الموشح الأندلسي واثَرُ الأدَبِ العَرَبّي في تَكَوُّن الشِعْرِ الأورُوبّي
مسألة تـأثير الشعر العربي الأندلسي في نشأة الشعر الأوروبي الحديث في أسبانيا وجنوبي فرنسا من المسائل التي تشغل كثيراً بال الباحثين المعاصرين، خصوصاً ومواد عديدة جديدة تنضاف كل يوم لتؤكد هذا التأثير، بل ولتثبت أن الشعر العربي الأندلسي في الموشحات والزجل قد انطوى على المرحلة الأولى لنشأة الشعر الأسباني نفسه، وذلك في الخرجة التي تكتب عادة بلغة أجنبية، وكانت في الزجل الأندلسي تكتب باللغة الأسبانية الدراجة الرومانسية1. فإذا جعلنا من الخرجة أبياتاً أسبانية كانت بمثابة النموذج الأول للشعر الأسباني، وبهذا يكسب الشعر الأسباني أكثر من قرنين من الزمان.
والراجح أن أول من ابتكر "الموشح" هو مقدم ابن معافي القبري الضرير الذي عاش بين سنة 225ه/ 840م ـ وسنة 299ه/912م، ولم يبق لنا من موشحاته شئ. وتلاه شعراء كثيرون آثروا هذا اللون من النظم "لسهولة تناوله وقرب طريقته" كما يقول "ابن خلدون" ("المقدمة" ص305 طبعة بولاق سنة 1247ه) حتى استظرفه الناس جملة: الخاصة والكافة ومنهم أي من الشعراء المجيدين فيه، "أحمد بن عبد ربه" صاحب كتاب "العقد الفريد"، و"ابن عبادة القزاز" شاعر"المعتصم بن صمادح". و"أبو بكر بن اللبانة الداني" و"أبو بكر محمد بن أرفع رأسه" شاعر "المأمون بن ذي النون" صاحب طليطلة و"الأعمى التطيلى" و"ابن زهر الطبيب" و"ابن سهل الإسرائيلي" و"لسان الدين بن الخطيب".
و"الموشح نظم تكون فيه القوافي اثنتين اثنتين، كما هي الحال في الوشاح وهو العقد يكون من سلكين من اللالئ كل منهما لون. فالتسمية هنا تشير إلى طريقة تأليف القوافي. وهو يشبه الزجل فيما عدا ذلك، أي أن الموشح يتألف من فقرات تسمى الأبيات، كل فقرة ـ أي بيت ـ منها يتكون من عدد معين من أشطار الأبيات في قافية واحدة، وتعقب كل فقرة خرجة في بحر أشطار الغصن، ولكن في قافية أخرى. ويلتزم الوشاح قافية هذه الخرجة في كل خرجات موشحه، أما الأغصان فقد ركزت كل منها على قافية، ولكن من بحر واحد.
"والزجل والموشح في واقع الأمر فن شعري واحد، ولكن الزجل يطلق على السوقي الدارج منهما، إذ لا بد للزجل أن يكون باللغة الدارجة، إذ كان يتغنى به في الطرقات. أما الموشح فلا يكون إلا باللغة العربية الفصيحة"2.
والوزن الذي يكتب به الموشح يختلف، ويجوز أن يخلط فيه الكامل مع المجزوء، من البحر الواحد. والأشطار الثلاثة المتحدة القافية قد يقع فيها أن تكون قافية متوسطة، وفي قليل من الأحيان يوجد أربعة أشطار متحدة القافية3.
