الاسلام و الدولة المدنية
ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأديان السماوية متطورة تبعا للتطور الاجتماعي الذي ينطلق من الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالأمة ثم المجتمع الإنساني ككل كآخر مرحلة في التطور الاجتماعي للبشرية و تبعا لذلك كانت الديانات الأولى السابقة على الإسلام محدودة بحدودها الاجتماعية الضيقة فكانت ديانات قبلية وعشائرية حسب المنظومات الاجتماعية وقتذاك ويؤكد على هذه الحقيقة العلمية والتاريخية ما ذهب إليه القرآن الكريم عندما يشير في أكثر من موطن إلى ذلك بقوله تعالى (و لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله ) 45 النمل و قوله تعالى ( والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ) 81 هود وقوله جل وعلا (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ) 165 الأعراف وكانت دعواتهم مرتبطة من حيث الإعجاز بالمستوى الفكري الذي عليه القوم وهو مستوى فكري لا يزال بسيطا فمعظم المعجزات السابقة على الإسلام كانت مادية ملموسة لتناسب العقل الطفولي الذي كانت عليه البشرية حينها ومن حيث المعالجات للمشكلات القائمة كانت أيضا بسيطة الى حد ما تبعا لعدم تعقد و تطور الحياة فهي لا تعدو أن تكون دعوة الى عبادة الله و الانتهاء عن منكر يفعلونه كأهل مدين الذين يطففون الكيل و الميزان او قوم لوط الذين يرتكبون الفواحش وبذلك لم تكن دعوات الرسل قبل الاسلام عامة ولا شاملة ولا معجزاتهم عقلية مستمرة بل هي محدودة زمانا و مكانا و اهدافا ذلك أن هناك استراتيجية إلهية في تدرج الأديان ونطورها تبعا لنسق تطور المجتمعات البشرية .
ومن ذلك أن سيدنا موسى عليه السلام قد كان في وضع وسط بين القبلية القديمة والتكليف الإلهي بالتوجه برسالته الى غير قومه اذ يدعو ربه أن يشدد أزره بأخيه هارون- تناسقا مع المنحى القبلي الذي كان ولا يزال يعيشه بنو إسرائيل حتى الآن اذ تصرفاتهم في فلسطين المحتلة تؤكد طبيعتهم القبلية المتخلفة – ليتمكن من ابلاغ رسالته المنحى الجديد الذي يكلفه الله به وهو التوجه الى غير بني اسرائيل حيث كلف بتبليغ دعوته إلى شعب مصر في شخص ملكها فرعون الذي كان يدعي الربوبية قال تعالى استجابة لرغبة موسى عليه السلام (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ) 35 القصص وتبعا لذلك كلفهما بقوله تعالى (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) 43 طه وبذلك يكون موسى قد دشن عهدا جديدا في النبوات وهو الخروج عن النطاق القبلي الضيق الى نطاق أوسع وهو مخاطبة شعب مصر ولكن هل حافظ اليهود المعاصرون على روح رسالة موسى الداعية الى التوحيد ونبذ الطغيان اللهم لا و ممارسات الدولة الصهيونية في المنطقة العربية و العالم خير شاهد على هذه القطيعة من حيث حجم الجرائم التي ترتكبها وارتكبتها ضاربة عرض الحائط بكل الشرائع و الأديان .
