المنصة
... ثم ما إن أيقظهم شروق شمس ذلك اليوم، حتى أقبل بعضهم على بعض مهنئا مباركا، ومن فورهم توجهوا مسرعين إلى المكان المعلوم، وقد جاءوا من كل صوب ركبانا وراجلين، وحلقوا بالحدث السعيد المرتقب قدر ما حلق بهم عاليا، واهتموا به قدر ما ذاع خبره في المدينة الصغيرة وملأ ارجاءها، واحتفلوا به مسبقا في مخيلتهم قدر ما بلغ صيته وشغل غيرهم من الناس ...
كانت المنصة منصوبة بعناية فائقة، وكانت الكراسي الوثيرة المعدودة على رؤوس الأصابع عليها مصفوفة بذوق أنيق، وقد أعدت لكبار المدعوين من الضيوف وغير الضيوف، وظل الوافدون واقفين على أرض الساحة، تحت شمس حارقة تلهب رءوسهم، وتلسع بسياطها ما تبقى من أجسادهم، ومكثوا على تلك الحال يحصون الدقائق والساعات، ولا يتحدثون في ما بينهم سوى عن الحدث السعيد الذي سيحل قريبا معززا مكرما بينهم، وكانت ألسنتهم لا تنطق، فضلا عن هذا الحديث، غير أسماء كبار المدعوين الذين سيشرفون مدينتهم النائية بالحضور ...
لم يسفر موعد استهلال الحفل عن شيء ذي بال، وتجاوزته الساعة والساعتين والساعات، وتطلع عمار الساحة إلى المنصة، عسى أن تظفر أعينهم ولو بضيف واحد، لكنهم لم يروا عليها سوى تلك الكراسي اليتيمة، ولم يبصروا غير ما اريد لها أن ترتدي من الزخارف والزينة، فعلت الوجوه علامات الإستفهام ومآثر الإستغراب، ولاحت من العيون نظرات الإستنكار والخيبة، فاندفعت من أكثر الأفواه ألفاظ اللعن والشتم بصوت جهير، وانبعث من بعضها صفير حاد يصم الآذان، بينما تجرع القليل ممن غصت بهم الساحة غصة قصة أصبحوا في عداد ضحاياها، ولم يكونوا من أبطالها، فتلاشى كل ما وعدوا به منذ شهر أو يزيد، وانفض الجمع سريعا، وبدت ساحة المدينة كئيبة، فلم يعد الحدث المنتظر من قبلهم إلا سرابا، بعد أن كان متخيلا في أذهانهم كالقصر المشيد ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com