاصر حياته المعنوية.
    إن تأريخ الذات المسلمة لمحنتي السجن والنفي، هو رد فعل كبير على إهانة الإنسان المؤمن والعبث بكرامته، ودليل واضح على أن مصير كل محاولة تهدف إلى طمس الحقائق التاريخية واحد هو الفشل، هذا فضلا عن كون التأريخ للذاتين: الفردية والجماعية المسلمة وقراءة ذاكرتيهما هو ترجمة مختزلة لتجارب مأساوية، ظلت لأمد طويل مغيبة ومجهولة لدى عامة الناس.
    ثم إن هذا الضرب من الكتابة يفيد الشعور بواجب الإدلاء بالشهادة، والإخبار، والاحتجاج، والدعوة إلى التأمل في طبيعة المواقف، والأحداث، وأسبابها، ونتائجها، وكذا مواجهة النفس وتطهيرها، وأخذ الدروس والعبر من الماضي، خاصة و أن الأيام التي يقضيها المعتقل والمنفي مكرها في السجن والمنفى ليست بالقصيرة وإن كانت معدودة، وكل من الذات السجينة، والذات المنفية تحرصان ـ في قلب الحيز المكاني الضيق والمعزول ـ على استجماع ما تفرق في العالم الخارجي من دقائق الحياة الشخصية، وهو فعل تقاومان به محنة السجن والنفي.
    إننا أمام كتابة تعرفنا على أفراد حقيقيين، وتترجم لنا أحداثا وظروفا حقيقية لا نصيب للتأليف الخيالي فيها، فليست الذات وحدها التي تسجل حضورها في المنفى، وإن كانت الطرف المباشر الذي يخوض تجربة النفي، أيضا ليست الذاكرة فقط هي المنفردة بالتواجد فيه، على الرغم من أنها الملكة العقلية المسؤولة على تحنيط التجربة والاحتفاظ بها للذكرى؛ بل إن الكتابة بدورها شاهد على تجربة النفي، وحاضرة بقوة في نفس الحيز المكاني المحدود إلى جانب الذات والذاكرة.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  4. #4
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
    (الجزء الخامس)
    فليست الذات وحدها التي تسجل حضورها في المنفى، وإن كانت الطرف المباشر الذي يخوض تجربة النفي، أيضا ليست الذاكرة فقط هي المنفردة بالتواجد فيه، على الرغم من أنها الملكة العقلية المسؤولة على تحنيط التجربة والإحتفاظ بها للذكرى؛ بل إن الكتابة بدورها شاهد على تجربة النفي، وحاضرة بقوة في نفس الحيز المكاني المحدود إلى جانب الذات والذاكرة.
    إن لفعل الكتابة في المنفى قيمة أدبية و تاريخية متميزة، فهو فعل إنسان منفي، ونتاج فرد في إطار ظرف خاص، هذا فضلا عن كونه أداة مساعدة لنشاط الذاكرة، ثم إن الوجود عادة في المنفى يعني العزلة عما يجري في العالم الخارجي، لكنه في نفس الآن يعني غوص هذا العالم _ المتجسد في الوطن _ عميقا في ذات الكاتب المنفي، مما يمنح الفرصة للمخيلة كي تنشط، وللأحلام والرؤى المنامية كي تتوارد.
    إن تواجد الإنسان بغير إرادته في مكان مغلق، سواء أكان معتقلا أم منفى، هو سفر للذات بالإكراه داخل عالم محكوم بقوى معاكسة، يتحول فيه الزمن الحاضر إلى معاناة، وانتظار، وترقب؛ إنه زمن القيد والحصار العارض في مقابل زمن الحرية، وعندما يتحول الحاضر إلى فضاء للحلم، والرجاء، والإستشراف، ونافذة تطل منها الذات العربية المسلمة إلى المستقبل، يقوى الأيمان بفعل وقيمة الكتابة، وتسمو وظيفة التأريخ، باعتبار أنهما فعلان يمكنان من توثيق الأحداث، ورصد الأفكار والمشاعر، ومحاورة الذات المنفية أو المعتقلة من جهة، ويحفظان من جهة ثانية حق الأجيال اللاحقة في التعرف على أحوال أسلافهم .
    ولا شك أن ارتباط حاضر الكاتب العربي المسلم بالسجن والمنفى، واقتران المستقبل بالإنعتاق والحرية، هو في الواقع ارتباط يتحول في ظله المستقبل إلى حياة مؤجلة، تفتقدها الذات المسلمة في زمنها الحاضر، وقد وظف معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، الذين تعرضوا للنفي والإعتقال، سياقات خطابية دالة على تلك الحياة المنتظرة.
    ليست ذاكرة السجين ملكة حافظة فقط؛ بل هي كائن فاعل ينحت فاعليته في قلب المحنة والعذاب، إنها ذاكرة مسكونة بمختلف الممارسات التعذيبية، والمشاهد الوحشية الفظيعة، التي تمثل في مجموعها بعضا من المعاناة المقترنة في حياة السجين بظروف عصيبة وأمكنة محددة.
    ولا شك أن الإنسان السجين عندما يتذكر ما خاضه مكرها من تجربة الإعتقال، ويجسد ذلك بالكتابة، فإنه يبرهن على قدر كبير من الشجاعة، والفعل، والعطاء، في وقت لم يتمكن غيره من ممارسة ذلك الفعل وبذل هذا العطاء، ثم إن السجين يؤكد إنسانيته عندما يتذكر محنة الإعتقال بحمولتها القاسية، فهو يصرخ في وجه القائمين خلف مختلف الممارسات الحاطة من كرامة الإنسان، والمجتهدين في صياغة وحشد الأفعال المهينة والمشينة، محطما بذلك كل محاولات المحو والألم التي يستهدف الإنسان بها.
    إن شهادة السجين مكاشفة صريحة، وفضح صارخ لممارسة تدمير القدرة الإنسانية، وطمس الهوية والكرامة، ومؤكد أن السجين قد خبر أقصى درجات المحو الوجودي، والبشاعة والرعب، وما تذكره لمعاناة الإعتقال في جوف الدهاليز، والأقبية، ومختلف الأماكن المعتمة إلا ألم وأي ألم.
    ومن المؤكد ـ حسب اعتقادنا ـ أن أدب السجون يمثل إضافة نوعية إلى أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ثم إنه بوجه خاص يشكل قيمة متميزة، ووجها إبداعيا بدأ في العقود الأخيرة يطل من نافذة هذا الأدب، وحتما سيشغل مكانة جد مهمة في ما يستقبل من الزمان.
    د. أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  5. #5
    المكونات الخطابية الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    لقد أجمع أكثر النقاد والدارسين على أن السيرة الذاتية الفنية ترتكز على وحدة البناء، وتطور الشخصية، وقوة الصراع، والحقيقة التاريخية، ومصداقية السرد الأدبي الواضح والمباشر، هذا بالإضافة إلى رصد العالم الداخلي للذات الكاتبة، دون إغفال النظر إلى العالم الخارجي، ثم انتقاء كل ما يتناسب من المواد مع الصياغة المعتمدة من قبل المعني بالسيرة في هذا اللون من الأدب.
    والملاحظ هو أن السيرة الذاتية المكتوبة، تختزل بشكل جلي ذات الكاتب والحياة التي اقترنت بها، وتسعى من جهة ثانية إلى الإحاطة نسبيا بما تبقى للكاتب من ماضيه، الذي يكتسي معنى ومدلولا ذاتيا وفقا لرؤية معينة، ثم إن هذا العمل الأدبي ـ الذي يجسد المعادل الموضوعي لسيرة المؤلف ـ يحمل في ثناياه نوعين من الازدواج: الأول متمثل في تكامل البواعث/ الأغراض الظاهرة مع البواعث / الأغراض الباطنة، والثاني تترجمه تلك العلاقة الوثيقة القائمة بين الاستقراء الموضوعي مع التسويغ الذاتي، ومن ثم فإن مدار نجاح الكاتب في صياغة سيرته الذاتية على هذه الطبيعة الازدواجية، التي تسم جنس السيرة الذاتية عموما.
    ولا شك أن صاحب هذا المشروع الأدبي ، يدرك جيدا ما تعنيه الأبعاد المزدوجة ، التي تنطوي عليها سيرته الذاتية، خاصة إذا علمنا بأن هذا الضرب من الأدب له الكثير من أسرار الحكي ولذة القص وإمتاعه، وله من قوة التحليل النفسي وقوته، وكل ما يمنح العمل الفني ذلك الإشراق الإبداعي المتميز.
    ثم إن كل من يكتب سيرته الذاتية، نراه يجد في بعث ماضيه و إحياء ذاته من جديد عن طريق الكتابة، وحتى يكتب له التوفيق في هذه المبادرة، لا بد من أن تشتمل سيرته المكتوبة على العبارة الموحية، والتجربة الشعورية، وذلك لتبلغ كل من التجربة والعبارة درجة التماهي النسبي عند الذات الكاتبة والذات المتلقية على حد سواء.
    صحيح أن هذه الثوابت تمثل في واقع الكتابة الأدبية أركانا لا تقوم بدونها السيرة الذاتية الفنية، ونحن لا نرى لنا حولها جدالا أو عليها اعتراضا؛ لكننا لا نتفق ـ في سياق آخر ـ مع من يعتبر كتابة (الذكريات)،
    و(المذكرات)، و(اليوميات)، و(الاعترافات) أشكالا من أدب السيرة الذاتية؛ بل نعتقد بأنها مكونات كبرى خاصة بخطاب السيرة الذاتية، أو هي أجناس أدبية صغرى، متفرعة من جنس السيرة الذاتية.
    ثم إننا نعتقد اعتقادا راسخا بكون أدب السيرة الذاتية ليس مفهوما مرادفا أو مطابقا لأدب الترجمة الذاتية ـ وقد أفضنا الحديث في هذا الشأن في مدخل هذه الأطروحة، واجتهدنا ما وسعنا الاجتهاد في إيضاح مدلول كل من (السيرة الذاتية)، و(الترجمة الذاتية) من جهة، وفي التمييز بين الاصطلاحين من جهة ثانية ـ وانطلاقا من هذه القناعة، يقتضي المنهج العلمي السليم ضبط وتحديد مختلف الاصطلاحات التي تدور في فلك جنس السيرة الذاتية ، خاصة بعدما تحولت الذات الفردية إلى بؤرة اهتمام دقيق، وصارت مادة خصبة لعملية السرد الأدبي، إذ أنها ماثلة بدرجات متفاوتة في عدد من الإنتاجات الأدبية.
    إذن من الضروري تحكيم ثلاثة معايير أساسية قبل الحكم على أي نص أدبي، يندرج في الإطار العام لجنس السيرة الذاتية، وذلك بقصد تصنيفه، ومعرفة ما إذا كان سيرة ذاتية مستوفاة لجميع شروطها وأركانها؟ أم أنه فقط أحد مكوناتها الكبرى وأجناسها الصغرى؟ أما المعايير فهي:
    أ ـ شكل النص الأدبي: حكائي، ونثري أو شعري، ثم إرجاعي.
    ب ـ الموضــــوع: التاريخ الفردي الخاص.
    ج ـ وضع الكاتــب: مؤلف، وسارد، وشخصية رئيسة.
