منتظر الزيدي و«الجيبة فاضية»
بقلم:سري سمور-جنين-فلسطين
رغم تتابع الأحداث وزخمها إلا أن أحدا منا لم ينس منتظر الزيدي...هذا الاسم الذي أطلق على كثير من المواليد الجدد،هذا الذي صفق له المصفقون ،ونظمت في مديحه الأشعار والقصائد من البحر الطويل والكامل وما لا أعرفه ،وليس انتهاء بقصائد النثر والشعر الحر،وبُحّت حناجر المعلقين على فعله الذي وصف بأروع الأوصاف كالبطولي والشجاع ووو....وبأن «كندرة» الزيدي هي كندرة الملايين!
لم ولن ينس ملايين الناس خاصة من العرب والمسلمين يوم الأحد 14/12/2008م ،ففي هذا اليوم برز اسم الصحفي العراقي منتظر الزيدي حين قذف فردتي حذائه تباعا باتجاه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش أثناء مؤتمر صحفي للأخير في بغداد مع نوري المالكي صارخا «هذه قبلة الوداع يا كلب» وكان بوش وقتها يحزم أمتعته ليغادر البيت الأبيض من غير رجعة.
ردّات فعل كثيرة على تلك الحادثة ،والتي بلا شك جعلت من الصحفي الشاب الذي لم يبلغ الثلاثين من عمره رجل العام 2008 ،ولكن على المستوى العربي ،الشعبي والإعلامي منه خاصة،كان هناك ترحيب وابتهاج بهذه الحادثة،والملايين حول العالم شاهدوا مرارا ذلك المشهد الذي يصعب مسحه من الذاكرة،بل لقد أنتجت ألعاب كمبيوتر تستوحي فكرة الرشق بالحذاء،وأثيرت تساؤلات كثيرة حول ما جرى ؛منها ما يتعلق بمستوى الطاقم الأمني الذي يرافق بوش وعجزه عن منع الزيدي من رشق بوش بالحذاء ،خاصة الفردة الثانية،و البعض شكك في كل القصة معتبرا بأن بوش أراد امتصاص نقمة العراقيين والعرب والمسلمين بتدبير هذه الحادثة،ولكن السواد الأعظم في الشارع العربي،ومنتقدي بوش حول العالم بمن فيهم أمريكيون ابتهجوا لهذا «القصف الحذائي» والذي أصبح تقليدا لم ينج منه حتى الزيدي نفسه.
لا أدري كم كان عدد مشاهدي قناة «البغدادية» التي كان الزيدي يعمل بها،ولكن المؤكد أن هذا العدد تضاعف عشر مرات أو أكثر بعيد تلك الحادثة ،وغطت القناة ردات الفعل المتضامنة مع صحفيها الذي اعتقل بعد توجيه صاروخيه نحو هولاكو العصر ،وتعرض للضرب المبرح،بل وضعت القناة صورته كشارة ثابتة على شاشتها.
وانشغل الناس بحذاء الزيدي؛كم مقاسه؟ومن أين اشتراه؟مع الرغبة في جعله معلما ونصبا تذكاريا،وكنت ممن قالوا وقتها ليتني أتشرف بتقبيل هذا الحذاء ،ما لم يكن في هذا مخالفة شرعية،ولكن على الأقل تمنيت مثل ألوف مؤلفة تقبيل اليدين اللتين رشقتا هذا الحذاء ،على أحد كبار مجرمي العالم عبر التاريخ،هاتان اليدان عبرتا عن حقيقة مشاعر العراقيين الحقيقية تجاه من تسبب في قتل وتشريد وإفقار وانتهاك أعراض الملايين من أهل بلاد الرافدين،مما دفع حكومة المالكي إلى إتلاف الحذاء بشكل نهائي،ولو بقي أنا واثق أنه كان سيباع في المزاد العلني بملايين الدولارات،وربما يوضع في أحد المتاحف العريقة في أوروبا.
