"فنون الشعر العربي "



الجزء الثاني




فن المواليا في مصر


لم يقف مؤرخو الأدب على معرفة الفترة الزمنية التي دخلت فيها المواليا مصر ولم يقفوا أيضا على معرفة أول من جلبها من موطنها الأصلي العراق إلى مصر لأن كتب الأدب لم تتعرض لهذا الحدث التاريخي والأدبي وقد نسب ابن خلكان المواليا لابن الفارض المتوفى عام 632هـ ويعلن أنه لم يرها في ديوانه ولكنه ينسبها إليه والمواليا التي نسبها لابن الفارض هي :


قُلْتُوْ لِجَزَّارِ عِشْقِتْنُوْكُمُ تشرخني
قتلتني قال : ذا شغلي توبخني
ومال إليَّ وباس رجلي يريخني
يريد ذبحي فينفخني ويسلخني



ويقول ابن خلكان " وقد كتبه على اصطلاحهم فإنهم لا يراعون فيه الإعراب بل يجوزون فيه اللحن بل إن غالبه ملحون فلا يؤاخذ من يقف عليه "
إن هذا النص كامل من حيث العروض والشكل في المواليا الرباعي الذي هو أساس المواليا الذي اقتطع من البسيط وكلام ابن خلكان " أنهم لا يراعون فيه الإعراب " أنه وصل مصر ملحونا لا كما تسلمه أهل بغداد من أهل واسط وكان معربا فلطفوه ونقحوه ورفقوا ودققوا وحذفوا الإعراب فيه واعتمدوا على سهولة اللفظ ورشاقة المعنى ونظموا فيه الجد والهزل والرقيق والجزل ... وبالبحث عن نصوص أخرى في وقت وقت ابن الفارض أو بعده لا نجد له انتشارا ولعل المواليا عندما دخلت مصر كانت فنا مبخوسا قدره كسواه من الفنون الأخرى
ولكن تقريبا يمكننا تحديد الفترة الزمنية التي دخلت فيها المواليا مصر وهي النصف الثاني من القرن السادس الهجري أي في الوقت الذي دخلت فيه الموشحات والأزجال مصر من الأندلس , وهذا سر الخلط اليوم حين نسمي الشاعر المَّوال زجالا وكلاهما غير الآخر وفي هذا التوقيت التقى الأدب العامي المشرقي بالأدب العامي المغربي في مصر حيث كان الاستقرار السياسي والاهتمام بالأدب والأدباء والشعر والشعراء فأخذته العامة والخاصة تنظم فيه وقد أحب المصريون المواليا فأخذوه وبقي من عندهم حتى صار وكأنه من تراثهم
وهذا الذي حدا بابن خلدون المتوفى عام 808هـ حين يتكلم عن المواليا ويبدو عليه أنه سمع بعضا من نصوصها فتأثر بها فقال : " وكان لعامة بغداد أيضا فن يسمونه المواليات وتحته فنون كثيرة يسمون منها القوما والكان وكان منه مفرد ومنه في بيتين ويسمونه الدوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها وغالبا مزدوجة من أربعة أغصان وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغريب ويذكر لنا ما علق بحفظه يقول :



هذا جرى حي طريا والدما تنضحْ
وقاتلي يا أخيّا في الفلا يمرح ْ
قـَلُو ونأخذ بثأرك قلتُ ذا أقبحْ


وعلى أي حال فإن المواليا انتشر في مصر في القرون التي تلت القرن السادس وسار هذا الفن على لسان المصريين بحيث شمل كل الأغراض التي تطرقت إليها الفنون الشعبية الأخرى وبلغوا قمة النظم فيه في القرن الثامن والتاسع والعاشر الهجرية ومازالوا ينظمون فيه حتى الوقت الحاضر
ووجد المصريون في هذا الفن مجالا واسعا لضرورة الشعر واشتهر به موَّالة كثيرون فمن أوائلهم : أحمد بن محمد بن شهاب الدين المشهور بالغار الشطرنجي وساد في نظم المواليا ومن قوله فيه :



غَنتْ فأغنت عن المسموع في الأقطار
ودقت الدفْ أجرتْ أدمعي أمطار
وصرت في حبها لا أختشي أخطار
لما أستمعْ لب قلبي من يديها طار

وكان من أوائل الموَّالة محمد بن علي شمس الدين أبو عبد الله المصري الأصل الغزِّي المنشأ المعروف بابن طرطور المولود عام 685هـ والذي طاف ببلاد الشام ثم عاد إلى القاهرة وتوفي فيها عام 762هـ ومن المواليا التي تنسب إليه قوله :