ثم تأخذ الديانات طورا آخر أكثر عموما بدعوة عيسى عليه السلام رمز الرحمة و التسامح اذ يقول عليه السلام (إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) و بذلك يكون قد فتح بعدا جديدا للإنسانية أكثر شمولا و عموما من رسالة موسى في نطاق التطور الجدلي للأديان من حيث التوسع في المضمون و التوجه تهيئة للدور العظيم المناط بخاتم الرسالات رسالة سيدنا محمد عليه السلام حيث هي رسالة عامة للناس قاطبة وهكذا كان دين الله دينا عالميا عاما للبشرية قاطبة فلا يخص جنسا معينا أو هو لأمة من الأمم دون بقية الناس أو لقبيلة من دون الناس جميعا فهو لكافة الناس كما قال تعالى في محكم تنزيله : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) 28 سبأ وهو بهذا المعنى ملكية مشتركة للبشرية جمعاء لأنه يناهض العنصرية والقبلية و التعصب و العرقية حيث أشار الرسول عليه السلام إلى أنها منتنة فلا بد من تركها استجابة لتوجيهاته عليه السلام في حين كانت بقية الديانات السماوية السابقة لا تشاركه هذه الميزة الأساسية فيه لأنها بكل بساطة موجهة لأقوام الرسل وقبائلهم وعشائرهم من دون الناس وذلك أن المجتمعات البشرية في تلك الأوقات كانت من الناحية الإجتماعية ضمن المراحل الأولى للتطور الإجتماعي انطلاقا من الأسرة فالعشيرة فالقبيلة إلى الأمة حاليا والمجتمع الإنساني مستقبلا فكانت تلك الديانات خاصة تبعا للأطوار الإجتماعية وقتها وبناء عليه فالإسلام يتميز عنها أيضا بمميزات أخرى فما هي ؟
كما أنه دين شامل لكل جوانب الحياة الدنيوية والأخروية قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ) 3 المائدة بحيث لم يفصل بين الدين و الدنيا و العبادة و الحياة فالكل عنده سواء في المفهوم الإسلامي من حيث صلة الحياة بالعبادة وذلك أن العمل عبادة و البحث العلمي عبادة و الزواج إكمال لنصف الدين و الطلاق إلتزام بأحكام الشرع وسائر العقود عبادة و الأخلاق الفاضلة عبادة بحيث تستحيل حياة الإنسان من أول مولده إلى ما بعد وفاته إلى إلتزام بأحكام الدين وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى حالة ذلك الصحابي الذي كان يكثر من المكوث في المسجد للصلاة فلما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعوله فقيل له أخوه فقال أخوه أعبد منه وبناء عليه شملت تعاليم ديننا الحنيف كل المجالات كالعقيدة و العبادات و المعاملات والأخلاق .
كما أن الدين الإسلامي من ناحية أخرى هو دين الواقعية من حيث مراعاة ظروف الإنسان و مدى قدرته على أداء التكاليف في ظروف مريحة دون إرهاق بدني او نفسي فالله تعالى لايكلف نفسا إلا وسعها ومن هنا فهو دين اليسر لا العسر و رفع الحرج و المشقة عن الناس و جلب التيسير لهم سواء في العقيدة بحرية التدين قال تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) 256 البقرة أو في العبادات من حيث كافة أنواع التيسير فيها وهي من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة وفي مجال المعاملات فهناك إقرار لمبدأ اليسر و الضرورات تبيح المحظورات والمشقة تجلب التيسير .
كما أنه دين المناسبة للفطرة أي الطبيعة الأصلية للإنسان بحيث لم يقع قمع مطالب الإنسان الحيوية كالتمتع بطيبات الحياة المشروعة كالمأكل و الملبس و السكن و التمتع بالجنس و التمتع بالحرية الكاملة فالإسلام سمح بها جميعا بعد أن هذبها و نظمها و ترك الإنسان يعيش حياة طبيعية .
ثم إن هذا الدين و بالنظر لهذه الخاصيات فإنه آخر الديانات فمن الطبيعي أن يكون دين الحرية و إعمال العقل و القرآن الكريم حافل بهذا المجال ما في ذلك من شك لذا فهو دين الإنسانية ومستقبل البشرية لن يكون في أفضل حال بدونه وقد بشر الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض بقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) 55 النور
ومن هذا المنطلق لا يسعنا إلا أن نؤكد أن الإسلام بهذه المواصفات هو بكل تأكيد دين الرحمة والحرية و الإبداع الإنساني تحقيقا للأهداف الكبرى التي من أجلها خلق الله الإنسان الا وهو دوره في خلافة الله في الأرض و عمارة الكون في نطاق القيم الكبرى من عدل و إخاء و تعاون .
