الإرادة والثقافة وأثرهما في تقوية الشعور القومي

كثر الحديث في هذه الأيام، عن التقليل من أهمية الشعور القومي، وأثره في أن يُشكل رافعة صالحة للنهوض بالمجتمعات نحو التقدم، كما كان قد كثر الحديث عن أهمية الشعور القومي قبل ذلك بعقود لأن يكون حاضنة تنطلق منها برامج النهوض.

وإن كان أصحاب المشاريع القومية، قد أخفقوا في إثبات نظرتهم، لأسباب ليس كلها خارجية، وباتوا يلوذون بالصمت في كثيرٍ من الأحيان عندما لا يجدوا رداً مقنعاً لمن ينتقدهم في إدراج وقائعٍ توصم مشاريعهم بالنقص في الغالب، وتحملها الدور الأكبر في تدهور الأحوال ووصولها لما وصلت إليه، فإن من ينتقدهم هو الآخر، لم يُقدم نفسه إلا كمتصيدٍ وباحثٍ متخصص في التنقيب عن نواقص ذلك المشروع.

ويصطف المنتقدون للمشروع القومي بألوان مختلفة لا يوحدهم إلا معاداة المشروع القومي، فمنهم الأمميون الماركسيون بفروعهم المختلفة، ومنهم أتباع المشروع الإسلام السياسي بفروعه المختلفة، ومنهم القطريون الذين ليس رغبة في الخروج من دوائر نعيمهم الضيقة وخشيتهم من ضياعها في توسيع دائرة الاستفادة منها، ومنهم أبناء الإثنيات القومية الذين يحاربون بسلاح لا يختلف عن سلاح أصحاب المشروع القومي، ولكن ليس عندهم مانع من الاصطفاف مع معادين للمشروع القومي، حتى لو أنكر عليهم هؤلاء حقوقهم.

متى تعرفت بلادنا على المشاريع القومية؟

لن نبتعد كثيراً في التاريخ للتعرف على النزعة القومية، ولن نقف عند الخلافات في سقيفة بني ساعدة عن أحقية الأمارة، ولن نقف عند وصايا بعض الأمراء العرب المسلمين عندما كانوا يحذرون من التزاوج مع غير العربيات. فقد جب ذلك قرون طويلة لم تلتزم بتلك المحاذير.

ولكننا، سنتناول الفترة التي ازدهر فيها التفكير بالمشروع القومي. وهذه الفترة قد نضع لها تأريخاً هو عام 1826 عندما تم حل الجيش الانكشاري ولجأت الحكومة العثمانية الى إصلاحات هيكلية، تكون من خلالها قادرة على كبح جماح، أو بالأحرى سحق أشكال المطالب الصادرة عن القوى المحلية في المحافظات العربية، مما استفز المشاعر القومية.

وقد انتبه العرب، للحركات التي خرجت من جسم الإمبراطورية العثمانية، على هامش قومي، فاستطاع الصرب أن يستقلوا عن الدولة العثمانية، كما استطاع الجزء الأكبر من اليونان الاستقلال ثم تلا ذلك في السبعينات من القرن التاسع عشر خروج بلغاريا ورمانيا.

من جانب آخر، كان الإنجليز والفرنسيون قد تابعوا مسيرات تشكيل دولتيهما، بتسلسل دولة > أمة> نزعة قومية > نظريات. وأدى ظهور إيطاليا بشكل موحد عام 1860 وتوحيد بسمارك لألمانيا عام 1870 الى امتلاء الفضاء الذهني العالمي بالتفكير القومي، بما فيها منطقتنا.

لم يكن هناك عداء بين الدعوة القومية والإسلام

لقد كان الشعور بضعف الدولة العثمانية وسوء إدارتها عاماً بالنسبة لكل رعاياها بغض النظر عن قوميتهم أو طرائق تفكيرهم العقائدية. فقد تطابقت الدعوة لوجود هوية عربية الى جانب الهوية التركية، مع تطلعات دعاة الإصلاح الديني، الذين كانوا ينشدون التجديد والإصلاح، أمثال: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا و عبد الرحمن الكواكبي والأخير الذي ألف كتابيه (طبائع الاستبداد) و (أم القرى)، مما دفع بالسلطان عبد الحميد الثاني الى طرده من سوريا الى مصر ومن ثم قتله هناك عام 1902.

من جانب آخر، فلم يكن هناك فرزٌ على الهوية الدينية أو الطائفية، فقد ساهم مفكرون مسيحيون عرب الى جانب مفكرين إسلاميين عرب وغير عرب، للخروج بمشروع يرضى به الجميع.

لقد كانت الأمية تنتشر في أوساط 90% من شعوب تلك المنطقة، ولكن سلوكهم الصامت يدلل على تعايشهم بأمان وانسيابية غير موجهة، فإن كان دعاة الفكر يذكرون العوامل القومية التي تجمع الجميع، فإن هؤلاء البسطاء كانوا يعيشون المواطنة التي نشدها المفكرون دون أن يعلموا بنواياهم. فقد كان سكان القرى من المسيحيين يحضرون أعياد المسلمين كما كان المسلمون يفعلون نفس الشيء، ولم تسجل أي واقعة على هامشٍ ديني أو طائفي أو عرقي.

يتبع