الدكتور صابر عبد الدايم في «العصف والريحان»
بقلم : أ.د. حسين علي محمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله ـ r ـ وعلى أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد:
فهذه هي الطبعة الأولى من كتاب « العصف والريحان»، الذي يضم الحوارات التي أجريت مع الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي الدكتور صابر عبد الدايم.
والكتاب صورة أمينة لتفكير الدكتور صابر عبد الدايم، وقناعاته؛ وكل حوار من هذه الحوارات بمثابة بحث أو مقالة في القضايا التي يرد فيها على مُحاوره؛ فالدكتور صابر يتلقى الأسئلة مكتوبة من مُحاوره، ثم يكتب الرد في روية ومُراجعة، وهذا ما جعلنا نُطلق الحكم السالف، ونقول «إن كل حوار منها بمثابة بحث أو مقالة».
ويضم الكتاب تسعة عشر حواراً، تناقش الكثير من القضايا، مثل: الأدب الإسلامي: تجلياته، وواقعه، وآفاقه، وتبعية المذاهب الأدبية المعاصرة للمذاهب الأدبية الغربية، والمعنى الحقيقي للواقعية الغربية، والفرق بين التجديد على بصيرة والحداثة المرذولة المُقلِّدة ... وغيرها.
ومن أهم القضايا الكثيرة التي أُثيرت في هذه الحوارات، قضية الأدب الإسلامي: تجلياته، وواقعه، وآفاقه، وقضاياه.
ويرى الناقد الدكتور صابر عبد الدايم أن الأدب الإسلامي «هو مشروع تطهيري يحاول تنقية الكلمة من الشوائب لأنه يؤكد على صدق المحتوى وشرف الغاية وسلامة الوسيلة وجمال العرض، ويعترف ببشرية الإنسان الناقصة وحاجتها إلى الترويح البريء. وأن الأدب العربي المعاصر لا ينهض بكل هذه الملامح».
ولقد جاءت رابطة الأدب الإسلامي لتقوم بدورها في الدعوة لهذا الأدب وتبنيه، ولكي تنقذ الأدب العربي من شراك التبعية. وهو يرى أن هناك تبعية في الأدب العربي لا ينكرها أحد. وهذه التبعية تتمثل في المناهج الأدبية كالرومانتيكية، والكلاسيكية، والواقعية والرمزية وغيرها، التي ترمى إلى فصل الأدب عن الفكر الإسلامي، وإعلاء الشخصيات المشبوهة، وهي مناهج تتسم بالسقوط الأخلاقي، وتريد ضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية، وتبغي كسر الثوابت.
ومن ثم فهو يشير إلى الرابطة في أكثر من حديث، ويشير إلى مجلتها الناهضة (مجلة «الأدب الإسلامي»)، بمثل قوله:
«إن مجلة الأدب الإسلامي مشروع طموح لإعادة نبض الحضارة الإسلامية إلى الكلمة العربية، وإلى لغات وآداب الشعوب الإسلامية. بعد أن تاه الأدباء المعاصرون في بوادي الجدب الروحي كما يقول الناقد السعودي الدكتور محمد عبد الر حمن الشامخ».
وهو يرى أن الأديب المسلم مطالب بالوعي التام، والحذر الشديد وهو يقرأ التراث الإنساني، كما أنه مطالب بهضم ذلك التراث وتصفيته من الشوائب حتى لا تتحول تجاربه الإبداعية إلى مسخ شائه، لا طعم لها ولا لون ولا رائحة «فتجربة الأديب المسلم ينبغي أن تكون موشاة بإطار العقيدة السمحة، التي تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء ومخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها، ولا يخاطب الفكر وحده في الكائن البشري».
وهو يرى أن الصحوة الإسلامية ـ آزرت الأدب الإسلامي ـ في تقليص موجات التغريب التي غزت عالمنا الإسلامي، ويقول: «أرى أن هذه الموجات التغريبية لم تزل في مدها وجزرها .. تؤدى دورها المنوط بها .. ولما تنحسر بعد، ويمكن أن نقول: إن دور هذه الموجات بدأ يتقلص ويضعف عن ذي قبل، وذلك يرجع إلى اليقظة الإسلامية المعاصرة التي نشرت الفكر الصحيح بين الشباب، فاستيقظ على صوت هذه الصحوة كثير من الذين جرفهم تيار التغريب، وكان لسقوط الشيوعية وانهيارها الأثر الأكبر في بدء انحسار هذه الموجات السامة… ولكنها لن تزول إلا بتكاتف المخلصين لدينهم ووطنهم من أبناء أمتنا العربية والإسلامية».
