منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: على المصاطب

  1. #1

    على المصاطب

    على المصاطب

    على المصاطب المنبسطة قيمة متر أو يزيد قليلاً خارج ديار الحارة , النسوة يجدن التشدق بالضار و النافع و كل ماهو جديد , ويعتدن فرقعات الضحكات الرنانة و العلكة بمزاج , و يستمتعن بنسمة العصر الهافة من غيطان الفول و الجنائن البرتقالية فتنعش صدورهن المكتنزة بتدرجٍ و أردافهن التى لا تتسع لها المصاطب , و تحرك شحومهن المتكومة تحت الإبط و فوق الأرداف , و ترطب أقدامنا الحافية ـ نحن الصبية ـ المعجونة بأتربة الحوارى و رماد الأفران البلدى , ونستريح بجوارهن من عفرتة الأزقة , فاغرين الأفواه .. نتلاقط الشهيق و الزفير كالناجين من الغرق , و نكرع (أكواذ) الماء بنهم , ثم ندلقها على السيدات اللينات , فيتدحرجن بأردافهن المنفرطة , فينجرف تيار الثورة و النشوة فى سيقان عم فخرى القابع خلف شباكه يرصدهن بشبقٍ وكياسة , و تتفجر به طاقات الحرمان المختزنة منذ رحيل زوجته , فينتبهن له وعلى عجلٍ يلملمن ما انفرط, فيزداد شبقه و يطن دبورٌ فى دماغه . ثم نعود كى نرجم بعضنا بعضاً بكرةٍ قد صنعناها بأيدينا من أحد جوارب والدى القديمة , وحشوناها بقصاصات متنوعة من الملابس النافقة ..
    نلهو بها فى الصباح و بعد العصرية نفقدها كالعادة , إما فى ترعة القرية أو فوق سطح منزلٍ مهجور أو تهرب منا وتطيرعبر نافذة أحد المراحيض .. تلف و تدور مع الماء المنزلق إلى أن تستقر فى كوع التصريف , فتعوق حركة الملاحة و المرور , وتطفح المواسير و تتسرب المياة من الجدران ثم تصير بحيرات تنعم و تستجم بها الطيور الضالة من بطٍ و أوزٍ , وفى النهاية تنشب المعارك الضارية بين النسوة بالمقشات و الطشوت , فنقف و نتفرج و نهلل لمن تبطح رأس خصمتها بملعقة أو فردة شبشب , و تستمر المعركة حتى يأتى الأزواج و يضربهن ضرباً مبرحاً , وفى اليومِ التالى يجلسن على المصاطب , و يعقدن الصلح و يتبادلن الحديث عن آلام الظهر و الليالى الحمر , ومصاريف الدار و أسعار الزيت و السكر.
    فى بادىء الأمر , كان صنع الكرة يسيراً ولا يعد مشكلة , فما أكثر الخرق و الأقمشة التالفة بالأزقة , وبيوتنا أيضاً كانت عامرة بالجوارب المسنة , نحكم صنعها جيداً ثم ننطلق كى نحرث الحارات بأقدامنا , نتقاذفها و من تصبه يكن مستبعداً و يجلس بجوار السيدات ينتظر للدور القادم , ومن يصمد حتى النهاية دون أن تمسه الكرة يصبح بطلاً من أبطال اكتوبر و نتوجه كأساً ذهبية مصنوعة من أغلفة التبغ اللامعة التى أهدرها عم فخرى و رماها أسفل الشباك.
    لا نشرع فى اللعبة حتى نتأكد من جلوس عم فخرى , ونتمهل قليلاً حتى يفرقع أول علبة "كليوباترا" و يطيحها إلينا فنلتقفها فرحاً بقدوم الكأس .
    وذات يومٍ , جلسنا كالمعتاد على مصطبة الحاجة نعيمة نتدبر المصيبة الكبرى , كل الجوارب القديمة استهلكناها فى نفخ الكرات , و عصرنا جماجمنا حتى أسدلنا قائمة الإقتراحات :
    استبعدنا الإقتراح الاول , فالأكياس البلاستيكية غير نافعة و تتمزق مع أول قذفة .. و الإقتراح الثانى لا يصح , من منا لديه الجرأة كى يسرق جورب جديد من جوارب والده .. أما الإقتراح الأخير فكان رابع المستحيلات , فالمساجد محفوفة بالملائكة و حرمتها عظيمة , وفى الأسبوع الماضى أنشد شيخ المسجد خطبة كاملة عن ابن عوض الدكر لما سرق حذاءه و فر هارباً .