عانيت من ذنب هجر و بالوفا مغفور
في النهر يسبح وحظهْ بالبها موفور
شبهت من فوق ردفه شعره المضفور
الف من المسك في صفحة من كافور


وقد حرف المصريون المواليا بالموَّال وأهل الصعيد هم اشهر الناس بهذه المواويل فظهر عندهم ألوان من الموال منها :

*على مستوى المضمون :

1-الموال الأحمر : وهو ما ينظم به في الحماسة والحرب والحكم ومنه :



صفق جوادي وقد جسيت يوم الحرب
عودي فعنتْ صوارم شرقها والغرب
طربت عادت تنقط في سماع الحرب
روس الأعادي وترقص داخله في الضرب



2- الموال الأخضر : وهو ما دخل فيه التغزل والنسيب وما إليهما من الأنواع الرقيقة ومنه :



جات بسلة من التفاح قد فاحت
قمحية اللون معها أرواحنا راحت
من حب رمان نهديها اذا ارتاحت
يجيب لها قُرْطميًّة كلها راحت


3-( القِرِقـْيَا ) : وهو الشعر العامي الذي يشتمل على الهزل ومنه :



قالوا تحب الفول المدمس قلت بالزيت الحار
والعيش الابيض تحبه قلت والكشكار
قالوا تحب المطبَّق قلت بالقنطار
قالوا : إيش تقول في الخضاري قلت عقلي طار



والفول المدمس أكلة مصرية يحبها المصريون أغنياء وفقراء



4- (البُلَيِّق) بضم الباء وكسر اللام وتشديد الياء مع كسرها وسكون القاف ويشمل التغزل أيضا ومنه :



صل مدنفا يتقلي فوق حر الجمر
سكران منك بكاس الهجر لا من خمر
إن كان بأقوال من مالي عليهم أمر
هجرتني بزيد لا تؤاخذ عمرو


5- ( المُكَفِّرْ ) ويقصد به الشعر العامي الذي يشمل على المواعظ والزهد ويتفرع عنها الحكم والنصائح ... ويبدو أنه قد تأثر بالمكفر الذي ظهر في الأندلس في عصر ملوك الطوائف منبثقا عن الموشح ومن رواده " محي الدين بن عربي " ولنا مع الموشح وقفات نتحدث عن تاريخ نشأته وتطوره في حينه بإذن الله ... ومنه :



يا مبتغي طرق أهل الله والتشكيك
دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيك
إن اذكروني لـَرُدْ المعترض يكفيك
فاجعل سلاف الجلالة دائما في فيك


*على مستوى الشكل :
طور المصريون فيه من حيث التركيب الشكلي له فقد كان ينظم في بدايته من أربعة أقفال فقط زلكنهم انطلقوا به إلى أشكال جديدة منها :

1-الخماسي : وسموه ( الأعرج ) حيث تسير ثلاثة أقفال على نمط قافية واحدة ثم " العرجا " القفل الرابع تأتي قافية جديدة ويعود في القفل الخامس إلى القافية الأصلية ومنه:




يا واخد القرد اعوى يخدعك ماله
تحتار في أمره وتتعذب بأفعاله
حبل الوداد إن وصلته يقطع احباله
تقضي عمرك حليف الفكر والأحزان
ويذهب المال ويبقى القرد على حاله



2- السباعي : وسموه ( النعماني ) وهو يتألف من سبعة أقفال الثلاثة الأولى بقافية واحدة وجناس واحد والثلاثة الثانية بثلاثة أقفال مغايرة للثلاثة الأولى من حيث الوزن والجناس ثم القفل السابع يأتي بوزن وجناس الأقفال الثلاثة الأولى ومنه :




يا جاهل الحب تعالى أنا اديك أوصافه
ده اللي انشبك أمس صبَّح اليوم أوصافه
من شان غزال زين جرحْ القلب أوصافه
جرح فؤادي وخلاني عليل بهواه
وان أحسن المحب يداوي ميتو بهواه
لانو كتير أصل سموه الملاح بهواه
والعُنْق لولي وزان الاكتاف أوصافه



وهناك نماذج كثيرة من المواليا المصرية في مختلف الأغراض والفنون فالمواليا كانت في مصر أطوع للغناء من الفنون الأخرى لذا فقد تقبلها الشعب المصري في كل مكان


انتظروني في المرة القادمة
حيث المواليا في الشام