إنّ الشاعر خارج اللـّغة وهو يرى الكلمات عكسيا كأنها ليست خاضعة للوضع الإنساني ، كما لو كان القــول لديه حاجزا ما . وهو عوض أن يتعرّف على الأشياء بأسمائها ، لديه عقد صامت معها إذ بالتفاتته نحو هذا النّوع من الأشياء التي هي الكلمات عبر لمسها وغمزها وتقليبها يكتشف فيها ضوءا خفيّا خاصّا بها وقناعات لصيقــــــــــة بالأرض وبالسّماء وبالماء وبكلّ الأشياء المخلوقة .
جان بول سارتر ، ماهية الأدب 1947
يأتي أصل كلمة ” شعر” من الكلمة الإغريقية ” يويان” وتعني ” الخلق” أو ” الإبداع ” والشّعر خلاّق بالمعنى التقليديّ للكلمة ” فالشّاعر تقنيّ جمال ” يبحث عن الكمال في شكل صعب المنال ، وتغلب عليه ” صناعة الكلمات ” كما يقول جان لوي جوبير قي كتابه عن الشعر .
ويبني الشاعر ما يمكن أن نسمّيه “ الغرابة العجيبة للّغة “ انطلاقا من عمل صارم . وما عدا هذه الوظيفة الاستعمالية يتميّز الشعر عن النّثر بنفوذه الذي يمارسه عن النّاس . أمّا الشّاعـــــــر ” بودلير” فيحدّد الفنّ الشعريّ على أنّه ” سحر ذو إيحاء وإشارات ” ليدلّل على جمال وسحر الشّعر .
وسواء كانت العبارة الشعريّة مقفّاة أم لا ، موزونة أو غير موزونــة فإنها تخضع لتآلفات الألفاظ وللعبة النّغمات . ولا يمكننا الكلام عن الشّعر دون الإشارة للتحديد الذي اقترحه ” لامارتيــن ” الشاّعــــــر الرّومنطيقي في القرن التّاسع عشر : ” الشّعر هو الغناء الدّاخليّ … وأنا أقضّي بعض السّاعات الرّقيقة …واضعا على الورق حسب البحور والأوزان التي تصوّر هدوء َ وحركـــــــة الرّوح والانفعالات والأفكار والتّداعيات والأحزان والانطباعات التي تملؤني ..”
الشّعراء كلـّهم مطبوعون ويتحرّكون في بحثهم الشعريّ بفضل غناء أرواحهم وأحلامهم . والحلم في السريالية مُورس بين النّوم واليقظة . ومن هذا المستوى من التفكير تفرض عدّة أسئلـــــــــــــة نفسها بخصوص الشعريّة النصيّة . هل الوزن هو الكفيل بتحديد القيمة الشعريّة للنصّ.؟ وهل يحافظ النصّ على شعريته إذا ما تجاهل الشّاعر الوزن وأهمله وأقصاه.؟ وما هي قواعد شعر التفعيلة التي تُفلت من كلّ القيود ؟ وهل الشّعر الحرّ يحافظ على شعريته بالرّغم من إعادة تركيب اللـّغة ؟
القصيدة التّقليديّة
لا يسعني الحديث عن الشعر دون التعرّض إلى خصوصيّات الشّعر التّقليديّ . بدءا يبدو أنّ الشّعر متّصل اتّصالا وثيقا بقواعد الوزن ، وهي مجموعة من التّقنيات المستعملة في العبارة الشّعريّة القديمة تنظّم اللّغة الشعريّة بناء على أنّ البيت الشّعريّ يمثّل عودة إلى الصّوت المماثل ، ويرتكــــز الشّعر التقليديّ على هذه العودة المتكرّرة للقافية والوزن والوصلات واللاّزمـــــــــات والتّداخلات والأضداد الصّوتيّة …
إنّ النصّ الشّعريّ نتاج لتركيب صوتيّ ولغويّ وبلاغيّ يجعله مختلفا عن النصّ النّثريّ . وتختلف اللّغة الشّعريّة التّقليديّة عن اللـّغة اليوميّة وعن النّثر مهما بلغت درجة جماله ودلاله. إذ تتميّــــــز بنحوها الخاصّ بها الذي يسهّل الشيء ونقيضه ويؤاتي استعمالات لغويّ شعريّة غنيّة بالصّــــــور ومحسّنات بديعيّة وأدوات كتابيّة كالاستعارة والتّشخيص والمبالغة والتّورية والتّشبيه وما إليها …
ولنطرح سؤالا آخر : هل الوزن هو المكّوّن الأساسيّ لشعريّة النصّ الأدبيّ ؟
لقد عرفت كلّ الحضارات سواء العربيّة أو الغربيّة أو الصّينيّة ظاهرة الأوزان الشّعريّة . وممّا لا شكّ فيه أنّ التّكرار اللّفظيّ والتّوازيات النّحويّة والتّنظيم الصّوتيّ والتّناغم والإيقاع ، كلّها تشارك وتساهم في خلق خصوصيّا نصّ شعريّ . وكما يقول ” لوي فردينان سيلين ” : ” الأسلوب يخلــق الرّجل ” واستسمحكم قائلة : ” إنّ الأسلوب يخلق الشّاعر ” . فشعريّة النصّ كائنة في الشّعر التّقليديّ وفي الشّعر الحديث ، وسأحاول إظهار كيف يعبّر الشّعر الحرّ عن ” ذرّة الفلفل الأسود للقصيد ” أو كيميائه التي تميّزه عن النصّ الشّعريّ .