    ـ عندى فكرة .
    ـ الحقنا بها ياأبو العريف .

    لم يكن هناك حلول أخرى , ولا غيره يفرج كرباتنا , يمدنا بالكأس و سيمدنا بالكرة أيضاً .. كان الشباك مغلقاًً و الغرف مظلمة , فتأكدنا أنه يأكل (بلوظة) مع الملائكة .. تسللت بهدوء كقطٍ كنت أتفرج عليه دائما فى فقرة الكارتون و تسحبت على أظافرى مثله , و فتحت باب الدار , كان مغلقاً بغير إحكام , فسهّل علىّ المهمة , و واصلت الزحف كالفدائيين , مبدلاً يدى اليمنى مع قدمى اليسرى و العكس , واحدة يساراً مع أخرى يميناً , فيميناً فيساراً , فيساراً فدوخة و عرق و زغللة , حتى أُجهدت و حمدت الله أنه لم يخلقنى قطاً , كنت سأعانى الكثير فى صيد الفئران , وأخيراً وصلت و تمكنت من هدفى و وضعت الحذاء بين يدى , و دسستها فى يمناه , واستندت على اليسرى أتنفس الصعداء و أشق ريقى الجاف بلعابى الهارب , و أخرجت الوليمة , ويا قوة الله على أم عفنك يا عم فخرى , انطلقت من الحذاء رائحة نتنة كأننى اصطدت فأر متجيف , وضعته فى جيبى و استدرت إلى الخلف مكتوم الأنفاس , عائداً بنفس الخطة , يميناً فيساراً ..... , لكن علق بنطالى بمسمارٍ كان بأسفل الباب , فاستغنيت عن (الأستيك) و قرضته بأنيابى المتينة , وقذفت نفسى وسط لحم الأولاد المتكوم بالخارج , و المتأهبون لإعلان النصر , وسريعأ قرفصت إلى ركن حائط أطرد الفأر الذى ابتلعته فى صالة عم فخرى .
    أفرغت أمعائى و ارتميت كالعنزة النفساء ألعن أسلاف الرجل على مصطبة الحاجة نعيمة مع الأولاد الذين أثبتوا كفاءتهم فى لم الزبالة و تطهير الشوارع من بيجامات متهالكة و قمصان نوم و سراويل مهلهلة و حمالات صدر بأحجامها و ألوانها الرائعة بمختلف المقاسات , ثم شرعنا فى نفخ الكرة و إحكام جورب عم فخرى الفضفاض الذى استهلك منا حمالتين و نصف لباس , فقدم عم فخرى كانت مبططة مثل خُف الجمل , ولا تقنع بأى حذاء , لكن و الحق لله كانت فردة جوربه من النوع الفاخر ولم نشهد بها أى ثقوب أو فتحات .
    وأخيراً انتهينا من تجهيزالكرة , وصارت مدورة كنهدٍ أعلن اكتنازه , و رحنا نجربها تحت شباك أبو الفواخر العظيم , عامدين إيقاظه كى يأتى بسجائره و يمنحنا الكأس المنشودة , تقاذفناها مئات المرات و تعفرتنا آخر عفرتة .. صرخنا بآخر جهدنا , لكن يبدو أن (البلوظة) أثخنت معدته وراح فى سابع نومة , لم نيّأس .. و حاولنا مرات عديدة , وجلسنا تحت الشباك نضج و نصخب الحواديت الفارغة , و بعد حدوتتين شعرنا بحركة ناعمة داخل الدار ..الله أكبر.. فلحت خطتنا , ففرحنا و صهللنا بأعلى صوت .. الحركة ازدادت قليلاً فزودنا معيار الصهللة .. الحركة اشتدت أكثر و أكثر و سمعنا حفيف نعال يمر فوق رؤوسنا بجانب الشباك .. اللهم صلى على النبى .. جهزنا أنفسنا بالتسخين و المران العنيف .. لمحنا نسوة يدخلن و يخرجن من الباب الذى طمع فى (أستيك) بنطالى , ثم دلفن مرةً ثانية بسرعة و خرجن , ثم دلفن و هكذا قرابة النصف ساعة .
    كن فى بادىء الأمر يلبسن المزكرش و المنقرش , و خدودهن متورمة كالطماطم المطبوخة , فتوقفنا عن العفرتة و تشبثت أقدامنا الحافية بالأرض مشدوهين و شاخصين الأنظار , نعد حبات الطماطم الداخلة و الخارجة حبة بعد حبة .
    و فجأة اختفت الزركشة و النقرشة و أظلمت الحارة , و اتشحت بسوادٍ قاتم , ثم افترشت المصاطب بالأفخاذ و النهنهات , و خرجت الحاجة نعيمة بحنجرةٍ أسطورية ترج الأمكنة بأمجاد أبو الفواخر بطل الحرب و السلام , و بصوتٍ رخيم كان شيخ المسجد يشيع الفقيد و يقتصر عزاءه على الجبانه , فانزوينا تحت الشباك و جلسنا نغط فى بكاءٍ عميق .

