الفصل العاشر

دخت مما رأيته. فقد أصبت بالرعب من هذه الدماء التي تسيل على الحائط إلى الأسفل وقد وجدت طريقها عبر قنوات خاصة بين البلاط وقد ملأت العنبر الطبي برياح الموت. لقد كانت لقطة صورها لها عقلي أربكتني. فكرت في الأمر بعمق. لقد كان أشبه بوهم ناتج عن هلوسة أو رؤية وأنا يقظ. لقد اعتقدت الأمر حقيقيا وأجبرت نفسي على التوقف عن التفكير بما حصل. لقد رأيت هذا الممر من قبل. انه الممر الذي قتل فيه يوسف سالم في المجمع الطبي الذي بدأت به هذه المهمة المخيفة. كانت نظرة الفتاة الشابة على غرفة العمليات أصعب من أن أتجاهلها. ازدحم عقلي بالأسئلة التي تبحث عن إجابات. المكان كله والأشخاص وهذه الفتاة الشابة أشعر بأنه مألوف لدي. حنين مؤلم عصي على الفهم مثل شعلة ضئيلة في نهاية نفق طويل جدا يحاول أن يحكم حصاره العدائي حولي.

أصدر جهاز اللاسلكي أصواتا قطعت حبل أفكاري وأعاد المهمة إلى اهتمامي الأساسي. كان صوت حسام.
"فاتن. أي اتصالات مع محمود؟"
أجابت فاتن وقد فقد صوتها مسحة التفاؤل:
- لا شيء بعد. ولكننا وجدنا بقايا بشرية لا يمكن التحقق منها إلا في المعمل.
أجاب حسام:
- لا يمكن أن يكون هو. علامات حياته غير طبيعية ولكنه ما زال حيا حتى الآن. إنه موجود في مكان ما.
أجاب فاتن:
- سأستمر في البحث.

جررت نفسي من بين القاذورات المحيطة بركبتي وشعرت بقشعريرة في جلدي. تجمدت يداي قليلا عندما أمسكت السلم المعدني. بينما كانت لا تزال قدماي على المنصة التي يعلوها السلم، وضعت مهمتي في أولوية أفكاري ودفعت الظنون والشكوك بعيدا واستعضت عنها بقوة ووضوح ما أعرفه عن هذه المهمة. لخصت الموقف ووجدت أن محمودا ربما ما زال حيا ولكن ربما وقع أسيرا ويحتاج إلى مساعدة لتحريره. جعلتها مهمة شخصية أن أعيده سالما مع علمي أن الكثيرين قد ماتوا بسبب فشلي في قتل عاصم مراد فوق سطح المجمع الطبي.

أخرجت هواء متوترا من بين أسناني ثم ابتدأت الحركة. كل شيء كان صامتا باستثناء نقاط من الماء تتسرب من أنبوب أو مياه تتدفق من جدران الحاوية. كان يبدو مستحيلا ولكن على نحو ما كان يبدو أكثر ظلاما داخل محطة المعالجة. على الرغم من أنني لم اهبط كثيرا، كانت كل بوصة انزلها تبدو كأنها أمتار في هذا الظلام الكئيب. كان الظلام كثيفا جدا ويحيط بي من كل جانب. أضأت مصباح خوذتي فأرسل شعاعا ضئيلا صنع بقعة على الحائط أمامي. اعترضني باب يقودني بعيدا عن رائحة بركة المياه ولكنه لم يفتح. كان الباب مغلقا بما تكدس خلفه من صناديق وعلب. لم يكن لدي الوقت ولا القدرة على تحريك تلك الصناديق. تذمرت مما حصل لأن الطريق الآخر عبر البركة به مدخل صغير يؤدي إلى مكان شديد الظلام. عدت إلى تسلق السلم مرة أخرى إلى المياه غير المعالجة وكشرة حادة قد ارتسمت على شفتاي وتسلل البرد إلى ساقاي مرة أخرى.

انحنيت واتبعت النفق. أخذت أتحرك خلال الماء محاولا جهدي الاحتفاظ بسلاحي بعيدا عن الماء. مصباح خوذتي أضاء الطريق أمامي وقد سعدت بذلك إذ لولاه لم يكون سوى الظلام رفيقي في الطريق. لحسن حظي رأيت فتحة يأتي منها ضوء داخل النفق فوقي اعتبرتها نجاة لي من البرد الشديد والرائحة المزعجة. ابتسمت وانا أتخيل اختفاء الرائحة من مكاني ومنع أي محاولة تسلل سرية. جذبت نفسي عبر الفتحة متسلقا الأنابيب وهبطت على أرضية صلبة. سعدت عندما وجدت نفسي في ممر مضاء وفي مكان ما عبره شاهدت ضوء يخرج من نافذة باب مكتب على يساري. تحركت ببطء وحذر متجها إلى ذلك المكتب.
"افحص المنطقة"
قالها احد الجنود المستنسخين عبر جهاز اتصال. فرد عليه آخر قائلا:
- لا شيء هنا.
ابتسمت لأنهم لا يعلمون أنني هنا ولو علموا لما قالوا ما قالوه!

