بهي الدين عوض في مجموعتين قصصيتين (2 ـ 3)
بقلم: أ. د. حسين علي محمد
*ثأر الموتى:
تضم المجموعة الثالثة لبهي الدين عوض اثنتي عشرة قصة قصيرة، كُتبت تسع منها في عام 1985م، والثلاث الأخريات: اثنتان منهما كُتبتا في عام 1984م، هما «عندما تعلو هامات الرجال» و«بقايا شجون». أما القصة الثالثة فهي أولى قصص المجموعة وتحمل عنوان «أحزان الشتاء والمطر»، وتنتمي إلى عالم المجموعة القصصية الأولى «الفارس الآتي إلينا» (1984م)، إذ أنها مكتوبة في عام 1972م.
وفي هذه المجموعة نرى بهي الدين عوض مغرماً بإبراز الجانب النفسي للشخصية التي تقوم بدور البطل، فنراه في معظم قصص هذه المجموعة يعتمد أساساً على رسم صورة نفسية للبطل، يجتهد ليجعل منها نموذجاً إنسانيا من خلال موقف متطور نام، يسعى من خلاله لتحقق شخصياته ـ التي أصبحت مكتملة، متفردة، بسيطةً ـ نفسَها في هذه الرقعة الصغيرة من القص، ويسعى أيضاً أن يكون له بصمته غير المتكررة فينجح أحياناً، ولا يُوفق في أحيان أخرى. وهو في هذه المجموعة تلميذ مخلص للكاتب القصصي النادر إبراهيم المصري (الذي لم يأخذ حقه بعد من الدراسة الأدبية والنقدية، رغم ريادته لهذا اللون في القصة المصرية القصيرة، ورغم رحيله منذ فترة عن عالمنا).
سأتوقف أمام نموذج من هذه المجموعة اخترته بعناية بعد قراءة هذه المجموعة.
القصة بعنوان «بدء التكوين الآخر» بطلتها «نعيمة» «اشتد عليها المرض ولا أمل في شفائها » (1).
إن بهي الدين عوض يحلل علاقة «نعيمة» بالآخر من خلال علاقتها بـ«نبوية»، ويسير الهيكل المعماري للقصة مجسداً هذه العلاقة من خلال رصد العلاقة بين «نعيمة» و«نبوية».
«نعيمة هذه كانت رفيقة صباها في القرية، ولكنها كانت رفقة الألم والمعاناة»(2)، وكأنها قضية تحتاج إلى رصد الوقائع وتقديم الأدلة، فنرى بعد الجملتين السابقتين: «كانت نعيمة بين أترابها درة الجمال وأنشودة الغزل، إذا سارت التهمتها العيون، وإذا تحدّثت مع أي من الشباب والرجال، يشعر كأنه نال كنوز الدنيا كلها»(3).
ثم يحلل موقف هذه الجميلة المحبوبة من «نبوية» التي لم ترزق مثل حظها من الجمال «كانت تُعايرها بقبحها، وتتندّر بها بين فتيات القرية، فتسميها «عود الحطب» .. »(4).
تزوّجت «نعيمة» بالطبع قبل أن تتزوّج «نبوية»، ويرصد الكاتب هذه العلاقة من خلال رؤية «نبوية»:
«تذكرت عرس «نعيمة» الذي خرج من هذا المكان. إنها ذكريات هذا اليوم البعيد، يوم خرجت القرية تُغني لجمالها، و«نعيمة» في ملابس عرسها تتهادى على إيقاع ضربات الطبول، ووجهها ممتلئ بالنعيم .. وسهام النظرات تطوقها من كل مكان»(5).
وسارت حياة «نعيمة» بعد الزواج سيراً مأساويا «قضت «نعيمة» على رجلها وزوجها سيد هذا الدار (كذا) .. عظيم الثراء، الذي كان يهيم بها حبا وهي لا تبالي، باع كل ما عنده. خسر الأهل والأقارب .. فقَدَ كل الناس من حوله من أجلها .. ومع ذلك قهرته .. كانت تقهره في كل يوم مرة حتى اختل عقل الرجل .. وسقط صريع الجنون ثم مات .. وترك لها الدار بما فيها»(6).
يكشف هذا الوصف عن طبيعة «نعيمة»:
أ-فهي قاتلة: «قضت على رجلها … قهرته … كانت تقهره في كل يوم مرة حتى اختل عقل الرجل … وسقط صريع الجنون».