أما عن المحامين الذين أعلنوا عن تطوعهم للدفاع عن الزيدي،فإن لم يكونوا بالآلاف فهم بالمئات،بل هناك من أعطى للأمر بعدا آخر ،فاعتبر أن الزيدي يمثل الوجه المقاوم للصحفي العربي ،حيث أن دور الصحفي لم يعد يقتصر على إعداد ونشر النصوص والصور ومقاطع الفيديو وإجراء المقابلات وتغطية الأحداث ،بل له دور مقاوم أكثر إيجابية من غيره.
اشتهر الزيدي ،وتعاطفنا معه أيما تعاطف،ووصلت حالة التعاطف إلى إعلان العديد من الأسر الاستعداد لتزويج إحدى بناتها لهذا البطل بلا مهر،مع التكفل بتوفير كافة النفقات من مصاغ وجهاز وخلافه،تعبيرا عن التشرف بمصاهرة من هاجم وبحذائه رئيس دولة أساء وأساءت دولته وأجرم وأجرمت بحقنا بما نتعب في عده وإحصائه بحقنا كعرب ومسلمين وبحق العراقيين بشكل خاص.
وحين حكم على منتظر الزيدي بالسجن سنة واحدة،لم يخل الأمر من تناقل طرفة بأنه أصبح بطلا مشهورا عرفته كل الدنيا ولم يعاقب لا بالمؤبد ولا بالإعدام ولا حتى بعشر أو خمس سنين ،وأنه بات الصحفي الأكثر شهرة،على الأقل عربيا،وأن هناك الكثير من المؤسسات والأفراد ستدعمه لينال المال إلى جانب الشهرة.
مع مرور الزمن ،وهذا طبيعي عندنا معشر العرب بالمناسبة،قل تذكر الناس واهتمامهم بالزيدي وحذائه،ولكن كان هناك خوف أن يتم قتله في سجنه ،وإخراج الأمر كجلطة أو انتحار أو حالة دفاع عن النفس من قبل أحد السجانين،وكان هناك خوف أن يتم اغتياله بعد الإفراج عنه ،لا سيما أن العراق يتمتع بفضل الديموقراطية الأمريكية الفردوسية بحالة من الموت المجاني الذي يتربص بكل عراقي في المسجد والكنيسة والشارع والمدرسة والسوق والشارع والحافلة،واطمأن الذين تعاطفوا مع الزيدي عليه حين علموا أنه سيغادر العراق إلى سويسرا،وكانت قصة التبرعات المالية السخية التي كان يُعلن عنها يوميا،إبان الحماس للقصف الحذائي البطولي ترتبط ذهنيا ومباشرة بالرجل ،مع عبارات من قبيل «يستحق مليارات وليس فقط ملايين» «لقد صنع للعرب مجدا بفعلته الشجاعة» »و«يا حبذا لو تولى رئاسة مؤسسة إعلامية ضخمة» و«لو ترشح لرئاسة أي دولة عربية لفاز بأغلبية ساحقة»...إلخ.
هكذا كانت الصورة حتى اللحظة،ولكن الخبر الذي نشر مؤخرا وتناقلته العديد من الصحف ووكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية يبعث على الخيبة والإحباط،وشخصيا أتمنى أن ما نُقل على لسان الزيدي غير حقيقي ،وأن الرجل لا يقول الحقيقة ويريد جذب الأضواء التي خفتت نحوه من جديد،أما إذا كانت الأخبار صحيحة فهي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى!
يقول الخبر أن منتظر الزيدي المقيم حاليا في بيروت قال:«أنه خلال وجوده في السجن بعد أن رشق بوش بحذائه وصلته أصداء التبرعات المالية التي سيقدمها أشخاص ورجال أعمال عرب وأجانب له ونزولا عند هذا الكلام قررت تأسيس مؤسسة تعنى بضحايا الاحتلال الأمريكي للعراق ولكن تبين لي لاحقا انه كلام بكلام ولم أتلق أية أموال لإطلاق مؤسستي الإنسانية وجميعهم نكثوا بوعودهم وبما في ذلك قناة البغدادية التي كنت أعمل فيها صحافيا»
يا سلام سلّم،ولم يقف الخبر على هذا بل إن الزيدي قال بأن قناة البغدادية التي عمل فيها صحافيا تملصت من كلام صاحبها «عوني الخشلوك» بإعطائه منزلا في بغداد بعد أن أعلن ذلك في وسائل الإعلام،وأنه كان قد تبرع بالمنزل –الذي لم يحصل عليه- لمؤسسة إغاثة ضحايا الاحتلال الأمريكي في العراق ،والأدهى والأمر أن الزيدي لم يتقاضى منذ خروجه من السجن راتبا من قناة البغدادية،وأنه اضطر لبيع عقار يملكه في بغداد.