    إن (المذكرات)، و(الذكريات)، و(الاعترافات)، و(الترجمة الذاتية)، لا تستجيب للمعيار الثاني، المتمثل في طبيعة الموضوع، الذي يجب أن يكون تاريخا فرديا خاصا وشاملا، و(اليوميات) لا تستجيب للمعيار الأول، المتمثل في شكل النص الأدبي، الذي يجب أن يتصف بالحكائية، ويتسم باسترجاع الماضي، أما السيرة الذاتية الروائية، فلا تلبي شرط المعيار الثالث، الذي يقضي بأن يكون الكاتب في ذات الوقت مؤلفا، وساردا، وشخصية رئيسة.
    إن السيرة الذاتية، باعتبارها جنسا أدبيا، تتسع لجميع تلك المكونات الخطابية الكبرى/ الأجناس الأدبية الصغرى، ووحدها تستجيب للمعايير الثلاثة، وبذلك استطاعت أن تنفرد بصفة الجنس الأدبي عن أدب المذكرات، والذكـريات، واليوميات وغيرها من مكوناتها الخطابية الكبرى، ولا بأس أن نسترسل قليلا في الحديث عن المكونات الكـبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديـثة ـ والتي بطبيعة الحال ليست حكرا على هذا اللون من الأدب الإسلامي ـ أو ما يسمى تارة بالأنواع أو بالأنماط، ويطلق عليه تارة أخرى الأجناس الأدبية المجاورة لجنس السيرة الذاتية، فهل بالفعل ثمة صعوبة في الوصول إلى تحديد الفوارق القائمة بين (السيرة الذاتية) ومكوناتها الكبرى؟!
    1 : أدب الترجمة الذاتية: وهو بإيجاز فن تأريخ الحياة الموجز، الذي يهدف به الكاتب إلى تقديم نفسه والتعريف بشخصه في صفحات قليلة، ونقتصر هنا على الإشارة إلى أن الترجمة الذاتية مكون لا تخلو منه أي سيرة ذاتية إسلامية حديثة بوجه خاص، وأي سيرة ذاتية على العموم.
    2 : أدب المذكرات: هو ما يكتبه عادة شخص قام بدور بارز في مجرى الأحداث، سياسية كانت على سبيل المثال أم اجتماعية، ويهتم فيه أساسا بالأحداث التاريخية التي شارك فيها من بعيد أو قريب، وبالأحوال المحيطة به أكثر ما يحفل بوقائع حياته الخاصة، ذلك أن المذكرات تحتفل في المقام الأول بالشخصيات والأحداث، وكل ما يجري خارج وحول الذات الكاتبة؛ لكن هل صحيح أن جنس المذكرات هو أصل أدب السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية المتقاربة؟
    وغالبا ما تجمع المذكرات الإسلامية الحديثة بين ما شاهده و سمعه الكاتب، وبين ما صدر عنه من أحاديث وأقوال وما أتاه من أفعال، وثمة بالفعل علاقة قائمة بين كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وكتابة تلك المذكرات، إذ نادرا ما لا يتدخل كاتب المذكرات من حين إلى آخر في ما يكتب، وكذلك مؤلف السيرة الذاتية، قل ما تخلو كتابته من الأحداث العامة التي سبق له أن عاشها.
    ولا شك أن "المذكرات" لها مكانتها العضوية، وحضورا طبيعيا لا ينكر في قلب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، باعتبارها مكونا فاعلا، بحيث من الخطأ أن ننتظر من كاتب هذا الضرب من الأدب الإسلامي التغاضي ـ حين سرده لتاريخه الشخصي ـ عما يجري حوله من أحداث ووقائع، وعما يشهده محيطه من الأوضاع والظروف، إذ لا يستطيع أي كاتب أن يتجرد من مشاعره وأحاسيسه إزاء ما يحتك به من مجريات العالم الخارجي.
    إن "المذكرات" مكون أساس في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وليس بالإمكان أن نتمثل أي سيرة ذاتية مكتوبة في غياب هذا المكون وغيره من المكونات الخطابية الكبرى، إذ أن السيرة الذاتية في النهاية ما هي إلا صياغة فنية، تجمع بين سائر مكوناتها، وليس صحيحا ما يعتقده البعض من أن لا خط يفصل ما بين السيرة الذاتية والمذكرات، وما بين السيرة الذاتية والرواية، وأن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة نسب ودرجات.
    ثم إن "المذكرات" ذات فائدة كبيرة، وتكتسي أهمية بالغة، وهي مدرجة في السيرة الذاتية، لأن التفاعل قائم بالضرورة بين شخصية الكاتب و الأحداث الخارجية، ومن ثم تتخذ صفة الوثيقة التاريخية، التي تكشف عادة عن خفايا ومجاهل تتصل أساسا بالذات الكاتبة، وتجلي طبيعة ما يربطها من علاقات متشعبة بعدد من الشخصيات، والمؤسسات وغيرهما، ثم إنها تعكس مختلف مستويات ومناحي الحياة السائدة في الوسط الذي نشأ فيه المؤلف.
    3 ـ أدب الذكريات : هو فن تعبيري يحتفل بالمسترجعات من المشاهد و الأحداث، والمواقف واللحظات الأكثر إثارة و دلالة في حياة الإنسان، والأكثر رسوخا في ذاكرته، وكتابة الذكريات أوثق صلة بأدب السيرة الذاتية، إذ تتخذ "الذكرى" محورا ومدارا، وقد لا يعتمد فيها الكاتب الترتيب الزمني، بحيث يكتفي بالتذكر والاسترجاع التلقائي لأهم ما رسخ في ذاكرته وخلف في نفسه أثرا متميزا في الماضي، لكن عندما يتعلق الأمر بصياغة السيرة الذاتية، فإن الذكريات يجب أن تستجيب لشرط الترتيب الزمني، ولتحقيق هذه الغاية، يلزم أن يتمتع المؤلف بذاكرة قوية، تساعده على ضبط زمن كل ذكرى على حدة.
    لكن إنجاز مثل هذا العمل، يظل متعذرا في الغالب، مما يحتم على الكاتب اللجوء إلى عملية الاسترجاع التلقائي أو التذكر العفوي لما مر به من تجارب في حياته، ثم إنه كثيرا ما يلجأ إلى عملية التخيل ليستعين بها في ترميم بعض ذكرياته والربط بين العناصر المكونة لها، خاصة تلك التي تؤرخ لطفولته.
    4 ـ أدب الاعتراف: هو ضرب من الكتابة الأدبية، يفشي من خلاله المؤلف أسرارا شخصية جديرة بالذكر، ومفيدة بالنسبة إلى الآخرين في إضاءة جملة من الخبرات: من ميولات، وأهواء، وعثرات، ونزوات، ومشاعر، وأخطاء، و آثام، وأفكار، وآراء وغيرها مما له سمة الأسرار والمكتومات الشخصية، التي يضن ويحتفظ بها الإنسان لنفسه في الغالب، فنرى كاتبها يبوح ببعض ما يحرص الكثيرون على كتمانه وإخفائه عن غيرهم، و"أدب الاعتراف" مكون رئيس في كتابة السيرة الذاتية.
    لكن الكاتب المسلم لا يذهب في اعترافاته إلى حد ذكر عوراته و كشفها أمام القارئ المتلقي، ولا يبلغ في ما يكتب من اعترافات درجة خدش الحياء، وإثارة الميع الخلقي في القراء، وإفساد الذوق العام؛ بل نجده يحرص على القيمة الأخلاقية في كل ما يعترف به، ويكتبه من ألفاظ وعبارات.
    5 ـ أدب اليوميات: ضرب آخر من الكتابة الأدبية، وأحد المكونات الخطابية لأدب السيرة الذاتية، بحيث يتم من خلاله رصد الأحداث اليومية، أو وقائع أيام دون أخرى، حسب أهميتها التاريخية، وباعتبار ما تمثله في حياة الكاتب، وما حفلت به مميزات، وهي أيام كثيرا ما يجتمع ويتداخل فيها الذاتي والموضوعي من العناصر؛ إنها تسجيل مباشر للتجارب، لا يغيره أي تأمل لاحق.
    ثم إن من طبيعة "أدب اليوميات" أنه يمتاز بالمباشرة الآنية، والتمكن من رصد ومتابعة الأحداث والمستجدات اليومية، مما يسمح للكاتب بتدوين ما مر به في يومه من وقائع هامة ومثيرة بدقة، باعتبار أنه يتخذ من مجريات الزمن الحاضر موضوعا لكتابته، وفي هذه الحال لا يسترجع ماضيا، ولا يسجل مستقبلا، لكن "اليوميات" تظل الأقل اعتمادا على تأمل الأحداث وتحليلها، والأقل ارتباطا و تماسكا.
    وإذا كان من بين كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من يحرصون على إفراد يومياتهم بمؤلف مستقل أو إدراج بعض منها في ثنايا ما يؤلفونه حول ذواتهم ، فذلك لأن لها قيمة أدبية وتاريخية لا يستهان بها، فهي قريبة جدا من الأحداث التي تحيطها بالوصف، وبذلك فهي مؤهلة لتجنب عامل النسيان، ثم إنها الأكثر تميزا بسمة الصراحة المباشرة، والكشف عن الكثير من طباع كاتبها، وهي فضلا عن هذا تسجيل دقيق، واقتفاء متواصل لانفعالات وأحاسيس صاحبها، وتطور شخصيته بوجه عام، ونذكر من بين كتاب اليوميات الإسلامية الحديثة، زينب الغزالي، وأحمد أمين، محمد المختار السوسي، وأحمد رائف، و مراد ويلفرد هوفما ( MURAD WILFRIED HOFMANN ).
    6 ـ أدب الرسائل: فن تعبيري غالبا ما يتواصل كتابة من خلاله الأدباء، والعلماء، والمفكرون وغيرهم، وهو مكون خطابي في أدب السيرة الذاتية، يتخذ في معظم الأحيان صفة الوثيقة داخل هذا الأدب، والتي قد يقصد بها صاحب السيرة الذاتية استعادة الحقيقة التاريـخية المشوبة بالزيف والتحريف، ولتكون شاهدا على صدق حديثه من جهة، أو ليتخذها سبيلا إلى بعث مشـاعر، وأحاسيس، وانفعالات خبت جذوتها بفـعل طي الزمان لها، إذ يحاول بإحيائها استرجاع اللحظات المثيرة والمميزة التي كانت في تاريخ مضى فضاء لجملة من المواقف، والتجارب وغيرها من جهة ثانية.
    ومن بين ما تتميز به المراسلات الشخصية، تلك المعلومات الثمينة التي تشتمل عليها في موضوع جملة من المواقف والأحداث، وفي ما يتصل بعدد من الأشخاص، إنها بحق أداة مساعدة ومكملة لما تنطوي عليه كتب التاريخ والحضارة الإنسانية، وليست مجرد وسيلة نتعرف من خلالها على شخصية كاتبها، أو أنها مجرد تعبير عن طبيعة مشاعره.
    ثم إذا كان أدب الرسائل يشكل رافدا أسلوبيا ودلاليا بالغ الأهمية لمختلف ضروب التعبير الأدبية، وفي مقدمتها أدب السيرة الذاتية، فضلا عن الخصائص التي تسمه باعتباره خطاب شخصي في المقام الأول، فإنه في ذات الوقت يمثل جزءا هاما من ثقافة الشعوب، وشاهدا على الظرف التاريخي الذي عاش فيه مبدعوه، بقدر ما هو إنتاج إبداعي يساعد على اكتشاف جوانب خفية من حياة الأفراد...