وهكذا نرى أن الموشح يمكن أن ينظم على ستة أو سبعة أنماط. وقد انتشر هذا اللون من النظم بعد ذلك في الشرق، ومن أشهر من برعوا فيه من المشارقة "ابن سناء الملك المصري" الذي اشتهر بموشحته التي يقول في مطلعها:
حببى ارفَعْ حجابَ النور
عن العِذار
تنظرْ المسك على الكافور
في جُلَّنار
كَلِّى يا سُحْبُ تيجانَ الرُّبى بالحُلِى
واجعلى سوارها مُنْعَطف الجدول
وإلى جانب الموشح نشأ الزجل باللغة المستعملة في بلاد الأندلس، مع مزجها باللغة الأسبانية الدارجة. ومن أوائل من نظموا الأزجال "سعيد بن عبد ربه" (المتوفى سنة 341ه) ابن عم صاحب "العقد"، وكان من المشتغلين بعلوم الأوائل من الفلسفة وسائر العلوم. ومن بعده "أبو يوسف هارون الرمادي" شاعر المنصور، الذي كان يسمى "أبا جنيس" (المتوفى سنة 412) وكان أول من أكثر من التضمين في المراكز4، ثم "عبادة ابن ماء السماء" (المتوفى سنة 415ه) الذي ابتكر التضفير أو التضمين بأن مواضع الوقف في الأغصان فضمنها، كما اعتقد "الرمادي" مواضع الوقف في المركز. أما أبرز الزجالين جميعاً فهو "أبو بكر محمد بن عبد الملك بن قزمان" الذي ولد في قرطبة بعد سنة 460 وتوفى سنة554ه.
هذان النوعان من النظم، اللذان ابتكرهما أهل الأندلس، هما اللذان أثرا في نشأة الشعر الأوروبي. وأول من قال بهذه النظرية هو "خليان ريبيرا" Gulian Ribe المستشرق الأسباني الكبير الذي عكف على دراسة موسيقى الأغاني Ls Cantigas الإسبانية ودواوين الشعراء "التروبادور" و"التروفير" وهم الشعراء الجوالة في العصر الوسيط في أوروبا والمنيسنجر Minnesanger وهم شعراء الغرام، فانتهى من دراساته المستفيضة هذه إلى أن الموشح والزجل هما "المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر تكوين القوالب التي صبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر أبان العصر الوسيط" وأثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي فضلاً عن الموسيقى العربية، إلى أوروبا "عن نفس الطريق الذي انتقل به الكثير من علوم القدماء وفنونهم ـ لا يُدرَى كيف ـ من بلاد الإغريق إلى روما، ومن روما إلى بيزنطة، ومن هذه إلى فارس وبغداد والأندلس، ومن ثم إلى بقية أوروبا"5.
ذلك أن الشعراء التروبادور البروفنساليين الأوائل استخدموا أقدم قوالب الزجل الأندلسي، كما يظهر في شعر أول شاعر تروبادور بروفنسالي، وهو "جيوم التاسع" دوق اكيتانيا، ويعد أيضاً أول شاعر في اللغات الأوروبية الحديثة، وقد بقي من شعره إحدى عشرة قصيدة، من بينها خمس كتبت بعد سنة 1102، وتتألف القصيدة منها من فقرات تشبه في قالبها فقرات الزجل، من حيث تأليفها من ثلاثة أشطار أبيات متحدة القافية، يتلوها أشطار من قافية واحدة في كل الفقرات، كما نجد هذا النمط من النظم أيضاً عند شاعرين تروبادوريين قديمين آخرين هما "ثركامون" Cercamon و"مركبرو" Marcabru اللذان عاشا في النصف الأول من القرن الثاني عشر، ثم انتشر هذا النمط من النظم في الشعر الشعبي في أوروبا، وفي الشعر الديني الذي ألفه الأدباء الفرنسيسكان في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وفي أغاني الكرنفالات في فيرنتسه في القرن الخامس عشر.
وفي أسبانيا نفسها ظلت نماذج وأنماط النظم على طريقة الأزجال العربية يستخدمها الشعراء المتعلمون، مثل "الفونس الحكيم" في القرن الثالث عشر، ورئيس القساوسة في هيتا Arcipreste del Hita في القرن الرابع عشر، و"فياسندينو" و"خوان دل انثينا" Villasandinoy Guan del Eneina في القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر.
ولم يقتصر الأمر على طريقة النظم، بل وأيضاً امتد التأثير العربي في نشأة الشعر الأوروبي إلى طريقة علاج الموضوعات. ففكرة الحب النبيل Amorcortes التي تسود الغزل في الشعر البرفنصالي، نجد أصلها في الشعر الأندلسي بل وفي أزجال "ابن قزمان"، كما يؤكد هذا "منندث بيدال" أشد الباحثين حماسة في توكيد تأثير الشعر العربي، الموشح والزجل، في نشأة الشعر الأوروبي في نهاية العصر الوسيط.