منتظر الزيدي رفض عرضا بالحصول على حق اللجوء السياسي في سويسرا،وغادر سويسرا إلى بيروت، و كان ينوي إنشاء مؤسسة تفضح ممارسات الاحتلال الأمريكي في بلاده من خلال استخدام الملايين التي وعدوه بها عبر وسائل الإعلام ،تحمل اسم«مؤسسة الزيدي لإغاثة ضحايا الاحتلال الأمريكي في العراق».
أنا متأكد يا سادة أن الزيدي لو توجه للعمل في مؤسسة إعلامية أمريكية كانوا سيستقبلونه ويعتبرونه نجم النجوم،ولكن ردة الفعل عندنا ستكون اتهامه بأنه باع نفسه للشيطان وسنقوم بوصفه بأقذع الأوصاف،بعد أن تمنينا التمسح بغبار حذائه،و«شريف خيري خاين عميل»!
على من يقع اللوم في هذه الكارثة،والتي أكرر تمنياتي بأن تكون تفاصيلها غير دقيقة؟ أولا على القناة التي يعمل بها ،قبل أي كان فهي حاضنته المهنية ،والمفترض أن تفي بوعودها له وأن لا تقطع راتبه،وهي بذلك ترسل إشارات سلبية لكل الصحافيين في مختلف القنوات الفضائية والمؤسسات الإعلامية،بأنهم إذا حدث لهم مكروه فليرددوا:يا وحدنا...لا ننكر اهتمام قنوات فضائية بالعاملين فيها أثناء وبعد محنتهم؛فالشهيد طارق أيوب مراسل الجزيرة في بغداد ،والذي قالت زوجته السيدة ديمة طهبوب يوما:بأن الجزيرة قد تنساه ما زال حاضرا في مشاهد مختلفة على شاشة الجزيرة التي لم تنساه،أما سامي الحاج الذي اعتقل في غوانتانامو بضع سنين فلم يهمل لا أثناء احتجازه ولا بعده،ولم تنس قناة العربية الشهيدة أطوار بهجت ولم تهمل جواد كاظم وماجد حميد،ولكن إذا كان حقا ما يقوله منتظر عن قناة البغدادية فهذا مؤشر سيىء وقد ينسحب على صحفيين آخرين في قنوات أخرى يقعون في محن أو أزمات ،وقد تكون مصيبتهم أكبر لأنهم بالتأكيد لن يكونوا بشهرة الزيدي فسيضيعون وتضيع حقوقهم دون أن يسمع بهم أحد.
ثانيا يقع اللوم على جمهور الصحافيين سواء أكانوا يؤيدون فعل القصف الزيدي باستخدام الكندرة تجاه بوش أم لا يؤيدونه ،لأنه يتوجب عليهم الوقوف مع الزيدي من جديد وفضح من وعد وأخلف ،ودق جرس الإنذار واتباع سياسة إعلامية توعوية تحمل العتب على الجمهور الذي يتوهج ثم ينطفئ ؛فقد ذهلت حين قرأت بعض التعليقات على خبر التخلي عن الزيدي والتي تتهمه بأنه يريد المال فقط،وأنه لم يعد لا محترما ولا محبوبا ،وأن هناك ندم على التعاطف معه من الأساس!