لذا فهم اسلافنا حقيقة الدين الجوهرية من نقطة الحرية هذه و انطلقوا فاتحين لا مستعمرين يبشرون بحضارة العدل والحق و الحرية في إطار من الاجتهاد البشري لا متعسفين و لا ملغين لغيرهم ولا مقصين لمخالفيهم وقد نظروا في العقيدة الإسلامية بعقولهم فلم تتفق مواقفهم البشرية فاختلفوا فرقا جميعها تعبد إلها واحدا ونظروا في الشريعة بأفكارهم البشرية فاختلفوا فيها إلى مذاهب فقهية متعددة دون الخروج عن القاعدة الأساسية التي تحكمهم جميعا وهي الاحتكام للقرآن و صحيح السنة النبوية وبهذه الأفكار التقدمية و التحررية في التعامل مع الشريعة السمحة و التي تؤمن بمكانة الإنسان خليفة الله في الأرض امكن لهم بناء أرقى حضارة لا تزال آثارها فاعلة و مؤثرة إلى الآن ولكن المسلمين لما توقفوا عن هذه الحرية الفكرية وانساقوا إلى اتجاه فكري واحد و تعصب كل منهم لموقفه الفكري ظنا منه أن ذلك هو حقيقة الدين وهو لا يعدو كونه موقفا بشريا وكانت النتيجة مأساوية للأمة إذ آل أمرها إلى الانحطاط و التردي و لم يستفق المسلمون إلا و الأوروبيين الذين انهزموا أمامهم في الحروب الصليبية يعودون من جديد لاحتلال بلدانهم و تمزيقها و انتهاب خيراتها .
وكان رد فعل الأمة متمثلا أساسا في حركة النهضة وإسهامات روادها الأوائل سواء في المشرق أو المغرب العربي وهكذا عادت إلى الساحة العربية و الإسلامية العقلانية الإسلامية التي كانت سببا في نهضة الأمة قديما ومن شأنها أن تنير سبيل الأمة حاضرا و مستقبلا .
وهكذا اذن يكون الدين الإسلامي هو الدين الإلهي العام و الشامل والخاتم و المتناسب مع التطور العقلي للبشرية والذي يبشر البشرية بعهد من العدل والحق الذي عرفت البشرية البعض من آثاره عندما كانت الإمبراطورية الإسلامية هي المهيمنة على العالم وسوف تسود هذه القيم والمعايير النبيلة كل البشرية عندما تتمكن الأمة العربية الإسلامية من إسقاط المشروع الصهيوامريكي الذي يتهاوى الآن تحت ضربات المقاومة الباسلة في كل من العراق و فلسطين حيث بشائر الخير تطل علينا من بين ثنايا الخراب والدمار الذي تحدثه هذه القوى الباغية .
الدين الخاتم
هكذا نفهم اذن أن الديانات السماوية قد تطورت تبعا لتطور المجتمعات البشرية اذ كانت متناسبة مع الواقع الاجتماعي في اتجاه اصلاحه على مستوى العقيدة بالدعوة الى التوحيد أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت وذلك بعد أن غرقت فطرة الانسان البدائي القديم في غياهب الجهل والظلمات و انحرفت عن النهج القويم فجاءت الديانات السماوية لاصلاح هذا الخلل و تقويم هذا الاعوجاج في الاتجاه الصحيح و كانت تلك الديانات خاصة في توجهها لأقوام الرسل وذلك أن المجتمعات البشرية كانت في مراحل التطور الاجتماعي الأولى اذ مازالت في العهود القديمة لم تغادر الطور العشائري والقبلي فمن الطبيعي أن تكون الديانات الموجهة اليهم تبعا لهذا الطور الاجتماعي كما كانت مضامينها بسيطة في توجهاتها الاصلحية اذ كانت موجهة أساسا لاصلاح الخلل المؤثر في المجتمع وقتها و حتى معجزاتهم كانت مادية ملموسة تبعا للمستوى العقلي المتدني للعقليات وقتها .
أما الاسلام فقد جاء في فترة هامة بالنسبة للبشرية حيث بلغت مرحلة النضج العقلي وقد تطورت الديانات شيئا فشيئا لتصل الى الدين الخاتم والنهائي والذي لا بد أن يكون عاما شاملا خاتما مناسبا للفطرة كما أشرت سابقا .
و من الطبيعي لدين هذه مواصفاته حيث جعله الله الدين الخاتم أن يعتمد على أمر آخر ليضمن بقاءه و استمراره تحقيقا للغاية الكبرى ألا و هي خلافة الله في الأرض و قد استدعت هذه الخلافة مؤهلات عديدة من أهمها العقل البشري و الحرية و الارادة الانسانية وقد بحثت هذه الأمور كثيرا في عديد الكتب التي اهتمت بمبحث الخلافة لذا ينصح بمراجعتها في مظانها ولكن الذي يهمنا الآن ماهو التحول الذي أحدثته الهجرة النبوية في الانتقال من طور الى طور آخر في اتجاه ثوري خلاق احدث حالة ثورية مستمرة في البشرية وأحدث تغيرا نوعيا في حياة الناس وكان منعرجا حاسما في تاريخ البشرية إذ لأول مرة في التاريخ الإنساني تنتصر إرادة المقهورين و المغلوبين على أمرهم على حساب الطغاة و المستبدين من الحكام والأباطرة والأغنياء بإرادة بشرية ذاتية وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تدخل مباشرة في العصور السابقة انتصارا لرسله و صحابتهم من المؤمنين أمام عجزهم عن مواجهة الطغيان لذا ينزل الله عقابه الإلهي بتلك الطغمة الظالمة و الكافرة و المتجبرة بشكل مباشر و فوري فيسلط عليهم غضبه بالطوفان و الأعاصير العاتية و زلزلة الأرض تحت أقدامهم ولكن بمجيء الرسالة المحمدية الخالدة تتغير المعطيات في اتجاه آخر بحيث يقرر الله شانا جديدا للبشرية ويقرر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم بقوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ) 110آل عمران
فكونها خير الأمم لا للونها أو لغتها أو عرقها أو ثرواتها وإنما مكمن الخيرية فيها من خلال القيم والمثل العليا التي تتحلى بها وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والايمان بالله كما أنه من ناحية أخرى يقرر بشكل نهائي قاطع (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) 11الرعد وكذلك فهو ( بان الله لم يك مغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) 53 الأنفال وبهذا المعنى تصبح الأمة الإسلامية على مر الزمن وفي كل مكان مسؤولة عن إنجاز المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق البشرية منذ خلقها الله إلى أن يرث الله الأرض وما عليها والمتمثلة في خلافة الله في الأرض ومن الطبيعي أن تقوم الجماعة المؤمنة بدورها كاملا في إحداث التغيير الثوري المناهض لحالة الظلم والاستبداد التي عرفتها البشرية في العهود السابقة فكانت الهجرة النبوية انتقال ثوري وفعل إنساني مؤثر في حركة التاريخ وبدل أن يكون في اتجاه تسلطي استبدادي إذا به مقاوم لهذا النهج البشري الفاسد و المنحرف ومؤذن بقيام نهج الهي يحقق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلننظر الآن ما هي الإنجازات العملاقة التي حققتها الهجرة النبوية .
الهجرة النبوية
بالنسبة للهجرة ذاتها والاعداد المادي لها بشريا و عقلانيا دون انتظار معجزة مادية تلوي الأعناق كما كان يحصل سابقا لدى الرسل السابقين اذ هناك مرحلة جديدة في تاريخ البشرية يفتتحها الرسول صلى الله عليه وسلم فبالرغم من ضعف امكانياته المادية بالقياسات البشرية من حيث المال والسلطة والجاه حيث كانت كل حسابات موازين القوى راجحة لفائدة الصف المعادي وبالرغم من اعتماده على الله سبحانه و تعالى الذي وعده بالحماية و العصمة من الناس و لكنه مع ذلك كان واعيا تمام الوعي بطبيعة المرحلة الجديدة التي يمثلها والتي ينبغي عليه أن يقوم بواجباته ازاءها لا كرسول فقط بلو أيضا كانسان خليفة لله و مسؤول عن دوره المنط بعهدته كبشر في وقت لم يعد ممكنا انتظار معجزات مادية ملموسة كما كان سابقا اذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالرغم من امكانياته البشرية القليلة العدد والمادية المتواضعة فقد عرف كيف يعد العدة للخروج من عنق الزجاجة بعد أن أحكمت قريش محاصرته على جميع الأصعدة ووظفت كل امكانياتها لهذا الحصار ولكن مع ذلك لم يستسلم و لم ينهزم بل قاوم و عرف كيف كيف يخرج من ذلك المأزق و هذا الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلم تطبقه الآن بحذافيره حاليا ثلاثة شعوب اسلامية محتلة هي افغانستان و الصومال و العراق فبالرغم من هزيمة جيوشها النظامية التقليدية في الحرب و تكالب القوى العالمية عليها عسكريا واعلاميا وسياسيا من خلال القرارات الظالمة للأمم المتحدة و المنظمات الاقليمية و الدولية و لكنها كشعوب اسلامية و قد تشبعت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم و نضاليته في أحلك الظروف و أشدها ماساوية و مع ذلك واصلت نضالها و مقاومتها و انها الآن تسدد ضربات موجعة للأحلم التوسعية للمشروع الصهيو أمريكي في العالم و قد تجهز علية في أوقات لاحقة باذن الله .
قلت اذن ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعد العدة اللازمة للهجرة الثورية ليس فرارا من المواجهة و انما بحثا عن أفضل الفرص لمواصلة الاشتباك مع العدو و انهاكه و الاجهاز عليه في اللحظة المناسبة كما فعلت كل الشعوب المغلوبة على أمرها أثناء الحن و الأزمات القاسية التي تمر بها بحيث تقاوم وتناضل حتى تحقق ارادتها .
واني لست بحاجة الى الحديث عن كل مراحل الهجرة النبوية و ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال بشرية فهي متيسرة للقارىء في كتب السيرة النبوية فيمكن لمن شاء أن يعود اليها في مظانها وانما الذي يهمنا أن العناية الإلهية بالرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هذه الهجرة و الاعداد لها لم تكن غائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم و انما كانت حاضرة في ذهنه و فلبه و هذا من العوامل النفسية و المعنوية التي ساعدته على انجاز هذا الفعل التاريخي المشهود له بالجرأة و الشجاعة و البطولة اضافة الى أنه يستلهم القرآن الكريم و يطبقه بحذافيره اذ كان خلقه القرآن .
دولة المدينة
من المعلوم أن القرآن الكريم ينقسم الى مكي و مدني وكذلك حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانت الفترة الأولى ثلاثة عشر سنة وهو يدعو كفار قريش دعوة مسالمة الى الله دون حصوله على نتائج تذكر اذ لم يستعمل معهم سوى الدعوة بالطرق اللينة كما أمره الله بذلك و لكن النتائج كانت هزيلة للغاية اذ لم يؤمن بدعوته سوى عدد قليل من العبيد وضعفاء الحال من الذين لا يملكون مالا أو جاها في قريش وتبعا لذلك تعرضوا لشتى أنواع التعذيب و الأذى الذي نعلم عنه الكثير ومع ذلك فان هذه القلة المؤمنة لم ترضخ و لم تستسلم بحجة أن موازين القوى ليست لصالحهم بل صبروا وأظهروا شجاعة نادرة في التصدي لرموز الكفر و الطغيان من قريش و كشفوهم على حقيقتهم أمام الناس وقد هاجر العديد منهم الى الحبشة مرتين ثم عندما ياذن الله بالهجرة الى المدينة و يهيىء الرسول نفسه للالتحاق بهم عبر الاتفاق المسبق مع اهل المدينة في بيعة العقبة الأولى و الثانية فاننا نكون ازاء دروس مستفادة من هذا التصرف النبوي الحكيم فانه لم يغامر بنفسه وصحابته منذ الاتفاق الأول الذي حصل مع عدد قليل من أهل المدينة بل انتظر سنة اخرى حتى جاءه عدد أكبر لتاكيد و توثيق الاتفاق الأول بأكبر عدد ممكن من الأنصار له في المدينة ضمانا لدعوته وصحابته كما كان صلى الله عليه وسلم ومعه كل من أبي بكر وعلي بالرغم من صغر سنه يمثلون القيادة العليا للجماعة المؤمنة دينيا و سياسيا فان القيادة النبوية لم تؤمن نفسها بالانسحاب قبل جماعتها بل ان القيادة ظلت في اتون المواجهة حتى آخر لحظة اذ الانسحاب من المواجهة يتطلب التأمين الكامل للقواعد ثم انسحاب القيادة أخيرا و هو نموذج فريد للمواجهة لم تعهده الدعوات الدينية و الحركات السياسية من قبل و لا بعد حيث من العادة أن تؤمن القيادة نفسها و تضحي بالأتباع ولكن في الحالة الثورية لرسول الاسلام صلى الله عليه وسلم يحصل العكس تماما, القيادة تؤمن جماهيرها أولا ثم تلتحق بهم بعد ذلك و هكذا يفعل الأبطال دائما وقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة انسجاما مع قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) و قوله تعالى ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم وما كنا نعمل من سوء ) 28 النحل . بحيث يتبين من خلال هذه الآيات الكريمة مسؤولية البشر المظلومين والمسحوقين أمام الله ان لم يغيروا الظلم و الباطل و الجبروت المسلط عليهم و لو بالهجرة فان أرض الله واسعة و كلها محل لاحداث النغيير الثوري البناء للانسان المؤمن فقد جعلها الله جميعا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدا و طهورا ليمارس عليها الانسان دوره في تحقيق الانجازات العملاقة التي تليق به كانسان خليفة لله و في حال الضعف والاستسلام و الخنوع فان أولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا و هناك استثناء وحيد للمستضعفين من الرجال و النساء و الأطفال الذين لا يجدون حيلة أو قدرة ومع ذلك فان الله قد يغفر لهم و قد لا يغفر لهم فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و هكذا ينفرد الاسلام بقيم جديدة على الساحة العالمية في رفضه للظلم و الدعوة لتغيير المنكر مهما كانت الصعوبات فلا استكانة و لا هوان أمام الطغاة و المستبدين اذ الأفراد و الجماعات مهما كانت الظروف و التحديات التي يواجهونها مسؤولون أمام الله تعالىعن رفع الظلم عن أنفسهم ولا ينتظروا حتى تأتي معجزة من السماء تغير ما بهم فقد ولى ذلك العهد الى غير رجعة بهذه الرسالة الخاتمة وهذا هو السر الحقيقي وراء انتصارات المسلمين أثناء الفتوحات الكبرى بالرغم من عدم توازن القوى بينهم و بين أعدائهم و ذلك أنهم فهموا أن لهم دورا رساليا في هذه الحياة لا بد من أدائه على أكمل الوجوه و الا فان العقاب الالاهي ينتظر يوم القيامة اضافة الى بقاء الحال على ماهو عليه في الدنيا دون تغيير .
من معالم العمل الثوري الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة اقامة أول دولة عربية اسلامية على أسس جديدة لم تكن مألوفة في تاريخ البشرية فقد قامت على أساس التعاقد على خلاف الدول التي سبقته و لحقته حيث قامت على أساس القوة المسلحة و ما أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بمعية الصحابة يعد انجازا تاريخيا غير مسبوق اذ تم على اساس تعاقدي عبر تلك الوثيقة التاريخية الهامة وهي الصحيفة التي تعتبر أول دستور مدني تعاقدي مكتوب بين مواطني دولة مدنية واحدة بقطع النظر عن الدين والعرق و المكانة الاجتماعية وفيما يلي نص الصحيفة كماورد في كتب التراث:
قال ابن هشام : قال ابن إسحاق :وكتب رسول الله كتاباً([1]) بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم على دينهم وأموالهم ،وشرط لهم واشترط عليهم :
" بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى،كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم([2]) يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النُبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً ([3])بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل([4]).
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة([5])ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن.
وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.
وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
وإن سلم المؤمنين واحدة،لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.
وإن المؤمنين يـبيء ([6])بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
وإنه من اعتبط ([7])مؤمناً قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول.
وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ([8]) إلا نفسه وأهل بيته.
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف،وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ،وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بن عوف ،وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف،وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وإن لبني الشُطَيبة مثل ما ليهود بني عوف.
وإن البر دون الإثم وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
وإن بطانة يهود كأنفسهم.
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنه لا ينحجز على نار جرح.
وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظُلم.
وإن الله على أبر هذا.
وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
وإن النصر للمظلوم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله.,
وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم في جانبهم الذي قبلهم.
وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.-قال ابن هشام ويقال مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة-.
وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه .
وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم،وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم.
وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله صلى الله "([9]).
صحيفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة
دراسة لمحتواها ودلالتها على تنظيمهم
اعتبر معظم الباحثين بمن فيهم المحدثون المعاصرون أن الصحيفة قد وصلتنا وحدة متكاملة ولا يستبعد أنها كانت في الأصل مكونة من أقسام وضع كل منها في زمن، وأن جمعها في كتاب واحد، هو من عمل الرواة، وليس من الأصل، وإذا صح هذا الافتراض فإن الأقسام الأولى المتعلقة بتنظيم العرب المسلمين صدرت أولاً زمن معركة بدر، أما الأقسام المتعلقة بتنظيم أمور القتال، فتكون قد صدرت متوافقة مع معركة الخندق أو بعدها بقليل، علماً بأن معركتي أحد والخندق هددتا المدينة وتطلبتا تنظيماً عاماً لأهلها بمن فيهم اليهود.
أشار القرآن الكريم إلى العهود والمواثيق بين المسلمين وفرقاء آخرين، وطلب في كثير منها وجوب مراعاتها وتنفيذها، وندد بخرقها؛ ولعل كثيراً من هذه الآيات تشير إلى هذه الصحيفة " وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً " ( الإسراء:34) " الذين يُوفُونَ بِعَهد اِلله ولا يَنقُضُون المِيثاق " (الرعد:20).
وأشار القرآن بالذم إلى من ينقض العهد " إنَّ الذيَن يشْتروُنَ بِعَهْدِ اللهِ وأَيمانِهِم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهُم في الآخرةِ ولا يكلّمهم اللُه ولا ينظُرُ إِليهم يومَ القيامِة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ (آل عمران 77)".
" أَوَ كُلّما عَاهدوا عَهداً نبذُه فريقٌ منْهم "(البقرة 100) " الذين ينقضونَ عهَد اللهِ مْنَ بعدِ ميثِاقِه " ( البقرة27) " إن الذين يشترونَ بعهدِ اللهِ وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئكَ لا خَلاق لَهمُ في الآخرة "(آل عمران 77) وَما وَجْدنا لأكثرِهِم مِنْ عَهدٍ وإِنْ وَجدنا أكْثَرهُم لفاسقينَ "(الاعراف102)" فَبِما نَقْضِهِم ميثاقَهُم وَكُفرِهم"(النساء155).
وذكر القرآن الكريم ولاء المؤمنين لبعضهم " والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهُم أولياءُ بعضٍ " (التوبة:71)، يروي أنس بن مالك أن رسول الله عقد حلفاً بين قريش والأنصار في بيته ويروي البلاذري أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم " عند قدوم المدينة وادع يهودها وكتب بينه وبينهم كتاباً ".
تعالج الصحيفة عدداً من أحوال أهل المدينة ونظمها وتحدد بعض مسؤولياتهم في النظام الجديد الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
طلبت الوثيقة إرجاع الحكم في الاختلاف إلى الله وإلى محمد، وذكر الله تعالى في هذه البنود يسبغ عليه صفة قدسية عليا على كافة المسلمين واليهود. فهو قائم على المبادئ الدينية المعززة للأخلاق، والمصالح العامة التي تتجلى في جانبها العلمي على ما نزل فيه القرآن : أي على المبادئ الإسلامية التي يحددها ما أنزله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم. وسمي في البنود الثلاثة باسمه محمد، وفي الفقرة (47) بإضافة كلمة رسول الله التي لم تذكر في البنود الأخرى ولعلها إقحام من الناسخ وأن الاقتصار على اسمه فحسب إرضاء لمن تطبق عليه من غير المسلمين بمن فيهم اليهود الذي خصت الوثيقة عدة بنود في تنظيم مشاركتهم: وهذا يقضي أن يكون صدورها أو ما يتصل باليهود منها تم بعد معركة بدر. وقد يؤيد هذا أن الوثيقة لم تذكر العشائر اليهودية الثلاث قينقاع والنضير وقريظة التي أقصاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين معركتي بدر والخندق ، علماً بأن فشل مشركي قريش في معركة الخندق شد من عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال " لا يغزونا بعد هذا أبداً " وكان هذا هو الواقع فقد تخلخل حماس مشركي قريش وضعفت معنوياتهم، واتسع نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم في مد سلطان دولته على العشائر المقيمة بين المدينة ومكة وخاصة. وكل هذا يدل على أن الكتاب أول ما يخص اليهود منه على الأقل صدر بعد معركة الخندق.