دخلت المكتب وأنا منحن دون أن أتخلى عن حذري. كان أحد الجنود يجلس أمام شاشة للمراقبة. اقتربت منه ببطء منتظرا الوقت كي أضرب ضربتي. وكأفعى قد تقوس ظهرها انقضضت عليه وضربته بمؤخرة بندقيتي قبل أن يطلق صرخة طالبا النجدة. مال رأس الجندي إلى الأمام ولم يلبث أن سقط أرضا في صمت. حتى سقوطه لم يصدر منه أي صوت. تجاهلت خيط الدم الذي سال من جرح في رأسي وشرعت في دراسة ما كان يراقبه ذلك الجندي على الشاشة. رأيت غرفة بها رجل مقيد إلى كرسي ورأسه متدل إلى الأمام كأنه ميت أو غائب عن الوعي. وفجأة تلاشت الصورة وتركزت على رجل مجهول الهوية. قفزت من مكاني متراجعا إلى الوراء مع التحول المفاجئ متسائلا من يكون هذا الرجل. يبدو مدنيا، هل هو سجين؟ تمنيت لو أنه ما زال حيا ولم يقع في براثن عاصم مراد المجنون. وجدت علبة إسعافات أولية فتحتها واستبدلت الضمادات الجديدة بالضمادات التي امتلأت بالدم. قارنت بين نظافة الضمادات الجديدة والضمادات المتسخة فهززت رأسي راضيا.

تركت المكتب وواصلت على طول القاعة الرئيسية ولكن لخيبة أملي انتهى الطريق في بركة أخرى. كان الضوء لامعا يصنع عروضا على الجدران والسقف بسبب تموجات المياه في تلك البركة. اقتربت ببطء فوجدت ممرا فوق البركة يمكن أن أستخدمه كجسر وتحركت كي أضع قدمي عليه. وبعد لحظات أحسست بوجود شيء على يميني. تجاوزت الجسر كي أواجه التهديد الظاهر رافعا سلاحي وواضعا إصبعي على الزناد استعدادا لإطلاقه. أصابتني الصدمة عندما رأيت أنني أحدق في وجه محمود. كان جلده شاحبا وعيناه ليستا أكثر من مجرد تجويفين دمويين. كان واقفا ثابتا في مكانه كأنه تمثال. وببطء تباعدت شفتاه وهمس قائلا:
- إنها تخاف منك.

وكما حصل من قبل رحل بعيدا. وقبل اختفائه تحول جلده إلى اللون الأسود قبل أن يتلاشى في الدخان الذي ملأ المكان حوله. استعدت إحساسي بالوجود حولي بينما كان قلبي يكاد يقفز خارج ضلوعي وخفضت سلاحي. كنت مندهشا وممزقا بين التصديق والتكذيب. هل كان هذا مجرد وهم زرعته في عقلي تلك الفتاة الصغيرة؟ لقد تزعزعت ثقتي في كون محمود ما زال حيا وبخير. كان جسده مشوها ولا تبدو عليه علامات الحياة وتمنيت أن يكون هذا مجرد صورة لا حقيقة.

عبرت الجسر مسرعا وقد شعرت بألم في معدتي. شعرت أنني واقع في وضع غامض لا أستطيع أن أحله حتى مع وجود ذكريات ناقصة غير واضحة يحاول عقلي التعلق بها. كنت قاتلا بسبب ما تعلمناه وما أمرتنا به القيادة (أعطني بندقية وٍأنهي الموضوع). كنت أحاول إقناع نفسي أنني غير محاط بأكثر من هذا وأن هذه المهمة مجرد مهمة اعتيادية (أدخل واقتل الشرير واخرج). أقنعت نفسي بهذا الأمر للحظات ولكن ذكريات المهمة والغضب الذي يعتريني بسبب عاصم مراد والأبرياء الذين اضطررت إلى قتلهم قد قفزت إلى عقلي وشغلت تفكيري. وحسدت أشخاصا مثل كمال الذين لا تضايقهم ذكريات حياة لم يعيشوها كما تضايقني أنا.