    هذه جملة من الأفكار النظرية والنقدية المتواضعة نبسطها أمام الباحثين، والدارسين، والمهتمين بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي للأسف الشديد قدرا غير هين من التهميش والإهمال في البلاد العربية الإسلامية، فكان بالأحرى أن تتم العناية به، وإحاطته بما هو أهل له، وعسى أن تبعث هذه المقالة على السعي مستقبلا إلى تكريم جنس أدب السيرة الذاتية ...
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  6. #6
    السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة والأدب الإسلامي
    تقتضي الضرورة المنهجية أن نتحدث قليلا عن "الأدب الإسلامي"، بحكم علاقته الوثيقة بموضوع هذه الدراسة، واعتبارا كذلك لما يشوب مصطلح "الأدب الإسلامي" لفظا ومفهوما من فهم خاطئ وريبة، وإدراك قاصر، وسنحاول التعريف بالأدب الإسلامي أولا، ثم نكشف بعد ذلك عن جميع الزوائد والشوائب التي تحيط بماهية وأصالة هذا الأدب، إيمانا منا بقوة الصلة التي تجمع بين "السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة" و"الأدب الإسلامي" عامة.
    إن معظم الأدباء، والنقاد، والباحثين يكادون يلتقون عند تعريف واحد للأدب الإسلامي، وهو الآتي: الأدب الإسلامي تعبير جمالي وفني مؤثر بالكلمة عن الحياة والإنسان، والكون، وهو صدى القيم في النفس والتصورات الفكرية من خلال الرؤية الإسلامية.
    لقد اهتم كثير من الباحثين والنقاد بالأدب الإسلامي، فحاولوا كشفه وإيضاحه، واجتهدوا في إبراز خصائصه الفنية والموضوعية، منطلقاته وغاياته، عسى أن تتضح صورته النهائية في أذهان الأدباء، والنقاد، والقراء، ونجد أمامنا اليوم جملة من المؤلفات والدراسات النقدية والأعمال الأدبية، التي اتخذت الأدب الإسلامي محورا ومدارا.
    وليست الدعوة إلى هذا الإتجاه الأدبي حديثة العهد، أو نتيجة لانتشار الصحوة الإسلامية؛ بل إن الأدب الإسلامي عتيق في آيات الذكر الحكيم وسوره الكريمة، وفي كلمات محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وفي كم غير قليل من النثر والشعر العربي منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية.
    لكن ما يثير الإستغراب حقا، هو أن البعض يعتبرون مصطلح "الأدب الإسلامي" مجرد تعبير شاع في الأعوام القليلة الأخيرة، في ظل ما عرفته الحركات الإسلامية في مصر والعالم العربي الإسلامي من تطور ونمو؛ بل ويزعمون أن هذا الأدب لم يتم بعد تحديد اصطلاحه وضبط حمولته الدلالية بكيفية علمية، وهناك طائفة ثانية من الأدباء والنقاد ترفض الأخذ بمصطلح "الأدب الإسلامي"، وتأبى توظيفه بدعوى غيابه في الدراسات الأدبية التراثية، وثمة طائفة ثالثة تنظر إلى الأدب الإسلامي على أنه فكرة عاطفية غير ناضجة، تنطوي على نظرة تقديسية إلى الماضي، وتستدل على هذا الزعم والإدعاء بواقع العلاقة التي تجمع الأديب المسلم بالقرآن والسنة.
    إن الأدب العربي الحديث يعاني من ظاهرة تغريب الذات المسلمة، وغياب الذاتية الإسلامية في هذا الأدب يعني أن الذات الكاتبة تشكو من انفصام شديد، وميزة الأدب الإسلامي تكمن في انفراده بقواعد أساسية لا تصدر عن مفاهيم وضعية، أو أهواء وتأملات بشرية؛ بل إنها قواعد نابعة من قلب العقيدة الإسلامية، القائمة على القرآن والسنة النبوية، ثم إن الأدب الإسلامي ليس مجرد تجربة عارضة أو عابرة، أو هو عبارة عن مغامرة فردية أو جماعية، قائمة على مبدأ "خالف تعرف "، وإنما هو أدب له من الخصائص المادية و الروحية ما لاسبيل إلى تجاهله أو إنكاره.
    أما الشرط الأساس في الأدب الإسلامي، فهو أن يكون بالمعيار الإبداعي راجحا، وأن يكون الأثر الذي يتركه في النفس محمودا، وأن يرغب القارئ في الإسلام بمبادئه وقيمه السامية، باعثا له على الإقتراب منه، وليس المقصود بالأدب الإسلامى أن يكون تاريخا أو بحثا فقهيا، ولا تفسير آية أو شرح حديث، فهذه الأنماط من الكتابة ليست أدبا.
    لكن الذي يجب أن نؤكد عليه وننبه إليه أولا و أخيرا، هو أن الأدب الإسلامي رهين بالإسلام، وموقوف على الأديب المسلم، وبعبارة ثانية نقول: إن الحديث عن الأدب الإسلامي في غياب العقيدة الإسلامية والذات المسلمة يعد ضربا من المستحيل؛ فنحن لا نتفق جملة وتفصيلا مع من يرى بأن الأدب الإسلامي يشمل كل نص أدبي، شعرا كان أم نثرا، يتحقق فيه المعنى الإسلامي، وإن كان صاحب النص لا يدين بالإسلام، ولا يلتزم به في واقع حياته.
    صحيح أن جميع العصور التي عرف فيها الإنسان الأدب، لم تخل مما يجوز أن نسميه: "أدب الفطرة الإنسانية"، سواء الشفهي منه أم المكتوب، وهو أدب يتفق ولا يختلف في مضمونه ومحتواه مع "الأدب الإسلامي"، لكنه لا يتماهى معه أو يرادفه من حيث المدلول، واللفظ، والماهية، لأن أدب الفطرة الإنسانية يفتقد روح العقيدة الإسلامية، التي يجب أن تحكم رؤيته ومنحاه وغايته، بخلاف الأدب الإسلامي الذي ينبع من تصور الدين الإسلامي، ويهتدي بتعاليمه، وقيمه، ومبادئه.
    نعم، قد تأتي على الإنسان غير المسلم أوقات يتحدث فيها أو يكتب تبعا لما فطر عليه، واهتداء بصوت الفطرة الذي يتردد صداه في أعماقه، لكن من المستحيل أن نلتمس الأدب الإسلامي عند كتاب يرفضون أصلا الانتساب إلى هذا الأدب، ويجهرون علانية بتمسكهم وإيمانهم بتصورات تناقض الإسلام في أصوله وفروعه.
    ومما لا شك فيه أننا لن نتمكن بأي حال من إقرار المضمون الإسلامي لأي نص أدبي بدعوى أن صاحبه مسلم، لأن إسلام الشخص غير كاف للحكم بالـصفة الإسلامية لأي خطاب أدبي؛ بل إن الحكم بهذه الصفة يقتضي النظر في الإنتاج الأدبي، لكننا في ذات الوقت لا نتفق مع من يرى بأن مصطلح "الأدب الإسلام" لا صلة له بالأديب، وإنمـا هو دال على الأدب في ذاته، فهل نحـكم للـنص الأدبي بالصفة الإسلامية لمجرد أن صاحـبه استشهد بآية قرآنية أو بحديث نبـوي شريف؟!
    وبناء على شرط الاعتقاد في الإسلام يظهر الفرق جليا بين "الأدب العربي" و"الأدب الإسلامي"، وهذه الحقيقة ليست وليدة اليوم؛ بل تاريخها يعود إلى مجيء الإسلام، حيث اتخذ الأدب منحى آخر ووجهة مغايرة لتلك التي عاشها في العصر الجاهلي، كما عرفت القراءة الأدبية تطورا ملحوظا، فصارت هي والأدب أداتين للتهذيب الخلقي، والتربية النفسية والروحية.
    وبالفعل ارتقى الأدب العربي بفضل الإسلام إلى مكانة جليلة، بحيث لم ينف عنه المفهوم الذي عرف به في الجاهلية؛ بل قومه وسدده بأن وجهه الوجهة الصحيحة التي تمكنه من النمو والسمو الفكري والروحي، وهذه كانت روحا ودفعة جوهرية جدد الإسلام بها الحياة في قلب وجسد الأدب العربي، وهي نفس الروح التي يفتقر إليها معظم الإنتاج المنشور اليوم باسم الأدب العربي الحديث، الذي تحكمه في الغالب تصورات غير إسلامية، وتهيمن عليه رؤية غير واضحة المعالم، ويكفي أنه أدب تتنازعه مظاهر القومية، والإقليمية، والمحلية الضيقة من جهة، والمفاهيم والمواضعات من جهة ثانية.
    إن الأدب الإسلامي هو الذي بإمكانه أن يشمل كلا من "الأدب العرب" و"الأدب الأجنبي"، لكن بشرط أن تكون الذات المنتجة لأي نص أو عمل أدبي معتقدة في الإسلام، وأن تكون كتاباتها الأدبية شاهدة على اعتقادها، إذ لا وجود إطلاقا لأي إنتاج أدبي مجرد؛ بل إن صلة كل إبداع وثيقة بما يدين به صاحبه، أو ما يؤمن به فكرا كان أم عقيدة، ثم إن الإسلام لم يكن يوما دينا موقوفا على العرب فقط، أو عقيدة مغلقة ومعزولة في مكان وزمان محدودين؛ بل منذ كان الإسلام وهو دين مفتوح أمام الأعاجم، وغير محرم على من يريد الدخول فيه طواعية.
    هذه كانت نظرة وجيزة حول الأدب الإسلامي، الذي لقي بدوره دون وجه حق غير قليل من التجاهل المنكر من طرف الكثيرين، فهل من منتصر لهذا الأدب الشامخ العريق ..؟
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  7. #7
    --------------------------------------------------------------------------------
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ضوء أساليب الكتابة
    إذا كانت السيرة الذاتية تنفرد بمرونة سردية نادرة، تتجاوب وتتفاعل بها مع مختلف الأجناس الأدبية، فذلك لأن طبيعة جنسها قابلة لاستيعاب أي أسلوب أدبي، ومن ثم فإن درجة مرونتها البالغة، تسمح للكاتب أن ينحت لتاريخه الخاص جسدا مركبا من السمات المميزة لمجموع أجناس وألوان التعبير الأدبي المتنوعة.
    ولا شك أن الأساليب المعتمدة في كتابة السير الذاتية الإسلامية الحديثة، تستجيب بمجموع مكوناتها لعملية التشكيل، التي تقوم على ما يرتضيه المؤلف من تنسيق لمواد سيرته، ثم بنائها على أساس الإحاطة بمسيرة حياته الخاصة، مع اعتبار نموه الداخلي وصراعه النفسي، والاهتمام بالملامح الخارجية وتحولها، علما بأن قيمة أي سيرة ذاتية من الوجهة الفنية تقاس بما فيها من الذاتية، وما تعكسه من قوة في استرجاع مختلف المشاهد، والمواقف، والأحداث ذات التأثير البالغ، و من معالم ولحظات التحول البارزة.