أما عن الذين وعدوا منتظر الزيدي بالمال الوفير وخذلوه ،فحسبنا الله ونعم الوكيل،ولقد ذكرني هذا بحديث رجل توفاه الله عن مثل هذه الظاهرة؛فحسبما روى لي فإنه قبل نحو ثلاثين عاما كان يشرف على احتفالات ولقاءات يحضرها الكثير من الناس تستهدف دعم وتطوير مؤسسات خيرية أو ثقافية ،وكان يتلقى وعودا بالدعم بمبلغ كذا أو قطعة أرض،فيعلن ذلك عبر مكبر الصوت شاكرا لفلان كرمه ووقوفه مع هذه المؤسسة،وكان الاستحسان والتصفيق سيدا الموقف،ولكن حين كان يذهب مع من يتابعون تنفيذ تلك الوعود كان يفاجأ إما بالتسويف الذي مع طول مدته يدفعه للخجل من المطالبة بتنفيذ الوعد بالتبرع،أو يتم دفع جزء صغير جدا مما أعلن عنه أمام الملأ ،أو كان يواجه بتنكر تام للوعود التي تلقاها لأن صاحب الوعد فجأة وبعد ساعات أو أيام من وعده بالتبرع يقول بأنه تعرض لنكسة مالية كبيرة تمنعه من الوفاء والالتزام بوعده الذي حاز من خلاله على التصفيق والمزايدة والإشارة بالبنان!
أما من كان وما زال يحب الزيدي ويرى في ما صنع بطولة عزّ نظيرها في زمن كثر فيه هوان الأمة على الناس،فإن حالهم كحال الفنان الكبير دريد لحام في فيلم «الحدود» حيث جاءت الجماهير تتضامن معه وتشد من أزره وتناصره وتحييه،في المنطقة الحدودية التي كان يقيم فيها ،وخطب البعض خطبا عصماء في المهرجان التضامني الحاشد،وحين عادوا وتركوه أبرزوا لشرطة الحدود جوازات سفرهم،بعد انتهاء الاحتفال وانفضاض السامر،أما المسكين دريد لحام(عبد الودود كما كان اسمه في الفيلم) الذي كانت مشكلته فقدانه لجواز سفره وهي الوثيقة المطلوبة لعبور الحدود ،فقد ظنّ أن هذا المهرجان يغنيه عن جواز السفر،فتوجه لضابط شرطة الحدود متسلحا بما كان قبل قليل من حشد يتضامن معه ،ولكن الضابط قال له بأنه هو أيضا قد كان ضمن من حضر المهرجان،ولكن لا يجوز لعبد الودود المرور بلا جواز سفر...والله يعطي العافية لمن تضامنوا مع عبد الودود ولمن صفقوا لمنتظر الزيدي ونشروا الرسائل والإيميلات التي تشيد به وبأهله وبالطبع بحذائه الأصيل ،وخزنوا على أجهزة جوالاتهم مشهد الحذاء الذي تفاداه بوش...والمعنى في بطن الشاعر!
الآخرون حين يتبرعون بالمال يدفعون دون وعود حنجورية وتظاهرات إعلامية،إلا إذا كان الهدف تشجيع الغير على الدفع بسخاء أكبر ،والمؤكد أن من يعد بالدفع ولا يلتزم يفتضح أمره وتطحنه الصحافة بل قد يقدم للمحاكمة،أما عندنا فتغطي أخبار«النية» على التبرع مساحات واسعة في الإعلام،ولكن لا تجري متابعة تلك الوعود،والأمثلة كثيرة،وما منتظر الزيدي إلا مثالا عليها.
ولكن ألا يمكن أن يكون عدم الالتزام المالي تجاه الزيدي وراءه ضغوط أمريكية أو غيرها...ربما ولكن هذا لا يعفي من تنطحوا وقالوا بأن خزائنهم مفتوحة للرجل...لنكتشف أن منتظر الزيدي «جيبته فاضية».
ولمنتظر أقول :إذا كانت هذه الأخبار صحيحة فما عند الناس ينفذ وما عند الله باق ولا تقنط ،واعلم أن الخير لا ينقطع ،ولعلنا عمّا قريب نرى مؤسستك التي تطمح إليها قائمة فاعلة وناجحة وما ذلك على الله بعزيز.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الأربعاء 8/ربيع الآخر/1431هــ الموافق 24/3/2010م
من قلم/سري سمور