  2. #2
    قصة جسدت تناقضات بيئية نعيشها جميعا بتضمين الفاظا بنت بيئتها استطاعت ان تعبر الاذن لغويا برشاقة رغم عاميتها
    اتمنى لك التوفيق
    ملدا

  3. #3
    الأستاذة ملدا شويكاني

    أشكرك على الإطراء الطيب و المرور الجميل

    ودى و احترامي

  4. #4
    نص كتب بحذق الاديب
    استمتعت بحرفك اديبنا الغالي اهلا بك دوما
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #5
    أستاذتي المبدعة

    ريمه الخاني

    أشكرك على ما جاء من جمال في حسن استقبالكم

    و بهجة هنا كانت من نصيبي

    جبر الله خاطرك

  6. #6
    رايت هنا وصفا دقيقا للواقع كما هو ..
    وكيف الاطفال يتعلقون بالقدوة مهما كانت ....
    قصة بسيطة ومعبرة
    ربنا يزيدك ابداع
    #00FF00
    إمضاء / عبدالرحمن سالم سليمان
    مع أرق التهانى ودوام التوفيق والنجاح

  7. #7
    الأستاذ المبدع

    عبد الحمن سالم سليمان

    ضاءت صفحتي و عظمت هامتي بشريفكم ههنا

    نظرتكم الطيبة لواقعنا كانت من حسن حظني

    أدام الله الود و أطال عمرك و وسعك من رحمته و سترن

    تحاياي العطرة

  8. #8
    اديب لامع وقدير

    كاتب يعيش الكلمات معاني

    والمعاني لديه ضمير انسان حر اصيل

    على المصاطب

    حكايات القريه والطفوله والكرة المصنوعه من الخرق

    على المصاطب

    اجتماعات تعقدها النساء للحديث عن غير الجالسات بينهن

    عبر ودورس تاتي على مصاطب محمد ابراهيم سلطان

    وهو اسم روائي قدير من الزمان الجميل رغم انه شاب لم يتجاوز الثلاثين

    كل الموده
    وكل التقدير
    ودمت محمد ابراهيم ملهما بكل ما هو راقي وجميل

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •