بهي الدين عوض في مجموعتين قصصيتين (1 ـ 3)

بقلم: أ. د. حسين علي محمد

الأديب بهي الدين عوض واحد من كتاب الستينيات الذين لم يأخذوا فرصتهم في حياتنا الأدبية الصاخبة إلا في الثمانينيّات، التي شهدت صدور روايتين له وثلاث مجموعات قصصية، هي: «الفارس الآتي إلينا» (1984م)، و«سنوات الحب والموت» (1988م)، و«ثأر الموتى» (1988م).
ولأن المجموعة الأولى(1) تضم عادة التجارب البكر، فسندعها جانباً، ونتوقف أمام المجموعتين التاليتين لها:
*سنوات الحب والموت(2):
تضم هذه المجموعة رؤى ومشاهد تتعلّق بأدب الحرب، وقد صدرت في سلسلة «أدب أكتوبر» التي تنشرها الهيئة المصرية العامة للكتاب شهرياً، وتقدم فيها القصص التي كتبها الأدباء المقاتلون عن الحرب.
ومن الملاحظ على قصص بهي الدين عوض في هذه المجموعة ما يأتي:
*اهتمامه العظيم باللغة، فهو يكتب وفي ذهنه صورة لأسلوب الأديب البارع يُحاول أن يطبقها في أسلوبه، ومن ملامح هذا الأسلوب حشد أكبر قدر من النعوت. يقول في صدر قصة «أقدام على الطريق»:
«قيظ الصحراء شديد، وأنفاس الرمال ساخنة، وأقدام الجنود الواهنة تزحف على الصحراء الشاسعة المترامية، وبقايا جماعات من المدنيين المثخنين بالجراح تسير في يأس قاتل. رجال أغرقهم العرق، ونسوة شاحبات منهكات القوى، طاعنات في العمر أخذن يسحبن أرجلهن الكليلات بصعوبة، ومنهن اللاتي في شباب نضر أذبله قفر الصحراء، وجماعات من الجنود: منهم الذي يحمل السلاح، ومنهم حافي القدمين الذي يُعاني الجراح. المرارة تسكن القلوب، واليأس يطل من عيونهم ونظرات تائهة شاردة»(3).
*والشغف باللغة والاستغراق في جماليات الأداء في القصة يدفع القارئ دفعاً إلى الانصراف عن الفكرة المحورية أو الموضوع الرئيسي للقصة(4).
ولقد دفعه الاهتمام باللغة إلى تكديس قصصه بالرؤى والمشاهدات عن الحرب، وهذه الرؤى والمشاهدات لا تستجلي العالم السري للمرئيات والمشاهدات، لأنها تستعمل لغة شعرية مجنحة قادرة على التهويم، لكنها ليست قادرة على ربط كل هذه الجزئيات الصغيرة والتفصيلات الكثيرة والحكايات الممزقة التي تغص بها هذه المجموعة.
فمثلاً القصة الأولى في المجموعة، وهي أضعف القصص تكويناً وفنا، تضم مشاهد مختلفة ورؤى متناقضة لجندي راجع من الميدان:
«إن كل جندي يحكي تجاربه، وكل شخص منا له قصة أغرب من الخيال»(5). وهذه القصص الغريبة والحكايات النادرة لن تستطيع أن تقدم لنا قصصاً مكتملة.
واتساع الأحداث وتداخلها ـ عند بهي الدين عوض في هذه المجموعة القصصية ـ لا تسلم منه إلا قصة واحدة، هي «أغنيات الدم» ولعلها تفتح آفاقاً جديدة عنده لفن القص، حيث يفيد من مقدرته اللغوية، وولعه بالأداء الجميل ومهارته في التصوير، فتقترب القصة في تكثيفها من عالم الشعر، ولعلها القصة الوحيدة في هذه المجموعة التي يمتزج فيها العالم الموضوعي بالعالم النفسي في فنية متألقة، تجيد توظيف كل كلمة في سياقها من خلال القصة القصيرة. إذ من الملاحظ على قصص بهي الدين عوض أنها ـ بكثرة أحداثها وكثرة شخوصها ـ تقترب من فن الرواية بقدر ما تبتعد عن فن القصة القصيرة، وإن كنا نلحظ في هذه القصة أن ولعه بجمال التعبير يوقعه في أخطاء تعبيرية، يقول: «يلوح الفجر في الأفق، تلد تباشيره النور، توقظ العصفور في بطن الشجر، تندّى بساط الحقول الخضراء»(6).