    إن ثمة أساليب متنوعة لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، وهي أساليب مشاعة بين جميع كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي، إذ منهم من ينهج في تأليف سيرته أسلوب السرد القصصي، أو أسلوب السرد الروائي، كما أن منهم من يسلك في تأليف تاريخه الشخصي أسلوب السرد المقالي، ومنهم من يمزج بين أسلوبين أو أكثر في الكتابة، على أن مختلف هذه الخيارات الأسلوبية لا تعفي المؤلف من شرط الاستقراء الذاتي، والغوص في أعماق النفس، والقدرة على التعبير و الصدق فيه.
    فالأساليب: المقالية، والقصصية، والروائية حاضرة بنسب متفاوتة في نتاج السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي أساليب منتهجة من طرف المؤلفين، كل يأخذ بها حسب قناعته ورؤيته الإبداعية، وهي أساليب تساعد على القيام بنوع من التصنيف، والملاحظ ـ في ظل التمييز بين الأنماط الأسلوبية المعتمدة في كتابة هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث ـ هو إفصاح كل كاتب عن ذات نفسه، وذلك باختيار الأداة الأسلوبية التي اعتاد التعبير بها عن أفكاره، ومشاعره، وانطباعاته، فقد يكون متمرسا في كتابة المقالة، أو ذو حنكة في تأليف الرواية، أو له خبرة في كتابة القصة.
    لكن هل لنا أن نقتنع بكون أدب السيرة الذاتية العربية في العصر الحديث غني بالأساليب والأشكال التعبيرية، وأن له بهذه الخاصية وهذا الغنى من القدرة الإبداعية ما يميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى؟ وهل بالفعل له من المرونة ما يمكنه من عدم التقيد بقواعد تجنيسية صارمة، وبالتالي يسمح له بالانفتاح على باقي الأجناس التعبيرية؟
    إن الأساليب النثرية التي تطبع نتاج السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يتخللها حينا بعض الاجتهادات الفردية الملحوظة، لكنها في معظم الأحيان تظل محكومة بجملة القواعد المتواضع والمتفق عليها في تحديد ماهية جنس السيرة الذاتية، إلا أن السمة الغالبة في هذا اللون من التعبير الأدبي الإسلامي هي الازدواجية من ناحية والتعددية في الأسلوب من ناحية ثانية.
    ومما يستحق الذكر في سياق هذا المحور، هو أن الفائدة الكبيرة التي خلص إليها كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمون في عصرهم الحديث، والثمار التي جنوها نتيجة احتكاكهم بكتاب هذا الفن الأدبي من الأجانب ـ خاصة الغربيين منهم ـ قد تجلت آثارها في الأساليب التي صاغوا بها سيرهم الذاتية، ويكفي أن نستشهد في هذا المقام بما رسمه بعض الكتاب الغربيين من خطة لكتابة السيرة الذاتية، وكان ذلك أثناء دعوتهم محمد عبده إلى تحرير تاريخه الخاص .
    أما الأسلوب المقالي، فله مظاهر وتجليات بارزة في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، نذكر منها: التفسير، والتحليل، والإيضاح، بحيث تأتي السيرة الذاتية مكتوبة على شكل مقالة طويلة جد مسهبة، مشتملة على فصول قصيرة، تمت كتابتها في مراحل متباعدة من حيث زمن إنشائها مستقلة، لكنها ذات قاسم مشترك ـ متمثل في شخص المؤلف ـ تبدأ منه وتنتهي إليه.
    ثم إن الكاتب باعتماده هذا الأسلوب، يبذل جهدا معينا في البحث عن وسيلة للربط بين فصول سيرته المقالية، معتبرا في هذه العملية مبـدأ التدرج في تسجيل أطوار حياته المتعاقبة، وحريصا في آن واحد على بناء قدر من الوحدة والتماسك بين أجزاء سيرته، حتى لا يستعصي على القارئ المتلقي أمر الجمع بين أجزائها، ومن خلال الأسلوب المقالي، يحاول كاتب السيرة الذاتية تفسير، وتحليل، وإيضاح وقائع حياته الماضية، وذلك باقتفاء أثر تحولاته المتلاحقة، وتسجيل تجاربه الفردية الحاسمة، ثم تمثل ذاته وكشف مجاهلها وما خفي منها، وبالتالي وصف تطور وعيه بالعالم وبذاته.
    وأما الأسلوب الروائي، فليس له حضور مكثف في المتن العام للسيرة الذاتية ذات السمة الإسلامية الحديثة، إذ نلاحظ بجلاء أن القلة من الكتاب فقط هي التي استطاعت الارتقاء بكتابة السيرة الذاتية إلى درجة فنية متميزة، وذلك باعتمادها الصياغة الروائية دون غيرها من المقومات، في الوقت الذي انصرف فيه معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إلى التأليف وفق أسلوب المقالة، مع أن هذا الأسلوب كان يشوبه في بعض الأحيان ميل إلى التقرير، وتخالطه الصياغة الإخبارية الجافة.
    ولا بأس أن ننبه هنا إلى كون السير الذاتية التقريرية والإخبارية الجافة، التي تفتقد القيمة الأدبية الفنية، والتي قد نعثر على البعض منها، لا تعني في شيء افتقار أصحابها إلى التجارب الفردية؛ بل إنها تدل على ضعف أداة التعبير الأدبي لديهم، وعدم تمكنهم من استيعاب مقومات الصياغة الفنية.
    إن الأسلوب الروائي أسلوب تصويري، يتطلب من الكاتب الإفصاح عن جنس ما يكتب، وكل من يتخذ هذا الأسلوب أداة في ما يقصه من سيرته الذاتية، عليه أن لا يذكر إلا الحقيقة، وأن لا ينساق وراء الخيال، وأما المزج بين عدة أنماط أسلوبية في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ، أو الإكتفاء بمزج أسلوبين فقط، فظاهرة ملحوظة، وإن كانت الازدواجية الغالبة في الصياغة، التي تمنح السيرة الذاتية إضافة نوعية، وقيمة أدبية، ودرجة فنية، متمثلة في الجمع بين أسلوب المقالة ـ المرتكز أصلا على التفسير والتحليل ـ وأسلوب الرواية المبني على السرد الروائي، والوصف، والحوار، وقدر من التخييل، الذي يلجأ إليه مؤلف السيرة الذاتية بقصد الوصل بين أجزاء الحقائق التي عرفها و أدركها في مسيرة حياته.
    ثم إن هذا الطابع الأسلوبي الذي يجمع بين خصائص المقالة وخصائص الرواية، يمكن الكاتب من القيام بعمليتي: التحليل والتصوير، وذلك بهدف الإحاطة بمختلف التجارب الفردية، والمواقف الشخصية، والحالة الفكرية والنفسية، ويساعده على توظيف أدوات دقيقة لتحقيق تلك الإحاطة الذاتية؛ فالتأمل، والإيجاز، وربط النتائج بالمقدمات، بالإضافة إلى السرد الروائي المتسم بمسحة من التشويق ـ تشد القارئ المتلقي، وتثير فيه حس المشاركة الوجدانية مع صاحب السيرة ـ جميعها أدوات مساعدة.
    إن كتاب السيرة الذاتية غالبا ما يتدرجون في سرد تاريخهم الفردي من الماضي إلى الحاضر، باعتبار أن الماضي وعاء لتجاربهم الخاصة المسترجعة في الزمن الحاضر، الذي يشهد إنجازهم الأدبي، لكن هذه الصياغة المنتظرة والمتوقعة ـ دون غيرها ـ من طرف القراء، والتي تطبع عملية السرد في السيرة الذاتية التقليدية عادة، وتحافظ على أفق انتظار القارئ ليست الخيار الوحيد المعتمد في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
    إن ثمة خيارات أخرى غير موقوفة على نمط بعينه، أو على توجه، أو تيار خاص في كتابة السيرة الذاتية، وإنما هي فسيفساء من فنون الصياغة، سائدة في العالمين: العربي الإسلامي والغربي، وأكثر تلك الخيارات أو الأوعية السردية وغيرها من الاجتهادات الممكنة في هذا الباب من التعبير الأدبي، تبتعد عن النمط التقليدي في كتابة السيرة الذاتية، وتؤسس آفاق انتظار مغايرة لما اعتاد القارئ، وتوحي في آن واحد بإمكانية إنتاج آفاق جديد.
    والملاحظ أن كاتب السيرة الذاتية ـ ذات السمة الإسلامية الحديثة ـ غير مقيد في هذا التأليف بالتدرج التاريخي التقليدي، وفي اختياره للصيغة السردية المناسبة جزء من حريته الإبداعية، التي لا تضعف فضول القارئ، ولا تحد من رغبته في الاستطلاع؛ بل إنها قد تزيد بآثارها ونتائجها من درجة اهتمامه، وتغريه باكتشاف طريقة جديدة في عرض السيرة الذاتية، لم يعتد عليها كثيرا، وربما لم يصادفها قط.
    ومن بين الخيارات السردية التي نصادفها في بعض السير الذاتية الإسلامية الحديثة ،تلك الصياغة المبنية على ترتيب لا اعتبار فيه للتسلسل الواقعي في الزمن، الذي ينتظم الأحداث والأطوار الحياتية، وإنما العناية فيه تنفرد بها الأحداث البارزة والدالة، التي يقع عليها اختيار صاحب السيرة، فيخصها دون غيرها بالذكر، أو يمنحها سمة الأولوية في فضاء إنتاجه الأدبي، ولا شك أن هذا الخيار السردي يسوده منطق القيمة الذي يحكم الحدث، مما يكشف بوضوح تام خطة المؤلف، وهو يتدرج في تقديم الأحداث الموصوفة في رأيه بأهمية بالغة وشحنة متميزة.
    كذلك من بين الصيغ السردية التي نعثر عليها في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تلك الصيغة التي يبسط الكاتب من خلالها تركيبة معينة أمام القارئ، تتسم بالتلقائية و البساطة في التعبير، وذلك بقصد تحقيق تواصل أفضل، بعيد عن التكلف والتعقيد، وإذا ما نظرنا إلى عناصر: السرد، والوصف، و الحوار في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وجدناها تتمثل في فضاءين اثنين هما: فضاء الذات (الفضاء الداخلي/ الخفي)، وفضاء العالم (الفضاء الخارجي / الجلي)، وهيمنة كل من تلك العناصر الثلاثة تبدو واضحة.
    إن مختلف أساليب/ مناهج كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تعكس ذلك الارتباط الوثيق بين السرد والأفعال المنجزة، لأن عملية السرد السير الذاتي بوجه خاص لا تستقيم إلا بتوالي الأفعال المسكونة بحركة معينة، وخطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية في العصر الحديث لا يزيغ عن هذه القاعدة، إذ يتخذ السرد منطلقا وبداية، باعتباره مستهل إبحار الكاتب في تاريخه الفردي.
