سقوط الجمرات الثلاث

أحياناً أقلب بين (مفكرات) والدي رحمه الله، والتي كان يدون فيها ما يلفت نظره في كل يوم، وبين حين وحين يكتب لائحة أسعار اللحوم والتبن والحنطة، ومن توفي ومن ولد من أهل البلدة، وحال الزرع وغيره، وإن لم يجد شيئاً مهماً، يكتب على صفحة المفكرة (شُوهد) وهي صفحات كثيرة.

وقد تعود والدي أن يدون في تلك المفكرات منذ الحرب العالمية الأولى، حيث هو من مواليد 1890م وتوفي عام 1984 عن عمر 94 عاما.

كنت ألاحظ أن المفكرات تلك والتي كانت تُطبع في دمشق بأنها تحدد المواسم الزراعية وفواصله الزمنية، فيكتب في 15 أيلول/سبتمبر (عيد الصليب والزبيب) وفي أيامنا هذه (الشتاء) يوضع في 21/12 بداية المربعانية وفي 1/2 يكتب بداية الخمسينية، أي الخمسين يوما المتممات للتسعين يوماً من الشتاء. وكانت تلك المدة تقسم الى أربعة أقسام كل قسم 12.5 يوما، يسمى كل واحد منهما (سعد كذا) وقد مررنا عليها.

في هذا اليوم 20 من شباط/ فبراير يُكتب (سقوط الجمرة الأولى) وفي (27 من الشهر نفسه) يُكتب (سقوط الجمرة الثانية) وفي 6 من آذار/مارس (سقوط الجمرة الثالثة).

ولكثرة إلحاحي في السؤال عن تلك الأشياء عندما أراه يدونها أو يذكرها، كنت أحرص على السؤال عنها بحضور آخرين، وأستمع لما يقول أولئك الحضور.

كان القدماء يعتقدون أن الدفء كما هو المطر يسقط من السماء، فعندما يتم إرواء الأرض بالمطر، كنا نسمعهم يقولون(إلقحت: أي تم تخصيب الأرض) وستعطي ثمارها، وهذا الاعتقاد كما ذكرنا في مجالات معينة، هي اعتقادات تعود الى السومريين والكنعانيين، إذ كانوا يعتقدون أن السماء ذكراً والأرض أنثى!

ذات يوم كنت في صحبته، فناداني لأرى الجمرة الأولى، فكانت عبارة عن خيوط مثل خيوط العنكبوت تتجمع عليها يرقات حشرات لا أعرفها (حتى اليوم) تقرض أوراق الحشائش التي تسقط فوقها.

كان سقوط الجمرة الأولى يبشر بقدوم الدفء الأول، ولكنه دفء كاذب يجب الحذر منه، ثم تأتي الجمرة الثانية في 27 شباط/فبراير أي بعد يوم واحد من بداية سعد السعود، وتعلن أن العصارة قد سرت في الأشجار، فلا يجوز تقليمها بعد الآن، وفي 6 آذار تسقط الجمرة الثالثة وهي بداية الدفء الحقيقي ويليها في ثاني يوم بداية سعد الخبايا حيث تظهر العقارب والحيايا (الأفاعي).