ولعله لو قال «توقظ العصافير مع ضوء الشمس» لكان أفضل.
وقصته «أغنيات الدم» تسوقنا إلى ملاحظة هامة على نتاج بهي الدين عوض في القصة القصيرة والرواية، وهي أنه يتسم بالحذر من الاقتراب من الأشكال الجديدة، ورغم أن هذه القصة تجعلنا نطلب منه أن يقترب من «القصة القصيرة جدا» حتى تُنقذ فنه من التطويل، وتعدد الأحداث والوقوع في براثن اللغة.
ـ تقول الفقرة التعريفية التي نشرت على غلاف هذه المجموعة (ويشي أسلوبها بأن بهي الدين عوض هو كاتبها):
«تتناول هذه المجموعة القصصية في تتابع زمني الحروب التي خاضتها مصر منذ حرب القناة عام 1956م، حتى حرب أكتوبر المجيدة، وما حققته هذه الحروب من انتصار عسكري ملحمي كشف عن السجايا العظيمة التي يتحلى بها هذا الشعب في المواقف الحاسمة من تاريخه القومي، كما توضح هذه المجموعة محاور البطولة وأبعادها السياسية والاجتماعية ومناخها الإنساني لتؤلف من سنوات الكفاح المصري القيمة الحضارية التي تحتلها مصر في وجدان أمتها العربية. وأحداث القتال واقع حقيقي يرويها المؤلف من قلب المعارك، لهذا يمتزج فيها الحلم بالدم، والأمل بالنار، والأهازيج بدوي المعارك، والحب بالموت»(7).
ونلاحظ في العبارات السابقة ميله إلى الوصف، فاستعمل أربعة عشر نعتاً في تسعة أسطر.
والمفهوم الذي يتبنّاه بهي الدين عوض لأدب الحرب جنى على هذه المجموعة، حتى أصبحنا نرى الحكْي عن الحرب سمة سائدة. يقول في قصة «ثم ساد الرحيل»:
«قفزت مجموعة إسرائيلية على مصفحاتهم (كذا)، وحاصرونا بمدافعهم، ثم اقتادونا إلى الشاطئ، وهناك وجدنا عدداً كبيراً من الجنود المصريين محاطين بالأسلحة الإسرائيلية، وما أن اقتربنا منهم حتى تقدّمت نحونا مجموعة منهم في عيونهم شر مستطير، وأخذونا الواحد تلو الآخر، ثم جرّدونا من ساعاتنا ونقودنا، فاعترض حسان، وحاول منع الإسرائيلي فهوى جندي طويل القامة شرس النظرات بقبضة رشاشه على ظهر حسان، فسدّد إليه نظرات نارية، وانقض عليه، وقبض على عنقه، فتدافعت نحوه شلة (كذا) من الجنود الإسرائيليين، وخلّصوا من يديه الإسرائيلي، ثم التفوا من حوله وألقوه أرضاً، وصوّبوا إليه رشاشاتهم، وراحوا يُطلقون عليه النار حتى مزّقت الطلقات جسده، وحطّمت رأسه، وأصبح حسان كتلة من اللحم الممزق المعجون بالدم الأحمر القاني.
فانتابتني قشعريرة حادة، وهممت أن أنزع الخوذة من رأسي وأدق بها أعناق السفاحين، فجذبني من يدي جندي مصري وهمس في أذني:
ـ صه، بقدر حروف الكلمات يكون الرصاص.
ودفنت ثأري في صدري المتلظي بالغضب، ووقفت أمام الإسرائيليين بركاناً يغلي من الأعماق»(8).