    ثم إن عنصري: الوصف والحوار يتكاملان مع عنصر السرد في تقريب المشاهد، والمواقف، والأحداث، والأماكن المسترجعة والماثلة في حاضر صاحب السيرة الذاتية، وما يضطرب من مشاعر وأحاسيس داخل الذات، وإذا كان التنوع يطبع أساليب ومناهج تأليف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، فإن كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي يوظفون السرد، والوصف، والحوار بوعي ملحوظ وإدراك بالغ، لأنهم يعلمون جيدا أن هذه العناصر الثلاثة هي أدوات مساعدة لهم على نقل سيرتهم الذاتية و صياغتها من جديد صياغة فنية إبداعية، إذ أنها ـ على الإطلاق ـ مكونات خطابية صغرى تقتضيها الكتابة الأدبية، وبتوظيفها يتمكن الكاتب من تحويل سيرته الذاتية من واقع عاشه بالفعل إلى ذاكرة نصية.
    ولا شك أن ثلاثية: السرد، والوصف، والحوار، تسهم في تحقيق التوازن الخطابي في أي كتابة أدبية، وحاجة مؤلف السيرة الذاتية إليها تبدو ملحة أكثر من حاجة غيره، لأنه مطالب بإطلاع القارئ على تجاربه وخبراته الذاتية، ومكاشفته بأدق أحاسيسه ومشاعره.
    ومن هذا المنطلق الرئيس، رأينا كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة كيف استعانوا بعنصر السرد لتنظيم خط سير الأفعال المنجزة على امتداد الزمان والمكان، وكيف وظفوا عنصر الوصف لتصوير ونقل نشاط ذاتهم الباطنة، ومختلف أنماط الحركة، والمظاهر القائمة والموضوعات الماثلة في العالم الخارجي، ثم رأيناهم كيف استخدموا عنصر الحوار، حتى يبعثوا من جديد محطات ومواقف من ماضيهم، ويجعلوا أجواء خطابهم أكثر حيوية وتشويقا.
    وحسب اعتقادنا نرى بأن الوصف في أدب السيرة الذاتية لا ينحصر في توظيفه كأداء تبليغية يعتمدها الكاتب قصد الإفضاء بأخبار معينة إلى القارئ من خلال ما يكتبه من أدب ذاتي؛ بل إن الوصف أداة تتجاوز الوظيفة الإخبارية إلى وظائف أخرى أكثر أهمية، يأتي في مقدمتها رغبة صاحب السيرة الذاتية في إشراك المتلقي، وإطلاعه قدر الإمكان على ما يتفاعل ويضطرب في أعماقه.
    ثم لاشك أن الحوار من العناصر المميزة في صياغة أدب السيرة الذاتية، إذ من خلاله تبدو المواقف، والمشاهد، ومختلف التجارب الفردية والجماعية الواقعية نابضة بالحياة، شأنها في ذلك شأن الذات الكاتبة وغيرها من الذوات، وبناء على هذه الضرورة الإبداعية والفنية، بالإمكان أن نلاحظ في غير مشقة تلك المقاطع الحوارية التي تشغل جزءا هاما من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
    ويكفي أن نذكر في هذا الباب بعضا ممن خاضوا تجربة السجن والاعتقال، واعتمدوا بشكل جلي عنصر الحوار في خطابهم، وهم أحمد رائف، وزينب الغزالي، وصلاح الوديع، وفاطنة البيه، وهؤلاء وغيرهم نهجوا توظيف الحوار، ليس رغبة فيه؛ بل لأن طبيعة الظرف المكاني (السجن/ المعتقل)، وما يعرفه من أجواء ويجري فيه من أحداث، يفرض ذلك النهج الخطابي في سياقات سردية معينة.
    ثم باعتبار أن النسج الحواري يعكس أمام القارئ واقع الاستنطاق والتحقيق مع السجناء، وهذا الضرب من الحوار الإجباري هو السائد في الغالب داخل السجن بين السجين والسجان، دون أن نغفل ذكر تلك المقاطع الحوارية الدائرة بين السجناء خفية، والتي يدفعون بها العزلة والرتابة عن أنفسهم ما وجدوا إلى هذه الغاية سبيلا.
    ثم إن الذات المسلمة تقوم بسرد سيرتها استنادا إلى خطة معينة، وتصور و منطق مسبق، فنحن أمام هذا اللون من التعبير الأدبي، نصادف مسافة لغوية لا بد من قطعها للوقوف على تجربة الأنا المحورية بكل أبعادها ؛ هذا فضلا عما للغة داخل خطاب السيرة الذاتية من صوت متميز، تأتى لها اكتسابه على امتداد تاريخ التواصل البشري.
    إن من يكتب سيرته الذاتية، ينتقي من اللغة ما ينسجم من جهة مع خطابه، وما يتناسب من جهة ثانية مع سياق الحكي الذاتي، وذلك حرصا منه على تحقيق تواصل أدبي أفضل مع القارئ، بحيث يجعل من حياته الماضية والحاضرة نصا مفتوحا ورسالة يرغب في تبليغها، وأما الذي لا سبيل إلى الاختلاف فيه ـ على ما يبدو ـ هو أن كاتب السيرة الذاتية، عندما يقوم بتأليف قصة حياته، أو جزءا من تاريخه الشخصي، فإنه بالموازاة مع ما يسرده من تجارب ذاتية، ينشئ ويصوغ لأدب السيرة الذاتية جانبا من السيرة الخاصة به، ويقيم معلما من معالمه .
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  8. #8
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية وموضوعة الحدث
    لا شك أن وجود التاريخ كان وسيظل رهينا بثلاثة عناصر هي: الإنسان، والزمان، والمكان؛ أما الإنسان فهو من ينجز الفعل، ويسهم في قيام الحدث، ومن ثم يعمل على تدوينه بعد المعاينة والمعايشة في دائرة وسجل التاريخ الخاص والعام، ليصير شاهدا عليه مستقبلا، ثم ليتركه بعد وفاته وثيقة حية بين أيدي الأجيال اللاحقة، التي لولا الكتابة والتقييد والتدوين لظلت تجهل عنه كل شيء، وبالتالي يتعذر عليها أن تربط ماضيها بمستقبلها.
    أما الزمان ففي عمقه تعرف الذات وجهة سيرها في الحياة، ومدى القدر الذي استغرقته حركتها وسكونها، وفيه كذلك يتم لها ضبط الأزمنة الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وأما المكان فهو مهد الحركة الإنسانية، والفضاء الذي تولد وتنشأ فيه الأحداث وأطوار التاريخ، مما يساعد الأجيال المتعاقبة على تناقل سيرتها الوجودية، مساهمة بذلك في تواصل حلقات التاريخ البشري وتراكمه جيلا بعد جيل.
    إن المادة التاريخية المحفوظة في السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لكفيلة بتلبية حاجة الذات المسلمة في العصر الحديث، وفي العصور الموالية بالنسبة للأجيال اللاحقة، سواء على مستوى الكتابة التاريخية أم على مستوى الوعي الحضاري الإسلامي، لأنها تعتبر بحق ذاكرة قوية وغنية، تؤرخ لأزيد من مائة سنة.
    نعم، إنها ذاكرة تاريخية حافلة بصور التجارب الذاتية والجماعية، وبصفحات ومراحل من التاريخ العربي الإسلامي الحديث، بكل ما حبل به من آمال وآلام، وحسنات وسيئات، وطموحات وإحباطات، لا تزال آثارها وإفرازاتها قائمة.
    وإذا كان الجدال قد بلغت حدته الذروة في العصر الحديث عن مدى مصداقية التاريخ وحقيقة معطياته، ومحتواه بشكل عام، إلى درجة أصبح معها قارئوه يلتمسون تمييز وجهه من قناعه، فإن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، على ما يبدو، قد حالت دون إلباس تاريخ الذات المسلمة في العصر الحديث أقنعة تحجب جملة من الحقائق التاريخية، ولقد تأتى للذات المسلمة في العصر الحديث أن تحفظ فصولا جد هامة من تاريخها بفضل الرؤية الموحدة و الواضحة من خلال مضامينها، ومن عمق الخطاب السائد فيها، والذي يشهد بعضه على جدة وصدق البعض الآخر، بحيث يحق لنا أن ننظر إلى السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على أنها إحدى المرايا التي تعكس الوجه الحقيقي للذاكرة التاريخية الإسلامية الحديثة.
    أما الذي لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، ويتضح بنظرة فاحصة ودقيقة، يلقيها الباحث على موضوع هذه الدراسة، هو أن الذاكرة الإسلامية في العصر الحديث جريحة ومنسية، تضج بكثير من الهزات، والحقائق الدامية، والصدمات العنيفة، ومما لا يقبل الجدل إقرارنا بكون الذاكرة الإسلامية شاهدة على ما تم الاصطلاح عليه تارة بالنهضة أو الصحوة الإسلامية، وبالبعث أو الإحياء الإسلامي تارة أخرى، وهي مرآة تجلي حقيقة هذا الحدث التاريخي من جهة، وتفصح عن واقع حي دفين في أعماق الإنسان العربي المسلم من جهة ثانية.
    ثم إن هذه الذاكرة تختزن الباعث على طرح سؤال الإنسان العربي في علاقته بالعقيدة الإسلامية، الذي نبذته الذات العربية منذ زمن، ولم توف حق الإجابة عنه، مع أنه سؤال جوهري في حد ذاته، وعلى هذا الأساس كانت ولا تزال أهمية التاريخ، باعتباره يجلي حقائق الماضي، ومن ثم فإن الإنسان العربي لن يستطيع الانسلاخ عن ماضيه، لسبب بسيط هو أن التاريخ وثيق الصلة بالحاضر والمستقبل، وليس بالماضي وحده.
    إذن ستظل السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة تمثل بامتياز الوجه الآخر للتاريخ العربي الإسلامي الحديث، المشوب بكثير من الزيف والمغالطات؛ بل إنها ستبقى فضاء وخطابا أدبيا موازيا للكتابة التاريخية المتخصصة، ومنارة تهدي الباحث والمؤرخ عندما يعود إليها ليستقي مادة تاريخية معينة، لأن أدب السيرة الذاتية واحد من أعمق تجليات النشاط الإنساني في التعبير عن الاتصال، وأكثرها دلالة على تعاقب الأجيال، وترسيخ ما للتاريخ من امتداد واستمرار.
    ولا شك أن ثمة نداء ينبعث من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، سواء كان عربيا أم أجنبيا، لدعوة المؤرخ إلى الوقوف على القيمة التاريخية المتنامية باستمرار بين أحضان هذا اللون من الأدب الإسلامي، ويكفي أن نذكر في هذا السياق بالصحوة الإسلامية التي غدت ظاهرة عالمية.
    لقد كشفت الذات الأجنبية الداخلة في الإسلام بدورها، من خلال كتابة تاريخها الخاص، الوجه الثاني لأوضاع الإنسان الذي يتوق إلى معرفة الدين الحق، في عالم لا زال أهله يعانون من عواقب جهل بعضهم وتجاهل البعض الآخر لحقيقة الإسلام، ومن شبح رواسب نظرة متوارثة، ووعي خاطئ بأصول وأهداف هذا الدين، بالمقارنة مع مبدأ الحروب الصليبية التي شنت ضده.
    أما الذات العربية المسلمة فقد استطاعت في العصر الحديث أن تكشف من خلال أدب السيرة الذاتية عن واقعها ومنحى نهجها في الحياة، وأن تسقط قناع مسار تاريخي حافل بالانتكاسات والرواسب السلبية، ثم إنها تمكنت من إضاءة مرحلة حاسمة من تاريخ الأمة العربية المسلمة في القرن العشرين، وهي في قلب هذه الحقبة الزمنية، التي لم تعرف بعد نهايتها، توجد وسط أجواء من المعاناة، والتأزم، والبحث الدائب عن الذات والوجهة الحضارية.