ولأن الدكتور صابر عبد الدايم يرى ذلك، من خلال رصده للحركة الثقافية فإنه يعد نفسه من شعراء الإسلام المُعاصرين الذين لهم رؤية، يقول في حوار له: «إنني أكتب الشعر الحضاري الذي يُشارك في مسيرة الأمة الإسلامية وبلورة شخصيتها، وتجلية حضارتها، انطلاقاً من إدانة الواقع الآسن، وطموحاً إلى واقع كريم: أصيل ومُعاصر».
وهو يرى أن الساحة الأدبية تشهد «كثيرا من المبدعين الملتزمين بالتصور الإسلامي، الذين هم على درجة عالية من المستوى الفني.. والجودة الأدائية في شعرهم وفي قصصهم ورواياتهم ومنهم على سبيل المثال: نجيب الكيلاني، محمد بنعمارة، حسن الأمراني، حسين على محمد، جميل محمود عبد الرحمن، عبد الله شرف، أحمد فضل شبلول، أحمد مبارك، عبد الرحمن العشماوي، وصالح الزهراني... وغيرهم».
وإذا انتقلنا إلى قضية أخرى من القضايا التي تُضيئها هذه الحوارات، وهي: الشعر، كيف يراه ويتذوقه الدكتور صابر عبد الدايم نراه يقول «إن الشاعر: موقف وأداة. وموقفه ينطلق من إحساسه بالوجود من حوله، وتعامله معه واندماجه فيه أو رفضه محاولاً تغييره، وهذا شيء لا يُمليه عليه أحد كائناً ما كان».
ويرى أن العيش في الحياة برؤية إسلامية، والنظر إلى الكون بمقياس متأمل، والتعامل مع حقائق الكون بفهم ووعي وقبل ذلك إجادته وسائل التعبير الفني هي ما تجعل الشاعر شاعراً حقا: «إن التعامل مع الحقيقة الكونية متمثلة في مشاهدها المحسوسة المؤثرة .. يقود الأديب المسلم إلى منافذ الإبداع الحقيقي .. فالكون مسرح التأملات، وإشراق الرؤى. وإبداع الصورة المبتكرة المؤثرة، والعودة من رحلة التأملات بزاد روحي عميق، وزاد أدبي مؤثر، ناضج بخصائص التجربة الإسلامية، لا يقود الأديب المسلم إلى الهروب والارتماء في أحضان الطبيعة، ولا يجعل من الطبيعة إلها يعبده الأدباء، ولا يجعل من الغاب فردوس الشاعر المفقود، ومهاجره الآمن، ومستقر أحلامه هربا من عالم الناس ودنيا الواقع ، بل تصبح هذه الطبيعة مرآة مجلوة يرى فيها الأديب نفسه وأمانيه وأحلامه، من جبالها يستمد مفردات الشموخ والآباء، ومن بحارها يستلهم مشاعر الحب، والنقاء والصفاء، ويتلقى دروس السمو والعطاء، ومن تقلبات فصولها يرسم للنفس طريق رؤاها».
ولا يهاجم الدكتور صابر عبد الدايم شعر المناسبات ـ كما يفعل غيره ـ وإنما يقول: «لكل قصيدة مناسبة وهى الموقف الانفعالي الذي دفع الشاعر إلى صياغته في تجربة شعرية منبعها النفس، وباعثها الانفعال الصادق0 ولكن المناسبة الجاهزة ـ التي يعرفها الكثيرون مسبقا ـ ليست تجربة انفعالية صادقة إلا إذا كانت تلمس وترا حساسا في عالم الشاعر ورؤيته، ولا ينجح الشاعر في قصيدة المناسبة إلا إذا أضفى عليها رؤية خاصة به .. وصاغها صياغة موحية تتعامل مع أثر المناسبة .. وآفاقها ولا تتعامل معها بصيغة مباشرة تقديرية».