الشّعر الحرّ
يختلف الشّعر الحرّ عن الشّعر التقليديّ بخروجه عن وصايــــــــة العروض والوزن التّقليديّ وعن قواعدها الصّارمة . ويختلف الشّعر الحرّ عن التّقليديّ بكيفيّة توزيعه وصورته المكتوبة . وعلـى هذا المستوى تمثّل العودة إلى السّطر اعترافا بتغيير النصّ من نثر إلى شعر . ومع هذا فانّ الشّعــــر الحرّ يحتفظ ببعض سمات الشّعر التّقليديّ منها : - حضور الأسطر – الحرف الكبير في بداية كلّ سطر – جمل موزونة مختلفة وظاهرة – أصوات شعريّة ترافق الإيقاع ليس دائما في نهايـــــــــة السّطر بل أيضا داخل النصّ . ف”آرتير رامبو” الشّاعر الرّمزيّ تحرّر من سطـوة التّقليد الأدبيّ برفضه لوضع القوافي في آخر كلّ سطر أو بيت .
وهكذا نجد مجموعات من الإيقاعات موزّعة داخل النصّ ذاته مكوّنة ” مجموعة سياقات “ مفضيــــــة لنوع من التّآلف المتراكم “ فالشّاعر ” قيوم أبو لينير” كتب قصيدة على شكل ربطة عنق جاعـــلا من هذه الصّورة / القصيدة شكلا من أشكال التّعبير الشّعريّ الغنائيّ حيث يتفاعل المشهد وتنبجس الكلمات على الورق الأبيض مهرجانَ شعر وإحساس. أمّا ” بول إليار” شاعـــــــــر الحبّ فانّه يلهو بالتّنقيط ويعوّضه بالإيقاع وهذه كانت طريقة جديدة وحديثة ميّزت التعبير الغنائيّ لديه . إنّ شعرية الحركة والغموض ذات صفاء فيّاض وهي تنبني على تآلف الأضداد وترتيبها وتضادّها اللاّمتناهــي.
وشعر ” بول ايليار” شعر تبادل ومقابلة وهو شعر فتـّان كما لو كانت جهنّم لديه ذات ألوان وسمات هي صنوّ ألوان الجنّة . أمّا تفاعل الفضاء مع الجسد والزّمان مع الرّغبة فهو يناقض الرّؤية القديمة القائلة بتوحيد المكان والزّمان بطريقة آليّة تعبّر عن كلّ ما هو حقيقيّ أو واقعيّ .
إنّ الشّعر هنا تقويض لكلّ الحدود الواقعيّة وتحليق في عوالم الشّعور والإحساس ويتنزّل في ذاكرة الشّعر والشّعراء كلّهم .أمّا شعريّـــــــة النّزعة السريالية فإنها ترتكز على اللـّعب بالصّور معتمدة في ذلك كسر الحواجز والحدود التي فرضتها القافيــــــة والعروض فرضا . وهكذا اكتسب الشّعر حريّته انطلاقا من كسر القواعد النّحويّة ذاتها .
في النّهاية نرى أنّ النّصوص هذه تكتسب سطوتها ونفوذها وتأثيرها انطلاقا من كيفيّة تعبيرها عن الوجدان والشّعور وليس من معانيها أو أشكالها الخارجيّة بعيدا عن صورتها التّعليميّة وخضوعها لمعايير مسبقة .
إنّ الشّعر غنى روحيّ خالد يوفّر لنا متعة مغايرة وخلاّقة سواء كان خاضعا لشكل أو لآخـــر من أشكال الصّورة أو الكتابة . إنّ لكلّ سطرين من هذا الشّعر شعريته الخاصّة به فكأنّه ساحة / فضــــاء أو مكان يتجلـّى فيه الصّراع بين موت الكلمة أو حياتها في ساحة حرب كلّ مفردة تبحث فيها عن كيانها الشّعريّ المتجدّد.
المصدر:
http://bouhouchmohamed.maktoobblog.c...6%D8%B3%D9%8A/