    إن للحدث في أدب السيرة الذاتية عموما، وفي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بوجه خاص أهمية بالغة، تعكس ما تكون عليه الذات من ارتباط وثيق به، وتزداد درجة الصلة بينهما كلما كان الحدث عميق الأثر وقوي الدلالة، ومن المظاهر التي تفصح بوضوح عن واقع هذا الارتباط، ما يعيشه الإنسان من شعور في سن متأخرة، عندما يسترجع مجموع الأحداث التي تأثر بها، واستقى منها العبر والدروس، فصارت بذلك جزءا من ذاته وحياته.
    ثم إن الحدث نافذة نطل منها على الأشخاص، والأفكار، والعلاقات الإنسانية بين الأفراد، التي تتفاوت درجة حدتها وتختلف ظروفها، وللحدث في أدب السيرة الذاتية وظائف رئيسة لا تقل أهمية عن وظائف الزمان والمكان، هذا فضلا عن قيمته الوظيفية، المتمثلة في كونه نتيجة لأحداث سابقة له، وسبب لأحداث لاحقة، إذ أن كل حدث في الأصل ما هو إلا حلقة مندرجة ضمن سلسلة متواصلة من الأحداث.
    ولا شك أن الأحداث قد تكون عوامل مساعدة للإنسان على اكتساب معارف كثيرة، وإدراك حقائق معينة، وبناء شخصية قوية و متوازنة، كما أنها قد تكون معاكسة له، فتنمي لديه شخصية مضطربة، وتقتل فيه الفضول المعرفي والحس الاجتماعي من جهة، والرغبة في البذل والعطاء من جهة ثانية، إذ أن من الأحداث مثلا ما يحفز الإنسان على تكثيف التواصل الاجتماعي، ومنها ما يدفعه إلى اعتزال الناس والانطواء على الذات.
    فكثير من الأحداث كان منطلقا لتحقيق إنجازات كبيرة، وكثير منها تحول إلى عقد وآثار نفسية بليغة، استطاعت أن تتحكم في نهج الإنسان ومساره طوال حياته، فما الأحداث إلا نتيجة لمجموعة من العلاقات في وسط اجتماعي معين، ولذلك ستظل الأحداث بفعل تأثيرها عنصرا رئيسا في معرفة حقيقة الإنسان، وفهم ما ينهجه من سيرة في حياته، وما يشكوه من اضطرابات نفسية واجتماعية بين بني جنسه، وهذا ما يحدد طبيعة انتقاء الأحداث لدى كاتب السيرة الذاتية.
    كذلك من الأحداث ما يكون سببا في تبني الإنسان لفكرة محددة، أو مبدأ، أو اقتناع، أو رؤية ذاتية إلى الحياة، أو عقيدة، تزيد رسوخا مع مرور الأيام، بقوة ما تحمله تلك الأحداث ـ سواء كانت صغيرة أم كبيرة ـ في الذات الفردية من آثار حاسمة، ثم إن تفاعل الفرد مع الأحداث سلبا وإيجابا من شأنه أن يكشف طبيعة شخصيته، ويساعد على إدراك وفهم الأسس المرجعية لهذه الشخصية، وبالتالي فإن نفس التفاعل يفصح عن علامات دالة على نهج الفرد.
    ولا شك أن كل حدث في حياة الإنسان هو رمز على مساره، وبواسطته يتم استكشاف مجاهيل شخصيته، فقد تقترن بعض الأحداث بمظاهر الحزن، أو الرعب، أو القمع، أو القلق لدى الإنسان، كما أن بعضها قد يرتبط لديه بمظاهر الفرح والسكينة، والأمن والطمأنينة.
    ثم إن الأحداث ـ صغيرة كانت أم كبيرة ـ تتحول من وقائع ذاتية وموضوعية، فردية وجماعية إلى مكونات استرجاعية، تحتفظ بها ذاكرة الإنسان على شكل ذكريات مستقلة، لكن تفردها وتمايزها لا يمنع بعضها من أن يكون باعثا على استعادة البعض الآخر، باعتبار ما يجمع بينهما من القواسم المشتركة، المتجسدة في جملة من العناصر، والمضامين، والدلالات، والإيحاءات.
    وقد يكتشف كاتب السيرة الذاتية، وهو يستعيد تاريخه الخاص، أن كثيرا من الأحداث التي عاشها لم تبرز قيمتها إلا ساعة الكتابة، وأن أحداثا أخرى لم تكن عواقبها لتخطر على الذهن في حال وقوعها، وقد يدرك أن الحادثة التي كانت حال وقوعها فاقدة للأهمية ومنعدمة المعنى، قد صارت بالغة الأهمية في طور لاحق من حياته.
    إن للحدث تأثيرا بالغا على شخصية الفرد، وتبعا لهذا التأثير ونوعيته، يتمكن الإنسان من معرفة ذاته، والاقتراب منها أكثر، ذلك أن ردود الفعل التي تعقب وقوع حدث معين، تسهم بشكل كبير في الكشف عن طبيعة الشخصية المتلقية للوقائع والأحداث، فالحزن، والثورة، والقلق وغيرها من الانفعالات هي في الأصل آثار تترجم كل التحولات التي تضطرب في أعماق الإنسان، ثم إن كل رد فعل محدد إزاء حدث أو واقعة معينة ، يندرج في إطار من التعبير، تتم قراءته في سياق خاص.
    وغالبا ما تكون مختلف الانفعالات الصادرة عن الذات دليلا على درجة حدة الحدث أو الفعل الذي تصطدم به، خاصة تلك الأحداث التي لها من القوة ما يكفي لشل تفكير الإنسان ونشاطه الذهني بوجه عام، والأحداث التي لها من التأثير ما من شأنه أن يلقي بذات الفرد في أسر الكآبة والمعاناة النفسية، ويتركها فريسة للاضطرابات و الهموم المتصلة.
    ولا شك أن الوضع يزداد حدة كلما كان للحدث صلة مباشرة بعدد من المبادئ والقيم الإنسانية، وبجملة من القناعات التي يتمسك بها المرء، ويكره أن تنتهك و تداس، أو أن تعبث بها الأهواء؛ فهي أركان ومكونات أساسية في حياته، ومدار هويته و رسالته في آن واحد.
    إن هذه القيم، والمبادئ، والإقتناعات، التي تندرج بين الثوابت المحفوظة عبر توالي الأجيال في قلب الذاكرة الجماعية، تسهم بقوة في تحديد درجة التفاعل مع الأحداث، بحيث يظل أي حدث يمسها من قريب أو بعيد، سلبا أو إيجابا، مثيرا وعنيفا، يبعث في الإنسان المنفعل به إما أصداء الفرحة و الارتياح، أو أصداء الحزن والانقباض.
    ثم إن الوقوف على حقيقة تفاعل الإنسان مع الأحداث التي يعيشها ويتلقاها، وكذا الانتهاء إلى فهم صحيح ومتكامل لطبيعة ذلك التفاعل، يقتضي النظر والبحث في مسار حياة الذات التي تستقبل كل حدث على حدة بردود أفعال معينة.
    ثم إن في الحياة الخاصة لكل إنسان حادثا أو عدة حوادث بارزة ومتكاملة في ما بينها، من حيث فعلها في النفس وتأثيرها العام على الشخصية الفردية ، فعلى إثرها يتحدد توجه المرء وسلوكه، وتتحدد الغاية التي سينتهي إليها في الحياة، وأهم الأحداث المحفزة والمؤثرة تقع في أولى مراحل العمر، وخاصة في طور الطفولة، إذ لا تخلو أي سيرة ذاتية من حدث كبير ظاهر القيمة، أو حادث (صغير) لا يقل أهمية ولا خطورة، ومختلف الأحداث هي نتيجة لما يقوم من علاقات بين الإنسان وأسرته، أو بينه وبين المجتمع الذي ينتمي إليه، أو بينه وبين الوسط البيئي الذي يتواجد فيه.
    إن الشعور بآثار و أبعاد هذه الأحداث يتنامى مع مرور الزمن، إذ يتطور كل حدث من مجرد واقعة عادية أو صدمة عنيفة إلى هاجس يلازم الذات، وتعثر فيه الانفعالات وكثير من الاستفهامات على مرتع خصب لها، ومعين زاخر تتغذى منه طوال الوقت، فالحادث قد يبدو للوهلة الأولى بسيطا، فإذا به يتجلى على صورة مغايرة، ويتحول إلى بؤرة اهتمام لدى الذات المفكرة، التي تعمل على تطويرها وتعميقها، سواء عن قصد أم غير قصد.
    د.أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  9. #9
    أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية والبحث عن الذات
    لقد أرخ القرن التاسع عشر الميلادي لمرحلة البحث عن الذات العربية المسلمة، وتحديد مقومات شخصيتها وهويتها، لكن ما هي ظروف ومظاهر هذا النمط من البحث، التي عاشها الإنسان العربي المسلم في العصر الحديث؟
    ثم ما هي طبيعة التجربة والمعاناة، التي أفضت به إلى التعبير من خلال كتابة السيرة الذاتية عن انشغالاته وطموحاته؟ وكيف تم بناء الشخصية العربية الإسلامية حديثا؟ وتكوين تاريخها الفردي والجماعي؟
    هذه أسئلة لا بد من طرحها بقصد الاهتداء بأجوبتها إلى تحصيل فهم سليم خاص بطور الإحياء والمحاكاة في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، وطلبا لإدراك طبيعة وحقيقة الباعث والدافع الرئيس إلى كتابة هذا اللون من الأدب الخاص.
    لقد عاش الإنسان العربي في عصر النهضة تمزقا تاريخيا بين الماضي وما انطوى عليه من تراث حضاري وثقافي عريق، والحاضر وما حفل به من تحولات، واتجاهات، وتناقضات، وإن كان المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي ( ROGERGARAUDY) يرى من الغريب أن يتم الإجماع على التأريخ لبداية عصر النهضة في العالم العربي الإسلامي باحتلال نابليون بونابارت ( NAPOLEONBONAPARTE) مصر عام 1798 من الميلاد، في حين أن هذا الحدث لم يكن سوى عملية غرس لأسلوب حياتي دخيل باسم الحداثة والمعاصرة في عالم عربي منحط.
    وكانت قوى الاستعمار تراهن على هذه الخطة لتتحقق لها السطوة المطلقة على الشعوب العربية، التي ذهبت ضحية ذلك الالتباس بين مفهومي: الحداثة أو المعاصرة، التي اقترنت في ذهن الإنسان العربي بالتقليد الأعمى للغرب، ومفهوم التغريب ذي العواقب السيئة، والفاعلة في العالم العربي الإسلامي إلى يومنا هذا.
    ثم إن كثيرا من الأدباء، والنقاد، والمفكرين، والساسة في عصر النهضة، سواء من العرب أم من الأجانب، توهموا خلاص العالم العربي الإسلامي من انحطاطه وتخلفه في تجاوز تراثه الحضاري العريق، ثم خوض نفس التجارب والمراحل، التي عاشها وقطعها الغرب في أربعة قرون دفعة واحدة، إن أرادت الأمة العربية المسلمة اللحاق بالركب الحضاري، ولم يكن هذا الوهم يعني إلا أمرا واحدا، هو أن تتخذ هذه الأمة ماضي الغرب مستقبلا لها.