كان تفكيري منشغلا بما حصل وأنا أشق طريقي عبر المجمع ولا أدري إلى أين يأخذني الممر الذي أسير فيه. وصلت في نهايته إلى غرفة كبيرة للمولدات بها جسر معدني فوق المولد يقود إلى مكتب مظلم قريب. رأيت جنديين مستنسخين في دورية بالقرب مني. توقفت كي أتابع حركتهم المنضبطة ومسار حركتهم قبل أن أختفي عن ناظريهم. انزلقت بهدوء على الدرجات المعدنية إلى المكتب وقد انحنيت كي لا يرونني. وتأكدت من وجود ذخيرة في سلاحي. رأيت مصباح هاتف على المكتب يتوهج معلنا عن وجود رسالة. ضغطت زر التشغيل ولكن الصوت كان عاليا هذه المرة. وتمنيت أن لا يسمعها أولئك الجنود.

"لديك رسالة جديدة"
أعلن الهاتف هذه الجملة المتكررة دوما قبل أن تبدأ الرسالة الحقيقة بالظهور. كان صوت رجل على الأرجح من العاملين في المحطة. كان صوته يحمل نبرة قلق. قال الرجل:
- سمعت عن أشياء غامضة ومجنونة تحدث عندك. هل أنت بخير؟ أخبرني! هل ما زلنا على موعدنا يوم الجمعة؟ اتصل بي عندما تعود.
صمت الرجل قليلا ثم قال:
- أرجو أن تكون بخير...
ساد الصمت لحظات بعد الجملة الأخيرة التي كانت همسا قبل أن يعلن الهاتف انتهاء الرسالة.

هذا برئ آخر محاصر داخل الفوضى التي تعم المكان. ربما يكون ميتا وربما لا! ولكن صوت الأقدام المتحركة جعل حذري يقفز إلى أعلى درجاته. هل سمع أولئك الجنود الرسالة وهم يتقدمون إلى موقعي؟ رفعت سلاحي استعدادا للاشتباك ووضعت إصبعي على الزناد. سمعت الصوت المألوف لأولئك الجنود عبر غرفة المولدات وهو يقول:
- ابق مختبئا وحاول جذبه إلى الخارج.
وجاءه الرد:
- انتظر إشارتي.
اعتبرتها إشارة لي أنا وكان لا بد أن استغل عنصر المفاجأة لصالحي. اندفعت داخل الغرفة بسرعة كبيرة وأطلقت النيران عليهما بكثافة. كان صوت الطلقات أعلى من المرات السابقة، ولكن صوت الطلقات كان همسا بجانب صرخات الاستغاثة التي صدرت عن أحد الجنود الذي سقط أرضا غارقا بدمائه. ابتعد الآخر محاولا إيجاد ساتر يحتمي به عن السلم ولكنني تتبعت حركته. أثارت مجموعة من الطلقات الغبار قبل أن يهبط الصمت مرة أخرى على المكان للحظات قصار. مأزق آخر وقعت فيه ولكن الصندوق الخشبي الكبير وفر ساترا أحتمي به بينما اختبأ خصمي خلف المولد. تحرك الأدرينالين في عروقي وتصبب العرق من جبهتي وانتفخ صدري عندما حطمت القفص كي أقتل الجندي. شعرت بقوة غير طبيعية لا أدري لها مصدرا. استدرت حوله رافعا سلاحي كي أفاجئه ولكنه اندفع ناحيتي مقتربا مني كي يشتبك معي عن قرب وقد ملأه اليأس. تراجعت مسرعا سامحا له بالاندفاع إلى الأمام. وبحركة سريعة استدرت نحوه وأنهيت حياته بمجموعة من الطلقات أصابت ظهره فسقط على الأرض الصلبة وقد فاضت روحه إلى بارئها.

شرعت بالتنفس العميق كي أجلب الهدوء إلى نفسي ويستقر نبض قلبي العنيف ويجف العرق الذي اشعر به بين ثنايا الزي الذي أرتديه قبل أن أكمل. عدلت الضمادات على جروحي وفحصت المكان أبحث عن مخرج. يبدو أن السلم هو الحل الوحيد المتوفر فتسلقته مسرعا وأنا أشعر بحماسة شديدة للاستمرار. استدرت عند ركن الممر ووقفت أتأمل فيما أرى: مجموعة من الأبواب تؤدي إلى منطقة مفتوحة، ومنصات معدنية تتقاطع فوق المولدات وبرك المعالجة. كان المكان فخا قاتلا للمستنسخين.