التعامل على أساس الجهد


التعامل على أساس الجهد
لنُعامل الأطفال على أساس الجهد الذي سيبذلونه، وليس على أساس الموهبة.
أعرف شخصاً كان يصنِّف أولاده وهم في المرحلة الابتدائية قائلاً: "فلان سيكون قاضياً، وفلان سيكون موظّفاً في دائرة حكومية، وفلان سيكون كذا.." وكان يعتمد في تصنيفه على ما يراه من تفاوت في درجات الذكاء لدى كل واحد من أولاده..! هذا التصنيف غير دقيق؛ لأن مما عمت به البلوى الآن أن الطفل الذكيّ في البيت يُحترم أكثر، ويُخشَى منه ومن أجوبته المفاجئة، ومن ومن... حتى إن بعض الآباء يتحاشون اصطدامهم بهم، ويغضون الطرف عن أخطائهم.. والطفل الذي ليست لديه درجة عالية من الذكاء نجده مُهمَلاً..!
ليس من العدل أن نعامل الأطفال على أساس ما آتاهم الله من الذكاء، بل يجب أن يُعامَلوا على أساس الجهد الذي يبذلونه.
ولا يصحّ أن ننظر إلى الطفل الذي لا يبذل جهداً باهتمامٍ أكثر من الطفل متوسط الذكاء الذي يتعب ويبذل جهداً؛ لأننا حينما نتعامل على أساس الذكاء يُصاب الطفل الذكيّ بنوع من الغرور، وينكسر خاطر الطفل الأقل ذكاء، أو المتوسط في ذكائه، ويقول يائساً: قد حَكم عليّ أبواي قبل أساتذتي بأني غير ذكيّ.!
يجب أن يتعلم الأطفال أن الطريق إلى التفوق ليس الذكاء فقط، بل هو الجهد أيضاً.
من الممكن أن نشبه الذكاء أو الموهبة بشكل عام بالرقم واحد، فأيُّ إنسان موهوب لديه رصيد هو الرقم واحد، وإذا نظّم وقته أكثر وضعنا له صفراً على يمين الواحد، فإن كانت عنده روح الدأب والاستمرار والمثابرة صار عنده صفران، وإن كان يحبّ أن يتعلّم ويطوِّر فهمه صار عنده ثلاثة أصفار، وإن صحَّت له فرصة ممتازة للتفوق صار لدينا أربعة.. بدأ بواحد وانتهى بعشرة آلاف، ويمكن أن ينتهي بمليون.
أما الإنسان الذي يملك ذكاء، ولكنه لا ينظم وقته، وليست لديه أهداف، ليست لديه المثابرة، ليس لديه حب للتعلم.. يبقى على هذا الواحد، ويتفوَّق عليه صاحب الجهد بمراحل.
فالشخص الذي يتمتَّع بذكاءٍ عاديّ ولديه رغبة في أن يتعلم، يتفوق على المتميز بذكائه وليس لديه حب التعلم.
نقطة التميُّز
وفي إطار هذه القضية يجب أن يَفهم الأطفال أن لدى كل واحد منهم نقطة تفوق معينة، فما من واحد منا: صغاراً وكباراً إلا ولديه نقطة تفوق، ولو أن الآباء اكتشفوا هذه النقطة ونمَّوها لديه فلربما صنعوا من هذه النقطة رجلاً عظيماً.
قد تكون نقطة التفوق في ذاكرة قوية، وقد تكون في خيال متَّسع، قد تكون في خُلق حسن، قد تكون في المثابرة والدأب في العمل..
وما أكثر نقاط التفوق التي يمكن أن نُنَمِّيها عند الطفل، ولكن علينا نحن الكبار أن نساعد الطفل على ذلك، سواء أكنّا آباء، أم مدرسين، وأظن أن المدرسين أقدر على كشف نقاط التفوق عند الأطفال من الآباء.
قال لي أحد الإخوة: كنت ذات مرة أشرح هذه الفكرة لبعض الشباب، فقال لي أحدهم: (يا أستاذ.. إني موظف في شركة عادية، و لم أجد عندي أيَّ نقطة تفوّق، وأنت تقول: كلُّ واحد عنده نقطة تفوق، وآمل منك أن تكتشف نقطة التفوق التي عندي.. )
فقال له المدرس: أنت لديك ابتسامة جميلة.
فردّ عليه: ماذا تعني تلك الابتسامة الجميلة، وماذا أصنع بها، وهل تُطعم خبزاً هذه الابتسامة الجميلة.!
فرد الأستاذ قائلاً: يمكنك أن تقرأ بعض الكتب، وأن تشارك في بعض الدورات التي تهتمُّ بالعلاقات العامة، ومن الممكن أن تصبح يوماً ما مديراً للعلاقات العامة في الشركة؛ لأن لك طلعة بهية، ومحياً جميلاً..
ذهب هذا الرجل إلى زوجته وقال لها: إن المدرِّس قال إن لدي ابتسامة جميلة.. فهل هذا صحيح.؟
فقالت له زوجته: "بالتأكيد.. أنت صاحب ابتسامة جميلة، وإلا فما هو السبب الذي جعلني أصبر على العيش معك.! "
يقول لي هذا الأستاذ: بعد فترة من الزمن اتصل بي هذا الرجل هاتفياً في الساعة الواحدة ليلاً، وقال: يا أستاذ.. أُبشِّرك أني أصبحتُ الآن مدير العلاقات العامة في الشركة، وتلك الكلمة التي قلتها لي دفعتني إلى أن أنمّيَ لديَّ الفهم في العلاقات العامة والخبرة.. وأنا الآن كما ترى. فبارك له الأستاذ، وقال مازحاً: لا تتصل بي ثانية في وقتٍ متأخِّرٍ من الليل..


المحور الثاني
مفاهيم مهمة يجب ترسيخها في ذهن الطفل
ننتقل الآن إلى المحور الثاني الذي سنتحدث فيه عن بعض المفاهيم التي يجب أن ننقلها إلى الأطفال، وأن نرسخها في أذهانهم.
المفهوم الأول: محدوديّة العقل البشري
يُلاحظ أنه تنشأ لدى الطفل- وكذلك الشاب- نوعٌ من المثالية غير الصحيحة، ونوع من الكبر: كبر العقل. ويَعد المراهق نفسه أفهم من أبويه، وأفهم من أساتذته، وأفهم من مديره..!
الطفل الصغير يقول: أنتَ.. أنتَ ما علمتني... أنتَ ما أعطيتني.. أنتَ أنتَ... بينما يقول المراهق: أنا.. ونلاحظ أن لديه اعتداداً شديداً بنفسه. أما الناضج فيقول: نحن.. فهو يتكلم باسم المجموعة، ولا ينفرد عن المجموعة بشيء شخصي أوبشيء خاص.
الطفل
المراهق
الناضج
أنتَ
أنا
نحن
يجب أن نرسخ في ذهن الطفل أن العقل البشري عقلٌ محدود، وأن العلم البشري علمٌ محدود كما قال تعالى:
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء : 85 ]
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف : 76 ]
وعلى الإنسان أن يفهم أنه مهما قرأ ومهما درس فإنه لا يدرك سوى جزء صغير من الحقيقة، ولن يفهم كل الحقيقة، وأنه مهما تقدم، ومهما تعلم فهناك أناس كثيرون أعلم وأكثر خبرة منه..
في كل شيء من مخلوقات الله تعالى عناصر غيبية لم يطلع عليها أحد، ولو كان أمامك كأس ماء، فمن الممكن أن نسأل عشرين سؤالاً حول هذا الكأس، ويعجز أكثرنا عن الإجابة عليها:
· كم قطعة صَنع المصنع من هذه الكأس..؟ تقول: لا أدري.. فنقول لك: يوجد من يعرف هذا، وهم أهل المصنع..
· كم متوسط بقاء هذه الكأس لدى الأسرة في هذه البلاد.؟
الجواب: لا أحد يعرف ذلك، حتى الشركة التي صنعته..
· كم من رجل عندما شرب من هذه الكأس كان مزاجه معكراً.؟ الجواب: لا أحد يعرف ذلك.
· كم مرة شُرب في هذا الكأس عصير برتقال، وكم مرة ماء.؟
الجواب: لا أحد يعرف ذلك.
إذاً.. هناك عناصر غيبية دائماً لا نعرفها، ومن خلال الفهم والبحث والعلم والدراسة نطلع أكثر فأكثر على تلك العناصر.
نريد أن نغرس لدى الأطفال شيئاً نسميه التواضع العقلي، وأن ما نعرفه نحن الكبار، وأن ما يعرفه الصغار هو أقل بكثير من المطلوب.
كأن نقول له: يا بني مهما تعلمتَ، ومهما فهمتَ فلا يزال أمامك طريق طويل حتى تفهم أكثر وحتى تتعلم أكثر؛ والعقل البشري لا يدرك الحقيقة ويكتشفها إلا على سبيل التدرج، ومن المستحيل إدراك الحقيقة دفعة واحدة، وستنقضي هذه الحياة من دون أن نصل إلى الصورة النهائية لأي شيء.
لو عرف الناس عام 1960 شكل السيارة الحالي عام 2007 لصنعوه منذ ذلك الوقت، لكن هذا الشكل لم يكن معروفاً.
ومع تقدم العلم يزيد جهلنا أمام هذا الكم الهائل من الكتب التي تُنشر في كل يوم..([1]) فعلمنا لا يزيد، بل جهلنا هو الذي يزيد؛ لأن ما يجب أن نطَّلع عليه لا نطلع إلا على جزء صغير جداً منه..


([1]) لو قرأ أحدنا منذ ولادته في كل شهر أربعة كتب متوسطة الحجم - وربما يكون هذا من المستحيلات لدى الكثير منا، ومن الأشياء المستغربة.!- وكان متوسط حياته ستين سنة، فسيبلغ عدد الكتب التي قرأها 2880 كتاباً فقط.. فيالَلْعجب من غرور الإنسان القارئ..وماذا يكفي هذا العدد أمام أكثر من عشَرة آلاف كتاب تنزل إلى الأسواق سنوياً..!؟ ويا أشد العجب من غرور الإنسان الذي لا يقرأ.!



http://www.asalah.org/modules.php?na...rticle&sid=113