    وقد استطاع المبشرون بالتنصير، وطائفة من المستشرقين أن يمهدوا الطريق للهيمنة العربية على الشرق، وعلى باقي البلاد الغربية الإسلامية، فاجتهدوا في الإطلاع على التاريخ العربي الإسلامي، وتمكنوا من النفاذ إلى هذه المادة الحيوية، فاخذوا منها حاجتهم، ودسوا فيها ما شاءوا من الشوائب، وكان فعل الحركتين: التبشيرية والإستشراقية باعثا لرد فعل تجسد في إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي، وكشف وإبراز دورهما في بناء الفكر الغربي والنهوض بالحضارة الغربية.
    أما النزعة العنصرية فكانت مدار كثير من الحركات والتيارات العرقية، التي قادتها قوى الاستعمار بهدف تجريد الأمم غير البيضاء من حريتها، وبث الريبة حول قدرات الأمة العربية المسلمة، وحول إمكانية إسهامها في البناء الحضاري الإنساني، إذ لم تكن الهيمنة التي مارسها الاستعمار الغربي على البلاد والشعوب العربية المسلمة طيلة حقبة من التاريخ البشري الحديث إلا جولة من صراع طويل، شهد القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي انطلاقته المتمثلة في الحروب الصليبية.
    لقد حافظ أعلام الأدب والدعوة الإسلامية، سواء في عصر النهضة أم في القرن العشرين الميلادي، على التقاليد المتواضع عليها قديما في كتابة وتأليف السيرة الذاتية، بحيث ظلوا أوفياء لها، ومطمئنين إليها في التأريخ لحياتهم، ومعتمدين عليها في إخراج أعمالهم الأدبية مطبوعة بالأسلوب العتيق الذي ساد في سير العلماء والأدباء قديما.
    وكان من أصول النهضة في الأدب الذاتي، أن يقوم أدب السيرة الذاتية العربية على المحاكاة والتقليد قبل أن يدخل طور التجديد والابتكار، باعتبار أن كل نهضة تقوم في مستهلها على المحاكاة قبل أن ترتقي إلى الإبتكار، فكان اهتمام الأدباء، والمؤرخين، والعلماء العرب المسلمين أول الأمر بأدب الترجمة الذاتية، وهو اهتمام سبق عنايتهم بأدب السيرة الذاتية إلى غاية الربع الأول من القرن العشرين.
    لقد كان الانفتاح الحضاري والثقافي عاملا بالغ الأهمية، مكن الأدباء والنقاد العرب من أن يزدادوا معرفة بالآداب الغربية، واطلاعا على اجتهادات الكتاب الغربيين في أدب السيرة الذاتية، وإن كان أصحاب السير الذاتية الذين عاشوا هذا الظرف التاريخي ـ ومنهم عدد من أعلام النهضة الحديثة ـ أمثال أحمد فارس الشدياق ( 1805ـ1887م)، ومحمد عياد الطنطاوي ( 1810 ـ 1861م)، وعلي مبارك ( 1824 ـ 1892م )، نهجوا أسلوب العلماء والأدباء العرب المسلمين القدماء في تأليف سيرهم وتراجمهم الذاتية، بحيث تمسكوا بذكر أنسابهم، وضبط مراحل تعلمهم ابتداء من سن الطفولة.
    ثم إننا إذا القينا نظرة على سير بعض الأعلام المتأخرين في العصر الحديث، أمثال محمد عبده ( 1849 ـ 1905م)، ومحمد كرد علي المتوفى سنة 1954م، وجدناها تتفق مع روح السير والتراجم الذاتية التي واكبت حركة الإحياء والبعث الأدبي.
    ثم إنهم كانوا يستعرضون أسماء الأعلام الذين تلقوا عنهم العلم، ويخصون بالذكر بعض الذي عرض لهم من أمور، وعاشوه من مواقف، وخاضوه من تجارب وشؤون الحياة، وجملة من أهم الأحداث التي شاركوا فيها، وكانوا لا يغفلون التحدث عن مبادئ دعوتهم إلى الإصلاح والإسلام.
    ولم تكن السير الذاتية، التي صدرت في عصر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، تتباين كثيرا عن الأعمال التي خلفها الأدباء والعلماء قديما، فهي من ناحية تمثل المحاولات الأدبية الأولى في أدب السيرة والترجمة الذاتية العربية والإسلامية بعد ركود طويل، وإحدى ثمرات حركة الإحياء الأدبي، لكنها من ناحية ثانية ـ وإن كانت تنطوي على قيمة تاريخية متميزة ـ لا تحمل قيمة فنية كبيرة، لأنها صيغت في معظم الأحيان بأسلوب جاف، وسرد إخباري تقريري، قليلا ما كان يفلت من شباك السجع وأنماط السرد التقليدية، وفي هذا النزوع جري على سنة الأسلاف، وباعث للرواد المحدثين على تأليف تراجمهم و سيرهم الذاتية.
    وعلى الرغم من ملازمة كتاب عصر النهضة الحديثة لكثير من قوالب التعبير القديمة، فانهم أمدوا سيرهم الذاتية المكتوبة بمضامين جديدة، تجسدت في كل ما تركته الثقافة الأجنبية، وأنماط الحياة الجديدة في الغرب من اثر في نفوسهم، فغدت بذلك أجزاء من سيرهم مسرحا لما رأوه في العالم الغربي، وشاهدوه لأول مرة منبهرين، ثم إن الأحكام تباينت في ضوء المقارنة بين الحياة في الشرق العربي والحياة في الغرب، فانحصرت بين انجذاب واستحسان وإعجاب، وتحفظ واستنكار.
    وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي، عرف أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية عناية خاصة، وحركة إحياء جديدة في كتابات الأدباء، والعلماء، والمفكرين، الذين نظروا إليه من زاوية إثبات الذات، واعتبروه أداة للمواجهة والتحدي، وربط الحاضر بالماضي، وخطوة إلى الأمام على درب المسيرة الحضارية الإسلامية، وفضلا عن هذا كله رأوا فيه وسيلة للإصلاح والدعوة إلى الإسلام من جهة، والتصدي لمن يحارب دين الله عز وجل، ويحاول أن يطمس الإرث الإسلامي.
    ثم إن نفس الرؤية والغاية نالت اهتمام عدد من الكتاب العرب في القرن العشرين، وتجسدت في سيرهم الذاتية، التي تعكس صورة معبرة عن مدى قوة انبعاث الدعوة الإسلامية من جديد، وقيمة الجهود التي بذلت طلبا للعلم والمعرفة، ودفع الجهل عن الناس، ودعوتهم إلى المشاركة في الإصلاح، والتمسك بتعاليم الإسلام.
    ولقد كانت مرحلة البحث عن الذات طوال القرن التاسع عشر الميلادي حافزا على تعميق الشعور بالاستقلال الذاتي عن التبعية للاستعمار الأجنبي، ثم باعثا على قيام حركة الإصلاح الإسلامي، التي شملت مختلف مجالات الحياة العربية، وهذه كلها نتائج أدت بتفاعلها إلى ولادة أدب ذاتي معبر عن قوة الشعور بالشخصية العربية الإسلامية.
    نعم، بعد ركود دام طويلا، عادت السيرة الذاتية العربية الإسلامية لتأخذ مكانتها في الساحة الأدبية، ولتشهد أولى تحولاتها الكبيرة، بعد ما ساد الاعتقاد بسلبية الكتابة حول الذات الفردية وعدم نفعها، وبضرورة العناية بكل أمر يخص الذات الجماعية، ثم إنهم كانوا كثيرا ما يخلطون بين مدلول السيرة الذاتية وما تعنيه الترجمة الذاتية.
    والأكثر من هذا كله أنهم قرنوا كتابة التأريخ الخاص بالأعلام المشهورين، دون غيرهم من الأفراد المغمورين، وكانت هذه الأفكار حول السيرة الذاتية من أهم أخطاء المرحلة آنذاك، التي خلفت شبه غياب للكتابة التي تتخذ الذات العربية المسلمة موضوعا لها، والتي ما تزال تشوب الثقافة الأدبية المعاصرة.
    إن اضطراب الرؤية، وقصور الإدراك ـ لدى كثير من الكتاب المحدثين ـ كانا سببا في التقليل من شأن الأهمية التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث، بالإضافة إلى أن ضعف الإلمام بعمق ومغزى هذا الضرب من الأدب، واقترانه في الأذهان ـ كما أسلفنا ـ بالأعلام ذوي الشهرة، حال دون النفاذ إلى جوهره والغاية منه بكيفية سليمة، كما أنه منع من الاستفادة من آفاقه الواسعة، بخلاف ما كان عليه واقع الأمر في البلاد الغربية، حيث تطور مفهوم وبناء أدب السيرة الذاتية بشكل كبير.
    ثم هل صحيح أن الأدباء والمفكرين العرب يفتقرون في العصر الحديث إلى الصنعة الروائية؟ وأنهم في الغالب لا يدركون مدى الأهمية التي تنطوي عليها سيرهم الذاتية، التي من شأنها أن تجلي الكثير من الفضاءات المعتمة في حياتهم: الاجتماعية، الإبداعية، والفكرية؟
    د. أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  10. #10
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية وموضوعة الموت
    من الطبيعي أن يفكر الإنسان في انقضاء أجله كلما تقدم به العمر، وامتدت به الحياة بين الأحياء، ومن البداهة كذلك أن تمتلكه الرهبة من الموت، لأنه يتمثل هذا الواقع الحدث عالما مجهولا بالنسبة إليه، لا يعلم طبيعته أو ما الذي سيلقاه فيه، إذ الموت لا يخضع لأي شكل من أشكال الممارسة، ولا يتيح للإنسان خوض التجارب فيه، وأحيانا قد يسعى المرء جاهدا إلى الاحتماء بالنسيان وتجنب ذكر الموت، فيحاول قدر ما يستطيع أن ينأى بتفكيره عن هذه الحقيقة القائمة، وهذا الواقع المحتوم، على الرغم من علمه بكون الموت غاية ومنتهى كل حي في هذه الدنيا، وأنها سنة من السنن الكونية الجارية بين الخلق.
    وحتى إن حاول الإنسان التفكير في الموت، وأنفق زمنا طويلا في معرفته وتأمله، وتركيب صورة متخيلة له، فإنه في معظم الأحيان يحتفظ بهذا الجزء من نشاطه الذهني لنفسه، دون إطلاع الآخرين عليه، مع أن تدبر الموت من قبل الكائن العاقل يعد فعلا دالا على الوعي بمصير الذات الإنسانية، ولا شك أن الموت يبعث في كل إنسان ذلك الشعور القوي بالعجز والفناء، وتلك الرغبة المثيرة في الإحاطة بمعناه الدقيق، والنفاذ إلى سره العميق.
    وأما الخوف من الموت، باعتباره واقعا لا يعرف استثناء أو تمييزا بين الأحياء على وجه الأرض، إنما هو في العمق تعبير عن إحساس الإنسان بمرارة التقصير وثقل الآثام، وبضياع أكثر العمر في العبث، وإفصاح عن وعيه بأن ليس في وسعه أن يفر من الموت، أو أن يبدأ حياة جديدة.