ويرى البعض في شيوع الرمز وبخاصة في "شعر التفعيلة" وما يسمى «بقصيدة النثر» ملمحاً فنياً خاصا بالحداثة، وهذا الوهم ناشئ من قناعة البعض بأن الشعر المقفى لا يكون إلا "مباشرا تقريريا" وخاليا من الإيحاء، وبالتالي يطل بمنأى عن "الرمز"، ويعلق الدكتور صابر عبد الدايم على ذلك بأن «الواقع الفني والشعري يأبى ذلك، فشعراء المهجر وفى مقدمتهم جبران خليل جبران، وإيليا أبوماضي، وميخائيل نعيمة لهم تجارب كثيرة رامزة في قالب الشعر المقفى، وسعيد عقل كان شعره ينزع إلى الرمزية الجمالية الخالصة وهو في القالب التراثي، وزنا وقافية، وبشر فارس كانت رمزيته ميتافيزيقية أو رمزية ما وراء الواقع، وشعره موزون مقفى، وكذلك الشاعر صلاح لبكي0
ورمزية التعبير تتجلى في بعض تجارب حسن كامل الصيرفي وفى شعر محمود حسن إسماعيل وعمر أبي ريشة وأمين نخلة، وهؤلاء الشعراء يصوغون أشعارهم في قالب الشعر الموزون المقفى0
ومن خلال تجربتي في هذا الاتجاه أرى أن المنحى الرمزي في الشعر أعمق رؤية، وأقرب إلى روح الشعر الحقيقي إذا نجت القصيدة من الضبابية والغموض الداكن».
وتتكرر في الحوارات إشاراته إلى بعض قصائده، ومنها «الهوية» و«المسافر في سنبلات الزمن»، و«القبو الزجاجي»، و«الظمآن»، و«ملامح من تاريخ شجرة»، و«الغروب»، و«رمل السماء»، و«سباق»، و« الظل المضيء»، و«إيقاعات غير منتظمة». ... وغيرها.
ومن قصائده التي يعتز بها، ويذكرها في حواراته قصيدة «الهوية»، وهي قصيدة قصيرة، تشي بعمق انتمائه إلى الجذور وهي القرية المصرية التي تحمل ـ عن الإسلام ـ قيم التدين والسماحة والحب والعطف، كما تشي بعالمه الخصب الذي يبحث عن الارتواء من قيم الأصالة:
اسمي : صابرْ
عمري : سنوات الصبار جهلت بدايتها أو حتى كيف تسافرْ
بلدي : مصر ـ القرية ـ والموال الساخرْ
والمهنةُ : شاعرْ
وهواياتي : فك الأحجبة وهدم الأسوارْ
وقراءة ما خلف الأعين من أسرارْ
والبحث عن الخصب المتواري خلف الأمطار
والتنقيب بصحراء النفس عن الآبارْ
ولأن صابر عبد الدايم أمضى في المملكة العربية السعودية اثني عشر عاماً، أستاذاً للأدب والنقد: عايش فيها الأدب السعودي وقضاياه، وناقش عدداً من الرسائل فيه، فإن حكمه عليه حكم الخبير الحاذق.
يقول في أحد الحوارات عن الأدب السعودي: «الأدب السعودي المعاصر غصن مثمر في شجرة الأدب العربي الحديث، وهو في ملامح تطوره، واتجاهاته وخصائصه وميادينه يعد مكونا أساسيا من مكونات النهضة الأدبية المعاصرة، وعلى دارسي الأدب في الجزيرة العربية أن لا يغفلوا ارتباط هذا الأدب بالجذور التراثية العربية في عصور ازدهارها بدءا من ريادة الشعر العربي في عصر ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي)، ثم ما تلاه بعد ذلك من عصور أدبية ولغوية بذل فيها علماء اللغة ورواة الشعر والنقاد ومؤرخو الأدب جهودا مضنية في الحفاظ على اللسان العربي المبين: بنية وضبطا وتراكيب، وأساليب فنية متجددة في إطار البيان العربي الدال المفيد0
والأدب السعودي لا ينفصل عن هذه الجذور الذهبية، وهو مع ذلك يواكب التيارات الجديدة في عالم الإبداع وعالم النقد، ولكن آمل أن تظل هذه المواكبة راشدة في استقبالها للموجات الحديثة الوافدة، فليست جميع الأنماط والقيم الأدبية الوافدة تتناسب مع بيئتنا العربية الإسلامية المحافظة على هويتها ومعالمها وقيمها الثابتة الأصيلة».
...
.. وما أكثر القضايا التي تُثار في هذا الكتاب، الذي يكشف عن تجربة الدكتور صابر عبد الدايم الإبداعية والنقدية.