وهكذا نكون ازاء قانون دستوري توافقي بين كل مكونات المجتمع المدني القائم موضوعيا في المدينة المنورة و ضواحيها النواة الأولى للدولة العربية الاسلامية التي تتشكل ملامحها انطلاقا من القيادة النبوية الحكيمة لها و قد تأكدت لهذه الولة الفتية كل مقومات الدولة التي اختلف المعاصرون حول تعريفها ويوجد في الفقه القانوني أكثر من 150 تعريفا للدولة ففي اللغات اللاتينية نجدstate و etat
بما يعني حالة الثبات و الاستقرار في حين أن المعنى اللغوي في العربية يفيد التغير و التحول انسجاما مع قوله تعال (وتلك الأيام نداولها بين الناس )
وأما في الاصطلاح فقد اتفق معظم آراء فقهاء القانون الدولي على تعريفها من خلال أركانها الأساسية وهي
1 الشعب وقد تأكد وجود شعب في دولة المدينة من خلال الوثيقة التوافقية التي صدرت بالتأكيد عن جميع مكونات سكان المدينة و ضواحيها من مسلمين و غيرهم في ذلك الوقت و لا يهم في تكوين الدول عدد الشعب اذ هناك دول معاصرة سكانها أقل بكثير من دولة المدينة
2الاقليم أو الرقعة الأرضية حيث تمارس الدولة سيادتها وهي متوفرة في حالة دولة المدينة ولكن في ذلك الوقت ليس هناك حدود دولية معترف بها بل ان الدول في ذلك الوقت والى حدود القرن الماضي تعتمد فيرسم حدودها على قوة جيشها فالحدود تتوسع و تضيق حسب قوة الدولة عسكريا وهو أمر مسلم به بين كل الدول المتواجدة في تلك الفترة من الزمان وربما مثل هذا الأمر لا يزال قائما تمارسه دولة الصهاينة في فلسطين و الجولان وامريكا تمارس الاحتلال في أفغانستان و العراق
3 السلطة أي ممارسة السيادة للشعب على أرضه دون تسلط أجنبي عليه وهو الوضع الذي تكون في المدينة وضواحيها للعرب المسلمين ومن جاورهم من اليهود فيها في ذلك الوقت
وهكذا تكتمل للدولة بالمدينة أركانها الأساسية المكونة لها اضافة الى الصحيفة وهي عبارة عن أول دستور مدني مكتوب على أساس تعاقدي بين كل مكونات المجتمع المدني الذي ارسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك نقول والوقائع التاريخية تسندنا أن الرسول ذاته لم يؤسس دولة دينية وفي هذا رد على القلة من المسلمين وخاصة الشيعة منهم الذين لا يزالون يحلمون بتكون دولة دينية تحكم بالحق الإلهي المقدس
لقد كانت حماية دولة المدينة (يثرب) مرتبطة باسقاط دولة الشرك فى مكة . و كانت حماية الدولة الاسلامية فى جزيرة العرب مرتبطة بتحرير الشام من سلطة روما ، و كان الحفاظ على الشام مرتبط بالاطاحة بسلطة الرومان فى مصر ، و كان الحفاظ على مصر مرتبط بازالة حكم الرومان فى شمال افريقيا حتى المغرب . و قد كان هذا من أهم دوافع الفتح العربى الاسلامى المتتابع ، فقد كان الأوائل على أعلى مستوى للفهم الاستراتيجى أو ما نسميه الآن الجغرافيا السياسية .
-------------------
1ـ اختلف أهل المغازي والسير في تسميتها (الوثيقة،الدستور،الصحيفة1 ،الكتاب)،وناقش د.جاسم محمد راشد العيساوي في بحثه (الوثيقة النبوية )ص27 فما بعد بإسهاب فانظره هناك.
2ـ حالهم وشأنهم الذي كانوا عليه،النهاية ،ابن الأثير 2/189. 2
3ـ هو من أثقله الدين والغرم ،النهاية 3/424.3
4ـ في الأصل هنا :"قال ابن هشام –"المفرح المثقل بالدين والكثير العيال، قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع".
5ـ أي عطية:أي طلب عطية على سبيل الظلم ،النهاية 2/117.5
6ـ أي:يلتزم .النهاية 1/159.6
7ـ أي: قتله بغير جناية ،ولا جريرة .النهاية 3/172.7
8ـ أي: يهلك .النهاية 5/149. 8
9ـ السيرة النبوية ،ابن هشام 3/31-35.9
الناصر خشيني نابل تونس