هذا النص كان من الممكن أن يوظف في عدة قصص قصيرة تتناول:
ـ الحصار الإسرائيلي لمجموعة من المصريين.
ـ اهتمام الإسرائيلي بالسلب.
ـ مقاومة حسان.
ـ عدم إظهار المشاعر خوفاً من الموت.
لكن انسياق المؤلف وراء الوصف وتكديس المشاهد، وولعه باللغة وجزالتها، الذي يجعل صديقه المحارب ينطق «صه» اسم فعل الأمر، بدلا عن «اصمت» أو «اسكت» يُفقدنا ثراء أدب الحرب وصدقه، ولا يُطلعنا إلا على أمشاج رؤى لم تكتمل.
ويقودنا هذا النص مع فقرات الختام التي كتبها على الغلاف الخلفي وأثبتناها سابقاً ـ لنقد مفهوم شائع نراه خاطئاً، يتبنّاه بهي الدين عوض عن أدب الحرب، وهو أنه الأدب الذي يصور المعارك، فوقف قصص المجموعة لتطبيق هذا المفهوم، ووقعت في براثن هذا التصور، بينما نرى أن أدب الحرب الحقيقي هو الذي يصور أي ملمح من ملامح الحياة متأثراً بجناية الحرب، ولعل القصة التي استطاعت أن تفر من هذا التصور هي قصة «الوسام»، وهي قصة عن الحرب، برغم أنها لا تصرخ ولا تُطنطن!
في قصة «الوسام» نرى بطلاً من أبطال أكتوبر تقلد وساماً لبطولته يخرج إلى الحياة العملية بعد انتهاء الحرب، فيُواجه بعالم ما بعد الحرب متجسداً في الشركة الحكومية التي يعمل فيها، ويرى نهب مصادر الشركة يقوم به المدير وأعوانه، ويُحاول أن يُواجه المدير، ولكنه لا يجد من العاملين معه إلا التخاذل وضعف الهمة، والاتكالية، و«دع الخلق للخالق يا مدحت!»، ويكون وسامه دافعاً له كي يستمر بطلاً من أبطال أكتوبر في موقعه الجديد، فيواجه قوى لا قبل لبشر بها، وكأنه في ساحة جديدة تحتاج إلى أبطال ومواجهة، وما أجدر أبطال أكتوبر بخوضها!.
وهي قصة جيدة، لولا أن معمارها الفني يقترب من فن الرواية بقدر ما يبتعد عن فن القصة القصيرة! حيث شهدنا فيها مشاهد ومواقف وأحداثاً تؤهلها لأن يعيد كاتبها صياغتها في رواية قصيرة.
ورغم أن لغة بهي الدين عوض القصصية عموماً لغة عالية، لكني لا أدري كيف أفلتت منه بعض الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية التي أرجو منه أن يتلافاها في الطبعة القادمة.
وفي نهاية عرضنا لهذه المجموعة نقدم ملاحظتين للمؤلف:
أولاً: هناك «مشهد» في ص82، 83 من الممكن أن يكون وحدهُ قصةً قصيرةً ناجحة، فلماذا الاستطراد والتطويل؟
ثانياً: قصة «ذو الوجه القزحي» لماذا لم تقدم لنا حكاية واحدة بدلاً من هذا الفيض ذي القصص المتناثرة؟
(يتبع)
الهوامش
(1) صدرت على نفقة المؤلف عن مطابع جامعة الزقازيق 1984م، في 90 صفحة من القطع المتوسط.
(2) صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988م.
(3) السابق، ص7.
(4) د. سيد حامد النساج: الحلقة المفقودة في القصة القصيرة المصرية، سلسلة «كتابات نقدية» العدد (1)، الثقافة الجماهيرية، القاهرة 1990م، ص 68.
(5) بهي الدين عوض: سنوات الحب والموت، ص11.
(6) السابق، ص64.
(7) السابق، يُنظر الغلاف الخلفي.
(8) السابق، ص24 ، 25.
............................
*من كتاب «جماليات القصة القصيرة»، لحسين علي محمد ، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م، ص فما بعدها.