(20)
لَمَا كان أهل البلدة، يقننون استهلاكهم للغذاء ليتجاوزوا به محنهم، لم يكونوا على علمٍ بأن هذا الأسلوب ستستخدمه شركات النقل الجوي في نقل الأبقار من قارة الى قارة، حيث كانت تحبس الأبقار وتخضعها لنظام غذائي شديد، ينقص من وزنها ما يعادل الربع أو الثلث لتوفير نفقات النقل الجوي.
ولم يكن علمهم بتلك الأمور ليطلعهم على أن هناك علائق للحفاظ على الحياة، وأن هناك علائق تهتم بصحة الجنين وعلائق لإنتاج الحليب وعلائق لإنتاج البيض. وربما يكون علماء التغذية هم من استفاد من تجارب هؤلاء الذين أخضعتهم الطبيعة لاستنهاض قدراتهم في الصراع من أجل البقاء.
ففي سنين الخير، لم يكن شبح المحل والقحط ليغيب عن أذهانهم، فإن كان حاصل إنتاج أحدهم يكفيه لعشر سنوات هو ومن يرعاه من حوله من بشر وحيوان، فإنه سيحتاط للاحتفاظ بمئونة سنتين أو ثلاث، مع كميات من البذار تكفي لتلك السنوات القادمة، ويبيع ما سيفيض عن حاجته الفورية أو المستقبلية. وكانت كميات المخزون الاستراتيجي تعتمد على كمية الغلة وحاجة أصحابه.
وتظهر المشاكل، تبعاً لنقص المواد الاحتياطية. ففي تلك الفترة التي طالت سنوات قحطها، كشفت أحوال أكثر من ثلثي سكان البلدة، فمنهم من كان يقترض من أقاربه قرضاً حسناً، ومنهم من كان يلجأ لإزالة سقوف قسم من سقائف منزله ليطعم الحيوانات التبن الذي كان يُستخدم في السقوف، ومنهم من كان يبيع جزءا من أرضه لتجاوز المحنة، ومنهم من كان يقترض بالفائض من بلدة قريبة، راهناً أرضه أو جزءاً منها، ومنهم من كان يُكابر في الصبر الشديد فلا يشتكي ولا يقترض بل يبقى هو وأهله كأنهم في تمرين بوذي، أو أنهم يفضلون (الاعتفاد*: أي الموت جوعاً بشكل جماعي) على هدر كرامتهم.
(21)
تيقن معظم أهل البلدة، أن الموسم يبشر بخير، فكان هذا (المُعْظَم) يتصرف كعطشان قطع شوطا طويلاً في صحراء، ثم شارف على غديرِ ماءٍ علمته خبرته بأنه ماءٌ حقيقي وليس سراباً. فهذا شهر (فبراير/ شباط) قد اقترب على الانتهاء والحقول خضراء بمزروعاتها وأعشابها.
لكن بهلول لم يشارك هؤلاء الناس استبشارهم بالخير، فكان يحمل عصاه التي كانت أطول من جسمه، ويطوف بين الحارات، مُردداً : ( تغل على جمر وتمحل على نهر: أي أن الله يرزق الناس حتى لو يئسوا و يحرمهم من الغلال حتى لو كانت وفرة الأمطار كماء النهر الجاري).
لم يكن بهلول وحده، من شكك في الموسم، بل كان يشكك به (أبو مناور) الذي كان يحتفظ بكميات من القمح والشعير والعدس والتبن في مستودعاته التي كانت معظمها على شكل آبار محفورة أسفل قاعات المخازن الظاهرة، ومع ذلك كان ينكر لمن يطلب منه بعض الحبوب أن لديه شيئاً مخزون.
(22)
انتشرت النسوة مع الغلمان في الحقول، وكان الجو مشمساً، وكان الأولاد يتابعون حركة سلحفاة هناك، تقترب من حفرة صخرية تجمع بها الماء، وكان أحدهم يريد إطفاء عطشه، فاقترب من الحفرة مُبعداً بعض الخنافس التي سقطت بها ليغب من الماء كأنه خروف. وقد شاهدته أمه (ذيبة أرملة ياسين) وهو يشرب فشاركته بالشرب.
جمعت (ذيبة) أشكالاً مختلفة من النباتات البرية، وكان لكل نبات اسم واستعمال، فهذه (خبيزة) وذاك (عكوب) وذلك (مُرار) و تلك (بْصِيلة)، ووضعتها ب (معقاد: صرة من القماش العتيق)، وهمت بالرحيل مع أطفالها.
تعالت أصوات الأولاد، وذهبوا يتراكضون جهة (صياح) القادم من بعيد هو وثلاثة (كلاب سلوقية) يجر وراءه ضبعاً، لا يدري أحدٌ إن كان هو من قتله أو وجده مقتولاً.
(23)
انشغلت ذيبة في تحضير الطعام لها ولأولادها، حيث فرمت (الخبيزة) مع (البصيلة) ووضعتها في قدرٍ فوق الموقد، ورشت فوقها الملح، ولم يكن في حوزتها خبزٌ، حيث عليها أن تتمرن هي وأولادها العيش بلا خبز حتى يأتي الخير الجديد، كما عليها أن تستعيض عن البصل بشبيهه البري (البصيلة).
تأخر أحد أولادها الثلاثة، عن مشاركة أمه وأخويه تناول الطعام، وكان قد لحق صياح، الذي كان يجر الضبع وراءه. وعاد ومعه قطعة من لحم الضبع.
لم تسأله أمه عن اللحم، رغم أنها سمعته عندما قال: أنها قطعة لحم من الضبع الذي ذبحه صياح.
كانت فتاوى أهل البلدة في مثل تلك الأيام فضفاضة جداً، فهم إن نصبوا (أفخاخ) للطيور في المساء وعادوا صباحاً، فإنهم لن يناقشوا الحلال من الحرام، ويكتفوا بالقول: (صيد الفخ لَخْ)، وبغض النظر عن معنى الكلمات فهي إشارة على أن أكل هذا الصيد حلال!
كذلك كان يفعل (صياح) باعتماده على فتوى لم يسأله أحدٌ عن مصدرها، وهي أن الجنب الأيمن من الضبع حلال أكله، فكانوا يأكلون ما يصيده أو يحضره صياح دون تدقيق، ودون أن يتحروا أين ذهب الجانب الأيسر؟
*ـ الاعتفاد (الانتحار الجماعي) : حالة كان يلجأ إليها سكان مكة المكرمة قبل الإسلام، عندما يقل عندهم الغذاء، خوفاً من كشف فقرهم للآخرين، وقد رافقت تلك الظاهرة ظاهرة وأد الفتيات اللواتي كان أهلهن يخشون أن ينحرفن أو يضطروا لزواجهن من رجالٍ غير كرماء الأصل [ من المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د. جواد علي/ دار العلم للملايين].