ب-ومتسلطة: «كانت تقهره في كل يوم».
ج-وعديمة الشعور والأحاسيس، وبلا وجدان: «كان يهيم بها حبا وهي لا تبالي».
كما يكشف بالقدر نفسه عن رؤية المؤلف / الرجل، للرجل الشرقي الذي يريد أن تكون زوجته أمة عنده أو خادمة له «سيد هذا الدار (كذا) .. عظيم الثراء، الذي كان يهيم بها حبا».
وبعد أن قضت نعيمة على زوجها لم تتزوج، وعاشت وحيدة، مزهوةً بجمالها، مطلوبة من الرجال، مكروهة من النساء.
ومرَّ عليها الزمن حتى صارت جثةً لا تستطيع الحراك، ويُقدم القاص ذلك من خلال تصويرين: تصوير رمزي، وتصوير حسي، وكان من الممكن أن يكتفي بتصوير واحد.
التصوير الرمزي ـ وكان من الأفضل أن يكتفي به ـ يقول: «سارت حتى تراءت لها دار نعيمة .. الدار التي لم تزرها منذ سنين، بدت قديمة متآكلة، تتصدرها شجرة توت تعرّت من سندس ردائها، وغراب كالح اللون ينعق فوق شرفة البيت الخشبية التي تراكم عليها الغبار، وقفت وراحت تتأمل الأشياء أمامها، ثم قرعت باب الدار، فلم يرد عليها أحد، وظلت تقرع الباب إلى أن جاءها جارها وهو يقول:
ـ شدي حبل الباب، لأنها لا تستطيع الخروج.
جذبت الحبل الكالح فانفتحت الدار واسعةً صامتةً، ولا حركة فيها، ولا أثر لأحد.
أوصدت الباب برفق. استقبلتها العناكب في حنايا الدار كلها .. اندفعت فئران راحت تهيم في الفناء الواسع، وتنزلق داخل الشقوق والحنايا المهترئة»(7).
وهذا الوصف معبر وجميل، وكل كلماته مشعة موحية بأية حياة فقيرة خاوية كانت تحياها نعيمة:
ـ فالدار قديمة متآكلة.
ـ وشجرة التوت تعرّت من سندس ردائها.
ـ وغراب كالح اللون ينعق فوق الشرفة التي تراكم عليها الغبار.
ـ والدار بلا صوت مؤنس.
ـ تستقبل الزائر أعشاش العناكب والفئران.
فأية صورة معبرة عن الوحدة والخواء أكثر من هذه الصورة؟
ـ التصوير الحسي: لكن القاص لا يتركنا نتمتع بهذه الصورة الموحية، فيردفها بصورة حسية بعد سطور قليلة من المقطع السابق «.. فأتاها الرجال يطلبون يدها، ولكنها أعرضت عنهم … وظلت سادرة في تجبرها وتسلطها وسيرتها السيئة، فتركها الرجال، وكرهها الناس، وشمتت فيها النساء، ثم أتاها الزمن (كذا) فعاشت بلا رجل ولا ولد»(8).
ومن الملاحظ أن هذه الفقرة أقل شاعرية وأقل تكثيفاً، وأكثر تقريرية، ولم تُفِد بناء القصة، بل أضافت لنا «معلومة» عن عدم زواجها، رغم جمالها.
وتحدث المواجهة بين «نعيمة» و«نبوية» في نص مذهل من حيث تكوينه وتناسقه، ولذا آثرنا أن نسجله هنا كاملاً:
«سمعت «نبوية» أنيناً يصدر من داخل حجرة موصدة .. ازداد خوفها .. فتوقفت .. علا الصوت بكاءً وأنيناً، خشيت أن يكون حدث في الأمر شيء.
فتحت الباب .. استقبلتها حجرة خافتة الضوء .. يرقد في ركن منها سرير .. وعلى الجانب الآخر على الحائط الكالح اللون مرآة صدئة، وقفت أمامها «نعيمة» تنظر إليها باكية العينين، همست في أذنها:
ـ أنا نبوية يا نعيمة.
اهتز جسم «نعيمة» كلها، وأدارت لها وجهها، ويا هول ما رأت. الجمال الباهر قد خبا .. الوجه تغضّن .. الجسم الفاره الغض جف منه الرواء، ولم يبق منه إلا الجلد على العظم. ترنح جسم «نعيمة» فوق قدميها .. سحت الدموع من عينيها، وألقت بجسمها على صدرها فاستقبلتها «نبوية» بين ذراعيها، وراحت هي الأخرى تذرف الدموع .. وتُربِّت بيد حانية على ظهرها .. وتبكي حتى غاب الاثنان في بكاء طويل.