    تتعاقب موضوعتا الحياة والموت، وتظل الذات ماثلة بينهما، تتمثل الحياة باندفاع كبير وفضول نشيط، وتعمل في الوقت نفسه بغير تهافت وحماسة على استيعاب دلالة الموت وإيحاءاته، باعتباره من أقوى أسرار هذا الوجود، التي تحمل في عمقها معرفة كامنة، مختزلة لسعتها في علامات، وإشارات، وتنبيهات كاشفة عن حقيقة الإنسان، الذي يسعى جاهدا إلى اقتفاء أثرها بهدف استكمال فهمه و رؤيته لذاته، وما تنطوي عليه من خفايا.
    ثم إن الموت واقع ينفي الخلود الإنساني في الأرض؛ هذا الخلود الذي طالما راود الذات في يقظتها ومنامها، وإن كانت الحياة بداية للإنسان، فإن الموت نهاية مؤجلة بالنسبة إليه، ثم إنه لا يملك لنفسه سلطانا عليهما، وكل ما في مقدرته هو أن يقطع المسافة الفاصلة بين مبدأ حياته في الدنيا ومنتهاها، على أن يظل شاهدا على الجسر الرابط بين الحياة والموت، ومتأثرا بتصادم الانفعالات النفسية الحادة، وتداخل الإيحاءات المتلاحقة والمثيرة.
    وفي هذه الأجواء التي يبلغ فيها التأمل حدا عميقا، تتحول الأزمنة إلى زمن واحد بملامح معقدة، يشتبك فيه المعلوم مع المجهول، وتتماهى نتيجة لذلك آثار الأحداث والذكريات لتفرز في النهاية مشهدا من وحي الزمن المتداخل، يستعصي على الذات الإمساك به في شباك الوصف والتحليل.
    ثم إنه الزمن النفسي الذي تسهم في تشكيله انفعالات ذاتية كثيرة، وتحرص الذاكرة على تطويره، والانتقال به من فضاء بسيط إلى آخر مركب ومعقد، بعدما يكون قد اتخذ أبعادا نفسية معينة، وكل هذا الاحتفال سيفضي في النهاية بالزمن النفسي إلى آخر أطواره، حيث سيتحول إلى ذكرى راسخة، وذلك بقدر قوة تشكله وتحوله في باطن الذات، وبناء على نوع وحجم ما سيجمعه من علاقات برواسب الأحداث والتجارب في الذاكرة الفردية، على أن الذكرى تظل محتفظة بمثيراتها في العالم الخارجي.
    وعندما تتأمل الذات آية الخلق في نفسها، ويخلص بها هذا الإنجاز الذهني إلى أن الثنائية العددية في الوجود الإنساني، ما هي في الأصل إلا نفس أحادية تفرع منها زوجها، ساعتها فقط تتمثل حقيقة ذاتها، وتكسب وعيا جديدا وعميقا في آن واحد بتلك الأنا الفردية المزعومة، ثم إن الإنسان يفاجأ في إحدى مراحل تاريخه الخاص بازدواجية الحياة، وبفناء العالم الذي يقيم فيه، والأحياء الذين يتواجد بينهم، فإن كانت الحياة ذات وجه معلوم ومألوف أكثر من وجهها الآخر المجهول، وهو الموت، فذلك لأن المرء في الغالب، حين يعيش حياته، ويعمل في كل لحظة من لحظات عمره، يفكر بالأنا الروحية العميقة، ولا يضع الموت في حسبانه، وكأن روحه لا تعرف الموت بطبيعتها.
    إن للموت في الذاكرة الفردية والجماعية صورا كثيرة مجردة، قد تتفق أحيانا وقد تختلف أحيانا أخرى، وهي صور يتم بناؤها في ضوء مرجعيات مركبة مما هو موروث عن الأسلاف، وما هو مكتسب عن طريق الرؤية، والسماع، والقراءة، والتجربة المعاشة كذلك، لكن الموت في حد ذاته يظل واقعا مجهولا بالنسبة للإنسان منذ ولادته وإلى غاية وفاته.
    ثم إن الآلام والأحزان تتراكم مع مرور الأيام في حياة الإنسان، الذي لا يستطيع دفعها عنه أو نسيانها، بينما تظل هي قابعة في ذاكرته إلى أن يذكي جذوتها المحرقة أحد المثيرات في العالم الخارجي، فتعود الذات الساردة إلى ترديد صدى تلك المعاناة القاسية والمريرة، فتجترها بالدمع والصمت بدلا من أن تسردها بالحديث، ثم يتفقد الإنسان الصبر ليقذف فيه بضعفه وحزنه، وهو محاصر بين الخوف واليأس، ومتطلع إلى الأمل والرجاء.
    وعندما كان المرض أوثق صلة بالموت، ولحظة من أبرز لحظاته، فإنه يوقظ في ذات الإنسان قوة التأمل، والترقب، والصحوة الفطرية، والمحاسبة والمراجعة الذاتية، التي تتشكل على أساسها شخصية الفرد من جديد، ويعاد في ضوئها بناء قناعاته ومستوى إدراكه.
    ثم إن الذات الإنسانية لا تستطيع أن تتجاهل الموت، باعتباره قضاء محتوما؛ بل حتى النسيان لا يمكنها من التنكر له أو الهروب منه، لأنه ليس بإمكانه أن يحول دون استمرارية نقيضه، وبالتالي لا يستطيع أحدهما أن ينفي الآخر نفيا مطلقا، إذ أن وجودهما في ثنائية يعد أمرا محتوما كذلك، مع أن النسيان المتعمد في مثل هذه الحال، يدخل في تركيبة الجهل، في حين يقترن التذكر بالمعرفة والعلم، من حيث البعد الفلسفي للمسألة عموما.
    إن المرض تجربة يتقاسمها الناس في ظروف معينة من حياتهم، ثم إنها باعث قوي لهم على تأمل الذات في لحظات ضعفها وأوقات عجزها، واستحضار الموت والفناء، وعندما تجتمع عناصر هذه التجربة وتتكامل مكوناتها الطبيعية، ساعتها يجد الإنسان نفسه في وضع اختبار وحال ابتلاء، وليس له من خلاص سوى الرجاء في الله عز وجل، والتمسك بعروة الإيمان الوثقى، وللمتلقي أن ينظر في ما يجتازه الإنسان في حال المرض من تقلبات بين الخوف والشجاعة، وبين اليأس والأمل، وله أن يتأمل صورة حياتية ليس غريبة عنه، يتدافع فيها السواد والبياض، والنور والظلمة، وتتردد في عمقها أصداء الحيرة والقلق، وتموجات المعالم والأطياف المتخيلة؛ إنها تجربة تدعو الإنسان إلى معرفة قدره وجوهره حق المعرفة.
    إن الليل مثير للتفكير والتخيل، خاصة إذا ضاعفت آثار المرض حدة إيحاءاته، وكل تفكير أو تخيل في هذه الحال يتسم بالقسوة والمعاناة الشديدة، لأن المرض بدوره عامل مثير لذاكرة الفرد، وإن كان يعد من بين العوامل الداخلية، وفي هذا الوضع تصير الذات والذاكرة محاصرتين حصارا مزدوجا: خارجيا من قبل الليل، وداخليا من طرف المرض؛ فالليل يغشى الذات بإيحاءاته من ناحية، ويثير بعضا مما حفظته الذاكرة من ناحية ثانية .
    ولا شك أن مواجهة الموت بالنسبة إلى الإنسان، هي لحظة تفجير وانبعاث ما تختزنه ذاكرته، وما يضطرب بأعماقه من مشاعر وأحاسيس؛ إنها تجربة رهيبة وعميقة على الرغم من استغراقها مدة زمنية قصيرة جدا، وكأنها صوت عابر ينبه المرء إلى ما هو فيه من زيغ وانحراف عن سواء السبيل، ويذكره بضعفه وفنائه، ويحثه على مراجعة نفسه ومحاسبتها قبل أن يأتيه اليقين، أو هي دعوة موجهة إلى هذا المخلوق العاجز، الذي لا يقدر الموت حق قدره، ويسارع إلى مبارزة الله عز وجل بالمعاصي والآثام.
    ثم إن جميع الأشياء تنتفي عندما يستسلم الإنسان مضطرا للمسافة المتبقية و الفاصلة بين الحياة والموت، ولا يبقى إلا ذلك الحيز الزمني في دنيا الأحياء، الذي تستشعر الذات خلاله قساوة الوحدة، وتخوض تجربتها الأخيرة مع سكرات الموت، وعندها يجد المرء نفسه وجها لوجه مع آثامه وظلمه لنفسه ولغيره، فلا يطمع حيال هذه المواجهة الحتمية إلا في رحمة الله تعالى، وكريم عفوه ومغفرته.
    ونحن نجد أن الفضول يدفع الإنسان إلى طلب الإلمام بكثير من الأسرار، التي تسكن ذاته وتحيط به من كل جانب، بدءا بسر الوجود وانتهاء بسر الفناء، وقد يقيم المرء لنفسه بعض المفاهيم والرؤى على أساس عجزه وقصوره، وانطلاقا من جهله بحقائق الأمور، فيرى أن الحياة مسخرة للبناء والخلق وأن الهدم وظيفة من وظائف الموت، مما يجعله لا ينظر إليهما معا في وحدة متكاملة، ولا يعتبرهما قوة واحدة وجدت بقصد الابتلاء وامتحان الإنسان في حياته الدنيا.
    وعندما لا تستسيغ الذات النظر إلى الحياة والموت على أن كلا منهما بالنسبة للآخر بمثابة الجسد والروح، فإنها تكون بذلك قد تبنت فهما سطحيا في الموضوع، خاصة الذات المفتقرة إلى المعتقد الصحيح، التي كثيرا ما يؤدي بها هذا القصور في الفهم إلى مناصبة العداء مع الموت، بحكم أنها ترى فيه معول هدم كاسح لنضارة الحياة وجمالها، وتتمثله سيلا جارفا لكل ما يدب في باطنها من حياة.
    ثم إن الذات الإنسانية قليلا ما تتنبه إلى كون الموت هو الذي مكنها من أن تضع مدلولا معينا للحياة، وأن ترسم في آن واحد لهذه القوة صورة في ذهنها، كذلك الحياة يسرت للإنسان وضع صورة ومدلول للموت في قلب ذهنه، وهذا يعني أن الكائن العاقل استقى معنى الحياة من الموت، واستوحى معنى الموت من الحياة، مما يدل دلالة مباشرة وواضحة على أن لا معنى ولا مدلول لأحدهما دون استحضار الآخر.
    د. أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. السيرة الذاتية /منى الراعي
    بواسطة منى الراعي في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-09-2017, 03:53 PM
  2. د.محمد حبش/السيرة الذاتية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-22-2013, 08:13 AM
  3. مقالات في أدب السيرة الذاتية ...
    بواسطة عبد الفتاح أفكوح في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 06-09-2012, 06:47 PM
  4. مقالات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية ...
    بواسطة عبد الفتاح أفكوح في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 08-30-2010, 10:24 AM
  5. السيرة الذاتية/د. مصطفى أبو سعد
    بواسطة ندى نحلاوي في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-26-2009, 05:33 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •