الجيل الجديد من مخرجي الدراما التلفزيونية يتفوق على القديم
يبدو لنا أن الجيل الجديد من مخرجي الدراما التلفزيونية قد تفوقوا على أساتذتهم، وبدا لنا بوضوح أنهم يمتلكون موهبة إخراجية درامية أكبر وإحساساً مرهفاً بجمال الصورة وذوقاً سليماً في احترام المتفرج، وأن لديهم مشروعاً فكرياً تنويرياً إيجابياً، ولا نستثني من هذه الصفة الأخيرة سوى رشا شربتجي بعد أن شاهدنا مسلسليها «غزلان في غابة الذئاب» و«يوم ممطر آخر».
أما أسباب تفوق الجيل الجديد عموماً فهو أنه الى جانب تمتعه بالموهبة والعلم والتواضع، يمتلك حجماً كبيراً من الطموح المشروع، واهتماماً أكثر ودقة أعمق في اختيار النصوص من خلال رؤية وطنية مخلصة داخل إطار فني إبداعي ممتع.
وقد عرضت قناة «الدنيا» الفضائية مؤخراً مسلسلاً بعنوان «ذكريات الزمن القادم»، وفي الفترة نفسها عرضت القناة السورية الفضائية أيضاً مسلسلاً بعنوان «الانتظار»، وهكذا أتيحت لنا المقارنة مباشرة بين عملين ينتميان الى جيلين مختلفين، فبدا لنا مسلسل «ذكريات الزمن القادم» عجوزاً ثرثارة مملة مشوهة وشريرة بالمقارنة مع مسلسل «الانتظار» الواقعي العميق المعاصر المحب للخير... ولم يستطع النجوم، الذين لمعوا في الأول تغطية عيوب النص والإخراج فيه أو اصلاح خلاصة مقولته النهائية، وهي أن فلسطينياً شارك في الثورة ضد الاحتلال اختفى فجأة وعاد الى دمشق بعد عقدين أو أكثر مليارديراً محتالاً يبحث عن مشاريع مشبوهة في سورية، التي لجأ إليها أهله بعد اغتصاب بيوتهم وأراضيهم، ولم يدرِ المتفرج المغزى من هذه القصة، ولم ير سبباً في أن «مطر» محبوب النساء كلهن وقاهر التجار الكبار ورجال الأعمال والمسيطر على عدد من الشركات السورية يصير بطلاً ورمزاً لذكاء خاص شاذ نادر ونافذ المفعول في أرض غير أرضه ويقاتل عدواً غير عدوه، بل يغدر بصديقه وشقيقه ويتنكر لأهله بنذالة، ويلاحق البنات الغبيات مثل كنده التي يعلم أنها تحب رجلاً آخر.
لقد فهمنا من مسلسل «الانتظار» أن لقيطاً مثل «عبود» يمكن أن يصبح لصاً ثم يمكن أن يصير بطلاً شهماً، والدافع الوحيد هو حبه للناس والعدل والحق والحارة الشعبية الأصيلة الوطن، التي مل بعض سكانها منها وطمعوا بالرفاهية والمال على حساب الأخلاق العربية والقيم الإنسانية، والروابط الأسرية، التي ظلت قوية على الرغم من الصدمات التي تلقتها من المجتمع الاستهلاكي المتخلف بسبب الجهل والظلم والإهمال.
بينما رأينا في «ذكريات الزمن القادم» فتيات يعشن في بيت عربي من غير أن تتصف أية واحدة منهن بصفات المرأة العربية أو تعبر عن طموحها، كما رأينا عائلة قيل إنها فلسطينية وهي لا تتقن اللهجة ولا تعي القضية الفلسطينية، وتوحي لنا بالبؤس والفقر والذل على عكس ما هي عليه حال الفلسطينيين في سورية، وعلى عكس مستوى الرفاهية والبذخ الذي يعيش فيه ابنها العائد من الغربة «مطر».
ورأينا في «الانتظار» صعوبة حصول الفتاة الفقيرة على عمل شريف، لكننا عرفنا أنها تظل محافظة على شرفها ولا تجري وراء الشبان أو الرجال الأغنياء والمشهورين، كما فعلت فتيات «ذكريات الزمن القادم» وفي مقدمتهم السكرتيرة «نادين» التي قبلت الأرض تحت قدمي «مطر»، وهو من عمر أبيها طمعاً بماله وسلطانه، وكندة التي طلبت صراحة من الفنان التشكيلي الكهل «صافي» أن يقيم معها علاقة غرام بلا زواج، وعموماً أزعجتنا في «ذكريات الزمن القادم» افتعالات المواقف والأحداث المتناقضة والتكرار في الحوارات ومشاهد البنت «حنان» التمثيلية» الطويلة الخارجة عن أي موضوع من موضوعات المسلسل.
كما بدا لنا أن إدارة الممثلين لم تستطع ولم تحاول خلق الانسياب «الهارمونية» فيما بينهم، أو لجم اندفاعهم للصراخ غير المبرر والضحك أو البكاء بلا سبب مقنع، لقد كان بعض نجومنا من الجنسين في أسوأ حالاتهم على الشاشة، وكانت السرديات الطويلة تدعو للملل والنفور من المتابعة، كما فعل الحوار السطحي الوعظي.
لقد أعجبتنا في «الانتظار» تسلسلات الأحداث المتشابكة والمتوازنة معاً في بناء متماسك وحوار مكثف أداه الممثلون والممثلات بعفوية وحيوية وصدق وإحساس عميق بالموقف الدرامي داخل المشهد، وتألقوا جميعاً من غير استثناء ونجحوا في تصوير حياة شبابنا بانتظار حلول مشاكلهم التي وقعوا فيها رغماً عنهم.
بينما أزعجتنا في «ذكريات الزمن القادم» حركات الكاميرا اللا منطقية والقفزات فوق محورها ومحاولات إبراز العضلات السينمائية في غير مواضعها، أعجبتنا في «الانتظار» لقطاته الهادئة أو الصاخبة المدروسة بعناية حسب الموقف الدرامي، وقد انسجمت فيها الصورة مع الحوار والمقولة في كل مشهد من المشاهد، بحيث قدمت لنا كمتفرجين متعة التأمل والتفكير والتوقع والتعليق واستخلاص العبر، ولا سيما في مشاهد وائل «بسام كوسا» وزوجته سميرة «يارا صبري»، وفي مشاهد عبّود «تيم حسن» مع الجميع، وكذلك مشاهد أيمن رضا وأندريه سكاف وسلافة معمار ونسرين طافش.
إن هذه المقارنة السريعة بين المسلسلين المذكورين من إنتاج سوري تعطي للقارىء فكرة عن جانب من التطور الجيد، الذي تسير فيه الدراما التلفزيونية السورية، وتشير الى ما رافق هذا التطور الإيجابي، وللأسف الشديد من تراجع سلبي لمسناه في أعمال أخرى لمخرجين قدامى نظن أنهم سيتقبلون النقد الموضوعي البنّاء الصادق، ويعيدون النظر في مستوى أعمالهم القادمة حرصاً على احترامهم وأرصدتهم.
نسجل للأسف أيضاً اتجاه بعض هؤلاء المخرجين المخضرمين الجيدين بدوافع مالية بحتة الى العمل لدى شركات أجنبية لها فضائياتها، التي أنتجت خلال السنوات القليلة الماضية مسلسلات تسيء الى سورية وأهلها وكرامتها وتاريخها المجتمعي المعاصر, وتتاجر أيضاً بنجومها المشهورين في الشعر والفن مثلما فعلت بنزار قباني وتمجد الخيانة، كما فعلت بالملك فاروق وبلورنس العرب، وبالمقابل يسعى المخرجون الشباب الى التعبير عن قضايا وطنهم الرئيسة والكشف عن أمراضه الاجتماعية المتوارثة والمستجدة، كما رأينا في «الانتظار» وفي «على حافة الهاوية» وفي «فسحة سماوية»، وكذلك في «كوم الحجر» و«أهل الغرام».. أما آخر أعمال المخرجة «رشا شربتجي» فقد جاءت كما قلنا مخيبة للآمال، لأنها حولت «غزلان في غابة الذئاب» الى فئران مذعورين جبناء لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة جداً ونادرة من المجتمع السوري، ولا سيما في دمشق المعروفة جداً بنضالها ضد الاستعمار والاستبداد على مر العصور.
ثم راحت رشا شربتجي في مسلسل «يوم ممطر آخر» تتابع خط سيرها الأسود الكئيب المُحبِط، وتغوص في مستنقع الخيانات الزوجية وتفكك عرى الأسرة لأسباب «عاطفية»، وتشوه عمداً مفاهيم الحب الحقيقي والزواج والوفاء وتسيء الى فن الدراما نفسه، الذي كان منذ ولادته على المسرح يدعو الى التفاؤل والحوار والتفاهم والمودة بين الناس، وتذليل صعاب الحياة التي ستدوم ما دام الإنسان.
عدنان حبال