وإذن فلا يقتصر التأثير على بعض موضوعات: مثل المغامرات الغرامية الشائكة أو الفاضحة، والإهداء إلى حام، وافتخار الشاعر بنفسه، كما اقتصر على ذلك "الفرد جانروا" في بيانه لتأثير الشعر الأندلسي العربي في شعر الشعراء التروبادور الأوائل، بل امتد في نظر "بيدال" Pidal إلى جوهر هذا الشعر التروبادوري، أعنى فكرته في الحب النبيل Amor cortes إذ يرى بيدال أن هذه الفكرة قد عرضها "ابن حزم" في "طوق الحمامة" وأنها كانت فكرة سائدة عند أهل الظاهر في نظرتهم إلى الحب، إذ نجدها قبل ذلك في كتاب "الزهرة" لمحمد بن داود بن خلف الظاهري المتوفى سنة 297ه الذي دعا إلى فكرة الحب الأفلاطوني، وسماه الحب العذري. وكذلك نجد فكرة الحب العذري في شعر "الحكم الأول" (المتوفى سنة 206ه). كما نجده في شعر "ابن زيدون" حين يقول في "ولادة":
تِه: أحتَمِلْ، واستطِلْ: أصبِرْ، وعِزَّ: أُهنْ، ووَلِّ: أُقْبِلْ، وقُلْ:أسمَعْ، ومُرْ:أطِعِ.
وإذا انتقلنا من تأثير الشعر إلى تأثير القصص وجدنا للقصص العربية تأثيراً ظاهراً في تطوير بل ونشأة الأدب القصصي في أوروبا. لقد قام "بدرو الفونسو" بترجمة ثلاثين أقصوصة من العربية إلى اللاتينية تحت عنوان غريب وهو "تعليم العلماء" Disciplina clericalis فيه أورد هذه القصص نقلاً عن العربية، ومن بينها قصة امرأة خانت زوجها الغائب الذي عاد فجأة وكانت مع عاشقها وأمها؛ فأخفت العاشق في المخدع. ولكن الزوج أراد الراحة في السرير، فأنفذت الأم الموقف بأن قالت: لا بد لك أن ترى الملاءة التي نسجناها، وبسطت الملاءة أمام الزوج الساذج، وغطت بذلك نظرة عن رؤية العاشق الذي تسلل مختفياً من وراء الملاءة! وهي قصة قد انتشرت في الأدب الأوروبي. ومن أخرى أثرت "كليلة ودمنة" في الأدب بعد أن ترجمت في عصر "الفونسو الحكيم" حوالي سنة 1250إلى الأسبانية، كما ترجمت بعض القصص التي تسربت من "ألف ليلة وليلة" إلى الأندلس، ومنها "حكاية الجارية تودد" التي ترجمت إلى الأسبانية في القرن الثالث عشر وأثرت بعد ذلك حتى في "لوب دى فيجا" أكبر كتاب المسرح الأسباني.
---------------------------------
عن (دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي)
1 وهاك مثالاً لخرجة:
أَلْبِ ديا أشْتِ ديا ديا دلْ عنصره حقا
بِشْتيِرى مو المُدَبَّجْ ونشقّ الرمح شقّا
Albe dia, este dia dia del عنصره حقاًVestire mu al-mudabbag.
2 أنخل جنثالث بالنثيا: "تاريخ الفكر الأندلسي"، نقله عن الأسبانية الدكتور حسين مؤنس، ص143 القاهرة سنة 1955.
3 مينندث بيدال: "أسبانيا حلقة الاتصال بين المسيحية والإسلام"، ص13، مدريد سنة 1956.
4 لاحظ المصطلحات التالية:
مركز=سمط=قفل؛ التضفير= أن تكون القوافي على التبادل؛ بيت=أغصان=أشطار أبيات.
5 راجع الاقتباس في "تاريخ الفكر الأندلسي" لانخل بالنثيا، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، القاهرة سنة 1955 ص613 ص614.
بقلم / عبدالرحمن بدوي
http://www.balagh.com/