تقرفصت «نعيمة» أمامها عارية من أي جمال، وقالت بصوت متصدِّع:
ـ سامحيني يا نبوية.
ردّت «نبوية» وهي غارقة العينين في الدموع:
ـ على أي شيء أسامحك يا «نعيمة»؟
قالت وهي تتنهّد:
ـ على ما حدث مني لك في الماضي.
فهمت «نبوية» ما تعنيه، فقالت:
ـ لا تُذكِّريني بشيء.
همّت «نعيمة» أن تُقبِّل يدها، فسحبت «نبوية» يدها برفق، وقالت وهي تطبع على رأسها قبلة:
ـ أنا مسامحة .. أنا مسامحة.
أدارت «نعيمة» وجهها إلى المرأة، وتأمّلت عينيها ووجنتيها وشفتيها وشعرها الذي خطه(9) الشيب، فقالت بنبرة آسفة:
ـ لم يبق في وجهي شيء.
أتت «نبوية» بقطعة من القماش .. وغطّت بها المرآة .. وقالت وهي ترسم ابتسامة على وجهها:
ـ تبقى الروح يا نعيمة.
رمقتها «نعيمة» بنظرة طويلة، ثم تساءلت:
ـ كيف يا نبوية؟
قالت بصوت ممتلئ بالحنان:
ـ حاولي أن تنسي كل شيء مضى.
تاهت النظرات في عيني «نعيمة» فتساءلت بدهشة:
ـ أنسى كل شيء؟!
وغامت عيناها وشردتا في فكر طويل، ثم سعلت وانتفض جسمها كله حتى علا وجهها شحوب ولغوب(10). ضمتها «نبوية» إلى صدرها، ومسحت شفتيها بمنديلها … ووسدت رأسها على سريرها(11)، وأعدّت لها كوباً من عصير الليمون، وراحت تسقيها قطرة قطرة، وهي تحتوي رأسها بين ذراعيها.
وجعلت تقص عليها حكايات بيضاء عن قريتها، ناسها، سكانها، عجائزها. كل ما فيها طيب، وتنثر من الحين للحين النكات والنوادر والأحاجي، وراحت «نعيمة» ترسم على وجهها الابتسام بصعوبة بالغة، فتهلل وجه «نبوية» بشراً، وقالت:
ـ الابتسامة تضيء وجهَك يا نعيمة.
ردّت وهي تنزع الكلمات من أعماقها:
ـ إنها أول مرة أبتسم فيها منذ سنين.
نحّت نبوية القماش عن المرآة، وقالت:
ـ الآن .. انظري وجهك في المرآة يا نعيمة.
اتسعت الابتسامة على وجنتي «نعيمة»، وشع بريق لامع من عينيها.
فتحت «نبوية» نافذة الحجرة المغلقة، هبّت نسمات ندية، تسلّل نور الشمس يرسم دوائر بيضاء في حنايا الحجرة كلها»(12).
ولقد أحسن القاص في نهاية قصته، حيث جعل بطلته تعود إلى الحياة، وتعود إليها الحياة بواسطة (الآخر) الذي هو مشارك، وبنّاء، وفاعل، وليس البطل / الضد «نبوية».
..............
الهوامش:
(1) بهي الدين عوض: ثأر الموتى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988م، ص57.
(2) السابق، ص57.
(3) السابق، ص57.
(4) السابق، ص58.
(5) السابق، ص58.
(6) السابق، ص59.
(7) السابق، ص 58، 59.
(8) السابق، ص59.
(9) الصواب «وُخِطَ» بالشيب، وخط فلان: شاب رأسه، فهو موخوط، المعجم الوسيط، ط2، القاهرة، دار المعارف، القاهرة 1983م، ج2، مادة (وخط).
(10) وصف الوجه باللغوب غير مناسب، لغب لغباً، التعب. أما اللغوب فهو الضعيف الأحمق، أو هو الحمق (تُراجع (لغب) في «المعجم الوسيط»).
(11) الصواب: وسدت السرير رأسها، أو توسدت السرير (تراجع مادة «وسد» في «القاموس المحيط»، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت 1407هـ-1987م، ص415ـ416.)
(12) بهي الدين عوض: ثأر الموتى، ص ص60-63.
(يتبع)